dimanche 19 octobre 2008

العالم في مرحلة مخاض




العالم في مرحلة مخاض

غالب ابو مصلح ــ تسود العالم اليوم موجة من الذعرالمالي والاقتصادي، بحيث يصعب توقع سلوك الفاعلين في هذه الأسواق، وتجاوبهم مع السياسات والإجراءات التي يتخذها قادة دول المراكز الرأسمالية ولو على المدى القصير. فالتطورات والمتغيرات على المديين المتوسط والطويل تحكمها تغيرات المقومات الاقتصادية الأساسية ،كما المتغيرات العالمية على الصعد السياسية والعسكرية والثقافية . ان هذه المتغيرات الكبيرة ستحدث تغييرا عميقا في بنية النظام الرأسمالي العالمي الذي انبثق من الحرب العالمية فهذا النظام الذي بناه المنتصرون في تلك الحرب ولمصالحهم ، وبقيادة الولايات المتحدة ، عبر عن توازنات تلك الحقبة خارج اطار المعسكر الاشتراكي ، وتم تجاوز هذا النظام او بعضه عندما اصبح غير قادر على الامساك بالعالم الرأسمالي وادارته وحكمه ، وخاصة بعد انفجار ازمته البنيوية على الصعيدين المالي والاقتصادي . ومن الصعب توقع النظام الذي ستنتجه هذه الازمة الشاملة . هل ستؤدي الى تجاوز هذا النظام الرأسمالي نحو نظام اكثر اخلاقية وعقلانية وواقعية من النظام الرأسمالي السائد في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة . أم ان هذا النظام مازال يملك من المرونة والقدرة للتطور والتكيف مع متغيرات العالم والتقنيات والامكانات والحاجات لتجديد نفسه كما فعل أبان الحرب العالمية الثانية وبعدها ؟
جرى تبسيط الازمة الراهنة من قبل الطبقات الرأسمالية الحاكمة وخاصة في الولايات المتحدة ، بغية اخفاء جذورها وعمقها وطابعها البنيوي الشامل , فقد سارع المعلقون الاقتصاديون للقول بأن الازمة هي مجرد أزمة سيولة ، يمكن تجاوزها عن طريق ضخ كميات كبيرة من السيولة في الاسواق من قبل البنوك المركزية . وقامت البنوك المركزية بهذه المهمة وما تزال دون كبح تطور الازمة .
وقال آخرون ان الأزمة تتمثل بالرهون العقارية الفاسدة التي أعطيت لمن لا يستحقها من الفقراء وقد تم تشميل هذه الرهونات وتوريقها وبيعها الى السوق المالية التي رفعتها ووزعتها على معظم الاسواق المالية . وعند انفجار الفقاعة العقارية ، وانخفاض أثمان العقارات تحولت هذه الاوراق المالية الى كتل سامة تسد اقنية انسياب الاموال في الاسواق المالية الاميركية والعالمية . وتمثل الحل الشافي لهذه الازمة في انقاذ أو تأميم مؤسسات الاقراض العقاري ، وتعويض خسائرها بمئات مليارات الدولارات ومن جيوب دافعي الضرائب من غير الأثرياء . ولكن هذه السياسات لم تكبح الأزمة ولم توقف نموها وتدهور الاسواق . وانتقلت الازمة من كونها ازمة سيولة الى ازمة ملاءة ، أي ان هناك نقصا في الرساميل لدى المؤسسات المالية الشاملة وخاصة تلك التي دمجت مهام التأمين مع مهمات الوساطة ،مع مهمات البنوك التجارية وبنوك التوظيف . وكان نقص الملاءة لدى بنوك التوظيف العملاقة في الولايات المتحدة بشكل خاص ، بسبب انخفاض اسعار بعض موجوداتها وارتفاع نسبة القروض المعدومة . وبما ان نسب الترفيع ( أي الاموال الاساسية كنسبة من مجموع الموجودات ) عند هذه المؤسسات وصل عند بعضها واحد الى ستين ، فان الاتجاه التنازلي للسوق اصابها بخسائر تفوق رؤوس اموالها الاساسية مما دفعها الى الافلاس ، وخاصة عند سحب ودائع البنوك التجارية وصناديق الاموال منها .
وانقاذ هذه المؤسسات المالية التي شكلت حتى الماضي القريب فخر الاسواق المالية ورموز السيطرة الاميركية على الاقتصاد العالمي ، يتم عبر ضخ الأموال العامة في هذه المؤ سسات . والجهة القادرة على ذلك ، على تعويض خسائر هذه المؤسسات الخاصة ،هم المسيطرون على الاموال العامة ، على اموال دافعي الضرائب ، أي الخزينة . وفي هذه الحال ، فان على الحكومات رفع الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على عاتق الطبقات المتوسطة والضعيفة ، وخفضها على الشركات والمؤسسات الرأسمالية الخاصة ، وخفض الانفاق العام . وخاصة الانفاق الاجتماعي الموجه للطبقات الضعيفة بشكل خاص. وهذه السياسات تعمق الفروقات الطبقية وتنمي التناقضات الاجتماعية . وعلق العديد من الاقتصاديين على هذا النهح الظالم لاكثرية جماهير البلدان الرأسمالية بانه " اشتراكية الأغنياء" . ويرفض اليساريون هذا التشويه في توصيف الحلول كما الاشتراكية . ويقول " مايكل ريني " ان هذه الحلول تمثل " شكلا آخر من الرأسمالية تتولى فيه الدولة حماية الأغنياء لتقيهم من خسائر كبيرة " . كما اطلق المعلق " حيمس ريد جواي " على اجراءات بوش الاخيرة بأنها تمثل " دولة رفاهية المؤسسات " كنقيض لدولة رفاهية الجماهير ، الدولة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية في ظل هيمنة أفكار ومبادئ " الكينزية " .
وتؤدي هذه السياسات " الانقاذية " الى زيادة الدين العام ، والذي تجاوز عتبة عشر تريليونات دولار في الولايات المتحدة ، ويزيد الهوة اتساعا بين من يملكون ومن لا يملكون ، بين اصحاب رؤوس الاموال والقوى العاملة .
ويعيد البعض الازمة الى جشع الإداريين الكبار للمؤسسات وانحدار اخلاقياتهم . ولكن جشع هؤلاء وانحدار اخلاقياتهم وقيمهم الاجتماعية لا يشكل خروجا على اخلاقيات الليبرالية الجديدة التي سيطرت على الفكر الاقتصادي الراسمالي منذ وصول المحافظين الجدد الى السلطة في بريطانيا واميركا عند بداية الثمانينات ، وتعميم هذا الفكر على كل المؤسسات والدول التابعة. كان " ملتون فريدمان "، نبي الليبرالية الجديدة او احد كبار رسلها على الاقل، يقول : ان "المسؤولية الإجتماعية الوحيدة لرجال الأعمال هي في زيادة أرباحهم"، وأن اخلاقيات السوق –أي العرض والطلب – يجب ان تحل مكان اخلاقيات الفكر الاشتراكي ، أي مبادئ العدالة والمساواة والتضامن الاجتماعي وشرعة حقوق الانسان – وشكلت دولة الرفاهية عائقا امام التقدم بالنسبة للمدرسة الريغينية ، اذ ان هذه الدولة تولد " الكسل وتخلق نوعا من المرض الاتكالي الشامل الذي يجازي الكسل ويشجع على اللامسؤولية كما يقول "ميشال البرت " في كتابه "Capitalism against Capitalism " . فالليبرالية الجديدة تمثل عودة الى الداروينية الاقتصادية والاجتماعية , انها تطلق العنان لما هو الأسوء في الانسان ، فتحث على الجشع وتقدس الربح وتراكم الثروات وتشيئ الانسان ، وتمجد الاستهلاك وتحتقر الفقراء وتنفيهم من المجتمع ، وتجعل من الفقر مسؤولية فردية لا مسؤولية مجتمع ونظام .
جذور الأزمة
يشير تاريخ الرأسمالية الى ان الأزمات الدورية هي من صلب النظام الرأسمالي والملازمة لتقدمه ، وذلك بسبب الخلل الملازم للنظام بين العرض والطلب ، بين نمو قدرات الانتاج نتيجة تراكم القيمة الفائضة في ايدي الرأسماليين ،ونمو الطلب الحقيقي على الانتاج باقل من نمو القدرات الانتاجية ، مما يولد فائضا في الرساميل يضغط على معدلات الأرباح ، او عوائد رأس المال . وفي هذه المرحلة يبحث رأس المال عن فرص للتمدد الى الخارج ، فيتم تصدير رؤوس الاموال الفائضة ، او يدفع الى حروب لاعدام رؤوس الاموال الفائضة ، وتجديد الدورة الرأسمالية ، ويبقى امتصاص فائض رؤوس الاموال مشكلة قائمة لا حل جذريا لها في هذا النظام . وحتى يومنا هذا . فان تراكم رؤوس الاموال الفائضة وبناء القدرات الانتاجية الفائضة في مراكز هذا النظام خلقت الازمات الدورية فيه . وكانت الحروب تشكل احد وسائل تدمير هذا الفائض ، عبر رفع الانفاق العسكري كما عير الدمار التي تحدثه ، فيعود الطلب الى الارتفاع مشكلا قاطرة النو الاقتصادي وتراكم جديد لرؤوس الاموال بعد ازالة القدرات الانتاجية المعطلة، هذا ما حصل في الحرب العالمية الثانية التي اخرجت الولايات المتحدة من أحدى عشرة سنة من الركود . ولكن الازمة عادت للظهور في آواخر الأربعينات في الولايات المتحدة . وكان الهدف الاساسي من مشروع مارشال هو رفع الطلب على البضائع الاميركية لمنع الركود وتنامي البطالة، وليس اعادة اعمار اوروبا كما يزعمون . وبسبب تفجير الاتحاد السوفياتي قنبلته الذرية ، وانتصار الثورة الشيوعية في الصين بقيادة ماوتسي تونغ ، وضعت الولايات المتحدة استراتيجية عالمية جديدة لها ، وما زالت تعمل ضمن اطرها حتى الآن . فتقرير " المجلس العسكري الوطني الـ 86 ، الذي تم وضعه بتاريخ 14/4/1950 وضع السياسات الاقتصادية للقطاع العام ، وفي خلاصته النهائية يؤكد التقرير على : ان احد الدروس المستنتجة من الحرب العالمية الثانية وتجاربها ان الاقتصاد الاميركي عندما يعمل عند مستوى يقترب من كامل طاقته يمكنه ان يؤمن موارد هائلة لأهداف عديدة بجانب هدف الاستهلاك المدني ، في الوقت الذي يؤمن فيه مستوى مرتفعا من المعيشة " نتيجة هذه الرؤيا بدأ الاستراتجيون الاميركيون بناء صناعة حربية كبيرة بحجة موازات القدرات العسكرية السوفياتية التي بالغوا كثيرا في قدراتها ، وللإبقاء على نسبة عمالة كاملة ، وتحت اشراف البنتاغون. وقاد ذلك إلى ما اسماه الرئيس ايزنهاور " المركب الصناعي العسكري الهائل " وحذر منه ومن تسلطه على السلطة في خطابه الوداعي سنة 1961.
فالحرب والتوسع الخارجي وبناء القواعد العسكرية التي بلغ عددها في الخارج اكثر من 750 قاعدة ، وفتح اسواق العالم امام صادرات البضائع والخدمات والرساميل الاميركية شكل السبيل الاساسي لنمو اميركا واستقراراها واستمرار سيادتها على العالم الرأسمالي . ولكن التجربة الحية ، ودراسة عدة عقود من الانفاق العسكري وانعكاسه على الاقتصاد ، أظهر محدودية هذه الوسيلة في تأمين نمو اقتصادي دائم وعمالة كاملة، وتلافي الدورات الاقتصادية مهما تطورت آليات السياسات النقدية ، ومهما تطورت مؤسسات الاسواق النقدية والمالية وعولمتها المدعومة بتطور الحواسيب والاتصالات . واظهرت دراسة اعدتها مؤسسة Global Insight في واشنطن والتي يرأسها الاقتصادي Dean Baker ، ان زيادة الانفاق العسكري ، بعد تحفيز الطلب لمدة ست سنوات ، يتحول اثره الى عامل سلبي . ووجد بيكر انه بعد عشر سنوات من الانفاق العسكري الأكثر ارتفاعا ستتقلص فرص العمل – في الولايات المتحدة – بـ464 الف وظيفة ، عن سيناريو يشمل انفاقا عسكريا اكثر انخفاضا. وقال : " يعتقد عادة ان الحروب وزيادة الانفاق العسكري لها اثر جيد على الاقتصاد . في الحقيقة ان اكثر النماذج الاقتصادية تظهر ان الانفاق العسكري يوجه الموارد من استعمالات منتجة ، مثل الاستهلاك والتوظيف ، الى استهلاكات غير منتجة ، وفي النهاية يبطئ النمو الاقتصادي ، ويخفض مستوى العمالة". واظهر تاريخ حرب فيتنام كما حربي افغانستان والعراق صحة هذا القول . فالحروب الرابحة والخاسرة التي شنتها الولايات المتحدة على دول وشعوب العالم الثالث خلال العقود الثلاثة الاخيرة ، فاقمت الازمة الاقتصادية الاميركية ولم تحل او تخفف منها .
يمكن اعادة تفاقم الازمة البنيوية للولايات المتحدة الى بداية السبعينات من القرن الماضي ، حين عجزت منظومة الدول الرأسمالية في معالجة عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات الجاري لاميركا ، والذي حول اميركا تدريجيا من اكبر دولة دائنة بعد الحرب العالمية الى اكبر دولة مدينة . ولم يجد نفعا إجبار كل من اليابان والمانيا رفع سعر صرف عملتهما بنسب عالية ، ولم يجد نفعا مؤتمر "لليوفر " الذي عمل على تنسيق السياسات الاقتصادية لدول مراكز النظام الرأسمالي . فاسقطت الولايات المتحدة اتفاقات بريتن وودز ، أي نظام النقد العالمي، وادخلت مبدأ سعر الصرف العائم . وكان هذا الانتقال طبعا لمصلحة الولايات المتحدة على اكثر من صعيد فكدولة تعاني عجزا كبيرا في ميزاني التجارة والمدفوعات الجاري ، وكدولة مدينة، يمكها شطب اجزاء كبيرة من ديونها عبر خفص سعر صرف الدولار ، مع استمرار زيادة الطلب على الدولار لكونه العملة العالمية الاكثر قبولا على الصعيد العالمي. فقد خسر الدولار نصف قيمته الحقيقية بين سنتي 2000 و2005. واعتماد سعر الصرف العائم زاد كثيرا من اضطرابات أسواق النقد في العالم ، مما دفع الدول كافة الى زيادة احتياطاتها من العملات الاجنبية . أي من الدولار بشكل خاص ، لإتقاء مخاطر السوق والذود عن اقتصاداتها امام ضغوطات أسواق الأموال وحركات الأموال الساخنة في عصرالعولمة وانفتاح الاسواق . وهذا ما سبب طلبا متزايدا على الدولار حتى اليوم ، ومكن الولايات المتحدة من ان تسد عجوزاتها بتصدير عملتها لا بتنمية صادراتها وخفض انفاقها كما تعمل بقية دول العالم . فنمو الاقتصاد الاميركي لم يكن بسب المعدلات المرتفعة من الادخار ، بل بسبب مراكمة ديون كبير على صعد القطاع المنزلي وقطاع الاعمال كما على صعيد الموازنة الفيدرالية ، مما جعل الاقتصاد الاميركي يقف على جبل هائل من الديون قابل للانفجار والسقوط . بل ان انفجار جبل الديون المتسارع نموه مرهون بتقبل دول العالم للعملة الاميركية وزيادة احتياطاتها وديونها للولايات المتحدة ، وللمديونية الاميركية حدود.
وكان سعر الصرف العائم لمصلحة المصارف ومؤسسات الوساطة المالية بشكل خاص التي جعلت من تقلبات اسعار صرف العملات مجالا واسعا لمضاربتها وللإتجار بالمخاطر ، بحيث وصلت قيمة المضاربات بالعملات يوميا الى اكثر من 2 تريليون دولار، وقيمة المتاجرة بالمشتقات، والمرتبطة بمخاطر تقلبات أسعار الصرف إلى أكثر من 1.3 تريليون دولار ، وساهم في اطلاق العديد من المشتقات، وحوّل السوق المالية العالمية الى " كازينو " هائل للمقامرة .
الحقت هذه التطورات في بنية القطاع المالي اضرارا كبيرة في قطاعات الاقتصاد الحقيقي وساعدت ، و بشكل آني ، في حل مشكلة تدني مردود رؤوس الاموال . فقد شتت عولمة الاسواق ونمو المشتقات والترفيع، المخاطر التي نمت بشكل كبير في بعض القطاعات ، وانبتت فقاعات في سوق الاسهم ثم في سوق العقارات ، وتم وضع هذه الاسواق الجديدة المعولمة خارج اطار الرقابة الفعالة لمؤسسات الرقابات الوطنية ، فنمت بدافع الابتكارات في المشتقات وبفعل التقدم الكبير في قدرات الحواسيب وقطاع الاتصالات .
وتحررت الاموال الى حد بعيد من الالتصاق بقطاعات الاقتصاد الحقيقي ، وخلقت فضاء خاصا تدور فيه ، بحيث تستند الى قطاعات الاقتصاد الحقيقي وتسيطر عليها وتعرضها للكثير من المخاطر . واستطاعت هذه البنية المالية الفوقية ان تؤمن لرؤوس الاموال الموظفة فيها ، في صناديق التحوط بشكل خاص ، وفي اطار المضاربات ، معدلات مرتفعة من الربح . ففي الوقت الذي تدنى فيه مردود التوظيفات الرأسمالية في قطاع الصناعة الى حوالي 6% ، كان مردود صناديق التحوط يتجاوز الـ 20% . واصبح ارتفاع اسعار الاسهم اهم بكثير من مردودها بالنسبة للبنية المالية المضاربة .وارتفعت اسعار الاسهم في اسواق المال من معدلاتها التاريخية التي لا تتجاوز خمسة عشر ضعف المردود الى اكثر من 45 ضعف المردود ، وتم تحقيق الأرباح ليس من مردود السهم بل من ارتفاع ثمنه في السوق المالية نتيجة المضاربات والترفيع .
ان هذه البنية المالية في عصر الرأسمالية الأكثر احتكارية وعولمة خلقت فقاعات متتالية في اسواق الاسهم والعقارات ،والتي انفجرت تباعا ،وتم معالجة انفجار فقاعة الاسهم بضخ سيولة كبيرة في السوق ، مما ولد فقاعة عقارية اكير واشد خطورة ، اذ ان مدخرات القطاع المنزلي الموظف في قطاع المساكن اكبر بكثير من المدخرات الموظفة في اسواق المال. وساعد نمو الفقاعات ،وخاصة الفقاعة العقارية في تمكين اصحاب المنازل من رفع رهونهم العقارية والحصول على اموال مكنتهم من زيادة استهلاكهم الشخصي عبر رفع الديون .
شكل تدني مردود التوظيفات الرأسمالية عند آواخر السبعينات احد مظاهر ازمة النظام الاقتصادي الرأسمالي في ظل الكينزية التي سمت بظهور دولة الرفاهية ،وتم وضع الجيل الثاني من شرعة حقوق الانسان في ظلها . ويُعنى الجيل الثاني من شرعة حقوق الانسان بضمانات القوى العاملة وشبكات الامان لها وبمؤسساتها النقابية الحامية . وتم القفز الى الليبرالية الجديدة لحل ازمة تدني مردود التوظيف ، واسقاط دولة الرفاهية والمؤسسات الحامية للقوى العاملة . وعمل المحافظون الجدد في البلدان الانغلو- ساكسونية أولا ، على تبني الليبرالية الجديدة وتعميمها على العالم الرأسمالي في مراكزه واطرافه ، وتم فرضها كأيديولوجيا على مؤسسات النظام العالمي ، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ،وتم اطلاق مرحلة جديدة من العولمة ،ومرحلة جديدة من الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الاميركية . ومورست ضغوطات كبيرة من قبل " اجماع واشنطن " على دول الاطراف كافة لفتح أسواقها امام السلع والخدمات وتدفق الاموال الساخنة وغير الساخنة من مراكز النظام الرأسمالي العالمي ، كما اجبرت هذه الدول على " خصخصة " قطاعها العام وعرضه للبيع للشركات الكبرى المعولمة وللداخل ، وتفكيك اطر حماية القوى العاملة ومؤسساتها ،كل ذلك، ولتسهيل التوظيفات الرأسمالية الأجنبية الفائضة، ونهب هذه البلدان. وبذلك شكلت هذه السياسات مرحلة جديدة من الأمبريالية المدعومة بالقدرات المالية والرقابية للبنك وصندوق النقد الدوليين ، وبقدرات عسكرية جبارة للولايات المتحدة المنتشرة قواعدها واساطيلها في كل أرجاء العالم .
مثلت الليبرالية الجديدة مصالح الشركات الكبرى المعولمة ، والتي قلصت نطاق الديمقراطية في دول المراكز الرأسمالية ،واصبحت تتحكم في صناعة الرأي العام الى حد بعيد ، وفي تمويل وتسويق السياسيين الذين يعملون لمصالحها . كما مثلت مصالح رؤوس الاموال عامة ضد مصالح القوى العاملة في دول المركز والأطراف . فقد تم اعادة اقتسام القيمة المضافة ، أي الناتج المحلي لمصلحة رؤوس الاموال وعلى حساب نصيب القوى العاملة . يقول بول كروغمان المحلل الاقتصادي في " نيويورك تايمز " في كتابه " اميركا التي نريد " ان متوسط دخل العامل الاميركي لم يتحسن منذ سنة 1973 ، رغم ان ما ينتجه الفرد زاد 50% منذ ذلك التاريخ . فالعاملون من شريحة الاعمار من 35 الى 45 سنة ، تدنى دخلهم بنسبة 12% عما كان عليه في 1973 " ان ارباح زيادة الانتاجية لو وزعت بالتساوي على القوة العاملة ورؤوس الاموال لزاد دخل الفرد 35% عما كان عليه سنة 1970 " . عن (الحياة 15/9/2008 ) وتقول مجلة الأيكونومست [ Sept16th006 ] ان الشركات الاميركية الكبرى زادت نصيبها من الدخل القومي من 7% في اواسط سنة 2001 الى 13% سنة 2006 . وتقول ان العولمة رفعت الارباح مقابل الأجور بعدة طرق
" اذا كان الناتج المحلي للفرد يرتفع بقوة ، لماذا ينخفض الدخل الحقيقي لمعظم العاملين ؟ جزئيا لأن حصة اكبر تذهب للأرباح ،وجزئيا ايضا لان اصحاب الرواتب العليا حصلوا على جزء كبير من الزيادة في الدخل مسببا نمو عدم المساوة . 1% من اصحاب الرواتب الأعلى يحصلون على 16% من مجمل المداخيل ، وذلك من معدل 8% لسنة 1980 . ونما عدم المساواة ايضا في اوروبا واليابان ولكن ليس بالنسبة ذاتها " . اما في دول الاطراف التي تحكمها طبقات اقطاعية مالكة او برجوازية حاكمة، فالصورة أشد سوادا. والأمثلة متعددة في الوطن العربي ،وخاصة في مصروالاردن ولبنان . ففي العديد من الدول العربية ارتفع الناتج المحلي ولكن الدخل الحقيقي للقوى العاملة تدهور بشكل حاد ، مما أسقط الطبقة الوسطى او الغاها تقريبا ووسع نطاق الفقر ، والفقر المدقع ، واحدث تنمية سلبية او مزيدا من التخلف ، ويمكن وصف التخلف بالنمو المشوه. ويمكن القول ان الليبرالية الجديدة مثلت فكر ومنهج الرأسمالية في مرحلتها الاكثر احتكارية وعولمة ، أي مرحلة الامبريالية الجديدة .
أطلقت الليبرالية مرحلة جديدة من العولمة ، و سارعت عملية الدمج والاستحواذ بين المؤسسات والشركات ، مما رفع معدلات التمركز والاحتكارات ، فمكن الرأسمالية من رفع نصيب رؤوس الاموال من الناتج على حساب نصيب الاجور ، وابطأ زيادة الانتاج والنمو على المدى الطويل ،واسس لأزمات اجتماعية ومالية واقتصادية متتالية ، تتصاعد حدتها حتى تصل الى مرحلة الانفجار . فخفض اجور القوى العاملة في مراكز النظام، والمواكب لتدني القدرات التنافسية في قطاعات الاقتصاد الحقيقي ، يتناقض مع زيادة الانتاج ،وخاصة اذا ما تعثرت المغامرات الإمبريالية كما يحدث اليوم لأميركا، وتفلتت بلدان عديدة مثل معظم بلدان اميركا اللاتينية من مخالبها، ونمت بلدان اخرى مثل الصين والهند وجنوب افريقيا والبرازيل وايران ، و اصبح لديها قدرات تنافسية عالية . فزيادة الانتاج الضروري لتنمية الارباح يعتمد على نمو الطلب المحلي ، اي على القدرات الشرائية للقوى العاملة التي تتناقص قدراتها الشرائية نتيجة السياسات الليبرالية . وفي الولايات المتحدة كما في معظم البدان الرأسمالية ، يشكل نمو الطلب الداخلي قاطرة النمو الاقتصادي . لذلك ابتكرت الليبرالية الجديدة قضية تنمية الطلب الدخلي بالديون ، وأيضا عبر الاقراض عالي المخاطر، أي دون اخذ ضمانات لاشخاص غير مليئين وعبر خفض الفوائد الحقيقية ( الفوائد ناقص معدل التضخم ) الى ما دون الصفر . فنشأت سندات الخردة ( Junk Bonds) عند انهيار اسعار الاسهم ، كما نشأت القروض العقارية الفاسدة والتي اسقطت أكبرمؤسسات الرهن العقاري ، عندما انهارت اسعار المنازل . اكثر من ذلك موّل ارتفاع اسعار المنازل عبر المضاربات المالية .استدانة القوى العاملة عبر رفع الرهونات على المنازل التي يرتفع سعرها السوقي . وكذلك تم رفع الطلب عبر زيادة الديون بواسطة بطاقات الائتمان والتي تبلغ الفائدة المدينة عليها اكثر من 20% .
فالفقاعات لا تنمو بالصدفة في السوق . بل يتم تكوينها وتنميتها لأسباب موضوعية ولخدمة رؤوس الأموال الباحثة عن مخارج وساحات وأدوات مالية لتنمية أرباحها ودفع ازماتها البنيوية الى الأمام ، فتتراكم ثم لا بد ان تنفجر .
جبل الديون
ان سياسات تنمية الطلب بالديون خلق في أميركا جبلا هائلا من الديون العامة والخاصة ، لقطاع المنازل كما لقطاع الاعمال . وبلغ اقراض المصارف في اميركا حسب بيانات حديثة حوالي 70 تريليون دولار ( Information Clearing House “the Crash of Western civilization by Richard C.Cook 15/9/2008)
وبلغ الدين العام اكثر من 10 تريلون دولار حتى اليوم ،ويرتفع بسرعة كبيرة نتيجة تنامي عجز الخزينة لاربعة اسباب (1) ان الانكماش الاقتصادي التي دخلت مرحلته الولايات المتحدة سيقلص كثيرا من واردات الخزينة نتيجة هبوط الانتاج والارباج (2) ان النقص المتصاعد في ملاءة المؤسسات الرأسمالية يٌفرض على الخزينة مد هذه المؤسسات بأموال طائلة تتخطى كثيرا الـ 700 مليار دولار المخصصة لذلك (3) ان زيادة البطالة والفقر سيجبر السلطة على زيادة تقديماتها للشرائح الضعيفة في المجتمع خوفا على السلم الاهلي وعلى النظام العام (4) ارتفاع الانفاق العسكري الاميركي الى معدلات غير مسبوقة لا تظهرها أرقام موازنة البنتاعون .
فقد تجاوزت كلفة حربي العراق وافغانستان حسب " جوزف ستغلتز" الـ 3 ترليونات دولار ، ويستفيد منها طبعا المجمع الصناعي العسكري النفطي . فقد ارتفعت اسهم شركات صناعة الاسلحة والذخائر ، كما اسهم الشركات النفطية الى ارقام قياسية . فالحروب مريحة جدا لهذه الشركات ويدفع ثمنها دافعوا الضرائب . فقد بلغت ميزانية البنتاغون لسنة 2008 كما أعلنت في شباط 2007 ، 481.4 بليون دولار لتغطية الرواتب والعمليات، (ما عدا افغانستان والعراق). ولكن هناك ايضا 141.7 بليون لتمويل القتال ضد الارهاب ، و 93.4 بليون لتغطية تكاليف حروب غير مذكورة ، مثل حرب الصومال بواسطة اثيوبيا ، و50 بليون على حساب موازنة 2009 ليصبح المجموع 766.5 بليون دولار . ولكن هناك نفقات اخرى ايضا مثل 23.4 بليون لوزارة الطاقة لتطوير وصيانة الرؤوس النووية ، و 25.3 بليون دولار لوزارة الخارجية للانفاق على المساعدات العسكرية الخارجية ، و1.3 بليون لتطويع المجندين و 75.7 بليون لجنود معاقين في القتال ( منهم 28870معاقا في حرب العراق ) و 46.4 بليون للامن الداخلي و 1.9 بليون للـFBI ، و 38.5 بليون دولار للجنود المتقاعدين ، و7.6 بليون دولار للنشاطات الجوية والفضائية ، و 200 بليون فوائد على قروض سابقة للدفاع . فتبلغ الميزانية الحقيقية 1.1 تريليون دولار ، اي ان الموازنة الحقيقية هي اكثر من ضعف الموازنة المقره للبناغون ( نفس المصدر )
المقومات الاقتصادية والبنية التحتية
إنعكست السياسات المالية والنقدية والاقتصادية المتبعة منذ عقود في البلدان الرأسمالية المركزية ،وخاصة في اميركا ، سلبا على معظم المقومات الاقتصادية الاساسية . فقد تدنت معدلات الادخار الوطني الى حول الصفر في الولايات المتحدة . ومعدلات الادخار تساوي في النهاية معدلات التوظيف . و اصبحت معدلات النمو للتوظيف الان حوالي واحد الى خمسة ، أي ان نموا حقيقيا قدره واحد في المئة يتطلب ادخارا بمعدل خمسة في المئة . فالصين التي يلغ نمو ناتجها المحلي حوالي عشرة في المئة تحقق ادخارا وطنيا بنسبة 50% . أي ان معدل الادخار في الولايات المتحدة على المديين المتوسط والطويل لا يسمح لها بأي نمو اقتصادي فعلي .
ثم ان عجز الموازنة بلغ 2.5% من الناتج المحلي القائم ، وسيرتفع هذا العجز بنسبة عالية نتيجة " برامج الانقاذ " التي تضع على الموازنة الفيدرالية أعباء انفاق مرتفعة أما الميزان التجاري فقد حقق عجزا بلغ 844.6بليون دولار للاشهر الاثني عشر المنصرمة .ويعاني حساب المدفوعات الجاري عجزا سنويا بلغ 699.0 بليون دولار ويساوي 4.2 % من الناتج المحلي . وتجاوز الدين العام عشرة تريليون دولار حتى الان (Economist .Dec.4th2008 The ). ونمت معدلات البطالة بنسب عالية، من حوالي 4% إلى 6.1%. ولكن معدلات البطالة الحقيقية تبلغ أكثر من ضعف هذه الأرقام الرسمية، إذ أن الاحصاءات الرسمية تسقط من تعداد العاطلين عن العمل من لم يجدوا عملا لمدة ستة اشهر ، كما تسقط من تعداد العاطلين عن العمل من يعمل بعض الوقت، ولبضعة أيام في الشهر.
وانعكس عجز الموازنة ونمو جبل الديون سلبا على البنية التحتية الاميركية التي اخذت في التدهور منذ عدة عقود . وتدهور البنية التحتية يعيق الاقتصاد الحقيقي ويكبح نوه ، بل يؤدي الى تدهوره . ويقول تقرير للرابطة الاميركية للمهندسين نشر في مجلة " نيويورك ريفيو اوف يوكس " انها- أي الرابطة – تطالب منذ مدة بالاهتمام بالبنية التحتية المهددة بالانهيار . فثلاثون في المئة من الجسور الكبيرة فيها قصور شديد ، وفقدت صلاحيتها ، وتحتاج الى انفاق نحو 9.4 بليون دولار سنويا ولمدة عشرين عاما لاصلاحها . وان عدد السدود غير الآمنة في الولايات المتحدة ارتفع بنسبة 33% حتى وصل الى 3500 سد . وان حالات المواصلات العامـــــــــــة (حافلات وقطارات انفاق وسكك حديد) تزداد سوءا بسبب زيادة الطلب عليها نتيجة ارتفاع اسعار الوقود ،وان الميزانيات المخصصة لمياه الشرب تفي بحاجات نسبة بسيطة من الاحتياجات على المستوى القومي . ومخصصات الصرف الصحي لا تصل الى الحد الادنى الذي يؤمن الحفاظ على وضعها الراهن . اما النقل الجوي فان النقص الشديد في مهابط الطائرات سبب 1.8 ساعة تأخير في مواعيد اقلاع الطائرات. واعادة ابنية المدارس الحكومية ، واعادتها الى واقع مقبول فيحتاج الى ربع تريليون دولار ( الحياة 6/10/2008 ) .
ويقدر الناتج المحلي الاميركي بحوالي 14 مليار دولار . ولكن قسما كبيرا منه هو ناتج افتراضي تولت انتاجه البنية المالية الفوقية في الاقتصاد نتيجة المضاربات ونمو المشتقات المالية والمتاجرة بها والثروات الافتراضية التي تولدها ، وهو ناتج لا علاقة له بالاستهلاك الشعبي . وهذه البنية الاقتصادية الافتراضية هشة وقابلة للسقوط عندما تهتز البنية الاقتصادية الحقيقية التي تستند اليها.
وهذا الاقتصاد الاميركي المتربع فوق جبل هائل من الديون الوطنية والخارجية ذو البنية التحتية المتهالكة، وذو المقومات الاقتصادية الضعيفة، هو اقتصاد هش وقابل للسقوط ولا بد من ان يسقط لما يولده من أزمات اقتصادية وتناقضات اجتماعية داخلية، او عندما يتوقف الخارج عن تمويل الاسراف الاميركي والحروب الامبريالية الاميركية .
فشل السياسات الليبرالية الجديدة
لم تستطع السياسات الليبرالية الجديدة المتبعة منذ بداية الثمانينات حل ازمة النظام الرأسمالي العالمي . نجحت في اعادة تقسيم القيمة المضافة لمصلحة رؤوس الاموال ، فخفضت الرواتب والاجور الحقيقية ، ومولت الاستهلاك بالديون لا بالمداخيل بغية توليد نمو موهوم وزائف ، وشنت الحروب العدوانية الخارجية لتحفيز الطلب ورفع معدلات العمالة، وللإمساك بشرايين العالم الاقتصادية ونهب ثروات دول العالم الثالث بغية التعويض عن تدهور قوتها الاقتصادية. ولكنها لم تستطع ان تحل مشكلة معدلات مردود التوظيفات المنخفضة لرؤوس الاموال فقد تراجع مردود رؤوس الاموال في قطاعات الاقتصاد الحقيقي الى حوالي 6% بينما وصلت الارباح في الصناعة المالية ، وخاصة لدى صناديق التوظيف الى حوالي 20% . وارتفع نصيب صناعة الخدمات من مجمل ارباح الشركات من 10% عند بداية الثمانينات ، أي عند وصول المحافظين الجدد الى السلطة ، الى 40% عند ذروتها في سنة 2007 ( The Economist Sept20th20085 ) . ان هذا التفاوت الكبير في مردود التوظيف جذب رؤوس الاموال الى التوظيف في قطاع الخدمات وخاصة المالية منها ، وبعيدا عن قطاعات الانتاج الحقيقي . وتدنى بالتالي إداء قطاعات الاقتصاد الحقيقي ، وخاصة الصناعة ، فقد تدنى نصيب الصناعة الى 13% من الناتج المحلي الاميركي ، وبدأ هذا التدني منذ بداية الثمانينات ايضا . واصبح الانتاج الحقيقي للصين مقاسا بالقيمة الحقيقية ( P.P.P ) Purchase Power Parity أكبر من الناتج الحقيقي الاميركي . فبين سنتي 1979 و 1992 خفضت اكبر 500 شركة صناعية اميركية عدد العاملين فيها بـ 4.4 مليون عامل كما يقول كتاب Global Dreams للكاتبين Richard Barnet and John Cavanagh ،
وتسارع انهيار قطاع الصناعة الاميركي في السنوات الاخيرة مما وسع عجز التجارة غير النفطية ، واسقط 5.6 مليون وظيفة في العام الماضي ، وكانت اكثر الولايات تضررا ، ولايتي ميشيغان وساوث كارولينا ( عن الحياة 3/8/2008) . ولم يقتصر تراجع قطاع الصناعة على الولايات المتحدة ، بل امتد الى اهم قلاع الرأسمالية التي سلكت طريق الليبرالية الجديدة مثل بريطانيا وفرنسا . وفي فرنسا اعلنت شركـــــة " بولير هيرميس للتأمين على القروض " ان اكثر من 28500 شركة فرنسية افلست في النصف الاول من العام الحالي ، وبزيادة 15% عن الفترةذاتها من العام السابق ، مع تدهور المناخ الاقتصادي ( الحياة 4/9/2008)
ان نمو اقتصادات بعض الدول الرأسمالية الكبرى مثل اميركا وبريطانيا بشكل خاص خلال العقود الماضية أعتمد بشكل كبير على الاقتراض والترفيع في سوق مالية هشة ومسيطرة على قطاعات الاقتصاد الحقيقي التي تقودها مصالح البنية المالية الفوقية المضاربة ، وغير المراقبة بالقدر الكافي . وعلى رأس هذه البنية صناديق التحوط (Hedge Funds ) وهذه الصناديق عبارة عن تجميع للرساميل غير المقوننــــــة (Unregulated ) الا بشكل بسيط . وتستدين هذه الصناديق لتنمية مواردها من البنوك ، وتعمل على تحقيق ارباح اذا ما اتجهت السوق صعودا او هبوطا ، عبر الرهان على تحولات اتجاه السوق . واستطاعت هذه الصناديق ان تحقق نموا كبيرا من حيث العدد وقيمة الأموال التي تديرها . فارتفع عددها من 610 صندوقا في سنة 1990 ، تدير 39 بليون دولار من الموجودات ، الى اكثر من 9000 صنودق تدير 1.3 تريليون من الموجودات في سنة 2000 ( The Economist Nov.18th 2006) ، ونما عددها وموجوداتها بنسب كبيرة حتى اليوم . وتبني هذه الصناديق انصبة لها في الشركات المستهدفة " وتستعمل قدراتها للدفع من اجل تغييرات استراتيجية ، من عرض الشركات للبيع الى وضع ممثليهم ( اي الصناديق ) في مجالس ادارة الشركات . هؤلاء هم تجار وليسوا موظفين (Investors ) . فهذه الصناديق تستهدف الربح السريع الناتج عن ارتفاع ثمن اسهم الشركات على المدى القصير حيث تنسحب منها بعد رفع ثمن الاسهم بكل الوسائل الممكنة ، محققة ارباحاً عالية . فالتوظيف في الصناعة يمكن ان يعطي مردودا جيدا نسبيا على المديين المتوسط والطويل ، والصناديق غير مهتمة بذلك . فسيطرة الصناديق على بعض المؤسسات الصناعية يفسد الشركات فيلحق بها اضرارا كبيرة على المديين المتوسط والطويل .
نجحت الليبرالية الجديدة في اعادة هيكلة الاقتصادات الرأسمالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة ، واطلقت ما اسمــاه بعض دعاتها " عصـــــر ما بعد الصناعــــــة "( Post Industrial Age ) . وهذا العصر الجديد يعتمد بشكل اساسي على قطاع الخدمات لا الانتاج الحقيقي وخاصة على الاسواق المالية الحديثة ،وعلى قطاع المعلوماتية الشديد الارتباط بقطاع المال ، وبالتصميم والتجارة والاعلان . فشركة " نايك " مثلا تصمم الأحذية وتقوم بتسويقها . ولكن مصانع أندونسية يملكها كوريون جنوبيون تصنع الأحذية ، حيث يكلف الحذاء حوالي 6.4 دولارا اميركيا ، يباع ما بين 70 و 120 دولار في انحاء العالم . ويحصل مايكل جوردان من الدعاية لهذه الاحذية على مبالغ تفوق كل اجور صانعي الاحذية في اندونيسيا ، والذين يعملون 12 ساعة في اليوم وسبعة ايام في الاسبوع وانثي عشر شهرا في السنة دون راحة او عطل.
يقول بول سويزي ان منطق النظريات الاقتصادية كله، يشيرالى النتيجة التي وصل اليها جون ستراتشي (John Starchy ) : " ان الإتجاه الحتمي لاقتصاد احتكاري ، يتألف من شركات جبارة هو نحو مزيد من اللامساواة ، ومزيد من عدم الاستقرار " . [P. Sweezy .Modern Capitalism P. 74]. وتزداد الضغوط على ذوي الدخل المحدود في اميركا . وابلغ خبراء لجنة تابعة للكونغرس الأميركي ، ان المشاكل الاقتصادية للطبقة المتوسطة بدأت منذ سنوات ، على رغم ان احتمال انزلاق الاقتصاد الاميركي الى الركود ، اثيرت في صيف سنة 2007 " وتحت وطأة ارتفاع اسعار البنزين وانخفاض قيمة المنازل ، وارتفاع كلفة الرعاية الصحية وانعدام نمو الدخل منذ سنة 2007 فان التوقعات سيئة لاصحاب الدخل المتوسط والمنخفض ." وأظهرت بيانات مكتب الاحصاء السكاني ان متوسط الدخل السنوي للاسرة الاميركية في الشريحة العليا بلغ عام 2006 نحو 168.170 الف دولار ، تساوي 15 ضعف المتوسط الدخل في ادنى الشرائح ، وان دخل اغنى 20% من السكان تجاوز نصف الدخل في البلاد (الحياة 24/7/2008 )
ان هذا النظام الرأسمالي العالم ، والذي فاقم الفروقات الطبقية داخل دول المراكز الرأسمالية ، فاقم الفروقات ايضا بين دول المركز ودول الاطراف . فحتى سنة 2006 أصبح 2% من سكان العالم يملكون نصف ثروته ، بينما يملك نصف سكان العالم الافقر 1% منها فقط . وذلك حسب دراسة قام بها " المعهد العالمي لتنمية البحوث الاقتصادية" التابع لجامعة الأمم المتحدة في هلسنكي .
ان ازمة هذا النظام لم تبدأ مع انفجار ازمة الفقاعة العقارية. ولم تبدأ مع ازمة السيولة في المصارف ، وازمة القطاع المالي في اميركا ، والتي امتدت الى اوروبا والى معظم دول العالم . فقد نمت وتراكمت الازمة البنيوية منذ ما قبل وصول المحافظين الجدد الى السلطة في بريطانيا واميركا عند بداية الثمانينات . وتم دفع الازمة الى الامام بسياسات تفاقم الازمة ولا تحلها بل تراكمها وتفاقم امراض النظام . حتى ان محافظ البنك المركزي الاميركي السابق والأكثر شهرة " ألان غرين سبان " حذر في عام 2002 وفي اعقاب سقوط شركتي " انرون " و " غلوبال كروسنغ " ان " الرأسمالية لم تعد تعمل ،وهناك عملية تجري لافساد النظام المالي " ( الحياة 6/10/2008)
باختصار شديد يمكننا القول ان هذا النظام الرأسمالي العالمي الذي تم بناؤه في اعقاب الحرب العالمية الثانية ، والذي بناه المنتصرون بقيادة وهيمنة الولايات المتحدة الاميركية ، وتم تطويره وتغييره حسب مصالحها الخاصة ، هو نظام آيل للسقوط . وازمة النظام الرأسمالي في مرحلة الامبريالية الجديدة التي بدأت مع وصول المحافظين الجدد الى السلطة في بريطانيا واميركا ، ليست ازمة عابرة ، وليست مجرد ازمة سيولة وملاءة ، بل انها ازمة بنيوية شاملة للنظام على الصعد النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية ، كما على الصعد الاخلاقية والسياسية والعسكرية .
حسبت الرأسمالية في مرحلتها الاكثر احتكارية وعولمة ، وبقيادة الولايات المتحدة ، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بانها وضعت حدا للمسيرة التاريخية الصاعدة للبشرية، بأنها اوقفت جدلية التاريخ، وابدت نظامها، وتربعت على عرش العالم لأمد غير منظور . توهمت ان القرن الواحد والعشرين سيكون قرنا اميركيا بأمتياز كما القرون التي ستليه . واطلق بوش مبادئه المشهورة , مبادئ حق اميركا في شن الحروب الاستباقية والوقائية لأدامة تفوقها وسيطرتها على العالم ، ولترسيخ الفرادة الاميركية والسلوك الاميركي المتحلل من كل القيم والاخلاق والمثل ، كما من كل المواثيق والمعاهدات الدولية . كما جعل الفضاء الخارجي ارضا اميركية محروسة . ووضع خطوطا حمراء امام تقدم أية دولة في العالم تحاول مزاحمة اميركا او تجاوزها . انه نظام القطب الامبريالي الأوحد ، نظام السيد الأوحد لهذا العالم .
ولكن سرعان ما تهاوت مبادئ بوش ، عندما تبينت محدودية القدرات الاميركية على كل الصعد الاقتصادية والعسكرية والسياسية . فأميركا التي قال عنها " مارتن لوثر كنغ " بأنها " اكبر متعهد للعنف في كوكب الأرض " علقت في الفخ العراقي الذي استنزف حتى الآن ، وحسب جوزف شنيغلتز ، اكثر من 3 تريليون دولار من امكانياتها المادية ، كماغرقت في المستنقع الافغاني الذي يزداد عمقا . وبذلك استطاع العديد من دول اميركا اللاتينية – الحديقة الخلفية لأميركا – ان تفلت من براثينها وتختار طريقا آخر لنموها . واستطاعت كوريا الشمالية ان تقف وقفة تحدي لاميركا وان تفلت من العقاب . واستطاعت ايران وسوريا من اتخاذ موقف الممانعة ضد الهجمة الأميركية الصهيونية التي كانت تتوعد باجتياح سبع دول عربية واسلامية خلال خمس سنوات . واستطاعت روسيا ان تقف لتصد الزحف الأطلسي عليها الهادف لحصارها وخنقها وتفتيتها .
ان عالما جديدا ينبثق ، وسيبنى على انقاض عصر الهيمنة الاميركية . وعلى انقاض النظام الرأسمالي العالمي الراهن ، الاقتصادي والسياسي والقيمي والاخلاقي . فأميركا العاجزة عن تحقيق انتصارات في العراق وافانستان ، كما في فلسطين ولبنان والصومال ، والتي ترى فيها شعوب العالم عدوا لحريتها وتهديدا للسلم العالمي ، والتي ارتكبت ابشع الجرائم في التاريخ ضد سكان اميركا الأصليين كما ضد زنوج افريقيا ، والتي ترتكب جرائم ضد الانسانية كل يوم في افغانستان والعراق وفلسطين والصومال وفي غيرها من دول العالم الثالث ، وتعيد المكارتية في حكم الداخل ،وترهب العرب والمسلمين ، وتجردهم من حقوقهم كمواطنين اميركيين بحجة محاربة الارهاب ، وتقلص نطاق الديمقراطية التي تدعو لها زورا في الخارج ، ان هذه الاميركا لم تعد قادرة على حكم العالم والتحكم بمصيره .
يقول استاذ الاقتصاد في جامعة هارفرد ( Ben Jamin Freidman ) : " مرة بعد اخرى ، كانت دائما الدولة الدائنة الاكبر في العالم . هي الدولة الاولى من حيث التأثير السياسي والدبلوماسي والثقافي . ولم يكن صدفة اننا اخذنا هذا الدور من البريطانيين في الوقت الذي اصبحنا فيه القوة الدائنة الأولى في العالم . اليوم لم نعد القوة الدائنة الاولى . في الحقيقة نحن الدولة المدينة الاولى في العالم . ونحن نستمر في قدرتنا على التأثير على اساس القوة العسكرية فقط."
وفي الوقت التي تتراجع فيه قدرات اميركا وحلفائها من دول المراكز الرأسمالية العالمية ، تتقدم العديد من شعوب العالم الثالث ودوله ، متفلته من التبعية لمراكز النظام الرأسمالي العالمي ، متخطية حواجز التخلف العلمي والتقني والاداري والفقر. فهناك العديد من الاقتصادات الصاعدة في العالم اليوم التي رفعت من تأثير حضورها الاقتصادي والسياسي والثقافي والعسكري . فهذه الاقتصادات الصاعدة اصبحت تملك وحتى سنة 2006، 70% من احتياطات النقد الاجنبي في العالم ، وتحقق معدلات ادخار وتوظيف مرتفعة تربو على 6% سنويا . وتخطت احتياطات الصين 1.9تريليون دولار ،وخفضت بنسب عالية مستوى الفقر لديها ، ورفعت كثيرا من معدلات الدخل الفردي . وتقف معظم الاقتصادات الصاعدة خارج اطار الازمة الاقتصادية البنيوية العالمية . فالصين مثلا تقف متفرجة على الأزمة والتي لن تتأثر بها بأكثر من انخفاض نمو دخلها القومي من 11% الى 9% حسب اكثر التقديرات تشاؤما نتيجة ركود اسواق صادراتها . والدول التي لم تفتح اسواقها بشكل كلي على الخارج ، وخاصة سوقها المالي ، وابقت على دور الدولة في التخطيط والمراقبة لضبط الأسواق ، ولم تطلق آليات السوق وتخضع لأخلاقياتها ، ستبقى اقل تعرضا للأزمة الاقتصادية الشاملة ومظاهرها المالية والنقدية .
ان عالما جديدا سيبنى على انقاض النظام الرأسمالي الراهن ، وسيفتح الباب مجددا للخيار الاشتراكي الذي يتخطى النظام الرأسمالي الوحشي الذي اعاد طرح الداروينية الاقتصادية ، واسقط الاخلاقيات الاشتراكية ، اخلاقيات العدالة والتضامن الاجتماعي ، اخلاقيات تحرير الانسان وتنمية جوهره الخلاق المبدع المتسامي نحو المثل الأعلى ، بدل تشييئه وتحويله الى عامل انتاج واستهلاك لمصلحة تراكم رؤوس الاموال . لا بد من اعادة احياء شرعة حقوق الانسان وخاصة الجيل الثاني منها والمتعلق بحقوق الطبقات العاملة ، واعادة احياء الحقوق والضمانات التي انتجت دولة الرفاهية في الغرب .
ان عالما جديدا لا بد ان ينبثق ، على انقاض مجتمعات الاستهلاك الرأسمالية ،والتي استطاعت ان تبني مجتمعات الاستهلاك والبذخ الشديدين على حساب فقر الاكثرية الساحقة من شعوب العالم الجائع المريض المتخلف .
ان نهوض معظم شعوب العالم الثالث سيسقط انماط الحياة في الدول الرأسمالية الغربية، اذ ان خيرات العالم المتجددة وغير المتجددة لن تكفي لهذا النوع من الاستهلاك السائد في الغرب . ورأينا خلال السنة الحالية كيف ارتفعت اسعار المواد الخام والغذاء نتيجة تزايد الطلب عليها . فالعالم اليوم يستهلك 1.4 أضعاف ما تستطيع الكرة الارضية اعادة انتاجه من الأسماك والأشجار سنويا . ويتضاعف استهلاك العالم من المياه مرة كل 20 سنة ، وذلك معدل لا يمكن ان يستمر . والمياه المتجددة للكرة الارضية ليس لها بديل مثل النقط – ويبذّر نظام الاستهلاك الموارد المائية المتجددة للكرة الارضية . ان خمس شركات كبرى لإنتاج الطعام والمشروبات تستهلك تقريبا 575 مليار ليتر من المياه سنويا ، والذي يسد الحاجة اليومية لكل شخص على هذا الكوكب . وانتاج 200مم من الرقائق من اشباه الموصلات يحتاج الى 13 متر مكعب من المياه على سبيل المثال [ The Economist Sep16th 2006 ] وارتفاع اسعار المواد الغذائية كان جزئيا بسبب نمو القدرات الاستهلاكية لبعض شعوب دول العالم الثالث التي طورت انماط استهلاكها للمواد الغذائية وضاعفت استهلاكها من اللحوم . وانتاج كيلوغرام من اللحم الاحمر يحتاج الى 8 كيلوغرامات من الحبوب .ولا تكفي خيرات الارض لرفع استهلاك شعوب العالم من اللحوم، على سبيل المثال، مع صعود إقتصادات معظم شعوب العالم الثالث . فان صعود شعوب العالم الثالث سيجبر شعوب العالم الاول على تغيير انماط حياتها والتخلي قسرا عن انطمة الاستهلاك وقيم الاستهلاك السائدة اليوم في العالم.
ثم ان النظام السياسي العالمي ومؤسساته التي تسيطر عليها الولايات المتحدة من مجلس الامن الى منظمة التجارة العالمية ، الى صندوق النقد والبنك الدوليين . اصبحت لا تمثل توازنات هذا العصر وتغيير موازين القوى فيه. واصبحت غير قادرة على حل مشاكل هذا العالم واحتواء صراعاته. اصبح من غير المقبول ان تمتلك اميركا وحدها حق النقض في البنك الدولي ، وان تحتكر ادارته ، ومن غير المقبول ان تحتكر اوروبا حاكمية صندوق النقد الدولي ، من غير المقبول ان يتحول البنك والصندوق الدوليان الى أدوات امبريالية اميركية ، لخدمة مصالح الهيمنة الاميركية في العالم . من غير المقبول ان تحتكر حفنة من الدول حق النقض في مجلس الامن ،وان يكون مجلس الامن ،وليست الجمعية العامة للأمم المتحدة مركز السلطات ومصدر القرارات الدولية
ان ما نراه اليوم من أزمات على الصعد النقدية والمالية والاقتصادية يعبر عن المخاض العظيم للعالم ، والذي سيولد عالما آخرا ، اكثر عدالة وانسانية وعقلانية في مسيرة البشرية على هذا الكوكب . http://kassioun.org/?d=35&id=213033

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire