قراءة يسارية في أزمة الرأسمالية العالمية
مهدى بندق
الجمعة 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2008
ذات يوم سألت سيدة إنجليزية برنا رد شو : ما الرأسمالية؟ وللتو جاءتها الإجابة: هي مثل لحيتي.. غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع!
هكذا وبخبطة واحدة استطاع الفيلسوف الأيرلندي الاشتراكي أن يشخص العلة , وأن يلمح الى الدواء. فالرأسماليةCapitalism ليست مجرد تكديس للأموال في خزائن الأغنياء , ذلك ما كان يفعله الإقطاعيون وأبناؤهم وأتباعهم. ومن قبلهم الأباطرة وقادة الجيوش وولاة الأقاليم والكهنة والتجار ..الخ لكن النظام الرأسمالي (الذي وُلد مع اكتشاف طاقة البخار واكتشاف قارة أمريكا، ومع المخترعات التي حولت الحرف والورش الصغيرة الى الإنتاج الصناعي الكثيف) إنما كان النظام الذي تمكن من توظيف المال الراكد stagnant money في صميم العملية الإنتاجية ، خالقاً به القيمة المضافة، ومستخرجاً، بفضله ، من قوى عماله الأجراء (الأحرار توهماً !) فائض قيمة أسماها الأرباح ، تلك التي كانت تزداد بقدر ما تقل الأجور عن قيمتها الحقيقية المتمثلة في الجهد المبذول لعملية الإنتاج المتزايد. وهذا بالضبط هو جوهر النظام الرأسمالي: غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع. دعونا إذا ًنرفع القبعات عن صلعاتنا ، نحن عديمي اللحى لهذا النظام الرأسماليّ العظيم!
ما أوجزه برنا رد شو بسخريته المعهودة، سبق وأن فصّله المفكرون الاقتصاديون العظام أمثال آدم سميث ، وريكاردو ، كارل ماركس صاحب الكتاب الأشهر "رأس المال" .. وماركس – تحديداً – هو من كشف عن ثورية وجدارة الرأسمالية في بداياتها : مضاعفة الإنتاج العالمي بتحريرها المال من ركوده ، وتحريرها الأقنان من السخرة ، وتحريرها الطاقات البشرية من الكسل الموروث ، جنباً إلى هذا كشف ماركس عيوب تلك الرأسمالية وأخطرها : تناقضاتها الاقتصادية الداخلية البحتة فيما أسماه بنظرية "فيض الإنتاج" وخلاصتها أن الرأسماليين حين يوظفون أموالهم بتحويلها الى رأس مال، فإنهم يقسمونها الى قسمين ، الأول رأس مال ثابت، ويتضمن الأرض والمباني والآلات والخامات، وهذا القسم تظل قيمته ثابتة بالطبع. والثاني : رأس مال متغير هو الأجور المدفوعة للعمال. ولأن أرباح الرأسماليين لا تأتيهم من القسم الأول [ قيمته ثابتة ] بل من القسم الثاني المتغير[ حسب شطارة الرأسمالي في مواجهة العامل شارلي شابلن ] فلابد من أن تكون هذه الأجور ، في مجملها أقل من قيمة السلع الكلية التي تنزل الأسواق بعد تجنيب الأرباح طبعاً. وعليه فلا يمكن إطلاقاً للقوى الشرائية الكلية أن تعادل العرض الكلى (من أين للإجراء محدودي الدخل بنقود ليشتروا بها السلع المتزايدة ؟!) فيترتب على ذلك تزايد الكساد ، ثم انبجاسه كأزمة عامة، وهو عين ما حدث في القرن الماضي، وهاهو ذا الأمر يتكرر في أيامنا ، بغض النظر عن الشكل "المالي " الذي يغطرش على جوهر الأزمة في هيكليتها . فمع الكساد يضطر أصحاب المصانع الى تسريح بعض العمال، الأمر الذي يزيد الأزمة تفاقماً (من أين للعاطلين بنقود ليشتروا بها السلع المكدسة ؟! ) وتؤدي البطالة الى مزيد من الركود، فالبطالة فيما يشبه الدَوَر والتسلسل المنطقي.
ذلك لاغرو ما حدث في عام 1929 فيما سُمّىَ بالأزمة العالمية الكبرى .. أغلقت المصانع أبوابها تباعاً ، و ُطرد العمال من المصانع ، والموظفون من المكاتب جماعات جماعات، وبالتوازي ألقيت آلاف الأطنان من السلع الغذائية في البحر، وأحرقت بالات القطن في مخازنها بأوامر مالكيها. بينما تضاعفت أعداد الجوعى والعراة بالملايين ، فانتحر رجال ولجأت نساء الى احتراف الدعارة، واضطر معظم العاطلين لامتهان السرقة والبلطجة، واحترف الأطفال التسول وانتشرت عصابات الإجرام في كل البقاع . والحل يا سادة ؟ الحل هو الحرب ! دعوا الفاشية تدق طبلها، ودعوا الملايين يتقاتلون تحت شعارات "وطنية" زاعقة، فهذا أفضل لهم ولنا نحن الرأسماليين: يموتون هم بضمائر مستريحة ، بينما تنتعش لدينا نحن الأذكياء ، صناعة السلاح والذخائر، وأغذية الجنود وملابسهم الرسمية ، وخوذاتهم ، وأعضائهم الصناعية التعويضية. وبعد الحرب سيعاد إعمار المدن التي خُربت، والطرق التي دُمرت ، والمنازل التي نُسفت، وفي هذا وذاك إعادة تشغيل العاطلين ، لتعود لهم القدرة على الشراء [ انظر كم نحن رحماء بيننا ! ] حينها نخرج جميعاً من نفقنا المظلم الكئيب.
ليعد إلى كهفه من ليس في مقدوره أن يستنتج أن ما يحدث اليوم شبيه بما حدث في ثلاثينات القرن الماضي، يعاد إنتاجه في أيامنا هذه. فلقد بدأت بوادر الأزمة العالمية الجديدة بخروج أمريكا عام1971 ، الدولة الرأسمالية العالمية الأولى من اتفاقية بريتون وودز الموقعة عام 1946 والداعية الى ربط العملات بقاعدة الذهب. ولما كانت أمريكا تسعى الى إغراق العالم بالدولارات "الورقية" لكي يشتري الناس بضائعها المكدسة، تحرزاً من الكساد المتربص. فلقد زعمت – تبريرا لخروجها من الاتفاقية المشار إليها -أن الإنتاج الأمريكي الهائل هو الضامن لعملتها وليس الذهب. بيد أنه ما لبثت أوربا واليابان ثم الصين أخيراً أن لحقت بأمريكا ، بل وكاد تتفوق نسبياً عليها في مضمار العرض السلعي الكلى ، مما أدى الى انكماش متتال للاقتصاد الأمريكي. فكان منطقياً أن تلجأ أمريكا الى الاستدانة داخلياً وخارجياً (بلغ الدين العام الأمريكي هذا العام 70 ترليون دولار، وقارب عجز الموازنة العامة بها مبلغ 750 مليار دولار ) والحل ؟! الحل موجود يا سادة ، يجري العمل به على قدم وساق. فالحرب أفغانستان وفي العراق ، والحرب ضد ما تسميه أمريكا الإرهاب (وهو إرهاب فعلاً ولكن مختوم بختم صنع في أمريكا) رفعت جميعها قيمة الإنفاق العسكري الى 615 مليار دولار مرشحة للتضاعف في حالة بدء الحرب مع إيران. لكن هذا الإنفاق المجنون هو الذي يساهم في إخراج الرأسمالية الأمريكية – الممثل الأول للنظام العالمي – من أزمتها الخانقة ، وحتى تبقى الأوضاع الحالية قائمة : 15 % من سكان الكوكب يستحوذون على 80% من ثروة العالم.
دعنا إذن نقارن تلك الأرقام الفلكية ديوناً وإنفاقاً عسكرياً بأرقام أخرى أكثر رعباً. فعالم الرأسمالية المتوحشة الذي يحيا في ظله البشر اليوم يوجد به 3 مليار إنسان – نصف البشرية – يعيش الفرد منهم بأقل من 2 يورو في اليوم. وفي البلدان النامية ثمة مليار ونصف إنسان لا تصل إليهم مياه صالحة للشرب، ويعاني ملياران من الأنيميا بسبب سوء التغذية ، في حين أن مبلغ 13 مليار يورو كاف تماماً لإنقاذهم ، وهو ذات المبلغ الذي ينفقه الأمريكيون والأوربيون على عطورهم كل عام ! ضع هذا كله في جانب ، وتأمل تلك الحقيقة المأساوية المخزية والتي نشرتها اليونيسف (صندوق الأمم المتحدة للطفولة) عام 1997 والتي تقول إن 250 مليون طفل تقل أعمارهم عن خمسة أعوام يدفع بهم سنوياً الى سوق العمل ! في أي مجال يعمل هؤلاء البؤساء ؟ خدم منازل ، بيع الخردوات والعاديات ، التسول ، الدعارة !!
كيف يمكن لمثقف يساري حقيقي ، وظيفته الأولى الدفاع عن حق الجنس البشري في الحياة الإنسانية الكريمة أن يداعب أطفاله أو أحفاده (قبل أن يمسك بالقلم ليكتب مقالته أو روايته أو قصيدته ) على حين يغفل (أو يتغافل عن) هذه الأوضاع كلها !
ذات يوم كتب هيجل يقول : إن الواقع حقيقي. ففهم أهل اليمين أن ما هو قائم لا سبيل الى تغييره. أما اليسار الهيجلى فقد قلب الآية ، أو بالأحرى عّدلها مرتئياً أن كل ما لا يتسق مع الحقيقة العقلية أمر لا يمكن قبوله كواقع ، من حيث هو شئ شاذ ، لابد للبشر أن يسعوا لتغييره حتى تصبح الحقيقة ( = إنسانية الإنسان) أمراً واقعاً . كيف ؟
أولاً : بفضح سمات تلك الرأسمالية المتوحشة بالأسلوب العلمي الرصين دون تشنجات أيديولوجية تزعم أن السلف الصالح في ثقافتنا أنتج نظاماً اقتصادياً مثالياً ، في حين تمثل ذلك النظام المثالي المزعوم في محض اقتصاد ريعي أساسه الفيء والخراج والجزية ، وعلى أحسن الأحوال عبر تجارة الترانسيت ، وكلها تنتمي لهياكل مجتمعات ما قبل الرأسمالية التي لا تزيد الثروة القائمة بل تعيد تدويرها حسب.
ثانياً : بتشمير الأكمام لتأسيس نظرية اقتصادية تتجاوز الرأسمالية الهرمة ، في ذات الوقت الذي لا تقع فيه في قبضة رأسمالية الدولة حسب النموذج السوفيتي والنموذج المصري الستيني، بإغواء مقولة المركز والأطراف (سمير أمين مثالاً لا حصراُ) فالعودة الى ما فات أشبه بنصيحة تقدم لرب الأسرة ذي المشاكل أن يعود الى الحضانة ليتخلص من مشكلات الزوجة والأبناء والغلاء .... الخ.
ثالثاً : بالتصدي الشجاع لكل دعاوى الحرب بين الأمم والدول والشعوب، حصاراً سلمياً لدوافع الرأسماليين، فلا يجد هؤلاء بدا ً من مواجهة أزمات نظامهم على أرضه هو ، دون تصديرها لغيرهم من الأبرياء. وفي هذا السياق تجوز الدعوة الى إلغاء التجنيد الإجباري تدريجياً إلا في الأوطان الواقعة تحت الاحتلال.
فهل ينهض اليسار العربي – وهو جدير بالنهوض – الى تلك المهمة ، مخلفاً وراء ظهره المنازعات الشكلية ، والمجادلات البليدة ، والتحالفات اللامبدئية الفظة مع أهل اليمين (الهيجلى) وأشباههم من الداعين للعودة المستحيلة الى مجتمعات ما قبل الرأسمالية؟
Tahadyat_thakafya@yahoo.com
* الإسكندرية
samedi 8 mai 2010
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire