د. دريد درغام (المدير العام للمصرف التجاري السوري) ـ يبدو أن تباشير غضب الاقتصاد السياسي عبر العواصف المالية خلال السنوات الماضية لم تكف لإعادة الكهنة إلى جادة الصواب، فجاء إعصار لم يشهد التاريخ بعنفه أو بطول مدته. اعتبرنا في مقالات السابقة الدولار السلاح الأكثر فتكاً، وتناولنا الأزمة العالمية الحالية كتهديدات وفرص في آن معاً. ونوهنا إلى أنه منذ الحرب العالمية الثانية لم يتجاوز العمر الفعلي لأي من الأزمات السابقة أياماً أو أسابع معدودة فقط. أما الأزمة الحالية فيبدو أنها سترافقنا لسنوات طويلة وتتطلب من الرأسمالية تحولاً جذرياً لأن النظام الاقتصادي الحالي أصبح أقرب للفوضى المزمنة. ولن تولد هذه الأزمة هتلر واحد كما حدث بعد أزمة 1929، بل ستتحفنا بما يكفي منهم لتحضير ورشة دمار كبرى تتناسب مع حجم الأزمة الحالية. يبدو أن ذاكرة الإنسان قصيرة وإلا كيف ينسى أن الفضل في ازدهار الرأسمالية في العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية يعود للورشة التي نجمت عنها.
بين الميكروي والماكروي
مع زيادة البشر أجبر الإنسان على حساب اللهو على العمل تدجيناً وزراعة وتجارة وصناعة... وكلما اختل ميزان الموارد، كانت الطبيعة تتكفل حسب الظروف عبر الكوارث والأوبئة والحروب الموضعية بتجديد أو تبديل المواقع بين عبيد وأسياد! وبدل العودة إلى اللهو بفضل التقدم التقني وزيادة الإنتاج، فوجئ الإنسان باستعباد ومعاناة أكبر لصالح طبقة بمسميات مختلفة حسب العصور (الأعيان أو الإقطاع أو البورجوازيين أو الرأسماليين أو...). نفضل هنا تسميتهم الكهنة الذين دعوا لمنع اليد العاملة من الحركة ولكل حسب أسبابه: الاستعباد، القومية، الحد من الهجرة، عدم الانسجام مع متطلبات العمل... وركز الكهنة على هواجس الأمد القصير على حساب هواجس الأمد الطويل. وأصبحت الأسعار مقدسة ومنع تخفيضها (بمنع زيادة الإنتاج أحياناً)! متناسين أنه بوجود توازن ديمغرافي سيبقى التقدم التقني قاطرة الوصول إلى سلع مجانية تسمح تدريجياً بالعودة لطبيعة الإنسان اللاهية.
في ظل محدودية موارد الأرض هل يمكن لجميع البشر العيش بمستوى الدول المتقدمة؟
بالتأكيد لا لأن الدول المتقدمة لم تحقق هذا المستوى من البذخ إلا عبر:
شفط ادخار باقي دول العالم لتمويل الاستهلاك والاستثمار الباذخ
المبالغة في استنزاف الموارد الطبيعية على حساب توازن المناخ وتوازن استهلاك مختلف الشعوب لها.
واعتمد الأمريكيون في تنفيذ ذلك على الدولار كعملة ارتكاز شبه وحيدة طوال عقود وعملة تسعير تجنب مخاطر تقلبات أسعار القطع. ويفسر وضع الدولار تجمع السيولة والفوائض النقدية بهذه العملة العجيبة. وسمح تعويم العملات عام 1971 من الالتزام بتحويل الدولار إلى ذهب، وسمحت الأزمة الحالية باستخدام آليات السوق المالية والمصرفية لمحو الجزء الأكبر من احتياطات الدول النفطية والناشئة والسيولة المقرضة منها، فساهم ذلك في تخفيف ديون وأعباء الدول المتقدمة.
هل كنا فعلاً بحاجة لهذه الكارثة المالية والاقتصادية لإقناع الدول المتقدمة بضرورة إعادة النظر في المنظومة الرأسمالية الحالية وسياسة القطب الواحد؟ أم أن الأمور ستستمر إذا قبلت الدول النامية الناشئة فرض مصلحتها وتحقيق بعض المكاسب على حساب الدول النامية النائمة؟
سيؤدي الكساد الحالي إلى محاولات مستميتة من قبل الحكومات لخوض حرب تخفيض العملات والفوائد على أمل تنشيط الاقتصاد وزيادة الصادرات. وهو ما نشهده بين الدول المتقدمة منذ فترة متناسية أن الكساد سيستمر لفترة طويلة. وبما أن المصارف المركزية ووزراء المال قد استنفروا معاً عالمياً فلا بد وأن يقر الجميع بأن الكارثة قد حصلت. وهذا ما يدفعنا للتشكيك في أسباب تأخر المصارف المركزية والحكومات بالتدخل قبل وقوع الكارثة بسنوات. وإذا كان تدخل المصارف المركزية ووزارات المال لم يكف للحد من سلبيات الأزمة، فماذا بقي لنا من وسائل؟ وهل يعقل أن يستمر تخفيض الفوائد بحيث يصبح سالباً كما كان الحال في الدول المتخمة بالسيولة سابقاً؟
تلجأ الدول إلى سياسة الفائدة السالبة لتشجيع الاستثمار والاستهلاك إما عبر معدل تضخم أعلى من الفائدة الاسمية أو عبر فائدة اسمية سالبة إذا كان التضخم شبه معدوم! وتجدي هذه الإجراءات إذا كانت مرونة الطلب على مختلف أنواع السلع مقبولة. إلا أن هذه المرونة شبه انعدمت في الأزمة الحالية فإذا لم تنفع كل هذه الإجراءات وعمليات الضخ في آلة اقتصادية تعاني من كون التسريب منها أعلى من كمية الضخ الوارد إليها، ماذا يدخر العالم لنا من حلول في نهاية المطاف؟
نادت الدول المتقدمة طوال الوقت ومهما كانت الظروف بضرورة وضع سقف للنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لكل من الدين العام (60%) والعجز المالي (3%). فهل ستكون كارثة تجاوز هذه السقوف أكبر من كارثة احترامها في ظل الأزمة الحالية. ماذا سيحدث إذا انعدم النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة؟ لا بل هل من مشكلة إذا كان سالباً؟
تحاول هذه الدول تصوير الأمر وكأنه كارثة، أين المشكلة في انخفاض النمو الاقتصادي؟ إذا تذكرنا العوامل التالية:
1. تعاني معظم الدول المتقدمة من تناقص عدد سكانها!
2. انخفضت القيمة الحقيقية لمعونات هذه الدول تجاه العالم الغافي!
3. انخفاض النمو يعني انخفاض الأرباح فلماذا لا يستغني البعض عن جزء من الأرباح المتراكمة سابقاً والمتوقعة لاحقاً بدلاً من انتظار مثل هذه الأعاصير المالية لتذهب بالأخضر واليابس وتبرر للمجموعة الهتلرية المحتملة عنفاً نحن في غنى عنه؟
4. سيتيح انخفاض النمو استراحة محارب لمراجعة في العمق لما حدث خلال السنوات الماضية وسيسمح بوضع قواعد جديدة للاقتصاد السياسي الجديد وهو أمر لا يمكن تحقيقه إذا استمر تثبيت النمو الاقتصادي هدفاً أسمى على باقي الأهداف الاجتماعية والسياسية.
بما أن التنشيط عبر تخفيض العملة والفائدة لا ينفع إلا لأهداف قصيرة أو متوسطة الأمد ولظروف ركود وطنية وليست عالمية، نخشى أن يكون تخفيض أسعار المواد الأولية هو الحل الوحيد. فكما يبدو لم يكف مصادرة فوائض الدول البازغة والنفطية، فالأسعار المرتفعة لتلك المواد تؤثر على تنافسية المنتجات التي تعتمد عليها.
توقعنا قبل أشهر تخفيض (وليس انخفاض) أسعار النفط إلى 50 رغم أن الشتاء قادم، وللأسف تحققت توقعاتنا، نتساءل الآن هل سيستمر بالانخفاض أم سيرتفع؟
عوامل التخفيض: سيزيد الإنتاج بسبب الاستثمارات الهائلة التي جرت في مجال النفط. ومع انخفاض السعر لن تتحقق الخطط الاستثمارية لدول النفط إلا بزيادة الإنتاج مما يعني مزيداً من التخفيض في السعر. ومن غير المحتمل تخفيض الخطط بأكثر من النصف لأن ذلك سيؤثر على مستوى العمالة والتنمية؛ ناهيك عن كون معظم العقود مرتبطة بشركات تابعة للدول المتقدمة التي تستطيع ممارسة الضغط اللازم بعدم التخلي عن تلك العقود. يضاف إلى كل ذلك مختلف الضغوط التي ستمارس من قبل الاقتصادات المتقدمة لمساعدتها في الخروج من مرحلة الركود وتأمين الدعم اللازم لإنعاش آلتها الاقتصادية المريضة. كل ذلك يعني مزيداً من التخفيض في الأسعار الذي سيجري بالأصل بسبب نقص الطلب الناجم عن حالة الركود الاقتصادي العالمي.
عوامل الارتفاع: قد ترتفع الأسعار بسبب تخفيض إنتاج الدول النفطيةعلى أمل أن يعوض ارتفاع السعر انخفاض الإنتاج. قد يؤدي انخفاض الأسعار لتجميد أو إلغاء العديد من مشاريع إنتاج أو تصفية النفط. وسيؤدي ذلك عند حدوثه إلى انهيار الإنتاج وبالتالي زيادة الأسعار. كان إنتاج الوقود الحيوي مقبول اقتصادياً واعتبر منافساً للنفط عندما تخط سعر البرميل السبعين دولاراً، سيؤدي انخفاض أسعار النفط إلى توقف إنتاج الوقود الحيوي في العديد من المناطق مما سيؤدي لانخفاض العرض وبالتالي زيادة الأسعار.
بين الانخفاض والارتفاع نحن نعتقد بأن الغلبة ستكون لقوة تخفيض السعر لأن الكلمة الأعلى ستكون للاقتصادات المتقدمة لأنه ولو تأثر لوبي النفط لديها ستعطى الغلبة لباقي القطاعات التي توفر فرص عمالة أكبر. ونعتقد بأن الأسعار ستستمر بالانخفاض معيدة أجواء الثمانينيات التي فرضت تخفيضاً غير مسبوق.
وسيكون حجم الدعم المقدم للدول المتقدمة عبر تخفيض أسعار النفط أكبر بكثير من حجم المبالغ التي تم ضخها حتى الآن. ويكفي أن نتذكر أن إنتاج 80 مليون برميل يومياً مع تخفيض سعر البرميل بحوالي 100 دولار، يكافئ دعماً بقيمة 8 مليار يومياً وبالتالي حوالي 3 تريليون سنوياً!
ومع الحديث المتصاعد عن ضرورة إنقاذ شركات صناعة السيارات الأمريكية نجد أنه مهما كانت المساعدات المقدمة لهذه الشركات فلن تكون خطة إنقاذ مضمونة إلا إذا استمرت أسعار النفط بالانخفاض لتجعل إمكانية الإقبال على مختلف الصناعات وخاصة السيارات ممكنة خلال الأعوام القادمة كما حدث منذ عشرين عاماً!
أسواق المال وبنية العقل العربي؟
بغض النظر عن البعد الجيوسياسي لارتباط دول النفط نقدياً ومالياً بالعالم المتقدم، نحاول فيما يلي التطرق إلى أسباب تعلق بعض المستثمرين بأسواق المال فقط!
يتم عادة تمويل الشركة بأحد الشكلين التاليين أو تنويعاتهما:
المساهمة في حقوق الملكية مقابل عوائد متغيرة. وتعكس رغبة بالمساهمة الطويلة الأمد على أمل زيادة العوائد تدريجياً مما يبرر المخاطرة برأس المال أو جزء منه.
القروض مقابل عوائد ثابتة يطلبها من لا يرغب بالمخاطرة (عادة مقابل ضمانات)
ويتقارب في الظروف الطبيعية وسطي هذه العوائد على الأمد الطويل. وإن تباينتا عادة يكون المساهم الذي خاطر بأمواله في بنية شركة حقيقية هو الرابح الأكبر وهذا أمر طبيعي.
مع تنامي العولمة المالية وأدواتها الجديدة منذ عشرات السنين نلاحظ ما يلي:
أصبح المستثمر في الأدوات المالية (أسهم، سندات وغيرها) أكثر ربحية من المستثمر الفعلي في البنية الاقتصادية. وهذا ما يبرر التحول المفاجئ للعديد من المصارف التقليدية إلى صيغ المرابحة نظراً لما وجدت فيها من أرباح استثنائية غير مسبوقة.
ولم يكن بإمكان الولايات المتحدة أن تجذب تلك الاستثمارات المالية الهائلة وتسوقها إلى مقصلتها الاقتصادية لولا توافر مجموعة من العوامل نضيفها إلى ما أوردناه في مقالنا السابق:
1. سمح التخلي عن معيار الذهب واعتماد عملة دولة وليس عملة عالمية إلى السماح لتلك الدولة طوال سنوات طويلة بالتمول من مدخرات الآخرين.
2. يمثل الاقتصاد الأمريكي 25% من الاقتصاد العالمي مما يبرر حجم الاستثمار الحالي، ولكنه في الوقت ذاته أكثر الاقتصادات انغلاقاً إذ أنه لا يتبادل مع الخارج أكثر من 15% من ناتجه المحلي الإجمالي. ومع ذلك فإن هذه النسبة من هذا الحجم كانت تمثل حجماً كبيراً بالنسبة للاقتصادات الأخرى خاصة الناشئة منها. ولكن مع التقدم الهائل للاقتصادات الناشئة (بالأخص الصين) أصبحت نسبة التبادل الأمريكي مع الخارج أقل من احتياطات الصين. وأدى ذلك إلى تسرب الشك حول قدرة الاقتصاد الأمريكي على استيعاب مزيد من الاستثمارات أخذا بالاعتبار أنه يستند بشكل كبير على عالم المال أكثر من الاقتصاد الحقيقي.
3. أعفي الاستثمار في الأدوات المالية من الضرائب ومنها الضريبة على القيمة المضافة؛ بينما فرضت على معظم أطياف الاقتصاد الحقيقي رغم أن أرباحه (نظرياً وحسب ما ادعته أسواق المال) أقل بكثير مما يفسر الهجرة المكثفة نحو الاستثمار بالأدوات المالية.
4. نظراً لتراكم الثروات النفطية وظهور الفوائض وارتفاع مستوى الدخل في الآونة الأخيرة بالاعتماد على الثروات النفطية حاول الكثيرون من سكان الدول النفطية العودة إلى مفهوم الإنسان "اللاهي". وعول هؤلاء على الأرباح المرتقبة من الاستثمار في أسواق المال دون جهد يذكر باستثناء الترحال من سهم لآخر دون بذل أي جهد حقيقي ودون فهم معمق لآليات عمل الأسواق المالية. وإلا كيف نفسر قبول بعضهم سواءً بالاعتماد على العلم أو الفقه بأن استثماراً ما يمكن أن يحقق ربحاً يزيد عن 150% خلال أقل من عام ونصف (انظر الشكل أدناه)؟
وزاد من تشجيع الناس على الاستثمار بهذه الأدوات إضفاء صفة المرابحة والصيرفة الإسلامية عليها. ولكن لم ينتبه الجميع إلى أن هذا النوع من المضاربات والمرابحات التي تجري خلال وقت قصير جداً أدت إلى نسف مبرراتها الشرعية لأنها أصبحت تحمل طابع المقامرة وأصبحت عوائدها أحياناً أعلى من الربا ذاته. كما أنها نسفت مبادئ الاقتصاد والتجارة التي تفترض زيادة المخاطر عند الانتقال في الميزانية من الالتزامات القصيرة الأمد في طرف الميزانية إلى الالتزامات الطويلة الأمد في الطرف الآخر. ففي المساهمة بحقوق الملكية نجد أن أصحاب الشركة يخاطرون فعلياً لأن الانسحاب لا يتم إلا عند تصفية الشركة طواعية أو بالإفلاس أوعند وجود استثناءات تستدعي التخلي عن الاستثمار على الأمد المتوسط على الأقل في الظروف العادية. في هذه الحالات نجد مرابحة حقيقية تحتمل الربح والخسارة. ابتكرت في السنوات الأخيرة أدوات وصفت بالإسلامية، وتميزت بأمدها القصير حيث أصبحت عمليات البيع تجري بعد ثواني أو دقائق من عمليات الشراء. أدى كل ذلك إلى تشويه الميزانية بحيث أصبحت المساهمة المتميزة بالاستقرار شديدة القلق ومدتها قصيرة جداً بحيث قلبت مصطلحات الميزانية رأساً على عقب!
5. لأسباب غير مفهومة، ورغم استحواذها على فوائض مالية ضخمة، ورغم تواجد أسواق مالية "منظمة" و"متقدمة" لديها، لم تنجح الدول النفطية إلا باستثمار جزء ضئيل من سيولتها داخل اقتصاداتها الوطنية. فقد فشلت كما يبدو باستدراج شركات حقيقية خارج الحقل النفطي أو المصرفي للعمل فيها أو في البلدان المجاورة لها مما قد يؤمن لها إشرافاً أفضل على فعالياتها وعلى حساباتها. ولو فعلت لساعدها ذلك في تأمين مستقبل أفضل للعمالة الوطنية وتخفيف هجرة عمالة البلدان المجاورة إليها. فكانت النتيجة هجرة معظم الرساميل والفوائض إلى الشركات والأسواق "الناضجة" في الاقتصادات والبورصات المتقدمة رغم أنها مشبعة سلفاً بالسيولة. فكانت النتيجة انخفاض مقصود للفوائد المصرفية (انظر الشكل أدناه) ودفع باتجاه الاستثمار بالأدوات الخطرة مثل الأسهم والمشتقات وخلافها. ومع انفجار الفقاعة وجدنا أنه بدلاً من الحصول على عوائد أكبر، تعرض كل من الصناديق السيادية و المستثمرين المباشرين إلى خسارة فادحة في رؤوس أموالهم المستثمرة.
قلب مفاهيم العجز: الدول الفقيرة تستجدي المعونات والغنية تجبرها على إقراضها
يعلم الجميع أن الدول الفقيرة مصابة بالعجز ونظراً لرفض تقديم القروض لها لتمويل بقاء شعبها على قيد الحياة فإنها تستجدي المعونات. والغريب أن الولايات المتحدة واقعة بعجز بنيوي مشابه للدول الفقيرة لأن الشعب الأمريكي يعيش منذ سنوات طويلة بأعلى مما تسمح به مدخراته، وبما أن عنفوانه يمنعه من الاستجداء وبما أن لديه سلاح بريتون وودز فإنه يفرض على الجميع قبول عملته وتقديم الدعم المالي اللازم له بها معتمداً مع انهيار كل فقاعة مالية على التخلص من جزء كبير من الدين بدلاً من البحث عن طرق لتمويل الفوائد والأقساط. والغريب أن الجميع يجد بسبب بريتون وودز أنه من حق دولة تخفيض معدلات الفائدة فيها حتى تكاد تنعدم وتسمح بتخفيض قيمة عملتها متناسية أن دولاً استثمرت في هذه العملة الاحتياطات النقدية التي أمضت في جمعها عشرات السنين. فبأي حق تقوم هذه الدولة بتخفيض العوائد ونسف ربع قيمة الاحتياطات المستثمرة بعملتها ناهيك عن نسف الجزء الأكبر في حركة الإفلاسات الأخيرة.
بناءً على ما تقدم ونظراً لبوادر الأزمة الاقتصادية وعبء الديون، لجأت القوى الخفية إلى أسلوبين لدعم نموها وتخفيف ديونها:
a. رفعت أسعار النفط والمواد الأولية (بحجة كثافة الطلب من الأسواق الناشئة مثل الصين وغيرها) لتبرير رفع أسعار المواد الصناعية إلى العتبة المطلوبة. وبفضل ذات القوى (انظر المخطط أدناه) تم تخفيض النفط والمواد الأولية مع الاحتفاظ بأسعار المواد المصنعة أو تخفيضها قليلاً جداً. فسمح ذلك بأكبر دعم مباشر من دول النامية النائمة إلى الدول الصناعية المتقدمة.
NYMEX Crude Oil
b. تبخرت الفوائض إما بانخفاض قيم الأسهم أو بإعلان إفلاس الشركات من خلال لعبة السوق المالية تم تبرير نسف الجزء الأكبر من الفوائض التي كانت تشكل عبئاً حقيقياً على الدول المتقدمة نأخذ كمثال على ذلك مشاركة عدة دول في شركتي Fannie Mae و Freddie Mac:(حسب لومند دبلوماتيك النسخة العربية العدد 34 ص 13):
الصين 396 مليار دولار
اليابان 228 مليار دولار
روسيا 75 مليار دولار
كوريا الجنوبية 63 مليار دولار
تايوان 55 مليار دولار
وقد تبخرت الفوائض إما بانخفاض قيم الأسهم أو بإعلان إفلاس الشركات
يبقى المعيار هو الاقتصاد الحقيقي
عرضت الصحافة العالمية الجشع وغياب الرقابة ودور الدولة وغيرها أسباباً محتملة للأزمة الحالية. وباتت الدول المتقدمة لأول مرة عالمياً متهماً أساسياً في قيادة العالم نحو أكبر كارثة اقتصادية. من جهتنا ندعو إلى مراجعة لمقدمات عالم الاقتصاد السياسي وبعض الظواهر التي تم تجاهلها ومن أهمها مفهوم الأسعار ومزاحمة الاستثمار المالي للحقيقي. سنناقش في مقال لاحق مفهوم الأسعار ورفض الكهنة الاعتراف بأنه مثلما تنتقل بعض المواد من طيف المجاني إلى المسعر (مواقف السيارات، الماء القابل للشرب...) فإن التقدم التقني قد يسمح أحياناً بنقل بعض السلع إلى طيف المجاني من جديد. أما في هذا المقال فنحاول طرح مقترح حول ضبط مزاحمة الاستثمار المالي للحقيقي على امل التوسع بذلك في مقال لاحق.
مهما تزايدت الكتلة النقدية بسبب إصدار المصارف للنقود يبقى وجهها الآخر إما استهلاكاً أو استثماراً. ومهما حدث فعلى الأمد الطويل، من غير الطبيعي أن يكون الربح في عالم المال أعلى من الربح في العالم الاقتصادي الحقيقي. ومهما طرحت الهندسة المالية وصناعة المصارف والبورصات من أدوات ومنتجات تدعي بأن أرباحها ناجمة عن عالم مستقل، إلا أنها في النهاية مرتبطة بشكل أو بآخر بالعالم الحقيقي. لذا لا يمكن الاستمرار بجمع الفوائض المالية للدول الأخرى لحرقها في مدفأة قصور المال الباردة في الدول المتقدمة. فمهما طال الأمر لا بد من وجود تصحيحات تلقائية كان آخرها ما حدث في مختلف المؤشرات خلال السنة المنصرمة.
CAC NIKKEI
FTSE DOW
لقد عادت الأسعار قسراً إلى ما كانت عليه قبل سنوات بعيدة وكان التصحيح أليماً لدرجة ستعيد النظر بأسس الرأسمالية وكيفية تطور المجتمعات وفق التصنيف التقليدي بين القطاعات الزراعية والصناعية والخدمات.
وسيحدث الألم الأكبر في القطاع الزراعي الذي تم هجره أو إهماله أو تدمير بنيته (من خلال الإنتاج الجائر عبر وسائل تهتم بالربح بشكل رئيسي). فقد اعتبر الكثيرون أن التطور يتعلق بانتقال الأمم من القطاع الزراعي إلى الصناعي فقطاع الخدمات. وحاولت بعض المجتمعات القفز السريع نحو قطاع الخدمات نظراً لما يمثله من بذخ ومظاهر حضارية سطحية. ولو راجعنا في الآونة الأخيرة التقلبات التي حدثت في أرباح المنتجات الزراعية لوجدنا أن وسطي هذه الأرباح يتجاوز وسطي الأرباح المحققة في الأدوات المالية، فهل من صدى لهذه الدعوة للعودة إلى الاقتصاد الحقيقي بدلاً من المالي الافتراضي؟
لا بد من العودة إلى أحد الأركان الأساسية للأمن القومي وهو الأمن الغذائي. وانتبه عدد قليل من الدول النامية لهذه الحقيقة ومنها سورية التي أعارت هذا الميدان أولوية منذ حوالي عشرين عاماً. ونعتقد أن فوائض الدول العربية (التي تبخر معظمها في الأزمة الحالية) لو استثمر جزء يسير منها في المجال الزراعي والمائي واللوجستيكي بين بلاد الشام والجزيرة العربية لحققنا على الأقل ما يلي:
1. ضمان استقرار الاحتياجات الأساسية لشعوب المنطقة من الغذاء على الأقل
2. ضمان مصادر دخل أكثر استقراراً من أية استثمارات أخرى
3. ضمان فرص يد عاملة أكبر بكثير من المتاح الحالي
4. بناء خطوط لوجستيكية لجميع أنواع التشبيك الاتصالاتي والمواصلاتي بين بحر العرب والخليج من جهة والبحر المتوسط وأوروبا من الجهة الأخرى مما سيسمح بتنمية متوازنة وتحقيق آفاق أرحب من الأرباح الجديدة بما فيها زيادة حركة الترانزيت فضلاً عنى مضاعفة السياحة الدينية تجاه الأماكن المقدسة في مختلف هذه البلدان
5. تأمين مصادرامتصاص أفضل لجميع أنواع الصدمات فضلاً عن ان مثل هذه البنية سيعطي أوراقاً تفاوضية أكبر في أية مفاوضات مستقبلية على أشكال الاقتصاد الجديد أو الممكن تحقيقه.
مقترحات
الأزمة تحمل أبعاداً جيوسياسية أكثر منها اقتصادية تستدعي إعادة النظر بالمنظومات الحالية التي تقود العالم. بغض النظر عن عدم وجود أرض تتمتع باستقلال دولي تتواجد عليها المنظمات الدولية، وتحكم الولايات المتحدة بتأشيرات الدخول للمدعوين لاجتماعات هذه المنظمات، نذكر بأن مجلس الأمن يركز على البعد السياسي بينما يهتم بالبعد الاقتصادي والاجتماعي ثالوث البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية في إطار من السياسات التفضيلية لصالح الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة. كما أن هذه المنظمات تمارس أحياناً سياسة التصدق بالمعونات والمساعدات وشيء من النصح والإرشاد لمن استيقظ قليلاً (برأيهم) من الدول النائمة. وكل ذلك يدفعنا للبحث عن آفاق وملامح مقترحات جديدة نأمل أن تكون أكثر ملاءمة لتنمية عالمية مستدامة لا تعاني من خلل بنيوي في توازنها سواءً ما بين الدول أو عبر الزمن أو ما بين القطاعات المالية والاقتصادية. ونركز على الآتي:
a. أهمية رسم ضوابط لمزاحمة عالم المال لعالم الاقتصاد الحقيقي من خلال:
وضع سقف للأرباح التي يمكن تحقيقها في السوق الثانوية من عالم المال بحيث لا يتجاوز وسطي أرباح سهم سقفاً ما مرتبطاً بوسطي الأرباح الحقيقية للشركة التي طرحته مسبقاً في السوق الأولية (أو وسطي أرباح القطاع الذي تنتمي إليه). ويمكن أن يحدد الارتباط بنسبة تجعل عالم المال يحقق ربحاً أعلى أو أقل بقليل من وسطي الاستثمار الحقيقي حسب رغبة المشرع أو الدولة في تشجيع مدروس لنمو السوق الثانوية أو الأولية. وبذلك نجد أن هناك انسجام بين أرباح من غامر بملكية الأسهم في السوق الأولية معولاً على ربح الشركة الفعلي، وذلك الذي يرغب بامتلاكها من مستثمر احتاج سيولة فلجأ إلى السوق الثانوية. بهذه الطريقة تصبح الأسواق المالية أقل جنوناً وأكثر انضباطاً وأكثر صلابة ومقاومة في وجه المضاربين. والأهم أن الاستثمار يعود إلى حقيقته من حيث عدم السماح لمدخري الأموال باللجوء إلى أساليب أقرب للقمار في زيادة ثرواتهم واستثمارها في عالم المال الذي مهما زادت أرباحه وحجومه فإنه يعود لينسجم مع عالم الحقيقة. وهذا ما يجعل من عملة التناغم بين الاستثمارات الحقيقية والمتالية وسيلة للحد من إمكانية حدوث مثل الأزمات الحالية. كما أن ذلك يساعد في تنقية أوضاع المساهمات في أوراق مالية تجعل الأرباح أقرب للمقامرة منها إلى ربح يستند إلى استثمار حقيقي.
عندما يكون الاستثمار لثواني أو حتى لأيام لا يمكن أن يكون المستفيد إلا مضارباً! ومهما كانت الظروف يجب وضع حد أدنى (عدة أسابيع أو أشهر) لمدة احتفاظ مشتر جديد لسهم أو سند عن طريق السوق الثانوية. وبهذه الطريقة يصبح مفهوم المضاربات المدمرة أقل حدة وخطورة على التنمية المستدامة.
b. ضمن تقلبات أسعار العملات العالمية واندفاع دولها لحرب التخفيضات للوصول إلى دعم صادراتها، نجد أن السبيل الأفضل لحماية جزء من الاحتياطي المتوفر (حال عدم الحاجة لاستثمار ذلك الجزء في الأمد القصير) يكمن في بتحويله إلى سبائك ذهبية عندما يكون السعر مقبولاً بناءً على تقلباته السابقة. فالذهب مهما كانت تقلباته فإنها كما يبدو من الشكل أدناه أضمن للدول من تقلبات العملات الهائلة في السنوات الماضية.
c. في ظل الضبابية الحالية ووضوح الأزمة الغذائية العالمية ورغبة الدول الصناعية بالمحافظة على التضخيم الذي حدث على قيمها المضافة في المواد المصنعة، لا بد من التمعن بحذر في النصائح الحالية لكبار الساسة والاقتصاديين في الدول المتقدمة. فقد امتنعت عن تخفيض أسعارها أسوة بمنتجات الدول الفقيرة من المواد الأولية، ويسعى البعض لإقناع الجميع بإنفاق الاحتياطات (حتى في مجال الكماليات) لدعم الاستهلاك والاستثمار المتراخيين وتشجيع النمو وتجنب الأزمة الاقتصادية الأكبر على حد زعمهم. ولكن استنزاف احتياطات أمضت بعض الأمم عشرات السنين في تجميعها يعني خطر محققاً على الاستقرار الأمني والاجتماعي فيها، وقد يفتح ذلك أبواب البلدان النامية على مصراعيه لتحقيق شريعة الغاب (انظر مقالنا "ملتسة الاقتصاد" المنشور في نيسان على موقع syriasteps.com). وهنا تأتي أهمية سياسات التريث في الإنفاق لأن العالم يعيش أجواء أزمة أشنع من كساد 1929. وستساهم سياسات التروي في الإنفاق أو هدر الاحتياطات في التحضير للسنوات العجاف القادمة. والعبرة في التجربة القاسية لثمانينيات القرن الماضي التي عانت منها بلدان نامية عديدة. ويخشى استنزاف الاحتياطات على مختلف السلع بما فيها الكمالية بسبب:
انخداع البلدان النامية بانخفاض الأسعار الناجم عن الكساد مما سيغريها لفترة بعدم اللجوء إلى سياسات تقشفية. وقد تستمر بهذا السلوك لأسباب عديدة منها:
o رغم العجز اعتقادها بوجود فائض في الميزان التجاري متناسية وجود القطاع غير المنظم أو أجواء التهرب الضريبي (تخفي الفواتير التجارية المخفضة القيم الفعلية للاستيراد الحقيقي).
o وهم استمرار توافر الموارد أو انخفاض الأسعار.
o ضغط الدول المتقدمة المأزومة حالياً لزيادة الاستهلاك والاستثمار.
في مرحلة لاحقة سيزيد استنزاف الاحتياطات بسبب ارتفاع الأسعار والتقشف بالإكراه (إما لنضوب الموارد أو الاحتياطات) أو حصر المستوردات بالسلع الأساسية وتقنينها.
d. بما أنه لم يعد الدول النفطية من الموارد ما يكفي لتأمين الزخم الاقتصادي الذي كان يسود لديها، ستؤدي الأزمة الحالية وانخفاض أسعار النفط إلى امتناعها عن تقديم المساعدات أو القروض الميسرة أو على الأقل ستقوم بتخفيضها بشكل كبير لديها. وسيزيد الطين بلة الزيادة الكبيرة التي نتوقعها على أسعار المواد الأولية.
e. بما أن الأزمة عالمية فلا يمكن للحل إلا أن يكون شمولياً مع التركيز على القطاع الزراعي مقارنة بالقطاعات الأخرى. وتدل الأزمة الحالية والتقلبات المناخية والارتفاع المتوقع لأسعار المواد الغذائية على أن الرهان القادم سيكون على المحاصيل الزراعية كوقود حيوي للإنسان كما كان الوضع منذ الأزل بدلاً من أن يكون وقوداً للسيارات.
f. بغض النظر عن الظروف الحالية لا نعتقد بأن فصل السلطة النقدية عن المالية والضريبية أمراً محبذاً. ومهما نضجت تجارب المؤسساتية في بعض الدول ومهما اجترحت لشعوبها نماذج تنمية اقتصادية مستدامة لعقد من الزمن أو أكثر، يبدو أن الحاجة كبيرة للتنسيق اللصيق بين المصرف المركزي ووزارة المال وبالأخص في الدول النامية.
في الختام لا بد من التذكير بأنها دعوة مفتوحة للحوار في كنه وعمق هذه الأزمة العالمية وما يمكن أن يستفاد من هذه النقاشات على صعيد كل دولة أو اقتصاد حسب الخصوصية المتعلقة بكل منها.
كلنا شركاء
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire