د. عادل سمارة ــ سواء كان ذلك تلويحاً بالمخاطر، أو أن المخاطر عبرت الخط الأحمر، فإن ركوداً ما يزحف على الاقتصاد الحقيقي لمركز النظام العالمي، ولا سيما في الولايات المتحدة. وقد يكون من قبيل التلاعب والنفاق، أن يحصل إفلاساً لمؤسسة مالية ما بعد بضعة ايام من سلسلة التطمينات بأن كل شيىء معافى. لكن الأمر لم يعد يحتمل التغطية. لم يتم إطفاء حريق الأزمة، فقد تمظهرت في الركود وضيقت الخناق على اوراق الإئتمان ورفعت معدل البطالة، وتسببت في اضطراب انفاق المستهلكين.
أما وقد اضحت أزمة الاقتصاد الحقيقي بادية للعيان، فقد توجه مدراء شركات السيارات في الولايات المتحدة إلى الدولة علانية ليأخذوا حصتهم من ميزانية الإنقاذ والبالغة 700 مليار دولار، محفوزين هذه المرة بتشجيع من بن برنانكي. وهؤلاء على اية حال معتادون على هذا الأمر، وإن بطرق أخرى كذلك. فقد اصبح جزءاً من ثقافة الأعمال الأميركية ما يسمى Down-sizing This اي قلص حجم هذا، والمقصود قيام الشركات بتقليص عدد العمال، وحين كانت تفعل الشركات هذا، كانت تحصل من الحكومة الفدرالية على مساعدات، وتحصل على مساعدات من حكومة الولاية التي ترغب في نقل مقرات شركة إليها، فاي دخل هائل من مجرد استخدام الإسم. هذا نمط من قص الكوبونات!
من الأمور الهامة في مواقف اصحاب الشركات وخاصة شركات السيارات أنها طالبت الحكومة بوضوح أن تستمر على السياسة السابقة وهي ارجاع الضرائب. فقد شدد رؤساء الشركات على ضرورة الانفاق على البنية التحتية، والبرامج ذات الفوائد طويلة الأمد وطالبوا ان تفضل الولايات المتحدة التخفيضات الضريبية طويلة الأمد على التيسيرات المؤقتة. وبالطبع، فإن هذه الأمور هي لصالح الشركات وليس المواطنين. وهذا يفتح على نقاش واسع للأمر مفاده أنه في الوقت الذي يضطر الساسة للحديث عن تغيير في أسس السياسة الاقتصادية اللبرالية الجديدة، والمحافظية neo-conservatism عامة، فإن قلاع النخب الغنية لم تستسلم بعد.
من اللافت أن مدراء الشركات الكبرى هذه أبدوا قلقهم من نقص المهارات الشابة في العلوم والتكنولوجيا والرياضيات! وكما اشرنا في مقال سابق، فإن نفس السياسة المحافظية الجديدة والتي يدافع عنها هؤلاء هي التي كانت وراء انخفاض الإنفاق الحكومي على التعليم، وبالتالي تدني مستوى العمل الماهر في الولايات المتحدة!. ويبدو أن أحد اسباب ميل الحكومة لتقليص الانفاق على التعليم، هو خروج الشركات إلى الخارج، اي توسيع عملياتها في العالم وتقليصها في اميركا الشمالية، نعم لقد رحلت بالمصنع وعادت بالفقاعة، واليوم تنتقد غيرها عمّا فعلت هي نفسها.
ماذا يريد مدراء شركات السيارات؟
ربما بكلمة، يريدون حصتهم من ميزانية خطة الإنقاذ. فهم يعتبرون ان قطاع السيارات تحديداً هو الرافعة الأساسية للاقتصاد الأميركي. لذا تقدموا للإدارة الحالية قبل ايام مطالبين ب 300 مليار دولار، اي قرابة نصف الميزانية المقصودة. ومن المهم أن مدراء هذه الشركات التقوا بإشراف جريدة وول ستريت مع أعضاء كونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وهم ممثلون عن ولايات تتركز فيها مواقع هذه الشركات، وخاصة ولايات متشيجان واوهايو وميسوري حيث تمتلك شركات فورد وكرايزلر وجنرال موتورز. قد يشترط الدعم انتاج سيارات اكثر عصريةواقل استهلاكا للوقود وبقروض ميسرة.
إن لإشراف جريدة وول ستريت على هذا اللقاء معناه، فهي التي رعت ترشيح باراك أوباما. وهذا يعني ان الإدارة القادمة لن تبتعد كثيراً عن الحالية.
وبالطبع هناك تقاش حاد في اميركا كيف يمكن دعم هذه الشركات بينما هي تتخبط بفعل ايدي مدرائها! ولكن، هل الأمر فقط على هذا النحو، وهل يصبح بعض المدراء كبش الفداء لسياسة اقتصادية هي اساس الأزمة؟ ربما.
قد يكون هناك محركاً آخر لمدراء شركات السيارات في مطالبتهم بالدعم المالي وذلك على ضوء تجربة دعم البنوك التي حصلت حتى الآن على 250 بليون دولار من ميزانية الإنقاذ لكنها لم تقدم قروضاً، بل انخرطت في أعمال اندماج لبعضها بعضاَ أو ابتلاع كبارها لصغارها! دون ان تقدم قروضاً، وحتى دون ان تقرض بعضها بعضاَ. وهو ما يمكن تسميته عملية نهب مكشوفة لسيولة مالية كان الهدف منها زيادة الإقراض للناس وللبنوك مع بعضها البعض. كما بقيت البنوك مستفيدة من التخفيض الضريبي. أما مبرر السلطة لعدم الضغط على البنوك فذلك بحجة أنه خلال الأزمة لا يكون من المفضل ممارسة ذلك.
أميركا "دولة أم سيارة" بحجم قارة؟
ولكن، إضافة إلى حظوة البنوك، لماذا بوسع هذه الشركات المطالبة بهذه القوة؟ اي ما هو قطاع السيارات في أميركا؟
تشكل السيارات عصب الحياة في الولايات المتحدة، لدرجة تسمى بانها مجتمع "مموتر – من موتور". وفيما يخص علاقة المواطن الأميركي بالسيارة كتب جون راي مؤرخ صناعة السيارات بأميركا سنة 1965 " إن الحواضر الأميركية المعاصرة باتت مقولبة على نحو يجعلها غير قادرة على الحياة إذا ما توقفت حركة السيارات فيها لأي سبب [1]".
وبعد 25 سنة كتب مايكل روزي مراسل الفايننشال تايمز في الولايات المتحدة مكرراً " لا حول ولا قوة للسائر على الأقدام في الإمتدادات المدينية في معظم ارجاء الولايات المتحدة... فلا تكاد توجد عملياً وسيلة نقل عام خارج مراكز المدن التي يخرج الناس منها مراراً. فالسيارة والبترول الرخيص إذن هما شرط اساس لعملك كمستهلك اعتيادي، إن لم يكن ككائن بشري اعتيادي".
وكتب (جون براغ، من مركز الدفاع الأخلاقي عن الرأسمالية 2001) "السيارة هي أعظم رمز معاصر للحرية الأميركية...إنها رمز قوي لما يجعل أميركا أعظم بلد في العالم، وأكثرها حرية".
ومع ذلك، فانتقال أميركا للإقتصاد الجديد تكنولوجيا المعلومات والإتصالات خفيف الأصول ثقيل المعرفة لم يؤثر على صناعة السيارات فبين 1991-99 بينما كان الإقتصاد الجديد يحوز على اهتمام الأميركيين ازداد انتاج السيارات ذات المحركات الخفيفة ب 42% . وانتجت اميركا عام 1999 أكثر من 13 مليون سيارة.
بلغ اجمالي فرص العمل المتولدة عن صناعة السيارات 6,6 مليون فرصة.
وفي عام 2003 اتضح ان 1 من كل ستة عاملين (في اي قطاع) في اميركا يتعامل بشكل او آخر مع السيارات والشاحنات صنعا او قيادة او تأمينا او ترخيصا او عملا في بناء او صيانة الطرق".
وبين عامي 1985-2001 ارتفعت نسبة السيارات الرياضية في أميركا من 27 إلى 63% أي تضاعفت السيارات المستهلكة للوقود!!! وفي سنة 1980 كان عدد السيارات المسجلة 155,790,000 سيارة، ووصلت في عام 2001 إلى 215,580,000 سيارة. وطبقا لأحدث التقديرات، هناك 834 مركبة لكل 1000 شخص في أميركا، أي بأكثر من خمسين بالمئة من أوروبا.
ماذا يعني هذا؟ يعني هذا أن اي تراجع في قطاع صناعة السيارات لا بد يصيب الاقتصاد والمجتمع الأميركي بشلل كبير. فهو يعني بطالة واسعة، ويعني عجز المواطن عن تسيير حياته بمرونة، ويعني انخفاض الطلب عموما وركود السوق.
ولكن الأمر لا يتوقف عند الاقتصاد الأميركي، فهو لا بد يطال الاقتصاد العالمي.
فالكثير من شركات السيارات أقامت مواقع انتاج خارج أميركا وبالتالي فالبطالة سوف تصيب عمال هذه المواقع . كما يؤثر تراجع قطاع السيارات وكذلك قلة استخدام الأميركي للسيارات على الطلب الأميركي على النفط. وهذا ما أخذ يتبدى حالياً، مما زاد من هبوط اسعار النفط وتحسن سعر صرف الدولار، وتحول مضاربين إلى المضاربة بالدولار بدل النفط.
يبلغ استهلاك المركبات في أميركا من الوقود 10,6 مليون برميل يوميا وهو يساوي الإستهلاك الإجمالي لأميركا الحنوبية، وأفريقيا والإتحاد السوفييتي السابق معا. لقد تطورت حصة النقل من استهلاك أميركا من النفط أي سيارات وطائرات وسفن وقطارات كما يلي.
1950 54%
1970 60%
1990 67%
حصة السيارات من هذا 53% وهذا وصل بالأرقام إلى 10,1مليون برميل يومياً سنة 2001.
ويبلغ استهلاك الفرد الأميركي الواحد من بنزين وديزل السيارات 2043 ليترا في السنة اي ثلاثة أضعاف الفرد في اليابان.
بعبارة أخرى، ليس المعيار هو فقط عدد السيارات وحتى طاقة محركاتها الاستهلاكية، بل أكثر من هذا وهو غزارة الاستعمال نظرا لطول المسافات في اميركا، وقلة القطارات، وكثرة استخدام السيارات الخاصة. فقد اشترت شركة جنرال موتورز منذ العشرينات الترامواي الكهربائي وأحلت السيارات محله، أي احتكرت هذا القطاع باكراً.
كما اشرنا، ربما يتم الضغط على شركات السيارات لتنتج موتورات صغيرة الحجم وذات استهلاك نفطي أقل. وهذه ثقافة غير موجودة في المجتمع الأميركي. فحتى عشية الأزمة الحالية، لم تحاول أميركا تقليص استهلاك النفط مثلا بتصغير استهلاك حجم أو محرك السيارات:
"كان فتيان وفتيات اميركا البيضاء (اي ذوي البشرة البيضاء) ينعمون بثروة وحرية شخصية لا سابق لها. وفي بحثها عن كسب قلوب هذا السوق الجديد الشاب أنزلت فورد السيارة الشهيرة المكشوفة فورد موستانج 1966. وفي ظرف 18 شهرا باعت هذه السيارة مليوناً، وكان ذاك اسرع رواج لسيارة جديدة في التاريخ وهي سيارة مستهلكة جدا للبنزين".
يقول كلارانس بيج، وهو كاتب مقالات "اننا نقود سياراتنا، وسياراتنا تقود ثقافتنا".
وهو يقول:
"في بلد السيارات الكبيرة هذا، السيارات هي نحن، ونحن هم السيارات...أما مسألتا الهواء النقي والكفاءة في استهلاك الوقود، فلندعهما ربما للقرن القادم".
تَشِيْ الصورة أعلاه بأن المجتمع والدولة الأميركيين اسيرين لصناعة السيارات من جهة وللنخبة المالية من جهة ثانية. لكن هذا لا يكمل الصورة، فالنخبتين ليستا بعيدتين عن بعضهما، كما انهما ليست بعيدتين عن نخبتيتن أخريين وهما نخبة الصناعات العسكرية (المجمع الصناعي العسكري Military Industrial Complex ) والنخبة السياسية في البيت الأبيض نفسه. هذه التخب متشاركة في االوضع والإمكاناتت والأهداف والمصالح بالطبع. لذا، فقد قرر وول ستريت إنجاح أوباما، وقرر دعم البنوك، والآن يقرر دعم الشركات الصناعية الكبرى، ولا بد سيدعم النخبة العسكرية في بقاء احتلال العراق.
بناء على هذه العلاقة والصورة يمكننا فهم لماذا بوسع شركات السيارات الضغط للحصول على حصة من ميزانية خطة الإنقاذ. ولذا، ايضاً لم تعبىء شركة جنرال موتورز بالإعلان انها خسرت 20 مليار دولار في اول تسعة اشهر من هذا العام. وهبطت اسعار اسهمها بدرجة كبيرة، هذا مع أن راتب مديرها هو 2,2 مليون دولار سنويا. ويؤكد مديرها أن الشركة لن تعلن الإفلاس، ولكن من يدري؟. وعليه طلبت من الحكومة الفدرالية كدفعة أولى 10 مليار دولار. كما قامت هي والشركات الأخرى بتخفيض النفقات وبيع الأصول والاقتراض مجدداً. وهذا يعين بشكل اساسي تسريح عشرات آلاف العمال.
بيت القصيد في كل هذا، أن النخب تتمتع بأموال الشعب، صناديق التقاعد، والميزانية الفدرالة، وفي نفس الوقت تسرح العمال، وهذا يعني أن هناك ركوداً في الولايات المتحدة، وأن المطلوب ليس معالجة الأزمة بل إنقاذ النخبة! وعلى عشرات ملايين المتضررين أن ينتظروا حتى يقوم السوق بتصحيح نفسه، وعادة يكون التصحيح مثل الهزات الأرضية التي تُريح نفسها، بينما تسحق البشر كالهوام!
أما وقد اضحت أزمة الاقتصاد الحقيقي بادية للعيان، فقد توجه مدراء شركات السيارات في الولايات المتحدة إلى الدولة علانية ليأخذوا حصتهم من ميزانية الإنقاذ والبالغة 700 مليار دولار، محفوزين هذه المرة بتشجيع من بن برنانكي. وهؤلاء على اية حال معتادون على هذا الأمر، وإن بطرق أخرى كذلك. فقد اصبح جزءاً من ثقافة الأعمال الأميركية ما يسمى Down-sizing This اي قلص حجم هذا، والمقصود قيام الشركات بتقليص عدد العمال، وحين كانت تفعل الشركات هذا، كانت تحصل من الحكومة الفدرالية على مساعدات، وتحصل على مساعدات من حكومة الولاية التي ترغب في نقل مقرات شركة إليها، فاي دخل هائل من مجرد استخدام الإسم. هذا نمط من قص الكوبونات!
من الأمور الهامة في مواقف اصحاب الشركات وخاصة شركات السيارات أنها طالبت الحكومة بوضوح أن تستمر على السياسة السابقة وهي ارجاع الضرائب. فقد شدد رؤساء الشركات على ضرورة الانفاق على البنية التحتية، والبرامج ذات الفوائد طويلة الأمد وطالبوا ان تفضل الولايات المتحدة التخفيضات الضريبية طويلة الأمد على التيسيرات المؤقتة. وبالطبع، فإن هذه الأمور هي لصالح الشركات وليس المواطنين. وهذا يفتح على نقاش واسع للأمر مفاده أنه في الوقت الذي يضطر الساسة للحديث عن تغيير في أسس السياسة الاقتصادية اللبرالية الجديدة، والمحافظية neo-conservatism عامة، فإن قلاع النخب الغنية لم تستسلم بعد.
من اللافت أن مدراء الشركات الكبرى هذه أبدوا قلقهم من نقص المهارات الشابة في العلوم والتكنولوجيا والرياضيات! وكما اشرنا في مقال سابق، فإن نفس السياسة المحافظية الجديدة والتي يدافع عنها هؤلاء هي التي كانت وراء انخفاض الإنفاق الحكومي على التعليم، وبالتالي تدني مستوى العمل الماهر في الولايات المتحدة!. ويبدو أن أحد اسباب ميل الحكومة لتقليص الانفاق على التعليم، هو خروج الشركات إلى الخارج، اي توسيع عملياتها في العالم وتقليصها في اميركا الشمالية، نعم لقد رحلت بالمصنع وعادت بالفقاعة، واليوم تنتقد غيرها عمّا فعلت هي نفسها.
ماذا يريد مدراء شركات السيارات؟
ربما بكلمة، يريدون حصتهم من ميزانية خطة الإنقاذ. فهم يعتبرون ان قطاع السيارات تحديداً هو الرافعة الأساسية للاقتصاد الأميركي. لذا تقدموا للإدارة الحالية قبل ايام مطالبين ب 300 مليار دولار، اي قرابة نصف الميزانية المقصودة. ومن المهم أن مدراء هذه الشركات التقوا بإشراف جريدة وول ستريت مع أعضاء كونجرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وهم ممثلون عن ولايات تتركز فيها مواقع هذه الشركات، وخاصة ولايات متشيجان واوهايو وميسوري حيث تمتلك شركات فورد وكرايزلر وجنرال موتورز. قد يشترط الدعم انتاج سيارات اكثر عصريةواقل استهلاكا للوقود وبقروض ميسرة.
إن لإشراف جريدة وول ستريت على هذا اللقاء معناه، فهي التي رعت ترشيح باراك أوباما. وهذا يعني ان الإدارة القادمة لن تبتعد كثيراً عن الحالية.
وبالطبع هناك تقاش حاد في اميركا كيف يمكن دعم هذه الشركات بينما هي تتخبط بفعل ايدي مدرائها! ولكن، هل الأمر فقط على هذا النحو، وهل يصبح بعض المدراء كبش الفداء لسياسة اقتصادية هي اساس الأزمة؟ ربما.
قد يكون هناك محركاً آخر لمدراء شركات السيارات في مطالبتهم بالدعم المالي وذلك على ضوء تجربة دعم البنوك التي حصلت حتى الآن على 250 بليون دولار من ميزانية الإنقاذ لكنها لم تقدم قروضاً، بل انخرطت في أعمال اندماج لبعضها بعضاَ أو ابتلاع كبارها لصغارها! دون ان تقدم قروضاً، وحتى دون ان تقرض بعضها بعضاَ. وهو ما يمكن تسميته عملية نهب مكشوفة لسيولة مالية كان الهدف منها زيادة الإقراض للناس وللبنوك مع بعضها البعض. كما بقيت البنوك مستفيدة من التخفيض الضريبي. أما مبرر السلطة لعدم الضغط على البنوك فذلك بحجة أنه خلال الأزمة لا يكون من المفضل ممارسة ذلك.
أميركا "دولة أم سيارة" بحجم قارة؟
ولكن، إضافة إلى حظوة البنوك، لماذا بوسع هذه الشركات المطالبة بهذه القوة؟ اي ما هو قطاع السيارات في أميركا؟
تشكل السيارات عصب الحياة في الولايات المتحدة، لدرجة تسمى بانها مجتمع "مموتر – من موتور". وفيما يخص علاقة المواطن الأميركي بالسيارة كتب جون راي مؤرخ صناعة السيارات بأميركا سنة 1965 " إن الحواضر الأميركية المعاصرة باتت مقولبة على نحو يجعلها غير قادرة على الحياة إذا ما توقفت حركة السيارات فيها لأي سبب [1]".
وبعد 25 سنة كتب مايكل روزي مراسل الفايننشال تايمز في الولايات المتحدة مكرراً " لا حول ولا قوة للسائر على الأقدام في الإمتدادات المدينية في معظم ارجاء الولايات المتحدة... فلا تكاد توجد عملياً وسيلة نقل عام خارج مراكز المدن التي يخرج الناس منها مراراً. فالسيارة والبترول الرخيص إذن هما شرط اساس لعملك كمستهلك اعتيادي، إن لم يكن ككائن بشري اعتيادي".
وكتب (جون براغ، من مركز الدفاع الأخلاقي عن الرأسمالية 2001) "السيارة هي أعظم رمز معاصر للحرية الأميركية...إنها رمز قوي لما يجعل أميركا أعظم بلد في العالم، وأكثرها حرية".
ومع ذلك، فانتقال أميركا للإقتصاد الجديد تكنولوجيا المعلومات والإتصالات خفيف الأصول ثقيل المعرفة لم يؤثر على صناعة السيارات فبين 1991-99 بينما كان الإقتصاد الجديد يحوز على اهتمام الأميركيين ازداد انتاج السيارات ذات المحركات الخفيفة ب 42% . وانتجت اميركا عام 1999 أكثر من 13 مليون سيارة.
بلغ اجمالي فرص العمل المتولدة عن صناعة السيارات 6,6 مليون فرصة.
وفي عام 2003 اتضح ان 1 من كل ستة عاملين (في اي قطاع) في اميركا يتعامل بشكل او آخر مع السيارات والشاحنات صنعا او قيادة او تأمينا او ترخيصا او عملا في بناء او صيانة الطرق".
وبين عامي 1985-2001 ارتفعت نسبة السيارات الرياضية في أميركا من 27 إلى 63% أي تضاعفت السيارات المستهلكة للوقود!!! وفي سنة 1980 كان عدد السيارات المسجلة 155,790,000 سيارة، ووصلت في عام 2001 إلى 215,580,000 سيارة. وطبقا لأحدث التقديرات، هناك 834 مركبة لكل 1000 شخص في أميركا، أي بأكثر من خمسين بالمئة من أوروبا.
ماذا يعني هذا؟ يعني هذا أن اي تراجع في قطاع صناعة السيارات لا بد يصيب الاقتصاد والمجتمع الأميركي بشلل كبير. فهو يعني بطالة واسعة، ويعني عجز المواطن عن تسيير حياته بمرونة، ويعني انخفاض الطلب عموما وركود السوق.
ولكن الأمر لا يتوقف عند الاقتصاد الأميركي، فهو لا بد يطال الاقتصاد العالمي.
فالكثير من شركات السيارات أقامت مواقع انتاج خارج أميركا وبالتالي فالبطالة سوف تصيب عمال هذه المواقع . كما يؤثر تراجع قطاع السيارات وكذلك قلة استخدام الأميركي للسيارات على الطلب الأميركي على النفط. وهذا ما أخذ يتبدى حالياً، مما زاد من هبوط اسعار النفط وتحسن سعر صرف الدولار، وتحول مضاربين إلى المضاربة بالدولار بدل النفط.
يبلغ استهلاك المركبات في أميركا من الوقود 10,6 مليون برميل يوميا وهو يساوي الإستهلاك الإجمالي لأميركا الحنوبية، وأفريقيا والإتحاد السوفييتي السابق معا. لقد تطورت حصة النقل من استهلاك أميركا من النفط أي سيارات وطائرات وسفن وقطارات كما يلي.
1950 54%
1970 60%
1990 67%
حصة السيارات من هذا 53% وهذا وصل بالأرقام إلى 10,1مليون برميل يومياً سنة 2001.
ويبلغ استهلاك الفرد الأميركي الواحد من بنزين وديزل السيارات 2043 ليترا في السنة اي ثلاثة أضعاف الفرد في اليابان.
بعبارة أخرى، ليس المعيار هو فقط عدد السيارات وحتى طاقة محركاتها الاستهلاكية، بل أكثر من هذا وهو غزارة الاستعمال نظرا لطول المسافات في اميركا، وقلة القطارات، وكثرة استخدام السيارات الخاصة. فقد اشترت شركة جنرال موتورز منذ العشرينات الترامواي الكهربائي وأحلت السيارات محله، أي احتكرت هذا القطاع باكراً.
كما اشرنا، ربما يتم الضغط على شركات السيارات لتنتج موتورات صغيرة الحجم وذات استهلاك نفطي أقل. وهذه ثقافة غير موجودة في المجتمع الأميركي. فحتى عشية الأزمة الحالية، لم تحاول أميركا تقليص استهلاك النفط مثلا بتصغير استهلاك حجم أو محرك السيارات:
"كان فتيان وفتيات اميركا البيضاء (اي ذوي البشرة البيضاء) ينعمون بثروة وحرية شخصية لا سابق لها. وفي بحثها عن كسب قلوب هذا السوق الجديد الشاب أنزلت فورد السيارة الشهيرة المكشوفة فورد موستانج 1966. وفي ظرف 18 شهرا باعت هذه السيارة مليوناً، وكان ذاك اسرع رواج لسيارة جديدة في التاريخ وهي سيارة مستهلكة جدا للبنزين".
يقول كلارانس بيج، وهو كاتب مقالات "اننا نقود سياراتنا، وسياراتنا تقود ثقافتنا".
وهو يقول:
"في بلد السيارات الكبيرة هذا، السيارات هي نحن، ونحن هم السيارات...أما مسألتا الهواء النقي والكفاءة في استهلاك الوقود، فلندعهما ربما للقرن القادم".
تَشِيْ الصورة أعلاه بأن المجتمع والدولة الأميركيين اسيرين لصناعة السيارات من جهة وللنخبة المالية من جهة ثانية. لكن هذا لا يكمل الصورة، فالنخبتين ليستا بعيدتين عن بعضهما، كما انهما ليست بعيدتين عن نخبتيتن أخريين وهما نخبة الصناعات العسكرية (المجمع الصناعي العسكري Military Industrial Complex ) والنخبة السياسية في البيت الأبيض نفسه. هذه التخب متشاركة في االوضع والإمكاناتت والأهداف والمصالح بالطبع. لذا، فقد قرر وول ستريت إنجاح أوباما، وقرر دعم البنوك، والآن يقرر دعم الشركات الصناعية الكبرى، ولا بد سيدعم النخبة العسكرية في بقاء احتلال العراق.
بناء على هذه العلاقة والصورة يمكننا فهم لماذا بوسع شركات السيارات الضغط للحصول على حصة من ميزانية خطة الإنقاذ. ولذا، ايضاً لم تعبىء شركة جنرال موتورز بالإعلان انها خسرت 20 مليار دولار في اول تسعة اشهر من هذا العام. وهبطت اسعار اسهمها بدرجة كبيرة، هذا مع أن راتب مديرها هو 2,2 مليون دولار سنويا. ويؤكد مديرها أن الشركة لن تعلن الإفلاس، ولكن من يدري؟. وعليه طلبت من الحكومة الفدرالية كدفعة أولى 10 مليار دولار. كما قامت هي والشركات الأخرى بتخفيض النفقات وبيع الأصول والاقتراض مجدداً. وهذا يعين بشكل اساسي تسريح عشرات آلاف العمال.
بيت القصيد في كل هذا، أن النخب تتمتع بأموال الشعب، صناديق التقاعد، والميزانية الفدرالة، وفي نفس الوقت تسرح العمال، وهذا يعني أن هناك ركوداً في الولايات المتحدة، وأن المطلوب ليس معالجة الأزمة بل إنقاذ النخبة! وعلى عشرات ملايين المتضررين أن ينتظروا حتى يقوم السوق بتصحيح نفسه، وعادة يكون التصحيح مثل الهزات الأرضية التي تُريح نفسها، بينما تسحق البشر كالهوام!
كنعان
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire