lundi 20 avril 2009

لا عودة إلى «دورية» الأزمة


جون كوزي ــ ترجمة قاسيون ◄ بطلب من لوبي الشركات، أدخل الكونغرس إلى التشريع قوانين تسمح للشركات بنقل الوظائف إلى الخارج وتخفيض الأجور الحقيقية، وتسمح بممارسات مالية مرتفعة الخطورة. هنا يكمن جذر هذه الأزمة. أمضى فيليب تيتلوك، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، عشرين عاماً وهو يتتبع 82 ألف تخمين قام به 284 خبيراً. وقد نشر استنتاجاته في كتابه المعنون: «رأي أخصائي في السياسة»، وهي توقعات خبراء بالكاد تفوق وسطياً تكهنات تتم بالمصادفة. كتب: «ليس هنالك فارق تقريباً في حال كان المشاركون حاصلين على شهادة دكتوراه، أن يكونوا اقتصاديين، ومحللين سياسيين، وصحافيين، لديهم خبرة سياسية أو قدرة على الوصول لمعلومات مفضلة، سنوات خبرة عديدة أو بضع سنوات».
الفاعل الثابت الواحد هو الشهرة، أما الصلة المباشرة فهي على عكس ذلك. أشهر الأخصائيين يقدّمون تكهّنات أسوأ من المغمورين. أشار دين بيكر في كثير من الأحيان إلى أن وسائل الإعلام، حين تنقل توقعاً لاقتصاديٍّ بارز، يتوجّب عليها (لكنها لا تفعل ذلك أبداً) إظهار قدرته على التوقع مع قائمة التوقعات الخاطئة التي قام بها قبل ذلك. لكن حتى حين تكون توقعات الاقتصاديين صحيحة، فلديهم موهبة إسنادها إلى حماقات محضة.
على سبيل المثال، يتوقع روجر آلتمان بأن لا عودة إلى دورية الأزمة. وحتى إذا كان كلامه صحيحاً على الأرجح، فإن مقاله خليط من الحماقات.
يكتب آلتمان:
«لقد رأينا انهياراً لسوق العقارات والائتمان، ما أدى إلى خسائر هائلة تكبدتها الأسر والمصارف. كانت النتيجة انخفاضاً قوياً لنفقات الاستهلاك والتوقف عن الإقراض. ولرؤية إلى أي مدى سيكون الاسترجاع طويلاً، نستطيع تفحّص أضرار الحصيلة. بالنسبة للأسر، ارتفع الدخل الصافي في أيار 2007 إلى ذروته، فبلغ 64400 مليار دولار (47.750 مليار يورو، 43449 مليار جنيه استرليني)، لكنّه انخفض إلى 51500 مليار دولار أواخر العام 2008، وهو سقوطٌ سريع بنسبة 20 بالمائة. مع معدل دخل يبلغ 50 ألف دولار للأسرة، والمتناقص بالقيم الحقيقية منذ العام 2000، يعد أي انخفاض بنسبة 20 بالمائة من القيمة الصافية خطيراً، لاسيما حين يبلغ دين الأسر 130 بالمائة من دخلها في العام 2008.
وبما أن الأمريكيين كانوا ينفقون أكثر من مواردهم، فهذا الدين يحيل إلى انطباع إيجابي بالثروة. كانت الأسر تشعر بأنها أكثر ثراء، على الرغم من التقلص في الموارد، وذلك لأن قيمة البيت والسندات المالية كانت إلى ارتفاع. الآن وقد انقلب الانطباع بالثروة حقاً، فالأزمة والبطالة تخيفان الأسر، التي زادت معدل ادخارها لأول مرة منذ أعوام. كان هذا المعدل ثابتاً بين 1 و2 بالمائة من الدخل، لكنه قفز إلى نحو 5 بالمائة. مع انخفاض الموارد، يمكن أن يؤدي تخفيض النفقات التقديرية فقط إلى ادخار أكبر. هذا يفسر لماذا انخفضت نفقات الاستهلاك الشخصية إلى معدل قياسي أواخر العام 2008».
من غير المعروف أين ومتى اكتسب آلتمان واقتصاديون آخرون القدرة على قراءة أفكار الناس.
ذات يوم، في الماضي، باع محتالٌ ملء شاحنةٍ من الكرات الزجاجية لمهنة الاقتصاد. هكذا، وبدل أن يسأل هؤلاء الاقتصاديون الناس لماذا أنفقوا أكثر مما كسبوا، ينظرون عبر الزجاج العاكس ولا يرون سوى أنفسهم.
حتى تجربتي المحدودة تعارض آلتمان. فخلال العقد المنصرم، وفي حوارات مع زملاء العمل والجيران والأصدقاء والأقارب، لم أسمع لمرة واحدة أياً منهم يتباهى بازدياد إحساسه بالثروة. لكنهم كانوا يتذمرون من زيادة تكاليف المنتجات والخدمات الأساسية ومن انخفاض قيمة دخولهم مقارنةً بقيمة الدولار الحقيقية. لم يقترضوا لأنهم شعروا بأنهم أكثر ثراءً، بل لزيادة دخولهم المتآكلة ضمن اقتصاد متضخم. وقد مكّنهم من ذلك المصرفيون وشجعوهم عليه، وذلك بعرض قروض ميسرة بدفعات منخفضة دون الإيحاء بالكلف الحقيقية لقروضهم. لم يقترض المستهلكون لإحساسهم بأنهم أكثر ثراءً، بل بسبب حاجتهم للمال. وحين دفع نظام مصرفيّي بونزي الاقتصاد نحو الهاوية، أصبح سداد القروض مستحيلاً. ألغى فقدان الوظائف الدخول وتدهورت مشتريات المستهلكين. وما لم تنشأ وظائف تقدم الدخل الضروري لتجديد اقتصاد الاستهلاك، فلن تتعافى الدورة الطبيعية.
من ناحية أخرى، من غير المؤكد أن تلك الوظائف سوف تظهر. عبر ربع القرن الماضي، حولت الشركات الأمريكية الوظائف ذات الدخول المرتفعة إلى بلدانٍ أجنبية تعتمد على المستهلكين الأمريكيين لشراء منتجات تصنّع لمصلحة الشركات الأمريكية التي نقلت صناعتها إلى الخارج. أوباما نفسه يقول إن هذه الوظائف لن تعود أبداً. لم تعد البنية التحتية اللازمة لخلق هذه الوظائف موجودةً في أمريكا. تطلب الشركات التي لا تزال تقدم مثل هذه الوظائف من العمال بأن يعملوا بأجورٍ أكثر انخفاضاً، بل وتأمرهم بذلك في بعض الحالات. انخفاض الأجور وفقدان الوظائف يعني انخفاض الاستهلاك في مستقبل مجهول. حين تخفض الشركات الثلاث الكبرى لإنتاج السيارات قوة العمل لديها وتدفع أجوراً أقل، فهي لا تخفض عدد السيارات في السوق فحسب، بل تخفض كذلك منتجات وخدمات من شتى الأنواع. إذن، كيف يتوقع المصرفيون ازدياد الإقراض في مثل هذه الشروط؟ من هم المقترضون الذين يستحقون الائتمان؟ بالتأكيد ليس العاطلون عن العمل أو أصحاب الدخول المنخفضة أو أولئك الذين لا يحققون النقاط الضرورية لمنحهم القروض بسبب العجز عن السداد. بالتأكيد ليست الشركات التي انخفضت مبيعاتها وأرباحها. لن يستعيد الإقراض عافيته بغض النظر عن كيفية إعادة رسملة المصارف المتعثرة. علاوةً على ذلك، فعدد الوظائف التي يتوجب خلقها لتحقيق المعافاة هو أضعاف عدد الوظائف المفقودة في حال كون الأجور المدفوعة مقابل الوظائف الجديدة أقل من تلك المدفوعة للوظائف المفقودة. إذن، لن تتعافى الدورة الطبيعية.
بدأ بعض الاقتصاديين الحديث عن «المعافاة من البطالة» بطريقة أخرى. لا أستطيع حتى تخيّل ما الذي قد يعنيه ذلك. كان الاستهلاك يوجه ثلاثة أرباع الاقتصاد الأمريكي. من غير تجديد مستويات الاستهلاك الضرورية لتوجيه هذا الجزء من الاقتصاد، لا يمكن حدوث ما نستطيع أن نطلق عليه «معافاةً حقيقية». طريق الخروج من هذه الأزمة ليس في إعادة رسملة المصارف، بل بالأحرى رسملة المستهلكين. ونظراً للإيديولوجيات السياسية الفاعلة في الولايات المتحدة، أشكّ في حدوث ذلك على الإطلاق. بعد كل شيء، الأعمال في الولايات المتحدة أعمالٌ تجارية، ولا تخصّ رفاه شعبها.
يلقي السياسيون والاقتصاديون اللوم في هذه الأزمة على الممارسات الخاطئة التي تقوم بها صناعة التمويل. ما من أحد يشير إلى كيفية ضخ مشاريع توظيف أموال التقاعد للأموال في البورصة ومساهمتها في الفقاعة. قد تكون هذه الممارسات قد سرّعت الأزمة، لكن نظراً للهجوم على أجور العمال الأمريكيين ونقل الوظائف ذات الأجور العالية إلى الخارج، فالانهيار الاقتصادي كان حتمياً، عاجلاً أو آجلاً. كلّ من يستطيع القيام بحسابات رياضية بسيطة يعرف ذلك.
حين تدفع أمةٌ سكانها للعمل بأجور هزيلة، فازدهارها منذور للفشل. لقد شرّع الكونغرس بتوصية من مجموعات الضغط الخاصة بالشركات قواعدَ تجيز للشركات خلق وظائف فيما وراء البحار، وتخفيض الأجور الحقيقية، وتسمح بممارسات مالية فيها الكثير من المجازفة. هنا تكمن جذور الأزمة. الناس يفعلون ما يجيزه القانون. دون شعب مزدهر، لا تستطيع أمريكا أن تكون أمةً مزدهرة. إذن، أهلاً بأمريكا في العالم الثالث.
* أستاذ متقاعد في الفلسفة والمنطق

dimanche 19 avril 2009

«الأزمة الاقتصادية العالمية: الجذور – الآفاق – الانعكاسات»


    1. قدّم د. قدري جميل في المركز الثقافي العربي بالمزة يوم الثلاثاء 10/3/2009 محاضرة بعنوان «الأزمة الاقتصادية العالمية: الجذور – الآفاق – الانعكاسات»، وذلك في إطار فعاليات الثلاثاء الاقتصادي الذي تقيمه جمعية العلوم الاقتصادية.. فيما يلي النص الكامل للمحاضرة

    إن الإعلام الغربي لم يعترف أبداً بحجم الأزمة الحقيقي، وهو دائماً يتأخر عن توصيفها طوراً بكامله، فعند بدء الأزمة كان هناك عدم اعتراف كلي بها، كان ينكر ويكابر.. وحين اضطر أن يعترف بالأزمة رآها عابرة بسيطة، وعندما كبرت قال: إنها أزمة مالية.. ولكن الأزمة كانت قد تحولت إلى أزمة اقتصادية.. إنهم دائماً لا يقولون الحقيقة، وإذا قالوها فإنهم يقولون نصفها، ويقولون اليوم إن 2009 هو أسوأ مراحل الأزمة وأنها ستنتهي بانتهائه، ولكن لا 2009 ولا 2010 سيحلان الموضوع.

    1 ـ الأسباب الأساسية العميقة.. والأسباب الثانوية

    يجب تحديد الأسباب الأساسية الحقيقية للأزمة، ويجب أن يجري الفصل ما بين الأسباب العميقة الأساسية والثانوية المباشرة.. إن الإعلام يلعب لعبته فيقدم لنا الأسباب المباشرة على أساس أنها الأسباب الوحيدة، ولكنها في الحقيقة هي الظاهرية، أي التي تظهر على السطح، ويجري إخفاء الأسباب العميقة، فماذا يقولون؟
    "إن الأزمة هي أزمة رهن عقاري الأمر الذي كان سبباً أساسياً لها، ويضيفون عدداً من الأسباب الأخرى مثل: تخفيض معدلات الفائدة إلى جانب الجشع والطمع والاحتيال وسوء تصرف المدراء، والمشتقات المالية، وغياب الرقابة الفعالة على الأسواق المالية، وفشل وكالات التصنيف الائتماني".
    ولكن.. أين هي الأسباب العميقة للأزمة؟ لمعرفة ذلك علينا الذهاب إلى أزمة عام 1929، حيث كانت تسمى بالأدب العلمي أزمة دورية، أي أزمة «فيض الإنتاج» بالمعنى الكلاسيكي. ومن حيث الفترة الزمنية استمرت هذه الأزمة من 29 ـ 39، وبدأت تتراجع مع بداية الحرب العالمية الثانية، وبنهاية الحرب انتعشت أمريكا وأصبحت قوة عظمى بكل المعاني الاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية. وكانت هذه الأزمة أخطر من سابقاتها لأن الظرف الجديد الذي حدثت فيه هو أنها كانت أول أزمة من نوعها تحدث بوجود نظام نقيض، اسمه النظام الاشتراكي. وهو النظام الذي ظهر على أثر ثورة أكتوبر عام 1917، والتي لأول مرة في التاريخ قدّمت مكاسب اجتماعية كبيرة لم يكن الغرب يعرفها؛ كالإجازة السنوية مدفوعة الأجر، وتحديد عدد ساعات العمل، والتأمينات الاجتماعية..الخ. وفي الثلاثينيات، اتهم الرئيس «الديمقراطي» روزفلت بالشيوعية من غلاة المتطرفين الرجعيين في أمريكا لأنه أدخل إصلاحات تجميلية إلى النظام الرأسمالي، مستفيداً من التجربة الاشتراكية الجديدة، وفي الواقع فقد كان يحاول بذكاء إنقاذ الرأسمالية. لذلك كان الاستنتاج الرئيسي بالنسبة لأولي الأمر في النظام الرأسمالي أنه (يجب ألا تتكرر أزمة بهذا الشكل)، لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى انهيار شامل بسبب وجود بديل نقيض على النطاق العالمي، وكان المخرج الذي أوجدوه لذلك هو ابتداع "المجمع الصناعي- العسكري".
    ما جوهر الأزمة الدورية، أي ما يسمى فيض الإنتاج؟ إن الرأسمالية غير قادرة على ضبط العرض والطلب والتوازن بينهما، والحقيقة هي أن هذه العملية تتم بشكل عفوي وفوضوي، عبر إلقاء البن في البحر، وحرق البرتقال وإتلاف المنتوجات حتى لا تهبط الأسعار..
    ما الحل حتى لا يؤدي هذا المرض الوظيفي في الرأسمالية إلى هزة؟ الحل هو تحويل فائض الإنتاج الذي يعبر بجوهره عن كميات عمل منتجة ولكن غير مستخدمة إلى إنتاج مزيد من السلاح. وهكذا بدأ يتحول فيض الإنتاج بالتدريج إلى إنتاج السلاح والذي أصبح أهم نظام "تأريض" لفيض الإنتاج. وهذا كان بداية انطلاق "المجمع الصناعي- العسكري الأمريكي" الذي حذر منه أيزنهاور في خطبة الوداع عام 1962. وخلال الـ 20 سنة السابقة مثلاً كل حكام الصف الأول في أمريكا تم انتدابهم إلى البيت الأبيض من قبل الشركات المرتبطة بـ"المجمع الصناعي العسكري".. وما أن ينهوا مهماتهم حتى يعودوا إلى وظائفهم. لقد تحولت صناعة السلاح بالنسبة للولايات المتحدة وللنظام الرأسمالي إلى صناعة رابحة جداً، وإلى أداة سياسية هامة لفرض السيطرة خارج الحدود. ولمعرفة أهمية المجمع الصناعي العسكري اليوم في الاقتصاد الأمريكي تقول التقديرات إنه ينتج 60% من الإنتاج الصناعي ويعمل في خدمته 240 ألف مؤسسة.
    حتى أربعينات القرن الماضي كانت كل عملة تغطي نفسها بالذهب، وحين بدأت نتائج الحرب العالمية الثانية تتوضح للعيان، اجتمعت البلدان الرأسمالية الأساسية عام 1944 واتفقت أن تغطي كل واحدة منها عملتها بالدولار والذهب، أي منح الدولار وضع الذهب دون إعفائه من تغطية نفسه بالذهب، ولكن الدولار بدأ يلعب دورين؛ دور العملة المحلية لأمريكا، ودور عملة عالمية.
    وكان هذا الأمر منطقياً وطبيعياً في حينه لأن وضع الدولار كان انعكاساً لوضع الاقتصاد الأمريكي الذي خرج من الحرب العالمية الثانية منتعشاً، فأوروبا- القارة العجوز- كان قد جرى تدمير بنيتها المادية من شرقها إلى غربها، وفقدت أكثر من 50 مليون قتيلاً في الحرب، بينما لم يصب الاقتصاد الأمريكي بأي تدمير، وكانت خسائر الولايات المتحدة في الحرب ضئيلةً بالمقارنة مع أوروبا (200 ألف قتيل)، وأدى هذا الأمر إلى وضع الاقتصاد الأمريكي في الطليعة عالمياً، حيث بلغ إنتاجه 30% من الإنتاج العالمي و50% من إنتاج العالم الرأسمالي، إذا استثنينا المعسكر الاشتراكي الناشئ مجدداً.
    هكذا ولدت بريتن وودز وكانت نقلة خطيرة جداً، إذ بدأت منذ ذلك الحين «الزوغلة» الأمريكية، والاحتيال الأمريكي على العالم كله بإصدار نقد ورقي لا قيمة فعلية له، نقد غير مغطى بالذهب! وهذا معناه أن 100 دولار ورقية كلفتها 4 سنت يمكن أن تشتري 30 برميل نفط (على أساس سعر البرميل آنذاك) بتكلفة 4 سنتات فقط. هكذا تمت أكبر عملية نهب في التاريخ لم يشهد لها أحد مثيلاً.
    ماركس كان يقول في كتاب رأس المال إنه إذا وصل الرأسمال إلى الربح 300% فليس هناك جريمة لن يتوانى عن ارتكابها، لكن ماركس لم يكن يحلم بأن 4 سنتات ستأتي بـ100 دولار أي 250 ألف بالمئة.
    شعر ديغول في أواخر الستينيات بخطورة هذا الأمر فكلفه ذلك غالياً، حيث جمّع كل الدولارات الأمريكية الموجودة في المصارف الفرنسية وحملها إلى الأمريكيين، وقال لهم: أعطوني ذهباً مقابل هذه الدولارات. اضطروا في حينه أن يعطوه 200 طن من الذهب، لكن مقابل ذلك اتخذوا إجراءين بسيطين؛ أول إجراء أزاحوا ديغول، والثاني ألغوا ارتباط الذهب بالدولار 1971، أي ألغوا اتفاق بريتن وودز!.
    منذ ذلك الحين وآلة الطباعة الأمريكية تعمل بتسارع متزايد، حيث أصبح الدولار محمياً بفضل عاملين؛ القوة السابقة الأمريكية التي فرضت تسعير جميع المواد الخام في العالم بالدولار وثبت وضعه كعملة عالمية، وبفضل وجود قوة عسكرية تحميه وقت اللزوم.
    إذاً، وصلنا إلى وضع فريد من نوعه، ففي السابق كان الفائض بالإنتاج الرأسمالي هو بضائع، أما الفائض الجديد فهو سلاح ومال، وفي ذلك تجل لعلاقة جدلية، حيث يحمي فائض السلاح وضع الدولار عالمياً، وحيث يقوم فائض المال بالصرف على السلاح.. وإلاّ فمن أين يصرف الأمريكيون على 1000 قاعدة عسكرية في العالم؟ من هذه الدولارات التي يطبعونها ويرمونها في البلدان الأخرى.
    يتبين اليوم أن الاقتصاد الأمريكي، البالغ حجمه 13 تريليون دولار والذي يعادل تقريباً 20% من الاقتصاد العالمي، مغطى بإنتاج سلعي حقيقي بحدود 18% زراعة وصناعة. أما الباقي فهو ريع القوة العسكرية وريع الدولار الاحتيالي.

    2 ـ بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية

    ما هي العلاقة بين كتلة النقد في التداول وبين كتلة السلع الموجودة في التداول؟!
    حتى الذي ليس له علاقة بالاقتصاد يعرف أنه إذا زادت كتلة النقد عن كتلة السلع يسمى الأمر تضخماً، أي أن قيمة العملة تنخفض بينما ترتفع الأسعار، ما يعني تأثر أصحاب الدخل المحدود في حين يربح أصحاب الأسعار أضعافاً. هذا يحسب على نطاق كل بلد على حدة.. ولكن كيف يحسب على النطاق العالمي؟
    رغم اختلاف الآراء، يقولون إن حجم الإنتاج العالمي اليوم هو بالحد الأدنى هو 40 تريليون دولار، وبالحد الأعلى 60 تريليون. ولكن ما حجم كتلة النقد التي يجب أن تخدمه؟
    إنها يجب ألا تكون أكثر من حجمه، هذا إذا اعتبرنا أن وحدة العملة تخدِّم البضاعة مرةً واحدةً في السنة، ولكن الأمر أكثر من هذا، هذا يعني أنه يجب أن يكون هناك 60 تريليون دولار من كتلة النقد، وإذا اعتبرنا أن نصف العالم يتبادل إنتاجه بالدولار، فإن حجم كتلة النقد الدولارية يجب ألاّ تزيد عن 30 تريليون دولاراً حول العالم.. وإذا اعتبرنا أن سرعة دوران النقد، آخذين بعين الاعتبار دور البورصات وتسريعها لهذه العملية، ليس أقل من خمس دورات في السنة الواحدة، فإن الكتلة الدولارية الضرورية لتخديم الإنتاج العالمي اليوم يجب ألاّ تتجاوز 30 / 5 = 6 تريليون دولار أمريكي، ولكن الحد الأدنى المتداول حالياً من الدولار والذي يتحدث به أكثر المتفائلين هو: 600 تريليون دولار! وهناك من يقول إنه وصل إلى 1000 تريليون.
    وهكذا، فإنه إذا كانت الكتلة السلعية 30 تريليون والكتلة الدولارية بين 600 و1000 تريليون دولار، فإن ذلك يعني أن كتلة الدولار في التداول العالمي هي أكثر من الحاجة الفعلية للسوق العالمية بـ 600 / 6 = 100 مرة أكتر، أو 1000 / 6 = 170 مرة تقريباً، وهذه أرقام خيالية. فكيف وصلت الأمور إلى هنا؟!
    منذ عام 1944 وحتى 1991 (تاريخ سقوط الاتحاد السوفييتي) كانت حاجة السوق العالمية إلى عملة تداول في ازدياد، بسبب تزايد ترابط العالم واتساع السوق وتطور نظام الاتصالات باضطراد، لذلك كان ازدياد طباعة الدولار يختفي بغزو مناطق جديدة وجديدة. ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وتحول الصين إلى اقتصاد السوق وهيمنة علاقات الإنتاج الرأسمالية في العالم الثالث انتهى الإمكانية اللاحقة لتوسع انتشار الدولار، والأنكى من ذلك أنه مع انتهاء هذه الإمكانية، وخاصةً منذ أوائل القرن الواحد والعشرين، تحولت بعض العملات المحلية إلى عملات إقليمية مثل اليورو والروبل واليوان طاردةً الدولار من مساحاتها إلى حد كبير، مما كشف هذا الفائض. وكانت توقعات الخبراء الأمريكيين أن هذه الفقاعة المالية ستنفجر في آذار 2008، ولكنها انفجرت في أيلول 2008. والجدير بالذكر بالإضافة إلى كل ذلك أن الظروف قد ساعدت الدولار مع سقوط الاتحاد السوفييتي، حيث توفرت له مساحات واسعة من النهب، إذ جرى نهب تريليونات من الدولارات من الثروات المادية، وجرى تسليع جزء من الكتلة النقدية الفائضة. لكن نهب الاتحاد السوفييتي لم يحل المشكلة سوى إلى عام 1995، حيث تم قلب نظام البورصة جذرياً، فقد كان 90% من مبادلات نظام البورصة حتى 1995 هو مبادلات حقيقية و10% فقط مضاربات، فتحول منذ 1995 إلى 10% مبادلات حقيقية مقابل 90% مضاربات. أي لعبت البورصة دور نظام تدوير للعملة يمكن من خلالها إخفاء الحجم الحقيقي لتداول الدولار الوهمي في النظام المالي العالمي والذي يقدر بـ450 تريليون دولار يدور في البورصة العالمية سنوياً، أي بحدود تريليون ونصف إلى تريليوني دولار يومياً. بعد ذلك ومنذ عام 200 شعر صناع السياسة الأمريكية بأن المسألة باتت أكبر مما يمكن التحكم به، وبما أنه لا يمكن إيقاف آلات الطباعة عن طباعة الدولار وبما أن نهب الاتحاد السوفييتي وتسخير البورصة كوسيلة للتضليل المالي لم يكفيا لكبح الأزمة، وجدوا أن الحل يتجسد بالحرب والسيطرة على موارد الطاقة. وكانت الخطة الاستراتيجية الأمريكية حتى 2008 هي السيطرة على موارد الطاقة في منطقتنا (70% من الاحتياطات العالمية)، وهذه السيطرة هنا تأتي بمعنى الامتلاك وليس بمعنى الشراكة.
    وهنا لابد من طرح السؤال التالي: ماذا يعني انتهاء الدولار كعملة عالمية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية؟! إذا كان حجم الناتج الإجمالي المحلي 13 تريليون دولار، و18 % منه إنتاج حقيقي، فإن ذلك يعني بالملموس أن انتهاء الدولار كعملة عالمية سيؤدي إلى خفض الناتج الإجمالي المحلي الأمريكي إلى 3 تريليون دولار أو أقل من ذلك. وإذا أصبح حجم الناتج المحلي الأمريكي 3 تريليون فما الذي سيحدث في الوضع الداخلي الأمريكي؟! وما الذي سيصيب الدور الأمريكي على الصعيد العالمي؟! وكيف ستقوم أمريكا بتلبية احتياجات قواعدها العسكرية المنتشرة حول العالم؟! وما الذي سيصيب الدور الاقتصادي السياسي الأمريكي؟! كلها أسئلة غاية في الجدية، فهل ستقبل الولايات المتحدة طواعيةً- كما يطلب ساركوزي وميركل ومن لف لفهم- بالتخلي عن دورها العالمي وعن الدولار كعملة تبادل عالمية وحيدة؟! هذا يعني أن الحديث هنا يجري حول خسارة 10 آلاف مليار دولار سنوياً أو عدم خسارتها.

    3 ـ الدلالة الاقتصادية- السياسية للأسباب الأساسية

    نعلم، وعلى أساس الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، أن هنالك قانونين أساسيين قد فعلا فعلهما في تطور الرأسمالية تاريخياً وهما:
    1 ـ سعي رأس المال نحو الربح الأعلى.
    2 ـ ميل معدل الربح نحو الانخفاض بسبب تعقد التركيب العضوي لرأس المال.
    وإذا كان القانون الأول مفهوماً، فإن القانون الثاني كان السبب الرئيسي تاريخياً في انتقال الرساميل من المناطق التي استوطن بها إلى مناطق أخرى سعياً وراء الربح الأعلى، بسبب انخفاض معدل الربح في المناطق القديمة التي جرى (استصلاحها)، وهذا يفسر كل الانزياحات التاريخية في حركة الرساميل من الغرب إلى الشرق. وهذا الأمر كان يجري بهذا الشكل لأنه إذا افترضنا أن هذين القانونين كانا يعملان ضمن منظومة مغلقة في بلد واحد مثلاً، فإن نتيجة فعلهما المتناقض تعني في نهاية المطاف:
    1 ـ الازدياد المضطرد لتمركز الثروة بأيدي قليلة.
    2 ـ انخفاض حصة الأكثرية من الناتج المحلي الإجمالي، أي ازدياد الإفقار.
    3 ـ انخفاض الطلب العام نتيجة لذلك، وظهور فائض إنتاج وانهيار المنظومة.
    ولكن بما أن فعل هذين القانونين لا يجري ضمن منظومة مغلقة في بلد واحد، فإنه في كل مرة كانت تصل فيه الأمور إلى حد الأزمة ببنودها الثلاث المذكورة آنفاً كان يجري الحل عبر توسيع المنظومة على حساب مساحات جديدة، مما كان يؤدي إلى تخفيف حدة التناقض في بلدان المركز بين تمركز الثروة وازدياد الإفقار، على حساب غزو وإفقار مناطق جديدة. واستمرت هذه العملية خلال القرن العشرين كله، إلى درجة أنه باستنفاذ إمكانية الانتشار اللاحق بعد تحول العالم كله إلى منظومة رأسمالية واحدة أصبح هذان القانونان يعملان بفعلهما المتناقض ضمن منظومة واحدة مغلقة اسمها الكرة الأرضية. هذا هو التفسير العميق للأزمة الاقتصادية الحالية التي رأينا بداياتهها بالتجليات المالية والتي اعتبر البعض أنها هي الأزمة، بينما هي كانت تجليات هذه الأزمة الظاهرية على السطح لا أكثر ولا غير.

    4 ـ الأسباب المباشرة (الثانوية) للأزمة

    لقد قدم لنا الإعلام أن أهم هذه الأسباب كان أزمة الرهن العقاري، ومن حيث المبدأ يقدر حجم كل العقارات في أمريكا منذ نشوئها وحتى اللحظة بـ 50 تريليون دولار، وقد قام ألان غرينسبان (مدير المركز الاحتياطي الفدرالي آنذاك) بفتح الباب أمام البنوك لإعطاء القروض بتسهيلات كبيرة ودون ضمانات، وكانت القروض بحجم 150 تريليون دولار، لكن لماذا؟ هل كان ذلك مصادفة؟ أم أن غريسبان، مدير المصرف الاحتياطي الفدرالي السابق، كان يعلم بكمية النقود المطبوعة، ويعلم أن الكتلة الدولارية الفائضة معرضة للانكشاف ما لم يتم ضخها في السوق الداخلية الأمريكية ريثما تتم تغطيتها لاحقاً من موارد النفط الذي سيتم الاستيلاء عليه عسكرياً؟!
    لقد اضطر غرينسبان أمام لجنة التحقيق في الكونغرس أن يقول «كان هناك خطأ في المنظومة». لكن الأمر ليس خطأً في المنظومة، بل هو لعبة مقصودة لم تأتي حساباتها كما كان متوقعاً ومطلوباً.
    إذاً، أزمة الرهن العقاري مع عدم قدرة الاقتصاد الأمريكي على حماية الدولار بسبب انخفاض وزنه النوعي العالمي إلى ما تحت 20%، هما أمران ساهما بتحفيز انفجار الأزمة لكنهما ليسا سبب الانفجار. ويضاف إلى الأسباب الثانوية كلفة حرب العراق، فحسب جوزيف ستيغلس إن كلفة حرب العراق حتى الآن هي 3 تريليون دولار أضيفت إلى الدين العام، وبرأي الخزانة الأمريكية منذ بداية عام 2000 أن الدين العام الأمريكي في آذار من 2008 سيبلغ حجمه 8.4 تريليون دولار، وبرأيها أيضاً أن هذا الحجم لا يمكن تخديمه، وبالتالي ستنفجر الفقاعة التي خلفها تضخم حجم الكتلة الدولارية إلى 600 تريليون حول العالم. أي كان رأي الخزينة أن الأزمة ستنفجر في آذار من 2008 لكنها انفجرت في أيلول 2008 وليس على الرقم المتوقع نفسه بل على رقم 10 تريليون دولار، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم أصبح اليوم 13 تريليون دولار! لأن هذا الضخ للأموال في المصارف والمؤسسات المالية زاد في الدين العام بشكل هائل جداً، فالحكومة الأمريكية تقوم حالياً بطبع أموال وضخها في شرايين هذه المؤسسات، وهذه الأسباب هي أسباب ثانوية ظاهرية وهي تعبير عن الأزمة الأساسية، أي عن وجود كتلة نقدية كبيرة أصبحت الولايات المتحدة غير قادرة على حمايتها بالأصل.
    بعد ما كان صندوق النقد الدولي يتوقع معدل نمو 2.2% للعام 2009 مقارنة بنمو قدره 3.3% للعام 2008، أصبحت توقعاته لهذا العام دون 0.5%، وكأن الرسالة التي ما فتئ رئيس الصندوق يكررها منذ انفجار الأزمة في الصيف بـ"أن الطقس الجيد سيأتي بعد المطر"، جعلت هذا المطر يتحول إلى إعصار مزمن بفعل تتالي الأخبار السيئة عن إفلاس العديد من الشركات العالمية بما فيها شركات التقانة. ومما يزيد الطين بلة أن الصندوق يعتقد الآن، وعلى الرغم من الإجراءات الواسعة والكبيرة التي اتخذتها الدول الكبرى، بأن التوتر في الأسواق المالية العالمية يبقى حاداً ويصيب الاقتصاد الحقيقي..
    والسؤال الذي سيبقى مطروحاً طوال مدة رئاسة أوباما هو: كيف سيتم خلق 4 مليون فرصة عمل بينما خلال الأشهر الخمس الأخيرة لإدارة الرئيس بوش غير المأسوف عليها فقد الاقتصاد الأمريكي 2.5 مليون فرصة عمل؟
    فعلى سبيل المثال يمثل تحسين البنية التحتية رهاناً رئيسياً خاصة إذا ما عرفنا أن ثلث جسور الولايات المتحدة البالغة 570 ألف جسر يحتاج إلى إعادة تأهيل. وضرورة النهوض في هذه البنية ينبع ليس فقط لحاجات تنموية كما كان يروج دعاة انكفاء الدولة بل أيضاً لمساهمتها في تفعيل النمو الاقتصادي وبالتالي درء نزيف البطالة وزيادة فرص التشغيل. لكن تحقيق هذا الرهان سيتطلب سنوات عديدة وليس فقط خطاباً متفائلاً أو أشهراً قليلة من العمل.
    والسؤال الذي يطرحه أي مواطن أمريكي بسيط كيف يمكن لدولة يبلغ دخلها القومي ربع الدخل العالمي أن تنفق مئات المليارات من الدولارات في حروب مفتوحة تحت مسميات طنانة ولديها في نفس الوقت أكثر من 40 مليون نسمة لا يملكون أين نوع من التأمين الصحي؟!
    وإذا كان نمو العديد من الاقتصادات المتقدمة قد هبط فعلياً دون -1%، فإنه سينخفض معدل نمو اقتصادات الدول حديثة التصنيع والدول الناشئة، والدول النامية والتي هي بأمس الحاجة لمتابعة النمو الاقتصادي خاصة بعد معاناة العديد منها من أزمة الطاقة وأزمة الغذاء، حيث بدأت المنعكسات الاجتماعية بالظهور والدوران في حلقة شبه مفرغة والتي لن يكون بمنأى عنها أي بلد، لا بل قد تتحول الأزمة الاقتصادية في العديد من الدول إلى أزمات اجتماعية عديدة طوال هذا العام والعام القادم وحتى ولو تم تجاوز جانبها الاقتصادي. وفي كافة الدول سينجم عن الركود وإفلاس الشركات وتسريحها للعمالة (خاصة الماهرة منها) آثار اجتماعية عديدة نتيجة ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض مخصصات التأمينات الاجتماعية نتيجة انخفاض مستوى التشغيل والأجور والإنفاق على الرعاية الصحية والاجتماعية نتيجة انخفاض مخصصات الموازنات الحكومية وموارد المنظمات الأهلية، وزيادة الحاجة إلى احتضان المزيد من الطبقات المهمشة والمتزايد عددها نتيجة تأكل مدخرات ودخول الطبقات المتوسطة.
    كما أن الدول النامية التي لم تتأثر إلى حد كبير بالموجة الأولى من الأزمة في الأشهر المنصرمة، ستعاني الآن أكثر من غيرها خاصة من الناحية الاقتصادية- الاجتماعية وذلك نتيجة عوامل عديدة تضاف إلى العوامل التي تؤدي حاليا إلى الركود في الدول المتقدمة وهذه العوامل الإضافية تتمثل في انخفاض أسعار النفط الذي سيؤدي إلى تخفيض مساعدات الدول المصدرة إلى الدول النامية، وانخفاض المساعدة الدولية تجاه الدول الأكثر فقرا، ولجوء الكثير من الدول النامية إلى تقليص مخصصات التعليم والصحة، وانخفاض تحويلات العمالة والمقيمين في الخارج.. إلخ.
    أحد الأسئلة الهامة الذي يطرح اليوم هو: لماذا تنهار اقتصادات دول العالم وعملاتها الأساسية بسرعة أكبر من انهيار الاقتصاد الأمريكي ودولاره مع أن الأزمة قد انفجرت في بادئ الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية؟ يؤدي هذا الأمر إلى تخبط يصل إلى درجة أن البعض يستنتج أن الاقتصاد الأمريكي مرشح للتعافي بسرعة أكبر من الاقتصادات الأخرى، وهذا الاستنتاج يرجع إلى أن سرعة الانهيار والتراجع خارج الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أسرع من سرعة الانهيار في السوق الأمريكية نفسها، ونظرة سريعة إلى أرقام القيم السوقية للأسواق العالمية في بداية ونهاية 2008 تؤكد ذلك. ولكن السبب الحقيقي هو أن السوق الأمريكية مجهزة بأدواتها المالية المهيمنة كي تخفف انهيارها على حساب الأسواق الأخرى عبر آلية الأواني المستطرقة، وبوصول اقتصادات دول العالم إلى الحدود القصوى من الانهيار فإن تسارع الأزمة الأمريكية سيتسارع إلى حد يمكن معه تبرير تلك التوقعات التي تتزايد حول احتمال تفكك الولايات المتحدة الأمريكية إلى ست دول مستقلة خلال الأعوام القليلة القادمة.

    5 ـ إلى أين تتجه الأزمة؟

    لكي نتمكن من الإجابة على هذا السؤال، يجب علينا أن ندرس الأزمات السابقة، ولدينا في القرن العشرين أزمتان؛ الأزمة التي سببت الحرب العالمية الأولى، والأزمة التي سببت الحرب العالمية الثانية، وإذا درسنا مراحل تطور الأزمتين الأولى والثانية نجد أن المشترك بينهما هي الأمور التالية:
    استمرت المرحلة الأولى لهما من سنة إلى سنتين وشهد فيها الاقتصاد إرهاصات الأزمة، أي ارتفاع درجة حرارة الاقتصاد وارتفاع ضغطه إلى جانب مظاهر أخرى مختلفة مثل ارتفاع البطالة وانتحار رجال الأعمال الأمريكيين قفزاً عن ناطحات السحاب، وبدأت الاضطرابات الاجتماعية التي استمرت ثلاث سنوات قبل بداية المرحلة الثانية وإصابة الاقتصاد الأمريكي في 1932 باحتشاء في أوعيته وشرايينه بكل معنى الكلمة، بعد ذلك خرجت الولايات المتحدة إلى الحرب التي كانت تعبيراً عن بدء المرحلة الثالثة من الأزمة والتي كانت بمثابة جهاز إنعاش أخرج الاقتصاد الأمريكي من احتشائه، وبنهاية الحرب- التي تمثل التعبير الأقصى عن التناقضات في هذه المنظومة- ظهر أن المنظومة باتت ضعيفة وتحتاج إلى بدائل وحينها بدأت المرحلة الرابعة. ولذلك ليس مصادفة أن تكون الأزمة الأولى والحرب العالمية الأولى أنتجتا الاتحاد السوفييتي، وليس مصادفة أن الأزمة الثانية والحرب العالمية الثانية أنتجتا منظومة الدول الاشتراكية، أي أن الأزمات أنتجت نقيضاً للنظام القائم، ونحن اليوم نعيش الأزمة الثالثة من حيث التسلسل العددي، ولا بد هنا من لفت النظر إلى قضية بسيطة وهي أن الأزمة الأولى أخرجت سدس البشرية من النظام الرأسمالي العالمي، والأزمة الثانية أخرجت ثلث البشرية (سدسيها) من هذا النظام، فما هي العلاقة بين الأزمتين الأولى والثانية بالتسارع؟ إنها الضعف في ظرف 30 عاماً! نحن اليوم في الأزمة الثالثة، وهناك قانون يفعل فعله في هذا الاتجاه!
    كانت الرأسمالية في الأزمات السابقة تستطيع الخروج من الأزمة وقد خرجت مرتين، لكن يجب ألاّ ننسى أن ثمن الخروج من الأزمة الأولى كان 15 مليون إنسان، وأن ثمن الخروج من الثانية كان 55 مليون إنسان، والآن حين يسأل البعض عن وجود إمكانية للخروج من الأزمة الثالثة، فإن الجواب هو نعم، يمكن الخروج، ولكن ما هو الثمن لذلك، كم مئة مليون سيكونون ثمن الخروج من الأزمة الثالثة؟!.
    يمكننا الاتفاق الآن على أنه لا يوجد مخرج اقتصادي بالمعنى البحت من هذه الأزمة، والمخرج الموجود هو سياسي عسكري، وهنا لا ننفي عن الرأسمالية قدرتها على تجديد وإصلاح نفسها، ولكن كيف، وعلى حساب ماذا؟! وهل ستسمح البشرية لنفسها بأن تتحمل أثماناً جديدة تطلبها الرأسمالية للخروج من أزمتها؟!
    لقد رأينا المشترك بين الأزمات، لكن بماذا تختلف هذه الأزمة عن سابقاتها؟ كانت الحرب سابقاً تتم في حدود الرأسمالية التي كانت سائدةً في قارة أو قارتين، لذلك كانت الحرب تجري في مكان واحد أو مكانين، فالحرب العالمية الثانية عملياً لم تخرج من الحدود الأوروبية ولامست أطراف شمال إفريقيا وبعض أجزاء آسيا، لكنها كانت محدودة بالمعنى الجغرافي ويقال عنها عالميةً، لأن قوى كبرى عالمية شاركت فيها، لكنها لم تكن عالمية بمعنى أن كل القارات شاركت فيها، وهذا ينطبق على الحرب العالمية الأولى. لكن ما هي حدود الحرب الجديدة التي تستطيع إخراج الرأسمالية من أزمتها؟!
    استطاعت الدول الرأسمالية في الحرب الأولى التخلص من الأزمة عبر إعادة توزيع المستعمرات فيما بينها، وفي الحرب الثانية توازعت الدول الرأسمالية الأسواق مغيرة الشكل الظاهري للهيمنة من الاحتلال المباشر إلى السيطرة الاقتصادي، وفي القرن العشرين صنّعت آلية هامة هي نظام البورصات وهي شكل من أشكال الاحتلال لأنها آلية شفط للثروات. لكن أين ستتوسع الدول الرأسمالية الآن؟ أين ستذهب الحرب؟ هناك فكرة هامة بهذا الخصوص: كان المخرج دائماً بعد كل حرب هو التوسع بالمعنى الجغرافي ليس فقط للدولار بل للاقتصاد الرأسمالي ككل، كان هذا التوسع قادراً على حل الأزمة، بغض النظر عن أعداد ونسب الضحايا، كان توسع النظام ينقذ النظام من أزمته السابقة، أما اليوم فقد انتهى التوسع إذ ليس هناك بقعة على الكرة الأرضية، اللهم باستثناء كوريا الشمالية وكوبا، لا يوجد فيها رأسمالية، لذلك فإن الأزمة الحالية تختلف عن الأزمات السابقة لأنها واسعة النطاق، ناهيك عن أن حروب الأزمات الماضية كانت تجري بأسلحة تقليدية وبين الكبار وحدهم، فهل من الممكن اليوم أن تجري حروب للكبار لكن بأسلحة ذرية؟ هذا الأمر غير مرجح بل المرجح والذي يتم الحديث عنه الآن هو أن الحروب الجديدة بين الكبار ستجري على أراضي الغير وعلى مساحات واسعة من أجل السيطرة على الموارد وتخفيف عدد البشر.

    6 ـ الآفاق.. و"المالتوسية" الجديدة

    حدود الأزمة عرفناها، فهل المخارج السابقة ممكنة؟ نختلف مع بعض الاقتصاديين الذين ينظرون إلى الموضوع من جانبه الاقتصادي البحت، ولا يرون جانبه السياسي. النظام الرأسمالي اليوم أمام معضلة عميقة وعويصة. والأرجح أننا سنكون خلال السنوات العشر القادمة أمام عملية اسمها انهيار النظام الرأسمالي العالمي.. يقولون إن العولمة قد اجتاحت العالم، وهذا يعني حكماً أن الأزمة معولمة، وإذا حدث انهيار فإنه سيكون انهياراً معولماً.. أي ستنهار المنظومة بأكملها.
    إن الاحتياطين الكبيرين اللذين أنقذا الرأسمالية بالقرن العشرين استُنفذا اليوم، وهما العالم الثالث والبيئة، فمن أين سيخترعون الاحتياط الثالث؟ ليس هناك مخرج للأزمة الرأسمالية الحالية.. يجب أن تؤخذ هذه الفرضية بعين الاعتبار، وهي فرضية انهيار المنظومة الرأسمالية بشكلها الحالي نهائياً، وليس فقط تغير مراكز القوى ضمن هذه المنظومة نفسها كما يتوقع البعض. أما البديل فالبشرية ستنجزه حين يأتي أوانه، فهي التي ستجد نظامها التحرري الإنساني العادل الذي يؤمن التوازن في المجتمع وبين المجتمع والطبيعة، وكل الإرهاصات التي نراها اليوم في أمريكا اللاتينية والشرق يمكن أن تشكل الملامح الأولية لهذا البديل: مقاومات صغيرة بأسلحة بسيطة تقاوم آلات عسكرية كبيرة. الأمر فيه منطق تاريخي: آلة كبيرة تسير ضد التيار التاريخي، وآلة صغيرة تسير مع التيار، ما قوة العطالة للآلتين؟ النتيجة: ما يزالان يتعادلان إلى الآن: الآلة الكبيرة لا تستطيع دحر وهزيمة الآلة الصغيرة التي يدفعها التيار التاريخي الموضوعي وتستطيع أن تصمد في وجه الآلة الكبيرة.. القضية متعلقة بإرادة بشر ومصالح أناس بسطاء قادرين على أن يعبروا عنها بلحظة معينة، وبالمقابل فإن أصحاب الآلة العسكرية الكبيرة غير قادرين على حساب قدرة فعل مجموع البشر ومصالحهم، وهذا العامل أفشل مخططاتهم حتى الآن، وهذا الأمر ليس له سابقة في القرن العشرين بهذا الشكل الفاقع.. لذلك يتبيّن أن برنامج أصحاب الآلة الكبيرة فيه خطأ بالتصميم، وهذا الخطأ سيدفعون ثمنه غالياً.
    ما هو المخرج الذي يريدونه؟ الحقيقة أنه ليس هناك أي مخرج.. إنهم يراهنون على النظرية المالتوسية التي تحدثت عن أن البشر يتزايدون بسلسلة هندسية بينما الموارد تتزايد بسلسلة حسابية، وتأتي الزلازل والأمراض والحروب لتعديل الكفة بينهما.. اليوم، تجاوز هؤلاء مالتوس، وباتوا يريدون التحكم بالأمراض والحروب وغيرها من أجل أن يحافظوا على نمط توزيع الثروة: ثلاثة مليارات يبقون و3 مليارات فائضون، لذا يجب التخلص منهم..
    نظرية المليار الذهبي هي نظرية معروفة، مليار يحكم ويملك، وملياران يخدمونه، والباقي إلى زوال.
    هكذا يريدون الحل.. لكن هل هو حل واقعي؟ إنهم يتخبطون ولا حلول لديهم.. وهنا لا بد من طرح السؤال الأهم: هل يمكن هزيمة المخطط الأمريكي؟ نعم إن ذلك ممكن، وكل الشروط متوفرة، ولكن المهم هو أن تتوفر الإرادة الكافية لتحقيق هذا الهدف الكبير.

    7 ـ سورية والأزمة

    بالنسبة لانعكاس الأزمة على الاقتصاد السوري، من المفيد أننا تأخرنا بالاندماج بالاقتصاد العالمي بالشكل الذي هو عليه، ولم نأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة بكامل حجمها وبناء الأسواق المالية التي أفادنا عدم قيامها في وقت مبكر، إذ تجنبنا بذلك عملية الشفط التي قامت بها الأسواق الرئيسية باتجاه الأسواق الثانوية وحافظنا على جزء من ثرواتنا بهذه الطريقة.
    يقال إن انعكاس الأزمة على اقتصادنا لم يكن كبيراً، وهذا صحيح، ولكن من الآن فصاعداً لن يكون هذا صحيحاً، لأن الأزمة في العالم تنتقل لمرحلة جديدة وهي المرحلة الاقتصادية، فما هي تداعيات هذه المرحلة الثانية (الاقتصادية) على الاقتصاد السوري، والتي ما زالت في بداياتها؟
    1 ـ يجب أن يجري تقدير صحيح لعمر المرحلة الثانية زمنياً في الاقتصاد العالمي، فالتقديرات من أكثرها تشاؤماً إلى أكثرها تفاؤلاً تتحدث عن استمرار الأزمة إلى 2011 كحد أدنى و2015 كحد أعلى. فهل يجوز أن نتعامل معها سنةً بسنة؟ أم يجب تكوين منظور زمني تقريبي لعدة سنوات يتم فيه التعامل مع الأزمة على هذا الأساس؟ إن تصريحات المسؤولين الاقتصاديين الأكثر بعداً زمنياً لم تتحدث إلا عن 2009، بينما يوجد من يعتقد بأن الأسوأ في الأزمة قد أصبح وراءنا! وإذا تسارعت الأزمة وتعمقت أكثر بعد 2009 كيف ستتم المعالجة ومواجهة التداعيات؟ إن عدم وجود منظور زمني قريب من الحقيقة يعيق جدياً التعامل مع الأزمة.
    2 ـ تثبت الأحداث أن الأزمة تسير بشكل متسارع يوماً بعد يوم، فحجم الدين العام الأمريكي ازداد خلال الأشهر الستة الأخيرة 30% عن الحجم الذي تكون خلال 60 عاماً، أي بكلمة أخرى إذا كان ازدياد حجم الدين العام وسطياً في السنة الواحدة منذ عام 1944 حتى 2008 هو بحدود 150 مليار دولار، فإنه قد ازداد خلال الأشهر الستة الأخيرة شهرياً بحدود 500 مليار دولار، أي أن التسارع قد ازداد 40 مرة اليوم عما كان عليه وسطياً خلال العقود الستة الماضية، وإذا لم نأخذ هذا التسارع بعين الاعتبار فإن تخطيط مواجهة التداعيات سيكون قاصراً جداً.
    3 ـ ستبرز أهم تداعيات الأزمة بالنسبة لسورية كبلد من بلدان العالم الثالث بارتفاع أسعار المستوردات نتيجة انخفاض القيمة الفعلية للعملات العالمية أو حتى فقدان إمكانية تأمين هذه المستوردات من حيث المبدأ بسبب الاحتشاء الذي سيصيب الاقتصاد العالمي. وبما أن مدخلات اقتصادنا من الخارج هامة جداً، فإن ذلك سيؤثر بشكل حاد على الإنتاج والاستهلاك.
    4 ـ الميل العام الواضح في ظل الأزمة هو الاتجاه نحو انخفاض أسعار المواد الخام عالمياً، وبما أننا دولة عالم ثالثية تعتمد في تصديرها على المواد الخام أكثر منه على المواد المصنعة، فإن ذلك سيعني هبوطاً حاداً في موارد الاقتصاد الوطني وموارد خزينة الدولة، مع كل ما يترتب على ذلك من أعباء على النمو والفقر والبطالة التي لم يعد من الممكن الحديث عن تحقيق أرقام الخطة الخمسية العاشرة بخصوصها.
    5 ـ والأخطر أنه لدى سورية احتياطي عملات صعبة هام تكون في فترات نموها الاقتصادي السابق من عرق وجهد الشعب السوري وكان هذا الاحتياطي أحد الضمانات الهامة للأمن الوطني، والسؤال الكبير هو: في حال حدوث انهيار مالي عالمي كامل، كيف ستكون القيمة الحقيقية لهذا الاحتياطي الذي فعلنا حسناً بتنويع العملات المكونة له، ولكن المشكلة اليوم أن ليس الدولار وحده عرضةً للانهيار وإنما كل العملات العالمية أيضاً.
    6 ـ لذلك ترتدي أهمية كبرى في ظل تداعيات الأزمة المحتملة قضية تأمين الأمن الغذائي بسورية وهذا الأمن لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على الخارج كما بينت التجربة التاريخية، بل يتطلب توجيه الموارد باتجاهه وتغيير جميع السياسات جذرياً لمصلحته، أي المطلوب هو خطة طوارئ إسعافية في هذا المنحى.
    7 ـ هذا كله سيؤدي إلى ازدياد عجز الميزان التجاري وليس العكس، لأن الواردات ستزداد قيمتها والصادرات ستقل قيمتها، مما سيشكل عاملاً ضاغطاً كبيراً على الليرة السورية تجاه العملات الأخرى.
    8 ـ وفي ظل انخفاض نسب النمو الاقتصادي المتوقع بشكل عام، وخاصةً في قطاعات الإنتاج الحقيقي، ولاسيما أن النمو في الزراعة والصناعة كان سالباً في السنوات الأخيرة، فإن اللوحة ستبدو قاتمةً ما لم يجرِ تدارك هذا الأمر فوراً.
    9 ـ وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن وضع ميزان المدفوعات سيزداد صعوبةً بسبب الانخفاض المتوقع لتحويل العاملين في الخارج، وتحويلات المغتربين بسبب الركود في بلدان إقامتهم وفقدان مدخراتهم، فإن الوضع سيصبح أكثر تعقيداً.
    10 ـ وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن المساعدات والاستثمارات العربية ستنحسر بشكل حاد بسبب ما تعانيه بلدان هذه الاستثمارات من مشاكل جدية بسبب الأزمة العالمية، فإن الوضع يصبح بلا مخرج إذا ما استمرت السياسات الاقتصادية الحالية.
    إن كل ذلك سيؤدي خلال فترة زمنية قصيرة إلى تراجع الناتج الإجمالي المحلي بشكل حاد وزيادة معدلات البطالة وانخفاض جدي في مستوى المعيشة، لذلك من المطلوب وبشكل جدي وضع خطة إسعافية إنقاذية لتخفيف الأضرار المتوقعة على الاقتصاد السوري وهذا الأمر لا يمكن أن يتم دون:
    1 ـ زيادة التدخل الفعال للدولة، المباشر منه وغير المباشر، في قطاعات الإنتاج المادي وخاصةً الزراعة والصناعة، عبر تشجيع الاستثمار الداخلي وصياغة سياسات تحفيزية في هذا الاتجاه تستخدم الأدوات المالية والضريبية والسعرية بشكل ذكي يؤمّن حشد كل إمكانيات الاقتصاد السوري بقطاعيه العام والخاص، الأمر الذي يتطلب: - إعادة النظر في أولويات الاستراتيجية الاقتصادية – إعادة النظر في نموذج التطور الاقتصادي القائم والذي بني في جزء هام منه فعلياً على شاكلة الاقتصادات التي تعاني من الانهيار اليوم.
    2 ـ الإقلاع وعلى الأقل لفترة زمنية منظورة عن تشجيع الاستثمار في القطاعات الخدمية والمالية، واستخدام الأدوات المالية والضريبية والقانونية لتنفيذ هذا الاتجاه.
    3 ـ تعبئة الموارد الداخلية وخاصةً الفاقد الاقتصادي الذي يهدر بسبب الفساد، والذي يمكن أن يصبح أحد الموارد الهامة لمواجهة الأزمة.
    4 ـ إعادة النظر برفع الدعم عن المحروقات وإعادة توزيعه باتجاه يضمن حسن سير الفروع المرتبطة بالأمن الغذائي مباشرةً، على أن يترافق ذلك بعدم استبعاد إمكانية العودة النشيطة لدعم أهم المواد الغذائية التي يستخدمها المواطن صاحب الدخل المحدود.
    5 ـ الإقلاع نهائياً عن تمويل الموازنة الجارية بالعجز، وإذا حدث ذلك في الموازنة الاستثمارية فبالحدود المعقولة علمياً في المشاريع الاستراتيجية والمفتاحية التي يجب أن تقوم بها الدولة في مجال الإنتاج المادي المباشر.
    6 ـ إعادة النظر بالاتفاقات والشراكات الدولية التي لا تخدم برنامج مواجهة الأزمة.
    إن العالم كله يتوقف ويفكر ملياً بأسباب الأزمة الحالية وتداعياتها والسياسات التي أوصلت إليها، ويعيد النظر بكل النماذج الاقتصادية التي أوصلت الوضع العالمي إلى ما وصل إليه، لقد رسمت الخطة الاقتصادية لدينا في ظروف اقتصادية مختلفة عن الحالية الأمر الذي يتطلب إعادة النظر فيها جذرياً وتكييفها مع الواقع الجديد الذي اختلف جذرياً مع الواقع السابق، فالنصائح التي كانت تسدى بضرورة الاتجاه نحو اقتصاد السوق الحر وتكييف اقتصادنا مع متطلبات السوق الدولية قد انهارت مع الانهيار الحاصل.
    اليوم فعلاً مطلوب التكيف مع الواقع الجديد، لأن الاستمرار دون تبصر في الاتجاه الحالي يطرح سؤالاً مشروعاً: إلى أين نحن متجهون عملياً؟ إن مصلحة الأمن الوطني بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي تتطلب إحداث انعطاف جدي باتجاه سياسات تؤمن الشروط الاقتصادية لحماية مواقف سورية الوطنية. يجب أن نتوقع كل السيناريوهات الممكنة وأن نعمل على تجنب أسوئها.

mardi 14 avril 2009

الأزمة وتعزيز السلطة الطـبقية

هل هذه فعلاً نهاية الليبرالية الجديدة؟

تمثالا كارل ماركس وفريدريك أنجلز في برلين (أرشيف ــ أ ب)تمثالا كارل ماركس وفريدريك أنجلز في برلين (أرشيف ــ أ ب)يعتبر دايفيد هارفي، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مدينة نيويورك، من أهمّ المفكّرين الماركسيّين الأميركيّين. وقد دأب على تدريس «رأس المال» لكارل ماركس منذ حوالى 40 عاماً. ومنذ اندلاع الأزمة الماليّة العالميّة أخيراً، قدّم هارفي مساهمات عدّة ترجمت «الأخبار» بعضها. هنا مقالة نشرها هارفي على موقع «زي نت»

دايفيد هارفي
هل تشير هذه الأزمة إلى نهاية الليبرالية الجديدة؟ جوابي أن الأمر منوط بما تعنيه بتعبير الليبرالية الجديدة. فأنا أفسره بأنه مشروع طبقي يتخفّى وراء الكثير من الخطابات الليبرالية الجديدة بشأن حرية الفرد والحرية بالمطلق والمسؤولية الشخصية والخصخصة والسوق الحرة. ولكن كل هذه مثّلت وسائل الغاية منها إعادة السلطة الطبقية وتعزيزها، وقد حقق المشروع الليبرالي الجديد بعض النجاح.
يقضي أحد المبادئ الأساسية التي وُضعت في سبعينات القرن المنصرم بأن تقوم سلطة الدولة بحماية المؤسسات المالية مهما كلف الأمر. وهذا هو المبدأ الذي طُبّق في أزمة مدينة نيويورك في أواسط السبعينات، وحُدِّد للمرة الأولى عالمياً عندما تهدّدت المكسيك بالإفلاس سنة 1982. وإذ كاد ذلك يدمر بنوك الاستثمار في نيويورك، عملت الخزينة الأميركية وصندوق النقد الدولي معاً لإنقاذ المكسيك. ولكنهما فرضا التقشف على الشعب المكسيكي. بكلام آخر، قاما بحماية المصارف وتدمير الشعب، ومنذ ذلك الحين وصندوق النقد الدولي يعتمد هذه الممارسة المعيارية. وليست عملية الإنقاذ الحالية سوى تكرار للقصة القديمة ذاتها، مرة جديدة ولكن على صعيد أكبر.
ما جرى في الولايات المتحدة هو أن ثمانية رجال قدّموا إلينا وثيقة مؤلفة من ثلاث صفحات صوّبت مسدساً نحو الجميع، وقالوا: «أعطونا 700 مليار دولار وإلّا». كان هذا بالنسبة إليّ أشبه بانقلاب مالي ضد حكومة الولايات المتحدة وشعبها، فهو يعني أنكم لن تخرجوا من هذه الأزمة بأزمة للطبقة الرأسمالية؛ بل ستخرجون منها بتعزيز للطبقة الرأسمالية أكبر من ذاك الذي قام في الماضي بأشواط. سينتهي بنا الأمر بقيام أربع أو خمس مؤسسات مصرفية كبرى في الولايات المتحدة ولا شيء سواها. شركات كثيرة تزدهر الآن في وول ستريت، فشركة لازارد المختصة في عمليات الدمج والاستحواذ تحقق أرباحاً طائلة. سوف يحترق البعض، ولكن ما يجري عموماً هو تعزيز للسلطة المالية على نطاق واسع. لقد كتب أندرو ميلون (مصرفي أميركي، وزير خزينة من 1921-1932) جملة مفادها أن الأصول تعود إلى أصحاب الحق بها في الأزمات. فالأزمة المالية تمثّل طريقة لتعقيل ما هو غير عقلاني ـــ فقد أدّى الانهيار الهائل في آسيا بين 1997 و1998 مثلاً إلى نشوء نموذج جديد من التطور الرأسمالي. والتمزقات تقود إلى إعادة تكوين المشهد، إلى شكل جديد من السلطة الطبقية. قد تسوء الأمور من الناحية السياسية، فقد جرى شجار بشأن إنقاذ المصارف داخل مجلس الشيوخ الأميركي، وقد لا تتعاون الطبقة السياسية بسهولة ـــ ربما تضع عقبات على الطريق، ولكنها استسلمت ولم تؤمّم المصارف حتى الآن.
إلّا أنّ ذلك قد يقود إلى نضال سياسي أعمق: فمن المنطقي جداً التساؤل عن السبب الذي يدفعنا إلى منح السلطة إلى الأشخاص الذين أقحمونا في هذه الورطة. وتُطرح أسئلة كثيرة عن اختيار أوباما مستشاريه الاقتصاديين ـــ مثل لاري سامرز الذي كان وزير الخزينة في اللحظة الحاسمة التي بدأت تسوء فيها الأحوال فعلياً في نهاية عهد إدارة كلينتون. فلماذا تعيّنُ الآن هذا العدد الكبير من الشخصيات المؤيدة لوول ستريت، المؤيدة لرأس المال التمويلي، أولئك الذين راهنوا على رأس المال التمويلي حينها؟ لا يُقصد بهذا الكلام أنهم لن يعيدوا تصميم الهندسة المالية، ولكن لمن سيعيدون تصميمها؟ الناس غير راضين بتاتاً عن الفريق الاقتصادي الذي اتخذه أوباما، حتى في وسائل الإعلام الكبرى. تحتاج الدولة إلى هندسة مالية جديدة. لا أعتقد أنه يجب إلغاء كل المؤسسات القائمة، مثل مصرف التسويات الدولية أو حتى صندوق النقد الدولي، بل سنحتاج إليها، إنما ينبغي تغييرها تغييراً ثورياً. والسؤال الكبير هو من سوف يسيطر عليها وكيف ستكون هندستها. سوف نحتاج إلى أشخاص، إلى خبراء يدركون قليلاً كيف تعمل هذه المؤسسات، وكيف يمكنها أن تعمل. وهذا أمر خطير للغاية، لأن الدولة، كما نشهد الآن، عندما تبحث عن الذي يستطيع أن يفهم ماذا يجري في وول ستريت، تعتقد أن شخصاً من الداخل وحده قادر على ذلك.

إضعاف القوى العاملة: كفى! كفى!

ما إذا كنا قادرين على الخروج من هذه الأزمة بطريقة مختلفة أو لا، أمرٌ يتوقف كثيراً على ميزان قوى الطبقات، وهو أمر منوط بالمدى الذي يقول فيه الشعب بأكمله «كفى، فلنغيّر النظام». عندما تستعرض ما كان يجري للعمال على مرّ الخمسين سنة الماضية، تدرك أنهم لم يحققوا أي مكاسب تقريباً من هذا النظام، ولكنهم لم ينتفضوا ثائرين. في الولايات المتحدة وخلال السنوات السبع أو الثماني الأخيرة، تدهورت ظروف الطبقات العاملة عموماً، ولم يجرِ أي تحرك جماعي حيال ذلك. يستطيع رأس المال التمويلي أن يتجاوز هذه الأزمة، ولكن الأمر مرهون تماماً بمدى حدوث ثورة شعبية ضد ما يجري، وبدفع حقيقي باتجاه محاولة إعادة صياغة طريقة عمل الاقتصاد.
أحد أبرز الحواجز التي اعترضت تراكم رأس المال المستمر في الستينات وأوائل السبعينات تمثّل في مسألة القوى العاملة. فقد واجهت كل من أوروبا والولايات المتحدة نقصاً في هذه القوى التي كانت حسنة التنظيم وتمتلك نفوذاً سياسياً. فتجسّد أحد أبرز الحواجز أمام تراكم رأس المال في خلال تلك الحقبة بالسؤال التالي: كيف يستطيع رأس المال أن يحصل على مخزون يد عاملة أقل كلفة وأكثر طاعة؟ وأتت الأجوبة متعددة، تمثّل أحدها في التشجيع على المزيد من الهجرة. فأُجريت، في الولايات المتحدة، مراجعة كبيرة لقوانين الهجرة سنة 1965، مراجعة سمحت لها عملياً بالوصول إلى سكان فائضين عن الحاجة عالمياً (قبل ذلك التاريخ، كان الأوروبيون والقوقازيون وحدهم أصحاب هذا الامتياز). وفي أواخر الستينات، كانت فرنسا تدعم استيراد القوى العاملة من المغرب العربي، والألمان يستقدمون الأتراك، والسويديون اليوغوسلافيين، والبريطانيون يسحبون إليهم أبناء إمبراطوريتهم.
الأمر الثاني الذي يمكن أن تلجأ إليه هو التغيير التكنولوجي السريع الذي يُفقد الأشخاص أعمالهم. وعندما فشلت هذه المحاولة، ظهر أشخاص أمثال ريغن وتاتشر وبينوشيه ليسحقوا القوى العاملة المنظمة. وأخيراً ذهب رأس المال إلى حيث توجد القوى العاملة الفائضة من خلال فتح مصانع في الخارج، وقد سهّل هذا الأمر عاملان. أولاً إعادة التنظيم التقنية لأنظمة النقل: فإحدى أكبر الثورات التي شهدتها تلك الحقبة هي النقل بالحاويات الذي سمح لك بأن تصنع قطع سيارات في البرازيل وتشحنها بكلفة متدنية للغاية إلى ديترويت أو سواها. ثانياً أنظمة الاتصالات التي أتاحت التنظيم الدقيق للإنتاج من خلال السلسة السلعية على امتداد الكرة الأرضية.
حلّت كل هذه الأمور مشكلة القوى العاملة بالنسبة إلى رأس المال، فلم يعد هذا الأخير يواجه أي مشكلة من هذه الناحية بحلول عام 1985. قد تطالعه مشاكل محددة في مجالات معينة ولكن قوى عاملة كبيرة أصبحت متوافرة لديه عموماً؛ وقد أضاف الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفياتي والتحول الذي طرأ على جزء كبير من الصين ما يقارب ملياري شخص إلى البروليتاريا العالمية في غضون 20 سنة. وبالتالي لم يعد توافر القوى العاملة مشكلة الآن، والنتيجة أن إضعاف هذه القوى يستمر منذ 30 سنة. ولكن عندما تُضعف القوى العاملة تتدنى الأجور، وإذا خفضتَ الأجور تكون قد حدّدت الأسواق. فبدأ رأس المال يواجه مشاكل مع سوقه، وحدث أمران.
كان الأول أن الهوة بين ما كانت القوى العاملة تكسبه وما كانت تنفقه راح يغطيها ظهور صناعة بطاقة الائتمان وارتفاع مديونية العائلات. ففي الولايات المتحدة كانت العائلة المتوسطة مديونة بحوالى 40000 دولار سنة 1980 فيما أصبح المبلغ يناهز 130000 دولار لكل عائلة الآن، بما فيها الرهونات. إذاً ارتفعت ديون العائلات ارتفاعاً هائلاً، وهذا ما أوصلك إلى اقتصاد التموّل، ويعني ذلك دفع المؤسسات المالية إلى دعم ديون عائلات الطبقة العاملة التي لا تزداد مكاسبها. وتبدأ مع الطبقة العاملة المحترمة، فمع حلول عام 2000 تشهد التداول بالرهونات العقارية المتدنية الجودة. تتطلع إلى إنشاء سوق. ويبدأ رأس المال التمويلي بدعم تمويل الدين للأشخاص الذين لا يحققون أي دخل تقريباً. ولكن لو لم تفعل ذلك، ماذا كان سيحل بمطوّري العقارات الذين يبنون المساكن؟ فتحاول أن تؤمّن استقرار السوق من خلال رصد مبالغ لدفع فوائد تلك المديونية.

أزمات قيم الأصول

الأمر الثاني الذي جرى هو أن الأغنياء يزدادون غنى بكثرة منذ الثمانينات، وذلك بسبب تقليص الأجور. يقولون إنهم سيستثمرون في نشاط جديد ولكنهم لا يفعلون بل يبدأ معظمهم الاستثمار في الأصول، أي يوظفون أموالهم في سوق الأوراق المالية، فيرتفع سوق الأوراق المالية، فيعتقدون أنه استثمار جيد ويوظفون المزيد من المال في هذا السوق، فتحدث فقّاعات سوق الأوراق المالية. كأن يرفع الغني قيم الأصول، بما فيها الأسهم والملكية وسوق الفن، وترتبط هذه الاستثمارات باقتصاد التمويل. ولكن مع ارتفاع قيم الأصول، ترتفع الأسعار في الاقتصاد كله، فيصبح السكن في مانهاتن مستحيلاً إلا إذا أغرقت نفسك بالديون. والآن حصل انهيار في قيم الأصول؛ انهار سوق الإسكان، انهار سوق الأوراق المالية.
كثيراً ما قامت مشكلة في العلاقة بين التصور والواقع. فالدين يرتبط بالقيمة المستقبلية المقدّرة للسلع والخدمات، وبالتالي يفترض أن الاقتصاد سيستمر في النمو في خلال الـ20 أو 30 سنة القادمة. ويرتبط دوماً بتخمين يحدده معدل الفائدة الذي يتراجع في المستقبل. ولنمو هذا المجال المالي بعد السبعينات علاقة كبيرة بما أراه مشكلة أساسية أخرى أود أن أسميها مشكلة امتصاص فائض رأس المال. فبحسب ما تخبرنا إياه نظرية الفائض، ينتج الرأسماليون فائضاً، ويجب عليهم بعد ذلك أن يأخذوا حصة منه، فيعيدون تحويلها إلى رأسمال، واستثمارها في التوسع. ما يعني أنه يجب عليهم دوماً أن يجدوا مجالاً آخر للتوسع إليه. في مقالة كتبتها لـ«نيو ليفت ريفيو» بعنوان «الحق في المدينة» Right to the City The أشرت إلى أنه جرى امتصاص قدر هائل من فائض رأس المال في التمدن في الـ30 عاماً الماضية: إعادة هيكلة المدن، والتوسع والمضاربة. كل مدينة أزورها هي ورشة بناء ضخمة لامتصاص فائض رأس المال. والآن طبعاً ينتصب العديد من هذه المشاريع من دون أن تُنجز أعمال بنائه.
هذه الطريقة في امتصاص فائضات رأس المال ازدادت إشكاليةً مع مرور الوقت. ففي عام 1750، كانت قيمة مجموع مخرجات السلع والخدمات تبلغ حوالى 135 مليار دولار، بقيم ثابتة. بحلول عام 1950، بلغت 4 مليارات دولار، وسنة 2000، أصبحت القيمة 40 تريليوناً، وهي تبلغ الآن حوالى 50 تريليوناً. وإذا كان غوردون براون محقّاً، فسوف تتضاعف في خلال الـ20 سنة المقبلة لتصبح 100 تريليون بحلول عام 2030.
على امتداد تاريخ الرأسمالية، كان معدل النمو عموماً يقارب 2.5% سنوياً، على أساس مركب. هذا يعني أنك، في عام 2030، ستحتاج إلى إيجاد منافذ مربحة لـ2.5 تريليون دولار، وهذه مسألة ضخمة جداً. أعتقد أن مشكلة جدية نشأت، ولا سيما منذ 1970، وهي تتعلق بكيفية امتصاص مقادير من الفائضات تزداد ضخامةً في الإنتاج الحقيقي. فالقسم الذي يدخل منها في الإنتاج الحقيقي يقلّ ويقلّ فيما يكبر ويكبر القدر الذي يوظّف في المضاربة على قيم الأصول، وهي المسؤولة عن التواتر والعمق المتزايدين للأزمات المالية التي نتعرض لها منذ عام 1975 تقريباً؛ فكلها أزمات تتعلق بقيم الأصول.
تقول فرضيتي إننا إذا خرجنا من هذه الأزمة في الحال، وحدث تراكم في رأس المال بمعدل نمو يبلغ 3%، فهذا يعني أن مشاكل كثيرة تواجهنا. فالرأسمالية تواجه قيوداً بيئية جدية، وأيضاً قيوداً تتعلق بالسوق وبالربحية. والتحول الأخير نحو اقتصاد التمويل هو تحول حتّمته الضرورات كطريقة للتعامل مع مشكلة الامتصاص؛ ولكنها طريقة لا يمكنها أن تعمل من دون عمليات إنقاد دورية. وهذا ما يجري الآن مع خسارات عدة تريليونات من الدولارات في قيمة الأصول.
ولهذا السبب ليس تعبير «عملية إنقاذ وطنية» مصطلحاً دقيقاً، فهم لا ينقذون كل النظام المالي القائم ـــ بل المصارف والطبقة الرأسمالية بعدما سامحوهما بديونهما، بأخطائهما، أخطائهما وحدهما. يذهب المال إلى المصارف ولكن ليس إلى مالكي البيوت الذين تُحبس رهوناتهم، ما بدأ يثير الغضب. والمصارف لا تستخدم الأموال من أجل إقراض أيّ كان بل لشراء مصارف أخرى. إنهم يعزّزون سلطتهم الطبقية.

انهيار القروض

إن انهيار قروض الطبقة العاملة يمثّل نهاية اقتصاد التمويل كحل لأزمة السوق. ونتيجة لذلك، سنشهد أزمة بطالة كبيرة وانهيار العديد من الصناعات إلّا إذا حدث تحرك فعال لتغيير الوضع. هنا تصل إلى الجدل الدائر بشأن العودة إلى النموذج الاقتصادي الكينيزي. وخطة أوباما التي تقضي بالاستثمار في أعمال عامة واسعة النطاق وفي التكنولوجيات الخضراء هي، بناحية من النواحي، عودة إلى نوع من الحلول على غرار «الصفقة الجديدة» التي حقّقها الرئيس روزفلت. أشك في قدرته على القيام بذلك.
كي نفهم الوضع، يجب أن ننظر إلى ما هو أبعد مما يجري بالنسبة إلى القوى العاملة والإنتاج، إلى عقدة العلاقات بين الدولة ورأس المال التمويلي. يجب أن نفهم كيف أن الدين الوطني ونظام القروض مثّلا، منذ البداية، وسيلتين أساسيتين للتراكم البدائي، أو ما أسميه الآن التراكم بواسطة النهب ـــ كما يمكنكم أن تروا من صناعة البناء. في مقالتي التي تحمل عنوان «الحق في المدينة»، تناولت الطريقة التي أُعيدَ بها إحياء الرأسمالية في باريس الإمبراطورية الثانية، لأن الدولة ومعها المصرفيون، حدّدا معاً رابطاً جديداً بين الدولة ورأس المال التمويلي من أجل إعادة بناء باريس. وقد أمّن ذلك عمالة كاملة، إضافةً إلى الجادّات وأنظمة المياه والصرف وأنظمة النقل الجديدة، وعبر هذا النوع من الآليات نفسها بُنيت قناة السويس، إذ موّل الدين قسماً كبيراً من ذلك. وقد خضع الرابط بين الدولة ورأس المال التمويلي لتغيرات كبيرة منذ السبعينات، فأصبح دولياً بشكل أكبر، انفتح على كل أنواع الابتكارات المالية بما فيها أسواق المشتقات وأسواق المضاربة إلخ. لقد جرى تصميم هندسة مالية جديدة.
في رأيي أن ما يحصل في هذه اللحظة هو أنهم يبحثون عن تركيبة مالية جديدة يمكنها أن تحل المشكلة، لا بالنسبة إلى العمال بل إلى الطبقة الرأسمالية. أعتقد أنهم سيجدون حلاً يلائم الطبقة الرأسمالية، وإذا تضرّر منه الباقون، فهذا مؤسف جداً. الأمر الوحيد الذي قد يشغل بالهم هو احتمال قيامنا بثورة. وإلى أن ننتفض ثائرين، سوف يعيدون تصميم النظام بما يتناسب مع مصالح طبقتهم الخاصة. لست أدري ما سيكون عليه شكل هذه الهندسة المالية الجديدة. إذا أمعنّا النظر في ما جرى خلال أزمة نيويورك المالية، فلا أعتقد أن المصرفيين أو الخبراء عرفوا ما كان يجب أن يفعلوه، وما قاموا به هو «ترقيع». ربطوا الأجزاء بعضها ببعض بطريقة جديدة، وفي النهاية توصلوا إلى بناء جديد. ولكن مهما كان الحل الذي قد يجدونه، سوف يلائمهم ما لم نتدخل ونبدأ بالقول إننا نريد حلاًّ يناسبنا. ثمة دور أساسي لأشخاص مثلنا لإثارة الأسئلة، وتحدي شرعية القرارات المتخذة حالياً وإجراء تحاليل واضحة جداً لما كانت عليه طبيعة المشكلة.

البدائل

في الواقع، نحتاج إلى البدء بممارسة حقنا في المدينة. يجب أن نطرح السؤال الأهم، قيمة المصارف أو قيمة البشرية. فينبغي على النظام المصرفي أن يخدم الناس، لا أن يعيش على حساب الناس. والسبيل الوحيد الذي سيمكّننا من ممارسة حقنا في المدينة هو تسلم إدارة مشكلة امتصاص فائض رأس المال. يجب أن نخضع فائض رأس المال للسيطرة الجماعية، ونتخلص من مشكلة التراكم بنسبة 3 % إلى الأبد. فنحن الآن في مرحلة سوف يرتّب فيها معدل النمو الأبدي البالغ 3 % تكاليف بيئية هائلة وضغوطاً على الأوضاع الاجتماعية، لدرجة أننا سننتقل من أزمة مالية إلى أخرى.
المشكلة الأساسية هي كيف سنمتص فائضات رأس المال بطريقة منتجة ومربحة. أرى أن الحركة الاجتماعية يجب أن تتوحد حول فكرة مفادها أنها تريد المزيد من السيطرة على فائض الإنتاج. وفيما لا أدعم العودة إلى النموذج الكينزي بالشكل الذي كان عليه في الستينات، أعتقد أن السيطرة الاجتماعية والسياسة على فائض الإنتاج واستخدامه وتوزيعه كانت، في تلك المرحلة، أعظم مما هي عليه الآن. فقد كانت الفائضات المتحركة توضع في بناء مدارس ومستشفيات وبنى تحتية. وهذا ما أثار غيظ الطبقة الرأسمالية وسبّب حركة معاكسة في نهاية الستينات من القرن الماضي ـــ لأنها لم تحصل على سيطرة كافية على الفائض. ولكن إذا نظرت إلى المعطيات القائلة إن نسبة الفائض الذي تمتصه الدولة لم تتغير كثيراً منذ السبعينات، فإن ما قامت به الطبقة الرأسمالية هو أنها حالت دون حدوث سيطرة جماعية أكبر على الفائض. كما أنهم تمكّنوا من تحويل لفظة حكومة إلى لفظة «حوكمة»، ما جعل النشاطات الحكومية ونشاطات الشركات متداخلة، ومكّن هذا الأمر من قيام الوضع الحالي في العراق، حيث المقاولون الخاصون استنزفوا إمكانات تحقيق الأرباح السهلة بشراسة.
أعتقد أننا مقبلون على أزمة تشريعية. فقد قيل لنا، على مر السنوات الثلاثين الماضية، وأقتبس كلمات مارغريت تاتشر، «لا بديل» عن السوق الليبرالي الجديد الحر، وإن المسؤولية تقع على عاتقنا إن لم ننجح في ذلك العالم. أعتقد أنه من الصعب جداً أن تقول إنك، عندما تواجه أزمة حبس رهونات، تدعم المصارف لكن لا الأشخاص الذين حجزت رهوناتهم. يمكنك اتهام الأشخاص الذين حبست رهوناتهم بأنهم عديمو المسؤولية، وفي الولايات المتحدة، تتضمن هذه الحجة عنصراً عرقياً قوياً. فعندما ضربت أول موجة حبس رهونات أمكنة مثل كليفلاند وأوهايو، كانت مدمرة بالنسبة إلى الجماعات السود هناك، لكن جواب بعض الأشخاص كان «ماذا تتوقع، السود أشخاص غير مسؤولين». رأينا تحاليل الجناح اليميني للأزمة التي فسروها بأنها مسألة طمع شخصي في وول ستريت، وطمع أولئك الذين اقترضوا المال لشراء مساكن. يحاولون تحميل الضحايا مسؤولية الأزمة. ينبغي أن تقتضي إحدى مهماتنا بأن نقول «لا، لا يمكنكم بتاتاً أن تفعلوا ذلك»، وأن نحاول إيجاد تفسير داعم لهذه الأزمة كحدث طبقي انهارت فيه بنية معينة للاستغلال وسوف تحل محلها بنية استغلال أعمق. إحدى أكبر المسائل الإيديولوجية التي ستواجهنا هي ما سيكون عليه دور مالكي البيوت في المستقبل عندما تبدأ بالانتشار أقوال مثل يجب إخضاع قسم أكبر من احتياطي المساكن للسيطرة الجماعية، إذ منذ ثلاثينات القرن الماضي ونحن نعيش ضغوطاً هائلة باتجاه ملكية البيوت الفردية كطريقة لضمان حقوق الناس ومواقعهم.. علينا أن نخضع التربية العامة والعناية الصحية للسيطرة الجماعية، وكذلك احتياطي المساكن. يجب إخضاع قطاعات الاقتصاد هذه ومعها المصارف إلى السيطرة الجماعية.

سياسات راديكالية

ثمة مسألة أخرى يجب أن نفكر فيها وهي أن القوى العاملة، ولا سيما القوى العاملة المنظمة، لا تمثّل إلّا قسماً صغيراً من هذه المشكلة كلها، ولن تؤدّي إلا دوراً جزئياً في ما يجري، وذلك لسبب بسيط للغاية يعيدنا إلى مواطن الضعف في الطريقة التي عرض فيها ماركس المشكلة. إذا أجبت على ذلك بالقول إن تَكوّن مركّب الدولة ـــ رأس المال التمويلي أساسي جداً بالنسبة إلى ديناميكيات الرأسمالية، وسألت نفسك عن القوى الاجتماعية التي أثرت في معارضة هذه الترتيبات المؤسساتية أو إقامتها، تجد أن القوى العاملة لم تكن يوماً على الجبهة الأمامية من هذا النضال. كانت على الجبهة الأمامية في سوق العمل وعلى امتداد عملية العمل، ولكن معظم النضالات التي دارت حول الرابط بين الدولة ورأس المال التمويلي هي نضالات شعبية لم تحضر فيها القوى العاملة إلّا جزئياً...
كثيراً ما كان للقوى العاملة دور مهم جداً تؤدّيه ولكنني لا أعتقد أننا في وضع الآن تُعدّ فيه الرؤية التقليدية، التي تقول إن البروليتاريا هي في طليعة المعركة، مفيدةً جداً، إذ إن هندسة الرابط بين الدولة ورأس المال التمويلي (الذي يمثّل النظام العصبي المركزي لتراكم رأس المال) هي المسألة الجوهرية. ربما ثمة أمكنة وأزمنة تكتسي فيها التحركات البروليتارية معنى مهماً، كما في الصين مثلاً، حيث أراها تؤدّي دوراً مهماً لا أراها تؤدّيه في هذا البلد. المثير للاهتمام هو أن عمال السيارات وشركات السيارات متحالفان حالياً في ما يتعلق بالرابط بين الدولة ورأس المال التمويلي، وبطريقة من الطرق، لم يعد قائماً الخطُّ الفاصل الكبير للصراع الطبقي الذي وُجد دوماً في ديترويت، أو على الأقل ليس بالطريقة ذاتها. لدينا نوع مختلف تماماً الآن من السياسات الطبقية، وبعض وجهات النظر الماركسية التقليدية في رؤية هذه الأمور يعترض سبيل سياسات راديكالية حقيقية.
ثمة مشكلة أخرى لدى اليسار وهي اعتقاد كثيرين منهم بأن الإمساك بسلطة الدولة ليس له دور يؤدّيه في التغيرات السياسية. إنهم مجانين. فالسلطة الهائلة تكمن هناك، ولا يمكنك تجاهلها. أشك بعمق في المعتقد القائل إن المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني سوف تغير العالم...
لا أعتقد أننا في موقع يمكّننا من تحديد عوامل التغيير في الأزمة الحالية، وهي تختلف من بقعة إلى أخرى في العالم. في الولايات المتحدة، ثمة إشارات إلى أن عناصر من الطبقة الإدارية، التي اعتاشت من مكاسب رأس المال التمويلي، بدأت تتململ. كثيرون سُرّحوا من أعمالهم في الخدمات المالية، وحُبست رهوناتهم في بعض الظروف. بدأ المنتجون الثقافيون يدركون طبيعة المشاكل، وتماماً كما كانت مدارس الفن مراكز للراديكالية السياسية في الستينات، قد تجد شيئاً من هذا يظهر مجدداً. قد نشهد بروز منظمات عابرة للحدود، إذ إن مسألة انخفاض التحويلات النقدية تنقل الأزمة إلى أماكن مثل المناطق الريفية المكسيكسة أو كيرالا...
بعد قول ما قلت، أريد أن نقترح أفكاراً. إحدى الأفكار المثيرة للاهتمام في الولايات المتحدة الآن هي دفع الحكومات البلدية إلى إقرار قوانين محلية تمنع استرداد الملكيات، أعتقد أن ثمة مناطق في فرنسا فعلت ذلك. ثم إنشاء شركة إسكان بلدية تتحمل الرهن، وتدفع للمصرف، لأن المصارف أُعطيت مبالغ طائلة للتعامل مع هذا الوضع كما يُفترض، ولكنها لا تفعل.
المسألة الأساسية الثانية هي مسألة المواطنية والحقوق. أعتقد أن السَكَن، وبغض النظر عن المواطنية، هو الذي يجب أن يضمن الحقوق في المجلس البلدي. حالياً يُحرم الناس أي حقوق سياسية في المجلس البلدي إلّا إذا كانوا مواطنين، فأنت لا تملك أي حقوق إذا كنت مهاجراً. يجب إطلاق نضالات لاكتساب الحقوق في المجلس البلدي. والدستور البرازيلي ينص على بند يتعلق بـ«الحقوق في المدينة» وهي الحقوق في الاستشارة والمشاركة والإجراءات الميزانية. مجدداً أعتقد أن ثمة سياسات يمكن أن تنبثق من هذا.

إعادة تكوين للتمدّن

في الولايات المتحدة، تبرز القدرة على العمل على المستوى المحلي. وقد كانت الحكومات البلدية أكثر تقدماً من الحكومة الفدرالية على مر السنوات الماضية. إن التمويل البلدي يشهد أزمة الآن، وعلى الأرجح أنّه سيجري الضغط على أوباما من أجل إعادة رسملة العديد من الحكومات البلدية. لقد قال الرئيس إن هذه إحدى المسائل التي يوليها اهتمامه، وخصوصاً أن العديد من هذه القضايا هي محلية، مثل أزمة الرهونات العقارية المتدنية الجودة. كما كنت أقول، يجب أن تُفهم مسألة حجز الدين كأزمة مدنية لا أزمة مالية فحسب؛ إنها أزمة مالية للتمدّن...
لو كان بإمكاني تطوير نظام يعدّ مثالياً لقلت إنه يجب علينا، في الولايات المتحدة، إنشاء مصرف وطني لإعادة التنمية، وأخذ 500 مليار دولار من أصل الـ700 مليار التي صوّتوا عليها. فيتعامل المصرف مع البلديات لمعالجة مسألة الأحياء التي أصابتها موجة حبس الرهن، لأن هذه الموجة كانت بمثابة إعصار كاترينا من عدة نواح؛ فقد قضت على أحياء بأكملها، هي عموماً أحياء فقيرة يسكنها سود أو إسبان. فتذهب إلى تلك الأحياء، وتعيد إليها الأشخاص الذين اعتادوا العيش هناك على أسس مختلفة تتعلق بالتملك وحقوق السكن ومع نوع مختلف من التمويل. وتعمل على ازدهار تلك المناطق، فتنشئ فرص عمل محلية في تلك الحقول.
هكذا يمكنني أن أتخيل إعادة تكوين التمدّن. وللقيام بأي تحرك على صعيد الاحترار العالمي، يجب أن نعيد تكوين طريقة عمل المدن الأميركية، أن نفكر في مخطط جديد تماماً للتمدّن، مخططات جديدة للعيش وللعمل. ثمة إمكانات كثيرة يجب على اليسار أن يتنبّهوا إليها ـــ إنها فرصة حقيقية. ولكن هنا تواجهني مشكلة مع بعض الماركسيين الذين يبدون كأنهم يفكرون «نعم! إنها أزمة؛ ستُحلّ تناقضات الرأسمالية الآن بطريقة من الطرق!» هذه ليست لحظة للتعبير عن الانتصار، بل لحظة لإظهار الإشكاليات. أولاً أعتقد أن ثمة مشاكل في الطريقة التي عرض فيها ماركس تلك المشاكل، فالماركسيون لا يجيدون فهم مركّب الدولة ورأس المال التمويلي أو التمدّن ـــ إنهم بارعون في فهم أمور أخرى. ولكن يجب علينا الآن أن نعيد التفكير في موقفنا النظري والاحتمالات السياسية.
المقالة بالإنكليزية موجودة
على الرابط التالي:
www.zcommunications.org/znet/viewArticle/20876
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)


عدد الثلاثاء ١٤ نيسان ٢٠٠٩