عقيدة الصدمة ... 2-3
إدارة بوش حوّلت هجمات 2001 إلى مشروع يدر الأرباح
نعومي كلاين
ما الذي يربط بين انقلاب بينوشيه في تشيلي، والمذبحة في ميدان تيانانمين في الصين، وانهيار الاتحاد السوفييتي، واحداث 11 سبتمبر/ايلول ،2001 والحرب على العراق، وموجات تسونامي الآسيوية، وإعصار كاترينا في الولايات المتحدة؟
كل تلك الكوارث، سواء كانت من صنع الطبيعة أو من صنع البشر، أحدثت شعوراً بالصدمة لدى المجتمعات التي وقعت فيها، وتم استغلال تلك الصدمة لتمرير سياسات السوق الحرة، ونشر الخصخصة، وتعزيز رأسمالية الكوارث.
هذه هي خلاصة ما تقوله نعومي كلاين، الصحافية، والمؤلفة، وصانعة الافلام الحائزة على العديد من الجوائز، في كتابها الجديد الموسوم بعنوان “عقيدة الصدمة: قيام رأسمالية الكوارث”، والصادر عن دار متروبوليتان بوكس.
تواصل المؤلفة الحديث عن مبدأ الصدمة، التي تسبق اجراء التغييرات الرأسمالية الكبرى في المجتمعات. وتقول انها كلما تعمقت في دراسة تاريخ الكيفية التي اجتاح بها نموذج السوق هذا، العالم، اكتشفت ان فكرة استغلال المحن والكوارث كانت وما تزال اسلوب عمل حركة ملتون فريدمان منذ البداية، فقد كانت صيغة الرأسمالية الأصولية هذه بحاجة الى الكوارث دائماً كي تتقدم. ومن المؤكد ان هذه الكوارث المساعدة تصبح أضخم شيئاً فشيئاً وأشد إثارة للصدمة والذهول، ولكن ما كان يحدث في العراق وفي نيو أورلينينز لم يكن اختراعاً جاء في أعقاب 11 سبتمبر/أيلول بل ان هذه الممارسات الوقحة في استغلال المحنة كانت تجسيداً لثلاثة عقود من الالتزام الصارم بمبدأ الصدمة.
فإذا نظرنا الى السنوات الخمس والثلاثين الماضية من خلال عدسة هذا المبدأ، لبدت مختلفة جداً. فبعض أشهر انتهاكات حقوق الانسان في هذه الحقبة، والتي اعتبرت اعمالاً سادية ارتكبتها أنظمة مناوئة للديمقراطية، كانت إما مرتكبة عن عمد بقصد ارهاب العامة، وإما انها استغلت بنشاط لتهيئة الأرضية لإدخال “اصلاحات” سوق حرة جذرية. ففي الأرجنتين كان “اختفاء” ثلاثين ألف شخص معظمهم من الناشطين اليساريين، على أيدي الطغمة العسكرية في السبعينات، مكملاً لفرض سياسات مدرسة شيكاجو في البلاد، تماماً مثلما كان الارهاب قريناً للنوع ذاته من المسخ الاقتصادي في تشيلي. وفي الصين سنة ،1989 كانت صدمة مذبحة ميدان تيانانمين وما أعقبها من اعتقال عشرات الألوف، هما اللذان أطلقا يد الحزب الشيوعي لتحويل الشطر الأعظم من البلاد إلى منطقة تصدير ممتدة، غاصة بعمال يمنعهم الذعر عن المطالبة بحقوقهم. وفي روسيا سنة ،1993 كان قرار بوريس يلتسين ارسال الدبابات لقصف مبنى البرلمان وحجز قادة المعارضة هو الذي مهد السبيل أمام حركة الخصخصة الواسعة النطاق التي خلقت الأقليات المتحكمة سيئة الذكر في البلاد.
وقد خدمت حرب فوكلاند سنة 1982 غرضاً مشابهاً لدى مارجريت تاتشر في الولايات المتحدة: فقد سمحت الفوضى والهياج القومي الناتجان عن الحرب لتاتشر أن تستخدم قوة هائلة لسحق عمال مناجم الفحم المضربين، وأن تطلق أول سعار للخصخصة في دولة ديمقراطية غربية. وقد خلق هجوم حلف شمال الأطلسي على بلجراد سنة 1999 الظروف لإجراء خصخصة سريعة في يوغوسلافيا السابقة وذلك هدف يعود تاريخه إلى ما قبل الحرب. وتقول المؤلفة إن الشؤون الاقتصادية لم تكن بحال من الأحوال الدافع الوحيد لهذه الحروب، ولكن في كل حالة منها تم استغلال صدمة جماعية كبرى لتمهيد السبيل أمام علاج بالصدمة الاقتصادية.
وتضيف المؤلفة أن الصدمة التي تهدف للقضاء على المعارضة، لا تحدث بعنف ظاهري دائماً، ففي أمريكا اللاتينية وآسيا في الثمانينات، كانت محنة الديون هي التي أجبرت الدول على أن “تتخصخص أو تموت”، على حد تعبير أحد المسؤولين في صندوق النقد الدولي. فبعد أن أنهكها فرط التضخم، وأصبحت مدينة إلى درجة لا تسمح لها برفض المطالب التي جاءت مقرونة بالقروض الأجنبية، قبلت الحكومات “العلاج بالصدمة” على أمل أن ينقذها ذلك من كارثة أعمق، كما حدث مع بعض دول آسيا سنة 1997 1998. وكان العديد من هذه الدول ديمقراطياً، ولكن تحولات السوق الحرة الجذرية لم تفرض فيها بطريقة ديمقراطية. بل على العكس تماماً، إذ وفر جو الأزمة الواسعة النطاق الذريعة اللازمة لنقض أماني الناخبين وتسليم البلاد إلى “تكنوقراطيين” اقتصاديين.
وكانت هنالك حالات، جرى فيها تبني سياسات السوق الحرة بطريقة ديمقراطية حيث كان هنالك ساسة خاضوا الانتخابات على أسس متشددة وفازوا فيها، وخير مثال على ذلك الولايات المتحدة في عهد رونالد ريجان، وانتخاب نيكولاي ساركوزي في فرنسا في الآونة الأخيرة. ولكن أنصار السوق الحرة واجهوا ضغطاً شعبياً وكانوا مضطرين لذلك إلى تعديل خططهم الراديكالية، وقبول إجراء تغييرات تدريجية بدلاً من التحول الكلي. وخدلاصة القول إنه بينما يصلح أنموذج فريدمان لأن يفرض جزئياً بموجب الديمقراطية، فإن الظروف الاستبدادية مطلوبة لتطبيق نسخته الحقيقية، ولكي يطبق العلاج بالصدمة الاقتصادية من دون قيود، كما حدث في التشيلي في السبعينات، والصين في أواخر الثمانينات وروسيا في التسعينات، والولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/ أيلول ،2001 كان مطلوباً على الدوام نوع من الصدمة الجماعية الكبرى الإضافية، صدمة إما أن تعلق تطبيق الممارسات الديمقراطية مؤقتاً أو تعطلها بصورة تامة. وكانت هذه الحملة الإيديولوجية الشرسة قد ولدت عند الأنظمة الاستبدادية في أمريكا الجنوبية، وفي أوسع المناطق التي فتحتها مؤخراً وهي روسيا والصين تتعايش بكل ارتياح، وبأكبر قدر من جني المكاسب مع قيادة ذات قبضة حديدية حتى يومنا هذا.
مبدأ الصدمة.. في الولايات المتحدة
تلاحظ المؤلفة ان حركة مدرسة شيكاجو التي تزعمها ملتون فريدمان ظلت توالي “فتوحاتها” الاقتصادية في انحاء العالم منذ سبعينات القرن الماضي، ولكن تصورها لم يطبق بصورة كاملة في البلد الذي نشأت فيه، وهو الولايات المتحدة، إلا منذ عهد قريب. صحيح ان ريجان قد سار على هذا الدرب، ولكن الولايات المتحدة ظلت تحتفظ بنظام للرفاه والأمن الاجتماعي والمدارس العامة، حيث تمسك أولياء الأمور بما وصفه فريدمان بأنه “ارتباطهم غير المنطقي بالنظام الاشتراكي”.
وعندما سيطر الجمهوريون على الكونجرس سنة ،1995 كان ديفيد فروم، وهو كندي مزروع في الإدارة الأمريكية، كما تقول المؤلفة، وكاتب خطابات الرئيس جورج دبليو بوش فيما بعد، من بين من يسمون بالمحافظين الجدد الذين يدعون الى ثورة اقتصادية في الولايات المتحدة بأسلوب العلاج بالصدمة. وكان يقول “اني أرى فعل ذلك على النحو التالي: بدلاً من وقف البرامج وإجراء عمليات الخفض بصورة متقطعة وتدريجية، قليل هنا وقليل هناك، أقول ان ننهي في يوم واحد خلال هذا الصيف ثلاثمائة برنامج، يكلف كل منها مليار دولار أو اقل. ونستطيع أن نفعل ذلك على الفور”.
ولم تكن الظروف متاحة لفروم في ذلك الوقت لتطبيق علاج الصدمة هذا، لأنه لم تكن ثمة أزمة أو محنة تمهد السبيل أمامه. ولكن الأمر تغير سنة 2001. فعندما وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، كان البيت الأبيض غاصاً بمريدي فريدمان، ومن بينهم صديقه الحميم دونالد رامسفيلد. واستغل فريق رامسفيلد لحظة الدوار الجماعي الذي حل بالشعب الأمريكي، بسرعة خاطفة، لا لأن الإدارة قد خططت للأزمة بصورة مباشرة، كما ادعى البعض، بل لأن الشخصيات الرئيسية في الإدارة، وقدامى خبراء تطبيق رأسمالية الكوارث في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، كانوا جزءاً من حركة تصلي من أجل وقوع محنة، مثلما يصلي المزارعون الذين استبد بهم القحط من اجل سقوط المطر، أو مثلما يصلي المسيحيون الصهاينة من اجل وقوع (الاختطاف) الذي تحدث عنه سفر الرؤيا، كما تقول المؤلفة. فعندما تضرب المحنة التي طال انتظارها، يعرفون على الفور ان الفرصة قد حانت أخيراً.
وقد استغل فريدمان وأتباعه، على مدى ثلاثة عقود لحظات الصدمة بطريقة منتظمة في الدول الأخرى التي وقعت فيها أحداث تعادل أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، بدءاً بانقلاب بينوشيه في 11 سبتمبر 1973. والذي حدث في 11 سبتمبر ،2001 ان الايديولوجيا التي ولدت في الجامعات الأمريكية وتحصنت في معاهد واشنطن ومؤسساتها العلمية، قد حانت لها الفرصة أخيراً لكي تطبق في الوطن.
وسارعت إدارة بوش الى استغلال الخوف الذي ولدته الهجمات، لا لكي تطلق “الحرب على الإرهاب” وحسب، بل لتحويله ايضاً الى مشروع يدر الأرباح، وصناعة جديدة مزدهرة، ردت اليها الحياة من جديد، في الاقتصاد الأمريكي المتعثر. ولهذه الرأسمالية التي تكون أوضح في الذهن، اذا اعتبرت “مجمعاً لرأسمالية الكوارث”، مجسات أطول وأبعد مدى من مجمع الصناعات العسكرية الذي حذر منه دوايت ايزنهاور في أواخر فترة رئاسته: فهذه حرب عالمية تخاض على كل مستوى بشركات خاصة يدفع لها من المال العام، مع تفويض لا نهاية له بحماية الوطن الأمريكي الى الأبد بينما تستأصل كل “شر” في الخارج. وفي غضون سنوات قليلة فقط، وسع هذا المجتمع مجال سوقه من محاربة الإرهاب، إلى حفظ السلام الدولي، الى توفير الشرطة المحلية، الى الاستجابة للكوارث الطبيعية المتزايدة. والهدف النهائي للشركات التي تشكل لب هذا المجمع، هو إدخال نموذج الحكم من أجل الربح، الذي يتقدم بسرعة طاغية ضمن الظروف غير العادية، الى صلب عمل الحكومة اليومي، اي خصخصة الحكومة في واقع الامر.
ولكي تشغل إدارة بوش مجمع رأسمالية الكوارث، أوكلت الى جهات من خارج الحكومة، ومن دون إجراء نقاش عام، تنفيذ الكثير من المهام الحساسة، من توفير الرعاية الصحية للجنود، الى التحقيق مع السجناء، الى جمع البيانات والمعلومات عن كل مواطن امريكي. وليس دور الحكومة في هذه الحرب التي لا تنتهي، هو دور المدير الذي يدير شبكة من الشركات المتعاقدة، بل هو دور رأسمالي المشاريع والمجازفات ذي الجيوب الواسعة، حيث تقوم بتوفير الأموال اللازمة لتأسيس هذا المجمع، والتحول الى اكبر متعامل معه في الخدمات التي يقدمها. وتورد المؤلفة ثلاثة احصاءات تبين حجم التحول، ففي سنة 2003 سلمت الحكومة الامريكية 3512 عقدا الى شركات لتقوم بأداء مهمات أمنية، وفي فترة الاثنين وعشرين شهرا التي تنتهي في شهر اغسطس/آب ،2006 كانت وزارة الأمن الداخلي الامريكية قد أصدرت اكثر من 115 ألفاً من مثل تلك العقود و”صناعة أمن الوطن”- التي لم تكن مهمة من الناحية الاقتصادية قبل سنة 2001- تشكل الآن قطاعاً رأسماله 200 مليار دولار. وفي سنة ،2006 كان معدل انفاق الحكومة الامريكية على الأمن الداخلي 545 دولارا لكل اسرة.
وكان ذلك مجرد الجبهة الداخلية للحرب على الإرهاب، أما الأموال الحقيقية فهي التي تنفق في خوض الحروب في الخارج، فإلى جانب العقود مع شركات توفير الأسلحة، التي شهدت تصاعد أرباحها الهائل بفضل الحرب في العراق، تشكل صيانة الجيش الامريكي واحدة من اسرع اقتصاديات الخدمات نموا في العالم.
وهنالك بعد ذلك، الغوث الإنساني وإعادة البناء، فقد غدا الغوث وإعادة البناء من أجل الربح، اللذان كانت بواكير استعمالهما في العراق، النموذج الدولي الجديد، بصرف النظر عما إذا كان التدمير الاصلي قد حدث من حرب عدوانية، مثل هجوم “اسرائيل” على لبنان سنة ،2006 او بسبب اعصار. ومع شح الموارد والتغير المناخي اللذين يولدان سيلا متعاظما من الكوارث الجديدة، تصبح الاستجابة للطوارئ سوقا ناشئة أهم من أن تترك للمنظمات غير الربحية - فلماذا تبني اليونيسيف المدارس، بينما يمكن فعل ذلك بوساطة شركة بكتل، وهي احدى أضخم الشركات الهندسية في الولايات المتحدة؟ ولماذا يوضع المشردون من المسيسيبي في شقق خالية مدعومة بالمال، بينما يمكن إيواؤهم على سفن شركة كارنيغال الجوالة؟ ولماذا تنشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في دارفور، بينما تبحث شركات أمنية خاصة مثل “بلاكووتر” عن عملاء جدد؟ وهذا هو الفرق الذي أحدثه ما بعد 11 سبتمبر/ايلول: قبل ذلك، كانت الحروب والكوارث توفر الفرص لقطاع ضيق من الاقتصاد - اسواق المقاتلات النفاثة على سبيل المثال، او شركات الانشاءات التي أعادت بناء الجسور المدمرة اثناء القصف ولكن الدور الاقتصادي الاساسي للحروب كان ان تشكل وسيلة لفتح اسواق جديدة ظلت مغلقة من قبل، وتوليد حالات ازدهار في زمن السلم بعد انتهاء الحرب. أما الآن فإن الحروب والاستجابة للكوارث، مخصخصة بصورة تامة، بحيث أنها غدت في حد ذاتها، تشكل السوق الجديدة، وليس هنالك حاجة الى الانتظار الى ما بعد الحرب لكي يحدث الازدهار.
وتقول المؤلفة إن احدى الميزات الرئيسية لهذا النهج المابعد حداثي، هي انه بمعطيات السوق، لا يمكن أن يفشل. وكما قال احد المحللين الاقتصاديين، معلقا على أرباح شركة خدمات الطاقة، هاليبرتون، خلال ربع سنة، والتي كانت مرتفعة بوجه خاص “إن وضع العراق أفضل، مما كان متوقعا”، وكان ذلك في شهر اكتوبر/تشرين الاول.
،2006 أعنف شهر في سجلات الحرب، بلغت خسائر المدنيين العراقيين فيه 3709 قتلى، ومع ذلك يصعب على مالكي أسهم تلك الشركة ألا يكونوا فرحين بالحرب التي درت 20 مليار دولار من العائدات على شركتهم وحدها.
وفي غمار تجارة الأسلحة، وجنود الشركات الخاصة، وإعادة البناء بهدف الربح وصناعة الأمن الداخلي، فإن الذي برز نتيجة صيغة علاج الصدمة التي سارت عليها إدارة بوش بوجه خاص في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، هو اقتصاد جديد معبر عنه بوضوح تام، وقد بُني في عهد بوش، ولكنه يوجد الآن بمعزل عن أي إدارة بعينها، وسيظل صامداً بثبات، إلى أن يتم تحديد ايديولوجية الشركات التسلطية التي تشدّ أزره، وعزلها وتحديها، وهذا المجمع يخضع لهيمنة الشركات الأمريكية، ولكنه دولي، مع جلب الشركات البريطانية لخبرتها في مجال آلات التصوير الأمنية التي ترصد كل شيء، والشركات “الإسرائيلية” لخبرتها في بناء الأسيجة والجدران ذات التقنية العالية، وصناعة الأخشاب الكندية التي تبيع البيوت الجاهزة التي تفوق أسعارها نظيرتها المنتجة محلياً عدة مرات.
خصخصة الحرب والكوارث
ترى المؤلفة أن اقتصاد الكوارث، متوافق مع أرباح صناعة التأمين التي تصاعدت بنسبة ضخمة (والتي بلغت رقماً قياسياً هو 60 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها)، ومترافقاً كذلك مع الأرباح الفائقة لصناعة النفط (التي تنمو مع كل أزمة جديدة)، قد يكون أنقذ السوق العالمية من الركود التام الذي كانت تواجهه عشية أحداث 11/9.
وتشير المؤلفة إلى الصعوبة التي تواجه المؤرخ للحملة الايديولوجية العنيفة التي بلغت أوجها بخصخصة الحرب والكوارث، وهي أن هذه الايديولوجيا تغير شكلها، ولا تكف عن تغيير اسمها وهواياتها، فقد كان فريدمان يصف نفسه بأنه “ليبرالي” ولكن اتباعه الأمريكيين، الذين كانوا يعرفون أنفسهم بأنهم “محافظون” أو “اقتصاديون كلاسيكيون” أو مؤيدو السوق الحرة، وفيما بعد “الاقتصاديون الريجانيون” أو “أنصار سياسة عدم تدخل الدولة”. وفي معظم أنحاء العالم تعرف عقيدتهم باسم “المحافظة الجديدة”، ولكنها غالباً ما تدعى باسم “التجارة الحرة” أو “العولمة” ببساطة. وفي أواسط التسعينات فقط، دعت الحركة الثقافية- بقيادة بيوت الخبرة اليمينية التي كان فريدمان يقيم معها علاقات قديمة طويلة- مثل هريتيج فاونديشن، ومعهد كانو، ومعهد المشروع الأمريكي- نفسها باسم “المحافظين الجدد”، وهي تحمل رؤية للعالم جعلتها تحشد كامل قوة الآلة العسكرية الأمريكية في خدمة أجندة الشركات الكبرى.
وتشترك جميع هذه التجليات في التزاماتها بالثالوث الذي تؤمن به هذه الحركة، وهو إنهاء نشاط الدولة في المجال العام، والتحرير التام للاقتصاد وتحويله إلى الشركات الخاصة الكبرى، وخفض الانفاق الاجتماعي إلى الحد الأدنى.
وترى المؤلفة أن الاسم المناسب للنظام الذي يمحو الحدود بين سيطرة الحكومة وسيطرة عالم الأعمال والشركات الكبرى، ليس ليبرالياً ولا محافظاً ولا رأسمالياً، بل هو النظام القائم على هيمنة الشركات الكبرى، وخصائصه الرئيسية هي التحويلات الضخمة للثروة العامة إلى أيدي القطاع الخاص، الأمر الذي يكون مصحوباً غالباً بتضخم الديون، واتساع الهوة بين فاحشي الثراء والفقراء فقراً مدقعاً، والنزعة القومية العدوانية التي تبرر الانفاق الذي لا حد له على الأمن، وبالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون داخل فقاعة الثروة الهائلة التي صنعتها مثل هذه الظروف، لا توجد طريقة أفضل من هذا لتنظيم المجتمع. ولكن بسبب التراجعات الواضحة بالنسبة إلى الغالبية العظمى لمن يُتركون خارج تلك الفقاعة، تتضمن السمات الأخرى لهذا النوع من الحكم الرقابة العدائية، والحبس الجماعي، وتقليص الحريات المدنية، والتعذيب في أحيان كثيرة، وان لم يكن دائماً.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire