جون كوزي ــ ترجمة قاسيون ◄ بطلب من لوبي الشركات، أدخل الكونغرس إلى التشريع قوانين تسمح للشركات بنقل الوظائف إلى الخارج وتخفيض الأجور الحقيقية، وتسمح بممارسات مالية مرتفعة الخطورة. هنا يكمن جذر هذه الأزمة. أمضى فيليب تيتلوك، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، عشرين عاماً وهو يتتبع 82 ألف تخمين قام به 284 خبيراً. وقد نشر استنتاجاته في كتابه المعنون: «رأي أخصائي في السياسة»، وهي توقعات خبراء بالكاد تفوق وسطياً تكهنات تتم بالمصادفة. كتب: «ليس هنالك فارق تقريباً في حال كان المشاركون حاصلين على شهادة دكتوراه، أن يكونوا اقتصاديين، ومحللين سياسيين، وصحافيين، لديهم خبرة سياسية أو قدرة على الوصول لمعلومات مفضلة، سنوات خبرة عديدة أو بضع سنوات». الفاعل الثابت الواحد هو الشهرة، أما الصلة المباشرة فهي على عكس ذلك. أشهر الأخصائيين يقدّمون تكهّنات أسوأ من المغمورين. أشار دين بيكر في كثير من الأحيان إلى أن وسائل الإعلام، حين تنقل توقعاً لاقتصاديٍّ بارز، يتوجّب عليها (لكنها لا تفعل ذلك أبداً) إظهار قدرته على التوقع مع قائمة التوقعات الخاطئة التي قام بها قبل ذلك. لكن حتى حين تكون توقعات الاقتصاديين صحيحة، فلديهم موهبة إسنادها إلى حماقات محضة. على سبيل المثال، يتوقع روجر آلتمان بأن لا عودة إلى دورية الأزمة. وحتى إذا كان كلامه صحيحاً على الأرجح، فإن مقاله خليط من الحماقات. يكتب آلتمان: «لقد رأينا انهياراً لسوق العقارات والائتمان، ما أدى إلى خسائر هائلة تكبدتها الأسر والمصارف. كانت النتيجة انخفاضاً قوياً لنفقات الاستهلاك والتوقف عن الإقراض. ولرؤية إلى أي مدى سيكون الاسترجاع طويلاً، نستطيع تفحّص أضرار الحصيلة. بالنسبة للأسر، ارتفع الدخل الصافي في أيار 2007 إلى ذروته، فبلغ 64400 مليار دولار (47.750 مليار يورو، 43449 مليار جنيه استرليني)، لكنّه انخفض إلى 51500 مليار دولار أواخر العام 2008، وهو سقوطٌ سريع بنسبة 20 بالمائة. مع معدل دخل يبلغ 50 ألف دولار للأسرة، والمتناقص بالقيم الحقيقية منذ العام 2000، يعد أي انخفاض بنسبة 20 بالمائة من القيمة الصافية خطيراً، لاسيما حين يبلغ دين الأسر 130 بالمائة من دخلها في العام 2008. وبما أن الأمريكيين كانوا ينفقون أكثر من مواردهم، فهذا الدين يحيل إلى انطباع إيجابي بالثروة. كانت الأسر تشعر بأنها أكثر ثراء، على الرغم من التقلص في الموارد، وذلك لأن قيمة البيت والسندات المالية كانت إلى ارتفاع. الآن وقد انقلب الانطباع بالثروة حقاً، فالأزمة والبطالة تخيفان الأسر، التي زادت معدل ادخارها لأول مرة منذ أعوام. كان هذا المعدل ثابتاً بين 1 و2 بالمائة من الدخل، لكنه قفز إلى نحو 5 بالمائة. مع انخفاض الموارد، يمكن أن يؤدي تخفيض النفقات التقديرية فقط إلى ادخار أكبر. هذا يفسر لماذا انخفضت نفقات الاستهلاك الشخصية إلى معدل قياسي أواخر العام 2008». من غير المعروف أين ومتى اكتسب آلتمان واقتصاديون آخرون القدرة على قراءة أفكار الناس. ذات يوم، في الماضي، باع محتالٌ ملء شاحنةٍ من الكرات الزجاجية لمهنة الاقتصاد. هكذا، وبدل أن يسأل هؤلاء الاقتصاديون الناس لماذا أنفقوا أكثر مما كسبوا، ينظرون عبر الزجاج العاكس ولا يرون سوى أنفسهم. حتى تجربتي المحدودة تعارض آلتمان. فخلال العقد المنصرم، وفي حوارات مع زملاء العمل والجيران والأصدقاء والأقارب، لم أسمع لمرة واحدة أياً منهم يتباهى بازدياد إحساسه بالثروة. لكنهم كانوا يتذمرون من زيادة تكاليف المنتجات والخدمات الأساسية ومن انخفاض قيمة دخولهم مقارنةً بقيمة الدولار الحقيقية. لم يقترضوا لأنهم شعروا بأنهم أكثر ثراءً، بل لزيادة دخولهم المتآكلة ضمن اقتصاد متضخم. وقد مكّنهم من ذلك المصرفيون وشجعوهم عليه، وذلك بعرض قروض ميسرة بدفعات منخفضة دون الإيحاء بالكلف الحقيقية لقروضهم. لم يقترض المستهلكون لإحساسهم بأنهم أكثر ثراءً، بل بسبب حاجتهم للمال. وحين دفع نظام مصرفيّي بونزي الاقتصاد نحو الهاوية، أصبح سداد القروض مستحيلاً. ألغى فقدان الوظائف الدخول وتدهورت مشتريات المستهلكين. وما لم تنشأ وظائف تقدم الدخل الضروري لتجديد اقتصاد الاستهلاك، فلن تتعافى الدورة الطبيعية. من ناحية أخرى، من غير المؤكد أن تلك الوظائف سوف تظهر. عبر ربع القرن الماضي، حولت الشركات الأمريكية الوظائف ذات الدخول المرتفعة إلى بلدانٍ أجنبية تعتمد على المستهلكين الأمريكيين لشراء منتجات تصنّع لمصلحة الشركات الأمريكية التي نقلت صناعتها إلى الخارج. أوباما نفسه يقول إن هذه الوظائف لن تعود أبداً. لم تعد البنية التحتية اللازمة لخلق هذه الوظائف موجودةً في أمريكا. تطلب الشركات التي لا تزال تقدم مثل هذه الوظائف من العمال بأن يعملوا بأجورٍ أكثر انخفاضاً، بل وتأمرهم بذلك في بعض الحالات. انخفاض الأجور وفقدان الوظائف يعني انخفاض الاستهلاك في مستقبل مجهول. حين تخفض الشركات الثلاث الكبرى لإنتاج السيارات قوة العمل لديها وتدفع أجوراً أقل، فهي لا تخفض عدد السيارات في السوق فحسب، بل تخفض كذلك منتجات وخدمات من شتى الأنواع. إذن، كيف يتوقع المصرفيون ازدياد الإقراض في مثل هذه الشروط؟ من هم المقترضون الذين يستحقون الائتمان؟ بالتأكيد ليس العاطلون عن العمل أو أصحاب الدخول المنخفضة أو أولئك الذين لا يحققون النقاط الضرورية لمنحهم القروض بسبب العجز عن السداد. بالتأكيد ليست الشركات التي انخفضت مبيعاتها وأرباحها. لن يستعيد الإقراض عافيته بغض النظر عن كيفية إعادة رسملة المصارف المتعثرة. علاوةً على ذلك، فعدد الوظائف التي يتوجب خلقها لتحقيق المعافاة هو أضعاف عدد الوظائف المفقودة في حال كون الأجور المدفوعة مقابل الوظائف الجديدة أقل من تلك المدفوعة للوظائف المفقودة. إذن، لن تتعافى الدورة الطبيعية. بدأ بعض الاقتصاديين الحديث عن «المعافاة من البطالة» بطريقة أخرى. لا أستطيع حتى تخيّل ما الذي قد يعنيه ذلك. كان الاستهلاك يوجه ثلاثة أرباع الاقتصاد الأمريكي. من غير تجديد مستويات الاستهلاك الضرورية لتوجيه هذا الجزء من الاقتصاد، لا يمكن حدوث ما نستطيع أن نطلق عليه «معافاةً حقيقية». طريق الخروج من هذه الأزمة ليس في إعادة رسملة المصارف، بل بالأحرى رسملة المستهلكين. ونظراً للإيديولوجيات السياسية الفاعلة في الولايات المتحدة، أشكّ في حدوث ذلك على الإطلاق. بعد كل شيء، الأعمال في الولايات المتحدة أعمالٌ تجارية، ولا تخصّ رفاه شعبها. يلقي السياسيون والاقتصاديون اللوم في هذه الأزمة على الممارسات الخاطئة التي تقوم بها صناعة التمويل. ما من أحد يشير إلى كيفية ضخ مشاريع توظيف أموال التقاعد للأموال في البورصة ومساهمتها في الفقاعة. قد تكون هذه الممارسات قد سرّعت الأزمة، لكن نظراً للهجوم على أجور العمال الأمريكيين ونقل الوظائف ذات الأجور العالية إلى الخارج، فالانهيار الاقتصادي كان حتمياً، عاجلاً أو آجلاً. كلّ من يستطيع القيام بحسابات رياضية بسيطة يعرف ذلك. حين تدفع أمةٌ سكانها للعمل بأجور هزيلة، فازدهارها منذور للفشل. لقد شرّع الكونغرس بتوصية من مجموعات الضغط الخاصة بالشركات قواعدَ تجيز للشركات خلق وظائف فيما وراء البحار، وتخفيض الأجور الحقيقية، وتسمح بممارسات مالية فيها الكثير من المجازفة. هنا تكمن جذور الأزمة. الناس يفعلون ما يجيزه القانون. دون شعب مزدهر، لا تستطيع أمريكا أن تكون أمةً مزدهرة. إذن، أهلاً بأمريكا في العالم الثالث. * أستاذ متقاعد في الفلسفة والمنطق |
هل هذه فعلاً نهاية الليبرالية الجديدة؟
يعتبر دايفيد هارفي، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة مدينة نيويورك، من أهمّ المفكّرين الماركسيّين الأميركيّين. وقد دأب على تدريس «رأس المال» لكارل ماركس منذ حوالى 40 عاماً. ومنذ اندلاع الأزمة الماليّة العالميّة أخيراً، قدّم هارفي مساهمات عدّة ترجمت «الأخبار» بعضها. هنا مقالة نشرها هارفي على موقع «زي نت»
دايفيد هارفي
هل تشير هذه الأزمة إلى نهاية الليبرالية الجديدة؟ جوابي أن الأمر منوط بما تعنيه بتعبير الليبرالية الجديدة. فأنا أفسره بأنه مشروع طبقي يتخفّى وراء الكثير من الخطابات الليبرالية الجديدة بشأن حرية الفرد والحرية بالمطلق والمسؤولية الشخصية والخصخصة والسوق الحرة. ولكن كل هذه مثّلت وسائل الغاية منها إعادة السلطة الطبقية وتعزيزها، وقد حقق المشروع الليبرالي الجديد بعض النجاح.
يقضي أحد المبادئ الأساسية التي وُضعت في سبعينات القرن المنصرم بأن تقوم سلطة الدولة بحماية المؤسسات المالية مهما كلف الأمر. وهذا هو المبدأ الذي طُبّق في أزمة مدينة نيويورك في أواسط السبعينات، وحُدِّد للمرة الأولى عالمياً عندما تهدّدت المكسيك بالإفلاس سنة 1982. وإذ كاد ذلك يدمر بنوك الاستثمار في نيويورك، عملت الخزينة الأميركية وصندوق النقد الدولي معاً لإنقاذ المكسيك. ولكنهما فرضا التقشف على الشعب المكسيكي. بكلام آخر، قاما بحماية المصارف وتدمير الشعب، ومنذ ذلك الحين وصندوق النقد الدولي يعتمد هذه الممارسة المعيارية. وليست عملية الإنقاذ الحالية سوى تكرار للقصة القديمة ذاتها، مرة جديدة ولكن على صعيد أكبر.
ما جرى في الولايات المتحدة هو أن ثمانية رجال قدّموا إلينا وثيقة مؤلفة من ثلاث صفحات صوّبت مسدساً نحو الجميع، وقالوا: «أعطونا 700 مليار دولار وإلّا». كان هذا بالنسبة إليّ أشبه بانقلاب مالي ضد حكومة الولايات المتحدة وشعبها، فهو يعني أنكم لن تخرجوا من هذه الأزمة بأزمة للطبقة الرأسمالية؛ بل ستخرجون منها بتعزيز للطبقة الرأسمالية أكبر من ذاك الذي قام في الماضي بأشواط. سينتهي بنا الأمر بقيام أربع أو خمس مؤسسات مصرفية كبرى في الولايات المتحدة ولا شيء سواها. شركات كثيرة تزدهر الآن في وول ستريت، فشركة لازارد المختصة في عمليات الدمج والاستحواذ تحقق أرباحاً طائلة. سوف يحترق البعض، ولكن ما يجري عموماً هو تعزيز للسلطة المالية على نطاق واسع. لقد كتب أندرو ميلون (مصرفي أميركي، وزير خزينة من 1921-1932) جملة مفادها أن الأصول تعود إلى أصحاب الحق بها في الأزمات. فالأزمة المالية تمثّل طريقة لتعقيل ما هو غير عقلاني ـــ فقد أدّى الانهيار الهائل في آسيا بين 1997 و1998 مثلاً إلى نشوء نموذج جديد من التطور الرأسمالي. والتمزقات تقود إلى إعادة تكوين المشهد، إلى شكل جديد من السلطة الطبقية. قد تسوء الأمور من الناحية السياسية، فقد جرى شجار بشأن إنقاذ المصارف داخل مجلس الشيوخ الأميركي، وقد لا تتعاون الطبقة السياسية بسهولة ـــ ربما تضع عقبات على الطريق، ولكنها استسلمت ولم تؤمّم المصارف حتى الآن.
إلّا أنّ ذلك قد يقود إلى نضال سياسي أعمق: فمن المنطقي جداً التساؤل عن السبب الذي يدفعنا إلى منح السلطة إلى الأشخاص الذين أقحمونا في هذه الورطة. وتُطرح أسئلة كثيرة عن اختيار أوباما مستشاريه الاقتصاديين ـــ مثل لاري سامرز الذي كان وزير الخزينة في اللحظة الحاسمة التي بدأت تسوء فيها الأحوال فعلياً في نهاية عهد إدارة كلينتون. فلماذا تعيّنُ الآن هذا العدد الكبير من الشخصيات المؤيدة لوول ستريت، المؤيدة لرأس المال التمويلي، أولئك الذين راهنوا على رأس المال التمويلي حينها؟ لا يُقصد بهذا الكلام أنهم لن يعيدوا تصميم الهندسة المالية، ولكن لمن سيعيدون تصميمها؟ الناس غير راضين بتاتاً عن الفريق الاقتصادي الذي اتخذه أوباما، حتى في وسائل الإعلام الكبرى. تحتاج الدولة إلى هندسة مالية جديدة. لا أعتقد أنه يجب إلغاء كل المؤسسات القائمة، مثل مصرف التسويات الدولية أو حتى صندوق النقد الدولي، بل سنحتاج إليها، إنما ينبغي تغييرها تغييراً ثورياً. والسؤال الكبير هو من سوف يسيطر عليها وكيف ستكون هندستها. سوف نحتاج إلى أشخاص، إلى خبراء يدركون قليلاً كيف تعمل هذه المؤسسات، وكيف يمكنها أن تعمل. وهذا أمر خطير للغاية، لأن الدولة، كما نشهد الآن، عندما تبحث عن الذي يستطيع أن يفهم ماذا يجري في وول ستريت، تعتقد أن شخصاً من الداخل وحده قادر على ذلك.
■ إضعاف القوى العاملة: كفى! كفى!
ما إذا كنا قادرين على الخروج من هذه الأزمة بطريقة مختلفة أو لا، أمرٌ يتوقف كثيراً على ميزان قوى الطبقات، وهو أمر منوط بالمدى الذي يقول فيه الشعب بأكمله «كفى، فلنغيّر النظام». عندما تستعرض ما كان يجري للعمال على مرّ الخمسين سنة الماضية، تدرك أنهم لم يحققوا أي مكاسب تقريباً من هذا النظام، ولكنهم لم ينتفضوا ثائرين. في الولايات المتحدة وخلال السنوات السبع أو الثماني الأخيرة، تدهورت ظروف الطبقات العاملة عموماً، ولم يجرِ أي تحرك جماعي حيال ذلك. يستطيع رأس المال التمويلي أن يتجاوز هذه الأزمة، ولكن الأمر مرهون تماماً بمدى حدوث ثورة شعبية ضد ما يجري، وبدفع حقيقي باتجاه محاولة إعادة صياغة طريقة عمل الاقتصاد.
أحد أبرز الحواجز التي اعترضت تراكم رأس المال المستمر في الستينات وأوائل السبعينات تمثّل في مسألة القوى العاملة. فقد واجهت كل من أوروبا والولايات المتحدة نقصاً في هذه القوى التي كانت حسنة التنظيم وتمتلك نفوذاً سياسياً. فتجسّد أحد أبرز الحواجز أمام تراكم رأس المال في خلال تلك الحقبة بالسؤال التالي: كيف يستطيع رأس المال أن يحصل على مخزون يد عاملة أقل كلفة وأكثر طاعة؟ وأتت الأجوبة متعددة، تمثّل أحدها في التشجيع على المزيد من الهجرة. فأُجريت، في الولايات المتحدة، مراجعة كبيرة لقوانين الهجرة سنة 1965، مراجعة سمحت لها عملياً بالوصول إلى سكان فائضين عن الحاجة عالمياً (قبل ذلك التاريخ، كان الأوروبيون والقوقازيون وحدهم أصحاب هذا الامتياز). وفي أواخر الستينات، كانت فرنسا تدعم استيراد القوى العاملة من المغرب العربي، والألمان يستقدمون الأتراك، والسويديون اليوغوسلافيين، والبريطانيون يسحبون إليهم أبناء إمبراطوريتهم.
الأمر الثاني الذي يمكن أن تلجأ إليه هو التغيير التكنولوجي السريع الذي يُفقد الأشخاص أعمالهم. وعندما فشلت هذه المحاولة، ظهر أشخاص أمثال ريغن وتاتشر وبينوشيه ليسحقوا القوى العاملة المنظمة. وأخيراً ذهب رأس المال إلى حيث توجد القوى العاملة الفائضة من خلال فتح مصانع في الخارج، وقد سهّل هذا الأمر عاملان. أولاً إعادة التنظيم التقنية لأنظمة النقل: فإحدى أكبر الثورات التي شهدتها تلك الحقبة هي النقل بالحاويات الذي سمح لك بأن تصنع قطع سيارات في البرازيل وتشحنها بكلفة متدنية للغاية إلى ديترويت أو سواها. ثانياً أنظمة الاتصالات التي أتاحت التنظيم الدقيق للإنتاج من خلال السلسة السلعية على امتداد الكرة الأرضية.
حلّت كل هذه الأمور مشكلة القوى العاملة بالنسبة إلى رأس المال، فلم يعد هذا الأخير يواجه أي مشكلة من هذه الناحية بحلول عام 1985. قد تطالعه مشاكل محددة في مجالات معينة ولكن قوى عاملة كبيرة أصبحت متوافرة لديه عموماً؛ وقد أضاف الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفياتي والتحول الذي طرأ على جزء كبير من الصين ما يقارب ملياري شخص إلى البروليتاريا العالمية في غضون 20 سنة. وبالتالي لم يعد توافر القوى العاملة مشكلة الآن، والنتيجة أن إضعاف هذه القوى يستمر منذ 30 سنة. ولكن عندما تُضعف القوى العاملة تتدنى الأجور، وإذا خفضتَ الأجور تكون قد حدّدت الأسواق. فبدأ رأس المال يواجه مشاكل مع سوقه، وحدث أمران.
كان الأول أن الهوة بين ما كانت القوى العاملة تكسبه وما كانت تنفقه راح يغطيها ظهور صناعة بطاقة الائتمان وارتفاع مديونية العائلات. ففي الولايات المتحدة كانت العائلة المتوسطة مديونة بحوالى 40000 دولار سنة 1980 فيما أصبح المبلغ يناهز 130000 دولار لكل عائلة الآن، بما فيها الرهونات. إذاً ارتفعت ديون العائلات ارتفاعاً هائلاً، وهذا ما أوصلك إلى اقتصاد التموّل، ويعني ذلك دفع المؤسسات المالية إلى دعم ديون عائلات الطبقة العاملة التي لا تزداد مكاسبها. وتبدأ مع الطبقة العاملة المحترمة، فمع حلول عام 2000 تشهد التداول بالرهونات العقارية المتدنية الجودة. تتطلع إلى إنشاء سوق. ويبدأ رأس المال التمويلي بدعم تمويل الدين للأشخاص الذين لا يحققون أي دخل تقريباً. ولكن لو لم تفعل ذلك، ماذا كان سيحل بمطوّري العقارات الذين يبنون المساكن؟ فتحاول أن تؤمّن استقرار السوق من خلال رصد مبالغ لدفع فوائد تلك المديونية.
■ أزمات قيم الأصول
الأمر الثاني الذي جرى هو أن الأغنياء يزدادون غنى بكثرة منذ الثمانينات، وذلك بسبب تقليص الأجور. يقولون إنهم سيستثمرون في نشاط جديد ولكنهم لا يفعلون بل يبدأ معظمهم الاستثمار في الأصول، أي يوظفون أموالهم في سوق الأوراق المالية، فيرتفع سوق الأوراق المالية، فيعتقدون أنه استثمار جيد ويوظفون المزيد من المال في هذا السوق، فتحدث فقّاعات سوق الأوراق المالية. كأن يرفع الغني قيم الأصول، بما فيها الأسهم والملكية وسوق الفن، وترتبط هذه الاستثمارات باقتصاد التمويل. ولكن مع ارتفاع قيم الأصول، ترتفع الأسعار في الاقتصاد كله، فيصبح السكن في مانهاتن مستحيلاً إلا إذا أغرقت نفسك بالديون. والآن حصل انهيار في قيم الأصول؛ انهار سوق الإسكان، انهار سوق الأوراق المالية.
كثيراً ما قامت مشكلة في العلاقة بين التصور والواقع. فالدين يرتبط بالقيمة المستقبلية المقدّرة للسلع والخدمات، وبالتالي يفترض أن الاقتصاد سيستمر في النمو في خلال الـ20 أو 30 سنة القادمة. ويرتبط دوماً بتخمين يحدده معدل الفائدة الذي يتراجع في المستقبل. ولنمو هذا المجال المالي بعد السبعينات علاقة كبيرة بما أراه مشكلة أساسية أخرى أود أن أسميها مشكلة امتصاص فائض رأس المال. فبحسب ما تخبرنا إياه نظرية الفائض، ينتج الرأسماليون فائضاً، ويجب عليهم بعد ذلك أن يأخذوا حصة منه، فيعيدون تحويلها إلى رأسمال، واستثمارها في التوسع. ما يعني أنه يجب عليهم دوماً أن يجدوا مجالاً آخر للتوسع إليه. في مقالة كتبتها لـ«نيو ليفت ريفيو» بعنوان «الحق في المدينة» Right to the City The أشرت إلى أنه جرى امتصاص قدر هائل من فائض رأس المال في التمدن في الـ30 عاماً الماضية: إعادة هيكلة المدن، والتوسع والمضاربة. كل مدينة أزورها هي ورشة بناء ضخمة لامتصاص فائض رأس المال. والآن طبعاً ينتصب العديد من هذه المشاريع من دون أن تُنجز أعمال بنائه.
هذه الطريقة في امتصاص فائضات رأس المال ازدادت إشكاليةً مع مرور الوقت. ففي عام 1750، كانت قيمة مجموع مخرجات السلع والخدمات تبلغ حوالى 135 مليار دولار، بقيم ثابتة. بحلول عام 1950، بلغت 4 مليارات دولار، وسنة 2000، أصبحت القيمة 40 تريليوناً، وهي تبلغ الآن حوالى 50 تريليوناً. وإذا كان غوردون براون محقّاً، فسوف تتضاعف في خلال الـ20 سنة المقبلة لتصبح 100 تريليون بحلول عام 2030.
على امتداد تاريخ الرأسمالية، كان معدل النمو عموماً يقارب 2.5% سنوياً، على أساس مركب. هذا يعني أنك، في عام 2030، ستحتاج إلى إيجاد منافذ مربحة لـ2.5 تريليون دولار، وهذه مسألة ضخمة جداً. أعتقد أن مشكلة جدية نشأت، ولا سيما منذ 1970، وهي تتعلق بكيفية امتصاص مقادير من الفائضات تزداد ضخامةً في الإنتاج الحقيقي. فالقسم الذي يدخل منها في الإنتاج الحقيقي يقلّ ويقلّ فيما يكبر ويكبر القدر الذي يوظّف في المضاربة على قيم الأصول، وهي المسؤولة عن التواتر والعمق المتزايدين للأزمات المالية التي نتعرض لها منذ عام 1975 تقريباً؛ فكلها أزمات تتعلق بقيم الأصول.
تقول فرضيتي إننا إذا خرجنا من هذه الأزمة في الحال، وحدث تراكم في رأس المال بمعدل نمو يبلغ 3%، فهذا يعني أن مشاكل كثيرة تواجهنا. فالرأسمالية تواجه قيوداً بيئية جدية، وأيضاً قيوداً تتعلق بالسوق وبالربحية. والتحول الأخير نحو اقتصاد التمويل هو تحول حتّمته الضرورات كطريقة للتعامل مع مشكلة الامتصاص؛ ولكنها طريقة لا يمكنها أن تعمل من دون عمليات إنقاد دورية. وهذا ما يجري الآن مع خسارات عدة تريليونات من الدولارات في قيمة الأصول.
ولهذا السبب ليس تعبير «عملية إنقاذ وطنية» مصطلحاً دقيقاً، فهم لا ينقذون كل النظام المالي القائم ـــ بل المصارف والطبقة الرأسمالية بعدما سامحوهما بديونهما، بأخطائهما، أخطائهما وحدهما. يذهب المال إلى المصارف ولكن ليس إلى مالكي البيوت الذين تُحبس رهوناتهم، ما بدأ يثير الغضب. والمصارف لا تستخدم الأموال من أجل إقراض أيّ كان بل لشراء مصارف أخرى. إنهم يعزّزون سلطتهم الطبقية.
■ انهيار القروض
إن انهيار قروض الطبقة العاملة يمثّل نهاية اقتصاد التمويل كحل لأزمة السوق. ونتيجة لذلك، سنشهد أزمة بطالة كبيرة وانهيار العديد من الصناعات إلّا إذا حدث تحرك فعال لتغيير الوضع. هنا تصل إلى الجدل الدائر بشأن العودة إلى النموذج الاقتصادي الكينيزي. وخطة أوباما التي تقضي بالاستثمار في أعمال عامة واسعة النطاق وفي التكنولوجيات الخضراء هي، بناحية من النواحي، عودة إلى نوع من الحلول على غرار «الصفقة الجديدة» التي حقّقها الرئيس روزفلت. أشك في قدرته على القيام بذلك.
كي نفهم الوضع، يجب أن ننظر إلى ما هو أبعد مما يجري بالنسبة إلى القوى العاملة والإنتاج، إلى عقدة العلاقات بين الدولة ورأس المال التمويلي. يجب أن نفهم كيف أن الدين الوطني ونظام القروض مثّلا، منذ البداية، وسيلتين أساسيتين للتراكم البدائي، أو ما أسميه الآن التراكم بواسطة النهب ـــ كما يمكنكم أن تروا من صناعة البناء. في مقالتي التي تحمل عنوان «الحق في المدينة»، تناولت الطريقة التي أُعيدَ بها إحياء الرأسمالية في باريس الإمبراطورية الثانية، لأن الدولة ومعها المصرفيون، حدّدا معاً رابطاً جديداً بين الدولة ورأس المال التمويلي من أجل إعادة بناء باريس. وقد أمّن ذلك عمالة كاملة، إضافةً إلى الجادّات وأنظمة المياه والصرف وأنظمة النقل الجديدة، وعبر هذا النوع من الآليات نفسها بُنيت قناة السويس، إذ موّل الدين قسماً كبيراً من ذلك. وقد خضع الرابط بين الدولة ورأس المال التمويلي لتغيرات كبيرة منذ السبعينات، فأصبح دولياً بشكل أكبر، انفتح على كل أنواع الابتكارات المالية بما فيها أسواق المشتقات وأسواق المضاربة إلخ. لقد جرى تصميم هندسة مالية جديدة.
في رأيي أن ما يحصل في هذه اللحظة هو أنهم يبحثون عن تركيبة مالية جديدة يمكنها أن تحل المشكلة، لا بالنسبة إلى العمال بل إلى الطبقة الرأسمالية. أعتقد أنهم سيجدون حلاً يلائم الطبقة الرأسمالية، وإذا تضرّر منه الباقون، فهذا مؤسف جداً. الأمر الوحيد الذي قد يشغل بالهم هو احتمال قيامنا بثورة. وإلى أن ننتفض ثائرين، سوف يعيدون تصميم النظام بما يتناسب مع مصالح طبقتهم الخاصة. لست أدري ما سيكون عليه شكل هذه الهندسة المالية الجديدة. إذا أمعنّا النظر في ما جرى خلال أزمة نيويورك المالية، فلا أعتقد أن المصرفيين أو الخبراء عرفوا ما كان يجب أن يفعلوه، وما قاموا به هو «ترقيع». ربطوا الأجزاء بعضها ببعض بطريقة جديدة، وفي النهاية توصلوا إلى بناء جديد. ولكن مهما كان الحل الذي قد يجدونه، سوف يلائمهم ما لم نتدخل ونبدأ بالقول إننا نريد حلاًّ يناسبنا. ثمة دور أساسي لأشخاص مثلنا لإثارة الأسئلة، وتحدي شرعية القرارات المتخذة حالياً وإجراء تحاليل واضحة جداً لما كانت عليه طبيعة المشكلة.
■ البدائل
في الواقع، نحتاج إلى البدء بممارسة حقنا في المدينة. يجب أن نطرح السؤال الأهم، قيمة المصارف أو قيمة البشرية. فينبغي على النظام المصرفي أن يخدم الناس، لا أن يعيش على حساب الناس. والسبيل الوحيد الذي سيمكّننا من ممارسة حقنا في المدينة هو تسلم إدارة مشكلة امتصاص فائض رأس المال. يجب أن نخضع فائض رأس المال للسيطرة الجماعية، ونتخلص من مشكلة التراكم بنسبة 3 % إلى الأبد. فنحن الآن في مرحلة سوف يرتّب فيها معدل النمو الأبدي البالغ 3 % تكاليف بيئية هائلة وضغوطاً على الأوضاع الاجتماعية، لدرجة أننا سننتقل من أزمة مالية إلى أخرى.
المشكلة الأساسية هي كيف سنمتص فائضات رأس المال بطريقة منتجة ومربحة. أرى أن الحركة الاجتماعية يجب أن تتوحد حول فكرة مفادها أنها تريد المزيد من السيطرة على فائض الإنتاج. وفيما لا أدعم العودة إلى النموذج الكينزي بالشكل الذي كان عليه في الستينات، أعتقد أن السيطرة الاجتماعية والسياسة على فائض الإنتاج واستخدامه وتوزيعه كانت، في تلك المرحلة، أعظم مما هي عليه الآن. فقد كانت الفائضات المتحركة توضع في بناء مدارس ومستشفيات وبنى تحتية. وهذا ما أثار غيظ الطبقة الرأسمالية وسبّب حركة معاكسة في نهاية الستينات من القرن الماضي ـــ لأنها لم تحصل على سيطرة كافية على الفائض. ولكن إذا نظرت إلى المعطيات القائلة إن نسبة الفائض الذي تمتصه الدولة لم تتغير كثيراً منذ السبعينات، فإن ما قامت به الطبقة الرأسمالية هو أنها حالت دون حدوث سيطرة جماعية أكبر على الفائض. كما أنهم تمكّنوا من تحويل لفظة حكومة إلى لفظة «حوكمة»، ما جعل النشاطات الحكومية ونشاطات الشركات متداخلة، ومكّن هذا الأمر من قيام الوضع الحالي في العراق، حيث المقاولون الخاصون استنزفوا إمكانات تحقيق الأرباح السهلة بشراسة.
أعتقد أننا مقبلون على أزمة تشريعية. فقد قيل لنا، على مر السنوات الثلاثين الماضية، وأقتبس كلمات مارغريت تاتشر، «لا بديل» عن السوق الليبرالي الجديد الحر، وإن المسؤولية تقع على عاتقنا إن لم ننجح في ذلك العالم. أعتقد أنه من الصعب جداً أن تقول إنك، عندما تواجه أزمة حبس رهونات، تدعم المصارف لكن لا الأشخاص الذين حجزت رهوناتهم. يمكنك اتهام الأشخاص الذين حبست رهوناتهم بأنهم عديمو المسؤولية، وفي الولايات المتحدة، تتضمن هذه الحجة عنصراً عرقياً قوياً. فعندما ضربت أول موجة حبس رهونات أمكنة مثل كليفلاند وأوهايو، كانت مدمرة بالنسبة إلى الجماعات السود هناك، لكن جواب بعض الأشخاص كان «ماذا تتوقع، السود أشخاص غير مسؤولين». رأينا تحاليل الجناح اليميني للأزمة التي فسروها بأنها مسألة طمع شخصي في وول ستريت، وطمع أولئك الذين اقترضوا المال لشراء مساكن. يحاولون تحميل الضحايا مسؤولية الأزمة. ينبغي أن تقتضي إحدى مهماتنا بأن نقول «لا، لا يمكنكم بتاتاً أن تفعلوا ذلك»، وأن نحاول إيجاد تفسير داعم لهذه الأزمة كحدث طبقي انهارت فيه بنية معينة للاستغلال وسوف تحل محلها بنية استغلال أعمق. إحدى أكبر المسائل الإيديولوجية التي ستواجهنا هي ما سيكون عليه دور مالكي البيوت في المستقبل عندما تبدأ بالانتشار أقوال مثل يجب إخضاع قسم أكبر من احتياطي المساكن للسيطرة الجماعية، إذ منذ ثلاثينات القرن الماضي ونحن نعيش ضغوطاً هائلة باتجاه ملكية البيوت الفردية كطريقة لضمان حقوق الناس ومواقعهم.. علينا أن نخضع التربية العامة والعناية الصحية للسيطرة الجماعية، وكذلك احتياطي المساكن. يجب إخضاع قطاعات الاقتصاد هذه ومعها المصارف إلى السيطرة الجماعية.
■ سياسات راديكالية
ثمة مسألة أخرى يجب أن نفكر فيها وهي أن القوى العاملة، ولا سيما القوى العاملة المنظمة، لا تمثّل إلّا قسماً صغيراً من هذه المشكلة كلها، ولن تؤدّي إلا دوراً جزئياً في ما يجري، وذلك لسبب بسيط للغاية يعيدنا إلى مواطن الضعف في الطريقة التي عرض فيها ماركس المشكلة. إذا أجبت على ذلك بالقول إن تَكوّن مركّب الدولة ـــ رأس المال التمويلي أساسي جداً بالنسبة إلى ديناميكيات الرأسمالية، وسألت نفسك عن القوى الاجتماعية التي أثرت في معارضة هذه الترتيبات المؤسساتية أو إقامتها، تجد أن القوى العاملة لم تكن يوماً على الجبهة الأمامية من هذا النضال. كانت على الجبهة الأمامية في سوق العمل وعلى امتداد عملية العمل، ولكن معظم النضالات التي دارت حول الرابط بين الدولة ورأس المال التمويلي هي نضالات شعبية لم تحضر فيها القوى العاملة إلّا جزئياً...
كثيراً ما كان للقوى العاملة دور مهم جداً تؤدّيه ولكنني لا أعتقد أننا في وضع الآن تُعدّ فيه الرؤية التقليدية، التي تقول إن البروليتاريا هي في طليعة المعركة، مفيدةً جداً، إذ إن هندسة الرابط بين الدولة ورأس المال التمويلي (الذي يمثّل النظام العصبي المركزي لتراكم رأس المال) هي المسألة الجوهرية. ربما ثمة أمكنة وأزمنة تكتسي فيها التحركات البروليتارية معنى مهماً، كما في الصين مثلاً، حيث أراها تؤدّي دوراً مهماً لا أراها تؤدّيه في هذا البلد. المثير للاهتمام هو أن عمال السيارات وشركات السيارات متحالفان حالياً في ما يتعلق بالرابط بين الدولة ورأس المال التمويلي، وبطريقة من الطرق، لم يعد قائماً الخطُّ الفاصل الكبير للصراع الطبقي الذي وُجد دوماً في ديترويت، أو على الأقل ليس بالطريقة ذاتها. لدينا نوع مختلف تماماً الآن من السياسات الطبقية، وبعض وجهات النظر الماركسية التقليدية في رؤية هذه الأمور يعترض سبيل سياسات راديكالية حقيقية.
ثمة مشكلة أخرى لدى اليسار وهي اعتقاد كثيرين منهم بأن الإمساك بسلطة الدولة ليس له دور يؤدّيه في التغيرات السياسية. إنهم مجانين. فالسلطة الهائلة تكمن هناك، ولا يمكنك تجاهلها. أشك بعمق في المعتقد القائل إن المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني سوف تغير العالم...
لا أعتقد أننا في موقع يمكّننا من تحديد عوامل التغيير في الأزمة الحالية، وهي تختلف من بقعة إلى أخرى في العالم. في الولايات المتحدة، ثمة إشارات إلى أن عناصر من الطبقة الإدارية، التي اعتاشت من مكاسب رأس المال التمويلي، بدأت تتململ. كثيرون سُرّحوا من أعمالهم في الخدمات المالية، وحُبست رهوناتهم في بعض الظروف. بدأ المنتجون الثقافيون يدركون طبيعة المشاكل، وتماماً كما كانت مدارس الفن مراكز للراديكالية السياسية في الستينات، قد تجد شيئاً من هذا يظهر مجدداً. قد نشهد بروز منظمات عابرة للحدود، إذ إن مسألة انخفاض التحويلات النقدية تنقل الأزمة إلى أماكن مثل المناطق الريفية المكسيكسة أو كيرالا...
بعد قول ما قلت، أريد أن نقترح أفكاراً. إحدى الأفكار المثيرة للاهتمام في الولايات المتحدة الآن هي دفع الحكومات البلدية إلى إقرار قوانين محلية تمنع استرداد الملكيات، أعتقد أن ثمة مناطق في فرنسا فعلت ذلك. ثم إنشاء شركة إسكان بلدية تتحمل الرهن، وتدفع للمصرف، لأن المصارف أُعطيت مبالغ طائلة للتعامل مع هذا الوضع كما يُفترض، ولكنها لا تفعل.
المسألة الأساسية الثانية هي مسألة المواطنية والحقوق. أعتقد أن السَكَن، وبغض النظر عن المواطنية، هو الذي يجب أن يضمن الحقوق في المجلس البلدي. حالياً يُحرم الناس أي حقوق سياسية في المجلس البلدي إلّا إذا كانوا مواطنين، فأنت لا تملك أي حقوق إذا كنت مهاجراً. يجب إطلاق نضالات لاكتساب الحقوق في المجلس البلدي. والدستور البرازيلي ينص على بند يتعلق بـ«الحقوق في المدينة» وهي الحقوق في الاستشارة والمشاركة والإجراءات الميزانية. مجدداً أعتقد أن ثمة سياسات يمكن أن تنبثق من هذا.
■ إعادة تكوين للتمدّن
في الولايات المتحدة، تبرز القدرة على العمل على المستوى المحلي. وقد كانت الحكومات البلدية أكثر تقدماً من الحكومة الفدرالية على مر السنوات الماضية. إن التمويل البلدي يشهد أزمة الآن، وعلى الأرجح أنّه سيجري الضغط على أوباما من أجل إعادة رسملة العديد من الحكومات البلدية. لقد قال الرئيس إن هذه إحدى المسائل التي يوليها اهتمامه، وخصوصاً أن العديد من هذه القضايا هي محلية، مثل أزمة الرهونات العقارية المتدنية الجودة. كما كنت أقول، يجب أن تُفهم مسألة حجز الدين كأزمة مدنية لا أزمة مالية فحسب؛ إنها أزمة مالية للتمدّن...
لو كان بإمكاني تطوير نظام يعدّ مثالياً لقلت إنه يجب علينا، في الولايات المتحدة، إنشاء مصرف وطني لإعادة التنمية، وأخذ 500 مليار دولار من أصل الـ700 مليار التي صوّتوا عليها. فيتعامل المصرف مع البلديات لمعالجة مسألة الأحياء التي أصابتها موجة حبس الرهن، لأن هذه الموجة كانت بمثابة إعصار كاترينا من عدة نواح؛ فقد قضت على أحياء بأكملها، هي عموماً أحياء فقيرة يسكنها سود أو إسبان. فتذهب إلى تلك الأحياء، وتعيد إليها الأشخاص الذين اعتادوا العيش هناك على أسس مختلفة تتعلق بالتملك وحقوق السكن ومع نوع مختلف من التمويل. وتعمل على ازدهار تلك المناطق، فتنشئ فرص عمل محلية في تلك الحقول.
هكذا يمكنني أن أتخيل إعادة تكوين التمدّن. وللقيام بأي تحرك على صعيد الاحترار العالمي، يجب أن نعيد تكوين طريقة عمل المدن الأميركية، أن نفكر في مخطط جديد تماماً للتمدّن، مخططات جديدة للعيش وللعمل. ثمة إمكانات كثيرة يجب على اليسار أن يتنبّهوا إليها ـــ إنها فرصة حقيقية. ولكن هنا تواجهني مشكلة مع بعض الماركسيين الذين يبدون كأنهم يفكرون «نعم! إنها أزمة؛ ستُحلّ تناقضات الرأسمالية الآن بطريقة من الطرق!» هذه ليست لحظة للتعبير عن الانتصار، بل لحظة لإظهار الإشكاليات. أولاً أعتقد أن ثمة مشاكل في الطريقة التي عرض فيها ماركس تلك المشاكل، فالماركسيون لا يجيدون فهم مركّب الدولة ورأس المال التمويلي أو التمدّن ـــ إنهم بارعون في فهم أمور أخرى. ولكن يجب علينا الآن أن نعيد التفكير في موقفنا النظري والاحتمالات السياسية.
المقالة بالإنكليزية موجودة
على الرابط التالي:
www.zcommunications.org/znet/viewArticle/20876
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)