mercredi 22 octobre 2008

انعكاسات العولمة على لدولة

انعكاسات العولمة على لدولة

أو واقع الدولة في ظل العولمة عامة و في تونس خاصة

محمد البلطي

baltym@yahoo.fr

في علاقة بهذه المسألة يمكننا تلخيص الأطروحة الأكثر رواجا على النحو التالي :

العولمة تؤدي الى ضعف دور الدولة، أو العولمة تؤدي الى تراجع دور الدولة ، أو العولمو تؤدي الى الحد من دور الدولة أو كذلك تحد من سيادة الدولة. و العولمة في النسخة المتطرفة لهذه الأطروحة تلغي سيادة الدولة ، العولمة عالم بدون دولة .

-أ- المسألة ليست جديدة

قبل مناقشة تلك الأطروحة و محاولة الرد عليها ، نلاحظ، أنها من جهة المسألة التي تثيرها ، ليست جديدة أى أنها ليست وليدة العولمة.

ان الحديث عن ضعف أو تراجع دور الدولة أو الحد من دورها و من سيادتها ليس وليد الثمانينات و التعسينات.

بالعودة ، مثلا ، الى سنة 1974 ،وهو تاريخ صدور كتابه "الطبقات الاجتماعية في ظل النظام الرأسمالي اليوم" نجد " نيكوس بولانتزاس" يطرح الأسئلة التالية (297)" لقد أثارت المرحلة الجديدة الامبريالية و تصاعد صراع الطبقات في الحواضر الامبريالية مجموعة من التساءلات الرئيسية...: ما هي العلاقات الجديدة بين التشكيلات الاقتصادية الامبريالية (الولايات المتحدة،أوروبا، اليابان...)،و ماهوتأثيرها على أجهزة الدولة ؟.هل يمكن الحديث حاليا عن دولة وطنية في الحواضر الامبريالية ؟ما هي علاقات هذه الدول مع تدويل رأس المال أو الشركات المتعددة الجنسيات؟ هل تحاول أشكال مؤسسية فوق –الدولية أن تحل محل الدولة الوطنية؟ أو ما هي التغيرات التي تتيح لهذه الدول أن تقوم بالوظائف الجديدة التي يقتضيها التوالد الموسع لرأس المال على المستوى الدولي؟.

الى جانب طرح تلك الأسئلة يلاحظ "بولانتزاس" أن هناك بعض التحليلات تقلل من دور الدولة الحاسم و تقوم بافراغ الدولة من 'سلطتها' تجاه 'سلطة' الاحتكارات، مضيفا الى ذلك أنه " في اللحظة التي يصبح فيها دور الدولة حاسما أكثر من أي وقت ،تبد الدولة و قد أصابتها أزمة تمثيل لمختلف أجهزتها (بما فيها الأحزاب السياسية)في علاقتها مع شرائح الكتلة الحاكمة نفسها".

ونجد صدى نفس القضية لدى "ميشال ماي" الذي يتساءل منذ 1978: هل الدولة سيدة بينما تخترقها الشركات العالمية التي لا تأبه بالسلطات القائمة.(298)

و اذا كانت المسألة في تصورها الأوسع تدخل في اطار قضية العلاقات بين الدولة و السوق فان هذه القضية ذاتها قديمة بحكم أنها كانت في أساس النقاش بين المركنتيليين و الكلاسيكيين.(299)

-ب- شبه الاجماع حول تراجع دور الدولة

بعد تسجيل تلك الملاحظة، أول شيء يمكن تأكيده في علاقة بالأطروحة سابقة الذكر ، هو شبه الاجماع الحاصل حول تراجع ،ضعف دور الدولة كنتيجة من نتائج العولمة.

هناك شبه اجماع غريب حول فقدان الدولة لسيادتها أو لجانب منها بسبب العولمة. وهو غريب بحكم التقاء مفكرين من مدارس مختلفة ،بل متناقضة ،بصدده.و انتقالهم من تراجع دور الدولة الاقتصادي الى ضعف الدولة و تراجع دورها بصفة عامة و فقدانها لسيادتها جزئا أو كليا.

فالعولمة بالنسبة لـ "اقناسيو رامونيه"(300)قد قتلت السوق القومي أحد أسس الدولة-الأمة و من خلال الغائها له غيرت الرأسمالية القومية و قللت أو أنقصت من دور السلطات العمومية و لم يعد لدى الدول وسائل لمواجهة الأسواق ، مما جعل الاعتقاد في الاستقلال الذايت للسياسي"كذب".ذلك أن المسييرين يطالبون و بالحاح القيام بالمجهودات من أجل التلائم مع العولمة ، لكن في ظروف كهذه يتسائل " رامونيه" ماذا يعني التلاؤم؟.بشكل بسيط يعني ،بالنسبة له ، القبول بتفوق الأسواق و عجز رجال السياسة الذين يجدون أنفسهم بعد انتخابهم في معارك انتخابية حامية ، عاجزين عن مواجهة قوى مخيفة ذات بعد عالمي تخضع لشعارات محددة هي التبادل الحر و الخوصصة و النقدية و المنافسة و التي يمكن تلخيصها على النحو التالي : كل السلطة للأسواق.و هو ما يعني أن الدول لم تعد قادرة على القيام بشىء له أهميته في مواجهة عمالقية المالية.

لا يختلف عن ذلك ما يذهب اليه بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الذي يرى أن واقع السلطة العاليمة يتجاوز كثيرا الدول ، ما دام صحيحا أن العولمة تؤدي الى انبثاق سلطات جديدة تتعالى على البنى الدولتية.(301)بعد تأكيده على غلبة الأنشطة المالية على حركة رؤوس الأموال في العالم يقول الرئيس المدير العام لبنك الأمان أن " المصالح التي تتحكم فيها الأسواق كبيرة جدا و من الصعب على الدول أن تفرض سيطرتها عليها ، خاصة أن أي نظام ضرائب يتطلب وجود حكومة منسجمة وراءه".(302) و يعني ذلك بالنسبة لـ " ادغار موران " أن السياسي قد ضاع ، تاه، تحلل في الاقتصادي .(303)و هو ما يجعل التساؤل حول مصير الدولة-الأمة احدى الاشكاليات التي يطرحها الوضع الحالي .و في نفس الاطار يلاحظ سامي نير (304) أن المهتيمن بالعولمة يصرحون في أغلب الأحيان أنه لم يبقى شىء من الاستقلال الذاتي للدولة بحكم أن النخب الاقتصادية و خاصة مسيرو الشركات المتعددة الجنسية يقومون بنشاط غير خاضع لها كليا.و على أساس ذلك فان الدولة-الأمة، و بحكم عجزها عن توجيه التدفقات الاقتصادية لا يمكنها الا التلاؤم معها.و رغم الموقف النقدي الذي يتخذه من هذا التصريح،فان سامي نير ذاته يعتبر أن العولمة تحد من سيادة الدول .فالمسار الحالي يؤدي الى سيطرة احتكارات القلة المالية على الدول. و مستشهدا بـ"ربار رايتش" يرى أن الدول لم تعد قادرة على ادعاء ممارسة ضبط ذي فاعلية على المنشأة ذات الوجهة العالمية.فالنخبة المالية كقسمة من القسمات المكونة للنخبة العالمية(المالية و السياسية و الاعلامية) لها ايديولوجيا تقوم على اعتبار أن المنافسة هي الألية المنظمة لصيرورة العولمة.كما لها قاعدة استراتيجية تقوم على رفض الخضوع للسلطة السياسية.و يتعلق الأمر بالنسبة لسامي نبر بطغمة حقيقية توجد سلطة قرارها خارج مراقبة الدولة . ويعبر انتصار الليبرالية المعولمة عن نفسه من خلال خضوع الدول .(305)و هو ما يجعل ارجاع السياسي الى الدرجة صفر يصبح هو القاعدة العامة.ان الدولة التي أصبحت عائقا أمام المبادرة الخاصة عليها التراجع الى الحد الأدنى.لأن صيرورة العولمة تتجه ، حسب "لورا مونييه" الى وضع اختصصات الدول موضع تساؤل من خلال الحد من سيادتها.(306) و هو ما يؤكد عليه "جاك أتالي"(307) في رده على "جلبار ريست" الذي طرح عليه السؤال التالي : كيف حصل أن الدول التي نعيش في ظلها اليوم قامت ،بشكل ما، بتحطيم ذاتها . و من الأكيد أن ذلك لم يتم بطريقة كلية ، ولكن بشكل ما في جميع الحالات .ذلك أنها تركت السوق تقرر بدلا منها؟ لأن الدولة ،و في جميع الحالات ، قد تم اضعافها بشكل واسع من خلال آليات العولة .على ذلك السؤال أجاب "جاك أتالي" : أكيد ، أعتقد أن هناك تخل من طرف النخب السياسية.

وقد لفت الاجماع حول تراجع دور الدولة نظر "أرليت زقلر"(308)، اذ و في اطار محاولة تحديد الأفكار الأساسية التي يدور حولها النقاش بصدد العولمة، تلخص لنا ذلك الاجماع حيث تقول أن أول تلك الأفكار ، بدون أي اعتراض ، هو ضعف الدولة سواء بغيابها أو تجاوزها في مواجهة منطق العولمة.

ان عجز الدولة عن انتاج المعنى مصدره الانقطاع الذي أحدثته نهاية الحرب الباردة (لائيدي).أو عدم تماشي و تلاؤم أرضها التي إما تكون شاسعة جدا أو محلية جدا حسب الرهانات (بادي).ان الدولة تم نفيها بواسطة عالمية الأصولية الجديدة التي تنشأ خارجها(روي).كما أنها موضوعة موضع تساؤل بواسطة العولمة الحضرية كما بواسطة العمليات العابرة للأمم أو التحرر المحلي (فيريلو).كما نلاحظ وضوح التعارض بين التضامن و بلقنة الكوكب (موران). و واقعة أن المنطق الاقتصادي الليبرالي الجديد يسيطر على كل الحقول (برو).ان الدولة قد تم تجاوزها بواسطة التجانس العالمي و تكون ثقافة جماهبية (هال) أو كذلك عندما لا يتم الأخذ بعين الاعتبار الا الحضارة الغربية –عاصمتها واشنطن-التي تتعارض مع بقية العالم(هنتنقتون). ان العولمة الاقتصادية تتجسد بواسطة الشبكات الاعلامية التي من المفروض فيها أن تدخل أوروبا في مجتمع المعلومات العالمي (أدا+ تقرير اللجنة الأوروبية) و هي شبكات تتعين في "اللامكان" الموجود و ذلك عكس الطوبى ، لكنه لا يتضمن أي مجتمع عضوي (أوجي). لا يخرج عن ذلك الاجماع ما تقوله خديجة محمد صفوت(309) اذ تحولت الدول ، بالنسبة لها، بصورة غير قابلة للتستر أو المكابرة الى بيادق في أيدي الشركات المتعددة الجنسات و بنوك التسليف . ويعني ذلك ، حسب محمد سعي طالب (310) أن توسع الرأسمالية في أنحاء العالم يؤدي الى اختراق الحدود الوطنية و منازعة الدول على السادة على اقليمها بحيث تفقد الدولة سلطتها القانونية و السيادة في الكثير من المجالات .انها تفقد بالتدريج القدرة على التصرف باقليمها أمام تعاظم سلطة رأس المال العالمي و الشركات المتعددة الجنسيات . وهو التعاظم الذي يجعل الدولة في بداية عشرية التسعينات ترى سلطتها الرقابية محدودة بعولمة الاقتصاد و انبثاق شبكات معقدة من المنشآت المتجاوزة للأمم.(311) و يذهب "ميشال بو " الى أبعد من ذلك معتبرا أن القوة الرهيبة (312) التي أصبحت تمثلها الرأسمالية في ظل العولمة و المشتغلة بجر مجمل العالم الى فيض خطير يخلط الثروات الجديدة مع الفقر الجديد ، ان تلك القوة تقلب شروط اعادة انتاج المجتمعات من خلال ما ينج عنها من تهميش في كل مجتمع كما على مستوى العالم . و هي تتجه الى الافلات من تحكم المجتمعات و الدول.فلأول مرة تجد الدول و الشركات و المجتمعات نفسها مأخودة و مجروفة و غارقة في عاصفة عولمة اقتصادية و مالية . وهو ما يجعل الدولة بدون أسلحة حتى في مواجهة قضايا قومية ترتبط أكثر فأكثر بديناميات عاليمة ليس لها عليها أي تأثير . و ينتهي الأمر بـ "ميشال بو " الى النظر الى عالمنا على أساس أنه يعاني من غياب السلطة/الحكم.و عجز السلطة و فقدان الارادة السياسية فـ "أغلب السياسيين لا يزالون غير مدركين أنهم قد صاروا الأن يخضعون لرقابة رأس المال ، لا بل انهم قد صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها" ذلك ما صرح به "هانس تيتماير" رئيس البنك المركزي الألماني في فيفري 1996 أمام منتدى دافوس .(313) و ينشأ عن ذلك الوضع أن أغلب الدول تعطي الانطباع و كأنها فقدت وسائل القيادة بسب العولمة مثلما يذهب الى ذلك "جروم بندي" رئيس مصلحة التحليل و التنبؤ في اليونسكو.(314) و يوافقه على ذلك "جورج مارتنيز" الذي يقول : لقد خسرت حكوماتنا السلطة لان الاقتصاد و السوق المالية يسيطر عليهما الليبراليو ن الجدد .(315)

في نفس الاتجاه يسير "جامس هوارد" (316) معتبرا أن الامبراطورية التي أنشأتها المنظمة العالمية للتجارة و تسيطر على 95 بالمائة من القوة النشيطة ، هذه الامبراطورية تسيرها الشركات المتعددة الجنسيات ذات النشاط المالي و الصناعي التي اصبحت حاليا أقوى من الحكومات. و لا يقتصر الأمر على ذلك بل يصل الى حد نعي الدولة-الأمة و تأكيد نهايتها .و قد بدأ ذلك منذ 1978 مع "بال" اذ يورد "ويترز "(317) أن "بال" تنبأ باختفاء الدولة-الأمة و يعود ذلك الى التفتت الداخلي وهي تتفتت لأنها لم تعد تتماشى مع مسائل الاقتصاد المعولم و التصينع في العالم الثالث و التدهور البيئي و ذلك الى جانب بعدها عن تنوع الحاجات و الطموحات المحلية . وهو تقريبا نفس تصور "روزنو" الذي يشير الى أننا نشهد ، في ظل العولمة،تراجع قدرة الدول على حل القضايا و المشاكل على أسس قومية .(318) "ويترز" كذلك ، من بين القائلين بتراجع دور و سيادة الدولة تحت تأثير العولمة التي تجعل من الممكن تشكل حكم أو حكومة عالمية لكنها لن تأخد شكل الدولة-الأمة الحديثة.(319) وهو هنا يتبنى نفس التصور الذي يقول به "هالد" .(320)و هو التصور الذي يتأسس على اعتبار أن الدولة بدأت تفقد سيادتها على مراحل هي :

- تعمق الارتباطات الاقتصادية و الثقافية بين المجتمعات المختلفة يؤدي الى الحد من فاعلية الحكومة في مستوى الدولة-الأمة التي لم تعد قادرة على مراقبة تدفقات الأفكار و السلع عند حدودها و هو ما يفقدها فاعلية وسائلها السياسية الدخلية.

-و تتراجع سلطة الدولة أكثر لأن الصيرورات ما بين القومية تنمو في مستواها و عددها فالشركات العابرة للأمم مثلا هي في الكثير من الأحيان أوسع و أقوى من العديد من الحكومات.

- لذلك أصبح مفروضا على الدول التنازل عن سيادتها للوحدات الأوسع مثل الاتحاد الأوروبي و الاتفاقات الثنائية أو المنظمات الدولية.

- هناك نسق للتسيير العالمي بصدد التشكل الأن له سياسته التنموية الخاصة و أنظمته الادارية التي تحد كثيرا من سلطة الدولة.

- و ذلك يقدم الشروط لانبثاق دولة فوق قومية لها سلطتها التشريعية و القمعية المهيمنة.(321)

بعد استعراض ذلك التصور يلاحظ "ويترز" أن الأزمة الشاملة المعترف بها و التي حصلت في نهاية القرن العشرين أظهرت أن الدولة عاجزة عن تنمية الاقتصادات و الاستجابة الى حاجيات و مطالب مواطنيها.كما ظهرت الدول في اطار تلك الأزمة غير قادرة على ضمان الشفافية في علاقة بالمعاملات المالية و ممارسة السلطة. الى جانب عجزها عن ضمان مستقبل ما لسكانها.

عجز الدولة هذا كنتيجة من نتائج العولمة،هو ما يعبر عنه كذلك محمد عابد الجابري.فالعولمة "نظام يعمل على افراغ الهوية الجماعية من كل محتوى و يدفع للتفتت و التشتت ليربط الناس بعالم اللاوطن و اللاأمة و اللادولة أو يغرقهم في أتون الحرب الأهلية".(322) لذلك فـ "أن العولمة عالم بدون دولة ، بدون أمة، بدون وطن ، انه عالم المؤسسات و الشركات العالمية و الشركات المتعددة الجنسية" أما"أنطوني قيدنز" فيعبر عن ذلك العجز بقوله أنه في تسارع العولة تصبح الدولة-الأمة صغيرة جدا بالنسبة لمشاكل الحياة الكبرى و كبيرة جدا بالنسبة لمشاكل الحياة الصغرى.(323)

-ج- نقد شبه الاجماع حول تراجع دور الدولة

و يمكن أن نواصل السرد ، لكن ما تم منه ، نعتقد انه واف بالغرض من أجل اثبات ما تمت الاشارة اليه من وجود شبه اجماع على تراجع دور الدولة.و يتضمن تصور "هالد" للمسألة كل الحجج ، تقريبا ، التي تستعمل في الدفاع عن وجهة النظر القائلة بتراجع دور الدولة و فقدانها لسيادتها كنيتجة من نتائج العولمة.و هي حجج يمكن نقضها كلها.

فالدولة و رغم العولمة مازالت قادرة على مراقبة تدفق الأفكار و السلع عند حدودها . واذا كانت الأنترنات تقدم كأهم وسيلة لتدفق الأفكار فان هذه الوسيلة يمكن تقنيا مراقبة الأفكار التي تمر بواسطتها كما يمكن للدول منعها كليا و الأمثلة على ذلك كثيرة.أما بالنسبة لتدفق السلع فقضية المفاوضات حول المنتجات الزراعية و الخدمات معروفة . و يمكننا ذكر قضية تصدير زيت الزيتون التونسي الى الاتحاد الأوروبي أو كذلك قضية الموز بين الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية...الخ. و بالنسبة لقوة ما يسمى الشركات المتعددة الجنسيات فانها و في جميع الحالات قوة نسبية. و منطق الحجة ذاتها يقول أنها أقوى من بعض الدول وليس كل الدول. وفي الرد على ذلك يقول "أنطوني قيدنز"(324) أن تلك الشركات تملك بالفعل ميزانيات تتجاوز تلك التي تملكها الكثير من الدول ،لكن هناك ميادين أساسية لا يمكن لسلطة تلك الشركات أن تنافس فيها سلطة الدولة . وأهم تلك الميادين تلك المتعلقة بالأرض و مراقبة وسائل العنف .فباستثناء المناطق القطبية لا وجود لمنطقة في الأرض غير خاضعة لسيادة دولة من الدول.كما أن كل الدول الحديثة ناجحة الى هذا الحد أو ذلك في احتكار مراقبة وسائل العنف على أراضيها. و بقطع النظر عن مدى قوتها الاقتصادية فان تلك الشركات ليست منظمات عسكرية كما أنها لا تستطيع أن تعلن عن نفسها كذوات سياسية-قانونية تسير منطقة محددة من الأرض. و في ما يتعلق بالمجالات التي أصبح من الواجب التنسيق بصددها عالميا أو بين الدول مثل الدفاع و الاتصال و التسيير الاقتصادي فمن الواضح أن ذلك يتم في ظل اختيارات تقوم بها الدول بقطع النظرعن دوافع ذلك. فالتنسيق القائم بين الدول المكونة للاتحاد الأوروبي هو تنسيق اختارته كل دولة بشكل مستقل و المثال الأنقليزي في رفض اعتماد "الأورو" هو أحسن مثال على ذلك.

نفس الشيء يقال بصدد ما فرض على الدول من تنازل عن سيادتها للوحدات السياسية الأوسع و الإتفاقات الثنائية و المنظمات الدولية.و في علاقة بهذه الأخيرة تكشف لنا أزمة الأمم المتحدة و عدم فاعليتها حدود ذلك التنازل.حيث، مثلا،في أزمة العراق في 12/1998 ألغي كليا دور الأمم المتحدة و كانت الفاعلية و الدور المحدد للولايات المتحدة الأمريكية و انقلترا. و قد همشت الأمم المتحدو كليا في الحرب ضد يوغسلافيا التي أعلنها الحلف الأطلسي. أما الحجتان الأخيرتان فانهما تسقطان بسقوط ما سبقهما من حجج لأنهما نتيجتان. فالفوضى العالمية التي يؤكد عليها الكثير من الباحثين وأزمة أغلب المنظمات الدولية و على رأسها الأمم المتحدة يكشف لنا غياب أي شكل من أشكال الحكم أو الحكومة العالمية.لذلك تظل الدولة-الأمة فاعلة في اطار فضائها الاقليمي أما "تسيير" العالم فانه يتم من خلال الاتفاقات الثنائية أو الجماعية بين الدول. و الوضع كذلك الى أن يأتي ما يخالف ذلك في ظل الفوضى العالمية الراهنة.

لذلك، و مثلما سوف يتم تبيانه، ومثلما يؤكد على ذلك سامي نير ، فان النهاية المعلنة للدولة-الأمة تعود الى رؤية ايديولوجية مقدمة من طرف المدافين عن الليبرالية الذين يعتبرون كل نشاط للدولة معيقا للسوق. وهي رؤية ايديولوجية بحكم صياغتها العامة التي تنسى أو تتناسى أنه ليس للدولة دور واحد هو الذي يتراجع تحت تأثير العولمة.كما الانتقال غير المبرر من تراجع دور الدولة الاقتصادي الى ضعفها و فقدانها لسيادتها بصفة عامة و هو الاتجاه أو التصور الغالب.

في ما سبق من البحث حاولنا تبيان أن العولمة هي واقهة كلية أي أنها واقعة تتداخل فيها ثلاثة أبعاد هي ، البعد الاقتصادي و البعد السياسي و البعد اليديولوجي.لذلك فان تناول مسألة انعكاسات العولمة على الدولة يجب النظر اليها في أبعادها الثلاث تلك.خاصة و الدولة ليس لها دور واحد بل ثلاثة أدوار هي الدور الاقتصادي و الدور السياسي و الدور الايديولوجي. وتدخل ثلاثتها في اطار وظيفة الدولة العامة في انتاج و اعادة انتاج العلاقات الانتاجية المهيمنة.

و هو ما يجعل للعولمة انعكاسات :

(1) اقتصادية على دور الدولة الاقتصادي

(2) سياسية على دور الدولة السياسي

(3) ايديولوجية على ايديولوجا الدولة

-1- انعكاسات العولمة على الدور الاقتصادي للدولة

تناول هذه المسألة يتم على أساس افتراض أن الدولة الرأسمالية كانت دائما تدخلية. و طبيعتها تلك تعود الى تناقضات عملية التراكم ذاتها التي تستدعي ذلك التدخل .و يحصل هذا الأخير لأسباب اقتصادية منها توفير الشروط العامة لعملية التراكم ، وهذا دوردائم ، ثم أن الدولة يمكن أن تتدخل في ظل صعوبات في تحقيق فائض القيمة،مثلما كان الشأن في مرحلة ما بعد أزمة 1929، أو لعجز رأس المال عن القيام بدور فعال في عملية التراكم، مثلما كان الشأن في تونس بعد 1956.على أساس ذلك تكون صورة الدولة التي لا تتدخل في النشاط الاقتصادي بالنسبة لصورة الدولة التي تتدخل في ذلك النشاط ، في ظل النظام الرأسمالي ، صورة ايديولوجية مثلما يذهب الى ذلك "ميشال ماي".(325)و هو ما يعني أن قضية تدخل الدولة أو عدم تدخلها قضية مغلوطة لأنها كانت في تاريخ الرأسماية الواقعية دائمة التدخل. و ما يختلف من مرحلة الى أخرى هو شكل و مدى و أسباب التدخل الذي تمارسه الدولة في النشاط الاقتصادي .

الفكر الاقتصادي و الدولة التدخلية

اذا نظرنا الى الموضوع من وجهة نظر الفكر الاقتصادي و مدى تعبيره عن الطابع التدخلي لدولة الرأسمالية ، نجد جلال أمين يلخص لنا تاريخ ذلك الفكر اذ " كان الماركنتيليين يعبرون عن التجار و الصناع قبل الثورة الصناعية ، تحت شعار أن على الدولة أن تتدخل تدخلا حاسما و شاملا في النشاط الاقتصادي .ثم جاء الكلاسيكيون 1760-1780 المعبرون عن مصالح الراسمالية الأنقليزية في عصر المنافسة الحرة. فقالوا أن على الدولة أن تنسحب من النشاط الاقتصادي . ثم جاء "كينز" كمعبر عن مصالح الرأسماية في عصر المنافسة غير المكتملة، تحت شعار أن على الدولة أن تقوم بدور فعال في الاقتصاد و الأزمة الاقتصادية ، وهي نتجة لإمتناع الدولة عن التدخل . و "ملتون فريدمان" يعبر بهذا الخصوص عن مصالح الرأسمالية في عصر الشركات المتعددة الجنسية، أي المدرسة الليبرالية الجدية التي تدعو الى تقليص دور الدولة في العملية الانتاجية و تغيير هذا الدور بما يخدم سياسات الشركات المتعددة الجنسية على النطاق العالمي".(326)

تأكيدا للطابع التدخلي لفكر المركنتليين نجد رضا قويعة يعرف المركنتيلية ، بالعودة الى "بسنيي" على أنها نظرية إثراء الأمم بواسطة مراكمة المعادن الثمينة، التي تتطلب أن تفيض الصادرات على الواردات، لكن ذلك غير كافي،لأن الجواب على سؤال: كيف يمكننا الاثراء يتطلب تدخل "الأمير"لأن توسع قوته السياسية و نجاحات جيوشه في البر و البحر تسمح بحماية المصالح في الخارج و بالتالي تدعم مراكمة الثروات في البلاد.(327)

و يلاحظ رضا قويعة ، أن أهمية التجارة الخارجية لدى المركنتيليين ، هي التي صنعت عقليتهم الاستعمارية .لأن غزو الأسواق الخارجية يتطلب دعم الدولة. و الى جانب غزو الأسواق يكون دعم الدولة ضروريا من أجل تدعيم الأسطول البحري و انشاء و صيانة البنية التحتية الضرورية لتنمية التجارة و مساعدة و تنظيم المنشأة، خاصة المصدرة.ان تدخل الدولة ضروري و هو تدخل يشمل جميع مستويات الحياة الاقتصادية . و يعني ذلك أن المركنتيليين تدخليين.(328) أما بالنسبة للنظرية الفيزيوقراطية التي أهملها جلال أمين عند تلخيصه لتاريخ الفكر الاقتصادي ، فيقول عنها رضا قويعة أنها نسق اقتصادي كان يظهر لكتاب عصره كتعبير عن عقل متعالي ذلك الخاص بالكائن الأعلى .لذلك فان كل الاقتراحات تبحث عن تدعيم تراكم رأس المال في الزراعة و هي موجهة الى الدولة.(329)

بعد المركنتيليين و الفيزيوقراطيين التدخليين،و ذلك من خلال الاقتراحات التي كانوا يقدمونها الى الدولة ،ظهرت المدرسة الكلاسيكية(سميث و ريكاردو و صاي).

عن آدام سميث ، يقول رضا قويعة (330)،بحكم أن الأفكار المهيمنة في عصره كانت حمائية و تدخلية ، حاول سميث تحطيم الحواجز التي تعيق تحسين ثروة الأمة.و المدرسة الكلاسيكية ،بصفة عامة،تقوم على ثلاث اقتراحات(331):

- ان الطبيعة تحدد نظاما اجتماعيا شاملا، قوانينه الموضوعية يمكن اكشافها بواسطة العقل ، وهذه القوانين طبيعية أزلية ، صالحة لكل زمان و مكان.

- ان الأفراد من خلال متابعة مصالحهم الخاصة يحققون بفظل "اليد الخفية" المصلحة الاجتماعية .فمجوع المصالح الخاصة يمثل في القاعدة العامة مصلحة المجموعة.

- أما القاعدة التي تهمنا في موضوع الحال فهي : على الدولة أن تتدخل أقل ما يمكن، وفقط من أجل ردع أولائك الذين لا يحترمون قواعد اللعبة : "دعه يعمل دعه يمر".و الملكية الخاصة و الحريات الفردية ،هما فقط، ما يضمن سعادة البشر. و دور الدولة محصور في وظيفتها السياسية ( الدولة-الشرطي، التي يجب أن تضمن إحترام العقود و الأمن).(332)

و يقوم التصور الليبرالي للسوق لدى "دي بوازقيبارت"، الذي يعتبر مؤسس الليبرالية،و تأثيره على "فوربوني" و "مونتسكيو" و "ملون" ، و خاصة على "أدام سميث" ، غير مشكوك فيه الأن،مثلما تشير الى ذلك "سيمون ميسونيي" ، يقوم ذلك التصور على العناصر التالية:

- فكرة النظام الاقتصادي العفوي و الطبيعي الناتج عن لعبة الأليات و التوازنات الفاعلة في أنشطة التجارة ،و يجب علينا ترك القوانين الطبيعية تفعل فعلها و بالتالي نقيم الحرية.

- فكرة المسلك الذي يتأسس على التبعية المتبادلة بين الأعوان و تماثل حاجياتهم.

- التوازن يكون نتيجة مواجهة عنيفة و قصوى بين المصالح المتناقضة،عقلانية المصلحة مفهومة بشكل جيد تسمح بتنظيم الرهانات بواسطة معادلات(كل شخص يجب أن تكون له مصلحة في المبادلات حتى تتجدد هذه الأخيرة)، وعلى أساس ذلك فان التجارة الحرة تقيم السلام و المساواة.

- السوق هي المكان الذي يحصل فيه التوازن بواسطة الأسعار المحكومة بالعرض و الطلب .

-عدد الأسواق يبلغ خمسة : سوق المنتجات الزراعية و سوق المنتجات الصناعية و سوق مواد التجهيز و سوق العمل و سوق الممتلكات التي يمكن تسليفها.و العلاقات التي تنشأ داخل كل منها تنشر مفاعيلها على طول المسلك.

و ما يهمنا أكثر من غيره،

- الدولة تلعب دورا محددا في المسلك بواسطة حركات رؤوس الأموال التي تتسبب فيها(الاقتراض العمومي) ومن خلال تدفقات نفقاتها و بالتالي بواسطة الجباية.

نلاحظ أن هذا التصور للسوق لا ينفي تدخل الدولة ، بل يستدعيه و يذهب رضا قويعة الى نفس التصور الذي نجده لدى "ملون"(333) و "فنسانت دي قورناي"(334) و "فرون فوربوناي".(335)

بعد هذا الفاصل الليبرالي ، الذي لم يدم طويلا، تبدأ مرحلة طويلة من تدخل الدولة ، ظهرت تباشيرها مع أزمة 1873. و تأكدت مع أزمة 1929. و بصدد تلك الأزمات يقول رض قويعة (336)أنها أنتجت اتباع سياسات حمائية في مختلف البلدان . و لكن كذلك اجراءات متعددة لدفع الاقتصاد و مقاومة الأزمة.أكثر من ذلك،و بحكم أن السياسات التي إتبعت من طرف الحكومات كان مآلها الفشل، و ساهمت في تعميق الأزمة ، فان التدخل يتخذ وجهة أخرى مع "كينز" الذي يقترح (337) حلولا أخرى غير ظرفية للخروج من الأزمة.فهو يعتبر أن سياسة لتدخل الدولة تفرض نفسها. و في حين قامت السياسات الماقبل كينزية ، أساسا، على تخفيض الأجور و الأسعار و اتباع اجراءات حمائية ، فان أحسن طريقة لتدخل الدولة هي المالية العمومية ، أي ميزانية الدولة، التي تعتبر وسيلة جيدة للسياسة الاقتصادية و اعادة دفع الاقتصاد. وفي حين كانت المواقف التقليدية تقوم على المراحل الثلاث التالية:

- العملة و المالية أولا ، اذ بالنسبة للكلاسيكيين ، التوازن النقدي و توازن الميزانية كانا يمثلان الشروط المسبقة للوفرة الاقتصادية.

- ثانيا ، الاقتصاد، حيث يكون التطور محكوما بشكل حر بواسطة اللعبة العفوية لآلة الأسعار.

- و في الأخير الاجتماعي ، من أجل توزيع المزيد لابد من انتاج المزيد.

"كينز" قلب نظام الأفكار ذلك، حيث نجد لديه:

- الاجتماعي أولا، و تتعلق المسألة بضمان التشغيل الكامل، قبل كل شيء، وهو في نفس الوقت اختبار و سبب لصحة الاقتصاد.

ثانيا الاقتصاد،أي أن ضمان التشغيل الكامل يولد التطور الاقتصادي الذي يتغدى من نمو الدخل.

- و في الأخير ، العملة و المالية.

و بحسب هذا التصور، لا خوف من التضحية بالتوازن النقدي و توازن الميزانية.

و ذلك يعني أن تفكير "كينز" يتجسد في التصريح بأن الدواء الأول للأزمة الاقتصادية يظل بين يدي الدولة . ويقول "كينز" "قد يبدو لأي كاتب سياسي من القرن التاسع عشر أو أي رجل أعمال أمريكي من القطاع المالي اليوم، أن في توسيع

وظائف الدولة الذي حتمته ضرورة الملائمة بين الاقبال على الاستهلاك و الترغيب في الاسثمار ، خرقا فضيعا للمبادىء الفردانية.الا أننا نعتبر هذا التوسع على العكس من ذلك، الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون التحلل الكامل للمؤسسات الاقاصادية الحالية و الشرط لكي تقوم المبادرة الفردية بدور متميز".(338)

و تدخل الدولة لا يرتبط بالأزمة فقط بل إن النظرية الاقتصادية الأنقلو-ساكسونية، حتى في مرحلة صعود الليبرالية ، لم تقم أبدا بركن الدولة في الصف الخلفي، وذلك لسببين على الأقل(339): لأن إقتصاد السوق تمت مأسسته، وهو لذلك يتطلب سلطة قوية من أجل فرض إحترام إشتغال مؤسساته، و لأن السوق و بسبب النواقص التي ترافق لعبته يتطلب التدخلات العمومية.و تلخص "كولات فوازان" التطور الذي حصل في علاقة بدور الدولة الاقتصادي ،باعتبار الرؤية الاقتصادية التقليدية تجعل من الدولة فاعلا اقتصاديا مثلها مثل كل الفاعلين ، تسعى الى زيادة مكانتها انطلاقا من محدداتها الخاصة، لكنها فاعلا خصوصيا مهيمنا، وبشكل أكثر تحديدا ، فان الدولة فاعلا موحدا و متجانسا يملك المعلومات الكافية وأهدافه محددة، وهي الى جانب ذلك كلية القدرة بحكم وسائل الفعل التي تملكها للتأثير على المؤسسات كما على العلاقات بين الفاعلين.أما بالنسبة للأدب المعاصر فقد أهتم برفض تلك الفرضيات حول طيبعة الدولة.حيث تم تخيير البحث عن مكاسب من الدرجة الثانية، والدولة لا تملك المعلومات الكاملة و الشاملة حول النسق الاقتصادي، وهي ليست كتلة متجانسة.على أساس ذلك توصل التحليل الى حرمان الدولة شيئا فشيئا من بعض خصائصها، باسم ربح ضروري ، من جهة الواقعية.

هذا التطور الفكري الأخير ينقلنا الى تصورات انعكاسات العولمة على الدولة.لكن قبل الخوض في هذه المسألة ، يمكننا إعتبار أن الفكر الاقتصادي التدخلي ، منذ المركنتليين الى "كينز" ، يعكس واقع الدولة التدخلية.

واقع الدولة التدخلية

على المستوى الحدثي "إقتصاد السوق" لايمكن ، مثلما يشير الى ذلك "رجيب أجي" (340)، فصله أبدا عن كل شكل من اشكال التنظيم ، بل هو يظهر دائما كمظهر و بعد من أبعاد مركب يدمج في مستويات متغيرة تدخل السلط العمومية. ففي كل المجتمعات حيث يوجد "إقتصاد السوق"، فقط جزءا محددا من الأنشطة الاقتصادية يخضع بالفعل الى التنظيم بواسطة السوق. و بمعنى أخر و على مستوى الواقع ،نحن دائما في مواجهة إقتصادات مختلطة حيث حضور الدولة و السلطة العمومية دائما في الحياة الاقتصادية.و هو ما يؤكده" ميشال ماي"(341) بقوله أن صورة الدولة التي لا تتدخل في النشاط الاقتصادي بالنسبة لصورة الدولة التي تتدخل في ذلك النشاط ، هي صورة إيديولوجية. الى ذلك يضيف "بتران بلًًًُُُُُُون" إنه الى جانب المسؤوليات المرتبطة بالعدالة و الشرطة و التربية و الصحة و البنية التحتية ، تتحمل كل دولة أو تشارك في مسؤوليات ذات طبيعة إنتاجية بشكل مباشر .و يعيد ذلك التدخل الى عدة أسباب منها:

- التحكم في نواقص السوق عندما لا تحصل التكيفات أو أنها تتطلب أجلا طويلا جدا. و ذلك الى جانب وضع قواعد لعبة الانتاج التي تنظم اشتغال السوق مثل القواعد الاجتماعية و الأجرية و قواعد الجباية و المنافسة و القواعد التقنية و الاطار القانوني للعقود و فض النزاعات.

-بعث الصناعات و حمايتها بواسطة أنظمة قمركية و سياسات إقتصادية كلية أو زيادة القدرات الانتاجية بواسطة الاستثمار المباشر و توجيه الاستثمار الخاص.

- زيادة الكفاءة داخل المنشآت بواسطة التكوين و الاعلام و التجديد الصناعي و البحث و التنمية و بعث "عقلية صناعية" ترتكز على قيم الاستثمار و المخاطرة و التحدي.

- في بعض الشروط التاريخية المحددة جدا تأخذ الدولة على عاتقها مسؤولية أنشطة صناعية معينة . و يتعلق الأمر بتنمية ميادين صناعية عمومية معتبرة حيوية بالنسة لبلد في وضعية إحتكار طبيعي أو بسب تأثيرات خارجية أو في علاقة بصناعة وليدة أو ميزات طبيعية وطنية محددة.(342)

و من وجهة نظر تاريخية عامة، وهو شيء أكيد بالنسبة لـ "ميشال بو" (343)، يبين لنا التاريخ أنه عندما تمتد جذور الرأسمالية في بلد ما تكون في البداية سهلة العطب و هو ما يجعلها في حاجة الى الدولة .ذلك الاستنتاج وضعت على أساسه القاعدة العامة التالية: في كل مرة تتدعم و تتأكد في العالم أو في جزء منه رأسمالية قومية يمكننا أن نكون متأكدين ،بالنسبة للبلد المعني، أن العلاقة بين الدولة و الفاعلين الرأسماليين هي علاقة قوية و فعالة. وهو ما يجعل الدولة في البلدان الرأسمالية ، دائما و تقريبا، الداعم و الأخ الأكبر المتفهم أو المشرف الصعب ، على رأسماليتها القومية.فنضج الرأسمالية قد تم في علاقة وثيقة مع تشكل الدولة-الأمة الحديثة في ما بين القرنين 16 و 18.لذلك أعتبر كل من "أندريه قندر فرانك" و" مارتا فونتيس"(344)" أن الدولة القومية تشكلت و إكتسبت كثيرا من جوانبها المهمة بهدف التمكن من التنافس بصورة أفضل في الاقتصاد العالمي". وهو ما يجعل "كل أولئك الذين يؤيدون المنافسة شفهيا سرعان ما يعتقدون بأن السوق قد دمر و أن الأمر صار يتطلب تدخلا و المساعدات المالية للدولة، حينما تتحقق المنافسة الحقة فعلا" .ذلك ما يقوله "فردناند لا سينا" الاقتصادي النمساوي و وزير مالية النمسا لمدة معينة.(345)و هو لايختلف في ذلك عن إبن بلده المهاجر الى الولايات المتحدة الأمريكية "كارل بولاني" الذي يؤكد أن تأسيس أسواق تتمتع بالحرية الكاملة " لا يؤدي أبدا الى القضاء على اللوائح و التدخلات (الحكومية)بل يتسبب في زيادتها و توسعها العضيمين".(346)و في إطار تلخيصه للجدل الذي دار بين الليبراليين و الماركسيين في علاقة بدور الدولة ، و هم يتفقون على أنه كان دورا ثانويا ، في إطار ذلك و ردا على ذلك الاتفاق ، يعتبر عبد اللطيف الهرماسي (347)"أن نشاط الدولة كان أهم من ذلك بكثير ،مما توقعه المنظرون" مؤكدا على "الدور الحاسم الذي لعبته الدولة في كل البلدان و كل مراحل تطور الرأسمالية" و هو ما يجعل" الثقافة الليبرالية الأوروبية(مثلا)كانت و لا تزال مزيجا متغيرا من الحريات الاقتصادية ، أي من "إقتصاد السوق" و من تدخلات الدولة"، حسب الشاذلي العياري .(348)في نفس الاتجاه ، وفي إطار نقده للايديولوجا الليبرالية الجديدة التي توجد في خلفية برنامج الاصلاح الهيكلي الذي شرع في تطبيقه في تونس إنطلاقا من سنة 1986، و الذي يتضمن سعيا الى تفكيك دور الدولة المباشر و المكثف في عملية الانتاح ، في إطار نقده هذا المسعى الأخير بحكم طابعه الظار ، يشير تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي و الاجتماعي بتونس الى أن الحمائية و تدخل الدولة كانا في البلدان المتقدمة القاعدة خلال المراحل الطويلة لبناء أو إعادة هيكلة جهاز إنتاجي فعال. و التجارب تبين ،حسب ذلك التقرير ، أن الدولة المستثمر و الدولة المصدرة للأوامر هما واقعتان لا يمكن مداورتهما في إطار الاستراتيجيات الصناعية.(349)

موجز تاريخ الدولة التدخلية

بالنسبة للبداية الفعلية "للتدخل الدئم"السابق إستعراضه يقول لنا "ميشال بو"أنه مع نشوء الرأسمالية في 1500كانت السلطة الزمنية و السلطة الروحية متصارعتين ،أستمدت الرأسمالية قوتها من الفراغات التي لا تخضع لا لهذه و لا لتلك . و هو ما لم يمنع تجار كل مدينة من الاستفادة من دعم مؤسسات الدولة، مثلما سيفعله لاحقا بدولهم المنفكتوريون و الصناعيون في كل بلد.فالبدايات الأولى للرأسملية تعود الى خمس أو ستة قرون خلت من خلال أنشطة الجار الذين قاموا لاحقا بتمويل الحرفيين و حصلوا من الأمير على الحماية و الامتيازات. و من خلال كل ذلك تغير كل شيء، حيث لم يعد الدافع الى التبادل و الانتاج هو عظمة الأمير و الاثراء الشخصي و العائلي بل الأرباح التي تسمح بالمزيد من التبادل و الانتاج. وهما اللذان يصبحان الدافع المحدد في الأزمنة الحديثة، مع وجه أساسي هو المستثمر و شكل تنظيمي لا يمكن فصله عن السوق و مرتبط مباشرة الى هذا الحد أو ذلك بالدولة ، هو المنشأة.لأن الدولة و تأكيد وجودها لعبا كذلك دورهما في تشكل الرأسمالية. و يلاحظ "ميشال بو" أن هذا الطابع التدخلي للدولة وجد في السابق ، حيث تدخلت الدولة في تنظيم عملية الري و تجهيز المدن و قامت ببناء الطرق و القنوات.لكن الدول في أوروبا الغربية في القرنين 17 و 18 ذهبت الى أبعد من ذلك .فقد قامت بإلغاء الأداءات و الحدود القمركية الداخلية و قدمت المساعدات و قامت ببناء الموانىء و التحصينات وصيانة الأصاطيل و الجيوش في مواجهة الأجانب، الأعداء و المنافسين،ووضعت القوانين حول التشرد و العمل الاجباري للأطفال المهملين و المتسولين و فككت الأنظمة الحرفية و سنت القوانين حول الفقراء و بعثت بنكا مختصا في ضرب السكة القومية.(350)كان ذلك هو الدور الذي لعبته الدولة في نشأة الرأسمالية القومية .كما أن " الدولة الرأسمالية المتوافقة مع المرحلة الرأسمالية التنافسية(الدولة الليبرالية) كان لها دائما دور إقتصاديا :و صورة الدولة الليبرالية كمجرد دولة دركي أو حارس ليلي يسير فيها الاقتصاد تلقلئيا ، كانت دائما أسطورة ...لقد إحتفضت الدولة الليبرالية ،دائما،بوظائف إقتصادية هامة و على درجة متفاوتة، مؤكدا ، حسب مختلف التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية".(351)

في بريطانيا، وحسب "تشارلز تلي" (352)، "التعبئة الدائمة للحروب ضد فرنسا و لاسيما في الفترة 1793 و 1815 و سعت الى درجة كبيرة الضرئب و الدين القومي و تدخل الدولة في الاقتصاد...لكن المسؤولين القوميين ، في القرن التاسع عشر ، زجوا بأنفسهم في عمليات البوليس و التعليم و مراقبة المصانع و النزاعات الصاناعية و الاسكان و الصحة العامة و كثير من الشؤون الأخرى بدرجة لا سابق لها".و قد بدأ التوسع الأكثر درامية في نشاط الدولة غير العسكري في عصر التخصص العسكري ،بعد عام 1850 تقريبا. فقد إتسع نطاق الدولة ليتجاوز لبها العسكري و أخد مواطنوها يطالبون بحقوقهم منها في ميادين شديدة الاتساع تمتد من الحماية الى القضاء و الانتاج و الوزيع ، وذلك دائما حسب "تشارلزتلي".أما "أريك هوبسباوم" فيعيد ذلك "التوسع الدرامي" للطابع التدخلي للدولة الى سنة 1875،ذلك أن المرحلة التي تلت مرحلة ما يسميه الظفر الليبرالي ، التي كانت مختلفة جدا عنها ، فهي على الصعيد الاقتصادي سرعان ما تخلت عن المبادرة الخاصة القائمة على المنافسة و تخلت عن عدم التدخل الحكومي لصالح تجمعات صناعية كبيرة و تدخل حكومي مرموق.(353)

و لا يختلف الأمر بالنسبة لمرحلة 1880-1945.فبالعودة اى سمير أمين ،نجد أنها قد تميزت، و على النقيض من الخطاب الفوضوي المناقض للدولة ، بالطابع التدخلي لهذه الأخيرة.إذ أنها كانت هناك من أجل ضمان تصرف في الكتلة المهيمنة و من أجل تأطير و تنظيم الأسواق ،دعم الفلاحين مثلا،و التحكم في المنافسة الدولية من خلال الحمائية و التصرف النقدي.فتدخل الدولة النشط في هذا الاتجاه يعتبر شرعيا بشكل تام في تلك المرحلة بل حتى ضروريا.

أما مرحلة 1945-1980 فقد تظمنت تدخلا منظما و معمما للدولة في ظل السياسات ذات الالهام الكينزي أو الكينزية الجديدة.(354) لكن قبل 1945، شهدت نهاية العشرينات و بداية الثلاثينات من القرن 20 إنتشار تدخل الدولة "بحيث أصبحت إعادة الانتاج في الكثير من الأقطار الرأسمالية تتوقف على دور الدولة و ليس على حركة أسواق رأس المال، وحلت رأسمالية الدولة محل الأشكال الأخرى من الرأسمالية التي أضعفتها الاحتكارات".(355) و يعيد رضا قويعة ذلك التطور الى أزمة 1929(356)و هو يلتقي مع سمير أمين في ذلك.إذ إبتداءا من أزمة 1930 أصبحت الدولة ملزمة بالتدخل بشكل فعال في سياق إعادة الانتاج من أجل دعم الاحتكارات و إمتصاص جزء من الفائض الذي لم تعد إعادة الانتاج الرأسماية بقادرة على إمتصاصه في إطار المزاحمة الاحتكارية.(357)

و قد بدأ تدخل الدولة ذلك خلال حقبة "الأزمة البنيوية" 1948-1968 لكي يتواصل في مرحلة التوسع اللاحقة.(358)و هو ما دفع محمد سعيد طالب الى القول(359)"كانت المرحلة اليكنزية بعد الحرب العالمية الثانية هي مرحلة الرأسمالية الاحتكارية و تدخل الدولة لصالح الاحتكارات القومية و تشابك مصالح الدولة و الاحتكارات معا". الى ذلك يضيف "لقد برهنت الوقائع التاريخية على طوباوية النظرية الكارثية للرأسملية التي بشرت بها الماركسية...لأن تدخل الدولة الرأسمالية و أجهزتها المختلفة ، أصبح عاملا حاسما في العملية الانتاجية بكليتها و أكثر من أي وقت مضى .فالدولة تتدخل في دورة الانتاج و في آليات السوق و في الائتمان و الاستثمار و الادخار و توزيع الدخل عن طريق سياسة الضرئب و الموازنة العامة ،وتتدخل في أى وقت لوقف الأزمة . وهي بما لديها من إمكانيات مالية و إدارية و تشريعية و بما يخولها الدستور من آليات تنظيمية و تنفيذية و تشريعية و رقابية ،و بما تملكه من أجهزة متخصصة تعمل كلها في خدمة الاقتصاد الرأسمالي". وهو يلتقي في ذلك مع قؤاد مرسي(360)و سمير أمين(361) و "نيكوس بولانتزاس". وحسب هذا الأخير "المرحلة الامبريالية المقابلة للرأسمالية الاحتكارية ،تتميز بإنتقال السيطرة في آن واحد في التشكيلة الاجتماعية و في السلسلة الامبريالية من الاقتصاد الى السياسة(الدولة)...و بشكل خاص بعد أزمة 1930 يفرض رأس المال الاحتكاري داخل الحواضر هيمنته على رأس المال التنافسي مع إستتباع سيطرة العامل السياسي (الدولة) داخل هذه التشكيلات...و تتدخل الدولة في المرحلة الرأسمالية الاحكارية في الاقتصاد بطريقة حاسمة بما أن دورها لا يقتصر بأساسه على توالد ما يسمسه "إنقلز" 'شروط عامة' لانتاج فائض القيمة، بل يمتد الى دورة التوالد الموسع لرأس المال كعلاقات إجتماعية أيضا".(362)

وبصفة عامة فان القرن العشرين هو قرن الدولة التدخلية بالنسبة لـ "ويترز".(363)فقد تميز هذا القرن بما يسميه الدولة المنظمة.إرتبط نمو الدولة التدخلية المنظمة بالحرب العالمية و الانهيار الكبير و ما يسميه الثورة الشيوعية و الفاشية التي صاحبتهما. وأصبحت الدولة ذات طابع مركزي تنفيذي تتدخل في اهم النشاطات.إذ أصبحت مقارنة بدولة القرن التاسع عشر الليبرالية أكثر تدخلية من خلال وضع المخططات و التصرف الاقتصادي و الجبائي خاصة كما قامت بدور الوسيط بين مجموعات المصالح المجتمعية و خاصة بين الأجراء والمؤجرين.أما أهم إستراتيجية لها فهي دعم الاستثمار و النمو الصناعي بهدف توسيع الاقتصاد الكلي . و يلاحظ "ويترز" أن ذلك الطابع التدخلي للدولة تطورالى أن أصبحت الدولة دولة رفاه و منذ منتصف القرن العشرين تبنت أغلب الدول بما في ذلك تلك التي خضعت للاستعمار سابقا ،شكلا من أشكال دولة الرفاه.

كأمثلة تارخية على ذلك الطابع التدخلي ، كان إنشاء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة مدعوما من الحكومة الفيدرالية و حكومات الولايات و البلديات.(364) أما "التنمية" فقد تمت في ظل تدخل نشيط للدولة منذ القرن التاسع عشر حتى السنوات الستين.حيث سخرت الدولة موارد كبيرة جدا لتنمية الفلاحة و حافظة على الاستهلاك الشعبي في مستويات منخفضة نسبيا ، و الى حدود السنوات السبعين كان النظام النقدي و المالي في اليابان خاضعا للتنظيم.(365) و في علاقة بآسيا يقول الشاذلي العياري (366)"أن الرأسمالية اليابانية أو الكورية ،مثلا، ليست رأسمالية محررة من القيود بل مخططة حكوميا و قطاعيا".أما تقرير المجلس الاقتصادي و الاجتماعي بتونس ، الذي سبقت الاشارة اليه،فيلاحظ أنه ، سواء تعلق الأمر باليابان أو كوريا الجنوبية أوتيوان، فإن التصنيع يخضع لاستراتيجيات طويلة المدى على أساس سياسة متفق عليها بين القطاعات الاقتصادية و الدولة التي تشجع و تعتمد على شركات كبرى .فقد لعبت الدولة دورا أساسيا في إطار الاستراتيجيات الصناعية في بلدان جنوب شرق آسيا. وهو نفس ما قامت به ألمانيا و إيطايا . ويضيف ذلك التقرير أنه في أغلب البلدان الأوروبية كان الدور الذي لعبته الدولة في تطور المؤسسات دورا هاما قبل الحرب العالمية الثانية و خلال كامل مرحلة إعادة البناء و الى حد السنوات الستين.ففي فرنسا،مثلا،تم إنجاز إعادة البناء بالاعتماد على استرتيجيات صناعية منظمة بشكل مسبق من طرف الدولة . و من بين والوسائل التي إستعملت هناك المنح و القروض التي قدمت الى المؤسسات العمومية و الخاصة في إطار قوانين برامج التي تحدد بشكل مسبق ما تلتزم الدولة بتقديمه من أموال و ذلك الى جانب العقود التي تم وضعها بالاتفاق مع الدولة التي تلتزم بتقديم إمتيازات مالية.و يعتبر القرير أن التاريخ الاقتصادي المعاصر لأغلب البلدان الصناعية التي تعتمد على إقتصاد السوق يبين أن إعادة بناء الجهاز الانتاجي و تجاوز التخلف التكنولوجي تم تنظيمها و في نفس الوقت من طرف دولة مصدرة للأوامر و مستثمرة.(367)و يعود ذلك الوضع في ألمانيا الى القرن التاسع عشر .إذ من بين أهم عوامل تصنيعها(368) الطابع المركزي للدولة و تدخلها من خلال إعطاء التوجيهات و الأوامر و ضعف التعارض بين الرأسمالية و التدخلية.

وإذا كان لابد من تفسير للطبعة التدخلية للدولة في ظل الرأسمالية فان "ميشال بو" يقول أن تفسير ذلك الوضع بسيط.

اذ واقعيا و تاريخيا ما نسميه الرأسمالية نمت في إطار الدولة-الأمة التي تحددت بدورها في نفس الوقت الذي نشأة فيه الدولة الحديثة . وفي هذا الاطار نشأت علاقات قوية بين المنشآت في بلد ما و دولتهم ، بين الرأسماليات القوية (البريطانية و اليابانية و الأمريكية ...الج)و دولهم . و هي علاقات قوية و معقدة في نفس الوقت ، سواء تعلق الأمر بالحمائية و التبادل الحر أو العلاقات مع الشركات الكبرى ولعبة المنافسة و الدفع المعطى لبعض القطاعات الأساسية أو المتقدمة و الدعم المقدم لبعض الأنشطة في تجارتها أو توسعها العالمي.(369)و في المرحلة الاحتكارية يرتبط تدخل الدولة حسب سمير أمين (370) بعدم فاعلية تصدير البضائع و رأس المال في الحد من فاعلية قانون إتجاه معدل الربح نحو الانخفاض ، للأن التجارة تتوازن بين البلدان الرأسمالية المركزية وتصدير رأس المال يولد تدفقا عكسيا يتجه الى التفوق على التصدير نفسه.لذلك يتم إمتصاص الفائض بطرق أخرى هي التبذير الاقتصادي و الانفاق العام و تتدخل الدولة من جهتها تدخلا نشيطا لامتصاص الفائض الزائد.

الدولة التدخلية في تونس قبل التسعينات

بالنسبة لتونس يعتبر عبد الستار قريسة ، في تشخيصه لوضع الاقتصاد التونسي بين 1955 و 1957، أن تلك السنوات كانت "سنوات صعبة ، عدم ثقة الأوروبيين قي المستقبل جعلهم يهملون مصادر الانتاج مما سبب تقلصا في الانتاج و التشغيل".(371)و يعتبر مرحلة 1958-1962" فترة تركيز القواعد الضرورية و التمهيد للمستقبل :أهم إنجاز لهذه الفترة: قانون إصدار العملة الذي بمقتضاه حرر الاقتصاد التونسي من التبعية المطلقة الى الفرنك الفرنسي(قانون1958)و المتمثل في بعث البنك المركزي التونسي، هذا مع تأسيس ثلاث مصارف مالية قومية . و كذلك تواصل تدخل الحكومة بخلق مؤسسات جديدة وتأميم البعض الموجود و تنمية قدراته على الاستثمار. و قد نتج عن هذا أن المؤسسات العمومية و هي التي تسيطر الدولة على كل رؤس أموالها أو على جزء هام منها أصبحت مع نصف سنة 1962 المهيمن على قطاع المناجم و النقل و توليد و توزيع الكهرباء و كل الصناعات الثقيلة كالاسمنت و الأسمدة الكيميائية و تكرير النفط و جزء هام من المطاحن و من معامل الآجر و معامل تصبير الأغذية و الأراضي الفلاحية و صيد السماك،أي من الصعب أن نجد ناحية بما في ذلك التجارة و الخدمات كالتأمين و السياحة ليس للدولة تدخل مباشر فيها كمنتج".(372)

و رغم هذا الطابع التدخلي الكثيف للدولة في تلك المرحلة فان خليفة شاطر ، الى جانب إعتبارها مرحلة إنتقالية ، فانها كذلك تتميز بالنسبة له بليبراليتها.(373)و في إطار تأريخه للإقتصاد التونسي إعتمادا على خصائصه الأساسية يضيف أن تلك المرحلة الانتقالية الليبرالية تليها عشرية تخطيط متسلط و جماعية متسرعة و معممة 1960-1969.ثم عشيرة ليبرالية 1970-1980.في علاقة بهذه الأخيرة نجده يتسلءل :هل أنها بحكم طبيعتها تلك تعني إقامة الدولة الليبرالية و تعميم المنشأة الخاصة؟.عند الاجابة على هذا السؤال يلاحظ خليفة شاطر ،رغم أن الهادي نورية قد أنجز تقسيما للأدوار بين رأسمالية الدولة و المنشأة الخاصة،فان الدولة ظلت قوية . وفي حين كانت المنشأة الخاصة مسموحا بها في بعض القطاعات خلال "العشرية الاشتراكية" فانها قد تمتعت في العهد الليبرالي بالتشجيعات و الامتيازات لكنها رغم ذلك ظلت تحت رحمة الدولة.و يخلص خليفة شاطر من خلال ذلك الى القول : لقد كان من الصعب تأسيس الليبرالية في مجتمع بدون مستثمرين و في أغلب الأحيان دون رؤوس أموال من أجل إستثمارها.

ذلك الوضع هو الذي صنع من الدولة في تونس "فاعلا أساسيا ...في مسار التنمية" حسب عبد اللطيف الهرماسي. وعلى أساس ذلك يمكننا إعتبار أن ما يميز الطابع التدخلي للدولة في تونس في مرحلة 1956-1986 هو "تضخم" هذا الدور .فانطلاقا من 1956"وجدت (الدولة في تونس) نفسها مضطرة للتدخل المكثف في النشاط الاقتصادي بالاضافة الى الحقل الاجتماعي و التربوي و الثقافي متجاوزة بذلك دور 'حارس الليل' لهذا النشاط و متحولة الى فاعل أساسي في سيرورة التراكم و النمو".(374)وقد تجسد هذا الطابع التدخلي للدولة في مستويين :الأول يحيلنا الى تحول الدولة ذاتها الى منتج و الثاني يحيلنا الى تدخلها لتشجيع المبادرة الخاصة.

في علاقة بالمستوى الأول نجد أن القطاع الذي تشرف عليه الدولة "تبلغ مساهمته في منعطف الثمانينات 37 بالمائة من الاستثمار الاجمالي و 55 بالمائة من إستثمارات مجموع المؤسسات الصناعية و تقارب حصته من المنتوج الداخلي الخام نسبة الربع".(375) كما يشغل 22 بالمائة من مجموع الأجراء وأسهم في ثلاثة أرباح الصادرات و ثلث الواردات.و يؤكد المنصف قن (376) بالنسبة لمرحلة 1956-1960 إن الدولة في تونس قد تحولت الى فلاح وتاجر و صناعي و فندقي و ناقل و مصرفي و عون تأمين ووصل الأمر الى أن القطاع العمومي بما في ذلك الادارة يغطي 56 بالمائة من الاستثمارات الكلية و 64 بالمائة من قاعدة الأجور و 41 بالمائة من حجم التشغيل.

أما بالنسبة للمستوى الثاني من تدخل الدولة في تونس ،وبالعودة الى السنوات الأخيرة من الاستعمار الفرنسي المباشر ، نجد أنه قد تم إتخاذ إجراءات من أجل تشجيع الصناعة هذه الاجراءات أكملت و تزايدت بعد 1956. و بصفة عامة يتعلق الأمر بنصوص تشريعية تعطي إمتيازات ضريبية و مالية و أقتصادية للصناعات الجديدة .فأمر 19 سبتمبر 1946 أكمل بأوامر 18 سبتمبر 1947 و 30 مارس 1953 و 27 جوان 1954 و ذلك الى جانب قانون 10 فيفري 1958 الذي يضمن للمنشأة حجما ماليا معينا و ثبات الضرائب لمدة 15 سنة . و قانون أوت 1957 و يتضمن تسجيل المنشآت التونسية في قائمة خاصة من أجل الاستفادة من أسواق الدولة . و في الأخير أمر 1 جانفي 1948 الذي أكمل بأوامر 22 مارس 1956 و 30 مارس 1957 الذي يسمح للمنشآت بالحصول على ضمان الدولة من أجل قروض قصيرة أو متوسطة المدى الضرورية من أجل تجهيزها.(377)و ذلك الى جانب الأمر المؤرخ في 31 مارس 1956 الذي "أعطى للشركات عند حساب الباتندة خصما بنسبة 6 بالمائة من المرابيح المستثمرة لفائدة الترفيع في طاقة الانتاج أو تجديد التجهيزات".(378)في علاقة بذلك يشير المنصف قن (379)أن هناك نصوصا قانونية قدمت العديد من الميزات الى العديد من الاستثمارات في العديد من الجيهات الى درجة أن تلك الميزات إنتهت الى فقدان طابعها التشجيعي.في نفس الاطاريقول المنصف قن أن الحكومة التونسية قد شرعت إثر الاستقلال في تصنيع البلاد و لم يقتصر الأمر على توسيع الصناعات الموجودة بل قامت السلط العمويمة ،مثلما أشار الى ذلك ، كذلك عبد الستار قريسة ، بانشاء صناعات جديدة في مجال الملابس و النسيج و الخشب و الورق المقوى و عجين الورق و ميدان الطاقة...الخ.

يمكن تلخيص ذلك الطابع التدخلي للدولة في تونس بعد 1956 في قيامها بــ "وظيفة مزدوجة: تقديم الدعم المالي لأصحاب المشاريع الخاصة أي المساعدة على تقوية الركائز الاقتصادية للبورجوازية التونسية من جهة، و مبادرة الدولة ببعث مشاريع في حالة عزوف الرأسمال الخاص" و يصل ذلك الطابع التدخلي الى حد "خلق مقاولين و رجال أعمال من عدم اذ ذهبت (الدولة من خلال الشركة القومية للتمويل )الى درجة الحد من مساهمتها الأولية و التفويت فيها الى مؤسسات عمومية أو الى الخواص".(380)وقد كانت الكفة تميل الى دور الدولة كمنتج اذ "تحملت الدولة عن طريق بنوك التنمية مجمل الأعباء و قامت بمختلف مهمات الانشاء الاقتصادي ".(381)و كانت الليبرالية هي الاطار الايديولوجي لذلك الطابع التدخلي للدولة .(382)

و هو ما يؤكد أن الايديولوجيا الليبرالية تنفي تدخل الدولة نظريا و يمارسه المدافعون عنها في الواقع.

الطابع التدخلي للدولة في تونس الذي بدأ منذ 1956نجده يتعمق مع "الأفاق العشرية للتنمية 1962-1971" التي أعتبرت أن حل أزمة الاستثمار في تونس لن يتم الا من خلال "تدخل مكثف للدولة في النشاط الاقتصادي".(383)و يلاحظ المنصف قن أنه في ذلك الاطار قد تم إتخاذ إجراءات مؤسسية هامة تهدف الى توسيع و تدعيم القطاع العام و خلق قطاع تعاضدي من لاشيء تقريبا. وهو القطاع الذي نمى دوره سريعا و ذلك الى جانب الحد من القطاع الخاص.(384)

و بالاعتماد على عبد اللطيف الهرماسي نجد أن "الأفاق العشرية للتنمية 1962-1971" تحدد" ثلاثة مستويات من تدخل الدولة :

- بصفتها مهندسا للتنمية في القطاعات التي تمثل أساس الصناعة التونسية

- بصفتها طرفا مشاركا مع الراساميل الخاصة لانشاء صناعات جديدة .

- بصفتها سلطة لكبح بعض الاستثمارات و تشجيع البعض الأخر عن طريق التشجيع و الجباية و القروض".(385)و يذهب المنصف قن الى أن سيرورة التصنيع شهدت دفعا كبيرا إنطلاقا من تبني سياسة التخطيط في بداية الستينات و ذلك بمبادرة من الدولة التي أنجزت وحدات كبيرة تهدف الى استغلال الموارد الطبيعية .(386)و في إطار ذلك تم بعث مصنع للصلب ووحدة لتكرير النفط و مصنع للحلفاء ...الخ ولم يمنع ذلك الدور الرئيسي للدولة الحفاظ على الملكية الخاصة مع إعطائها وظيفة إجتماعية.وهي الوظيفة الي تذكرنا بالاشتراكية الديموقراطية و الفوردية و "النيوديل" و العقد الاجتماعي لما بعد الحرب الثانية في أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية .

في كشف حساب رقمي نجد أن الطابع التدخلي للدولة في تونس بين 1962 و 1971 قد تجسد في إنجازها لثلثي الاستثمارات ،و قطاعيا أنجزت المؤسسات العمومية حوالي 76 بالمائة من الاستثمارات في القطاع الصناعي و ذلك خلال ثلاثة مخططات. و حسب المنصف قن فان الأساسي من الاستثمارات في المرحلة 1962-1971 و هو ما يمثل 68 بالمائة قد تم إنجازه من طرف القطاع العام (الادارة و المؤسسات العمومية)و تجاوز في بعض الأحيان ضعف الاستثمار المنجز من طرف القطاع الخاص، وحتى أكثر ثلاث مرات ،تقريبا مما أنجزه هذا الأخير.(387)و يرجع عبد الستار قريسة النتائج الهزيلة للاقتصاد التونسي في مرحلة 1962-1971 الى ثلاثة أسباب منها "سيطرةالقطاع العام على الاستثمارات ،يظهر هذا في أن زيادة على 70 بالمائة من مجموع الاستثمارات التي وقعت في هذه العشيرية قام بها القطاع العام و أن 60 بالمائة من إستثمارات الشركات قامت بها شركات عمومية".(388)

أما السبعينات،وقد قامت على أساس تصفية بعض العناصر التي جسدت التدخل "الضخم" للدولة في الحياة الاقتصادية "، اذ "رأت الحكومة في التحسن الحاصل خلال السنوات 1970-1972 حافزا هاما لمواصلة تحرير الاقتصاد و العمل على تشجيع المادرة الخاصة"حسب عبد الستار قريسة.(389) فقد شهدت السبعينات إعادة تنظيم دور الدولة و محاولة إعادة توزيع الأدوار بين رأس المال المحلي و الأجنبي من جهة و الدولة من جهة أخرى .فأصبح على الدولة "التدخل كلما حصل تقصير أو وجب ضرب المثل لدفع قطاع جديد ...على أن ما للدولة من وظيفة كبيرة لا ينفي أن للأفراد أيضا دورا" حسب ما ذهب اليه الهادي نويرة .(390)

و كانت النتيجة أن الدولة "عملت على خلق باعثين و مقاولين من العدم".(391)و كانت مساهمة القطاع الخاص 22بالمائة في الستينات وأصبحت 41 بالمائة في السبعينات. وهذا يعني أن 59 بالمائة هي نسبة مساهمة الدولة في الاستثمار الصناعي خلال السبعينات.(392)و يقول لنا الشاذلي العياري أنه " بحلول عقد السبعينات ، وإثر الهزة التي عرفتها تونس في أيلول/سبتمبر 1969 أعطى 'ميثلق الرقي' الذي أعتمد أنذلك كفلسفة سياسية و تنموية- دورا متميزا للقطاع الخاص كما سن من القوانين و الاجراءات و الاصلاحات ما ساعد ذلك القطاع الخاص على القيام بدور مهم في إقتصاد البلاد". ويضيف الشادلي العياري الى أنه "و دون الخوض هنا فيما أفرزته حقبة السبعينات من نتائج إقتصادية و اجتماعية و سياسية متباينة نؤكد ما جاءت به الأرقام:أن دور الدولة و القطاع العام لم يتقلص في ظل التحررية المعتمدة أنذاك بل أن نسبة تدخلات الدولة في الاقتصاد الوطني (الادارة المركزية و حسب) إرتفعت من 23،3 بالمائة من الانتاج القومي الخام سنة 1972 الى 34 بالمائة سنة 1981، وهي باستثناء مصر (34 بالمائة) أعلى نسبة سجلت في الوطن العربي ، وهي كذلك نسبة تفوق بكثير المعدلات المحققة في مجموعة البلدان ذات الدخل السنوي المتوسط مثل تونس".(393) و يعني ذلك أن "الدولة بقيت (خلال السبعينات) المستثمر الرئيسي رغم التراجع النسبي في مساهمتها " حسب عبد اللطيف الهرماسي الذي يظيف الى ذلك أن القطاع الخاص بقى "رغم نموه النسبي عاجزا" كما أن عملية التراكم "تقتضي تدخلا مكثفا من الدولة".(394)و قد ساعد على ذلك مداخيل النفط التي تضاعفت 20 مرة بين1971 و 1981.تلك المداخيل جعلت الدولة في وضع مريح ماليا وسمحت لها بالقيام باستثمارات هامة و إعطاء التشجيعات الضرورية للاستثمارات الخاصة. وهي التشجيعات التي جعلت السبعينات العصر الذهبي للقطاع الخاص.(395)حيث تراكمت ثروات كبيرة مدعومة بمساهمة النظام البنكي و ميزات و تشجيعات مقدمة من طرف الدولة و إحتكار السوق الدخلية.(396)و رغم ذلك ، ومثلما سبقت الاشارة فأن الدولة ، رغم تقلص مساهمتها ،إحتفظت بدورها المهيمن في عملية التراكم و التنمية" حسب عبد اللطيف الهرماسي.(397)

يتواصل الأمر ذاته حتى منتصف الثمانينات.فحسب الشادلي العياري "تؤكد الفترة ما بين 1980و1986 التي لم تتنكر لمنهج التحررية المنحى نفسه.فمثلا تطورت تدخلات ميزانية الدولة في الشؤون الاقتصادية و الخدمات من 310 ملايين دينار سنة 1980 الى 665 مليون دينار سنة 1986.أي بنسبة تفوق الضعفين . وزاد بند "شؤون إقتصادية و خدمات أخرى" من 59 مليون دينار سنة 1980 الى 221 مليون دينار سنة 1986أي بما يقارب 280 بالمائة من ميزانية الدولة".(398)

و نتأكد من ذلك بالنسبة لكامل المرحلة 1956-1986 من خلال القطاع الفلاحي و الدور الذي قام به القطاع العام فيه.فالى جانب شساعة المستغلات التي يراقبها و المساحات العمومية السقوية التي يتصرف فيها ، فان ثلثي الاستثمارات الفلاحية قد تم إنجازها من طرفه.(399)كما نتأكد منه من خلال وثيقة تقييمية لبرنامج الاصلاح الهيكلي صادرة عن المجلس الاقتصادي و الاجتماعي .حيث تضمن أحد الجداول أن مساهمة القطاع العمومي في الاستثمارات كانت بين 1984 و 1985 55 بالمائة و 56،1 بالمائة سنة 1986 و 55 بالمائة سنة 1987 و 49،6 سنة 1989.(400) هذه النسب تظل مرتفعة ، رغم بداية تراجعها،و تعبر في جميع الحالات عن تواصل الطابع التدخلي للدولة في الثمانينات.و تتواصل تلك الخاصية مترافقة مع قطاع خاص يبقى ضعيفا و يتميز بخوفه من المخاطرة.(401)و لا يختلف عن ذلك ما يذهب اليه عبد اللطيف الهرماسي.فرغم برنامج الاصلاح الهيكلي و سيادة الخطاب الليبرالي ، ورغم أن تونس قد حددت الطريق الذي يجب إتباعه ، من خلال عملها منذ منتصف الثمانينات على إقامة إقتصاد سوق متوازن يقوده القطاع الخاص،رغم كل ذلك ، فان نصيب رأس المال الخاص "في تكوين رأس المال مازال دون نصيب الدولة بكثير ...الأمر الذي يرشح الدولة للاستمرار في تحمل دور رئيسي في التنمية".(402)التأكيد على ذلك لا يمنعنا من القول أنه ،وبحكم أهداف و محتوى برنامج الاصلاح الهيكلي ،يمكننا إنطلاقا من النصف الثاني من الثمانينات التأريخ لبداية "تراجع دور الدولة الاقتصادي".

في هذا الاطار يعتبر عبد الستار قريسة أن التطورات السلبية للاقتصاد التونسي سنوات 1982-1985 قد " جعلت تبني برنامجا للاصلاح الاقتصادي أمرا ضروري، وهو ما تم فعلا في سنة 1986،و إجراءات هذا الاصلاح تهدف أساسا للحد من تدخل الدولة المباشر وغير المباشر في الحياة الاقتصادية".(403) و كان من مظاهر ذلك "الحد" برنامج الخوصصة و التشجيعات التي قدمت للقطاع الخاص حتى يقدم على شراء المؤسسات المخوصصة .فقد تظمنت القوانين الاطارية الصادرة في 1987 و التي روجعت سنة 1989، الاعفاء من الضرائب لمدة خمس سنوات و الاعفاء من الضرائب على 80 بالمائة من المداخيل أو الأرباح المستثمرة و إعاة جدولة ديون الدولة لدى المؤسسات المخوصصة أو التخلي الجزئي عنها.(404)و هو ما يتم التأكيد عليه من طرف المنجي طرشونة إذ يقول "في هذا الاطار العام ...وضعت الحكومة التونسية منذ 1987 برنامجا لاعادة هيكلة الاقتصاد ينبني على التخفيف من تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي و تشجيع المبادرة الخاصة و على تدعيم وظيفة السوق".(405)

في مواجهة أزمة الثمانينات تبنت الدولة في تونس "بالاتفاق" مع صندوق النقد الدولي ما عرف ببرنامج الاصلاح الهيكلي الذي شرع في تطبيقه سنة 1986.هذا البرنامج يتضمن مستويين .مستوى قصير المدى و الثاني متوسط المدى.

يتعلق الأول بنسبة الصرف حيث إرتفعت قيمة الدينار بنسبة 11 بالمائة بالحدود الواقعية في علاقة بعملات البلدان المتوسطية المنافسة لتونس . وقد حصل ذلك خلال سنوات 1980-1985 لذلك تم تخفيض قيمة الدينار بـ 10 بالمائة في 19 أوت 1986. و بالتوازي مع ذلك حصل تخفيض غير معلن .فكان التخفيض في النهاية حوالي 40بالمائة.كما تم إعتماد قانون مالية إضافي تضمن الترفيع في بعض الأداءات و إدماج موارد الصناديق الخاصة للخزينة في ميزانية الدولة وضغط نفقات التصرف . كما تضمن المستوى القصير المدى الالتجاء الى الاقتراض الداخلي ،و هو إجراء لم يتم الالتجاء إليه منذ مدة بعيدة. و وضع برنامج لتعبئة الموارد الخارجية بشروط فيها تنازلات.

أما المحور الثاني من البرنامج فيتضمن إجراءات ذات طبيعة "هيكلية" تهدف الى إعادة توجيه الاقتصاد نحو التصدير ة باتجاه فاعلية أحسن.هذه الاجراءات تتمفصل حول إتباع تشجيعات في مستوى الاقتراض و الضرائب و التشجيعات الخاصة للأنشطة التصديرية للمنتوجات غير الطاقية . وذلك الى جانب إتخاذ مجموعة من الاجراءات التي تهدف الى تحرير الواردات على مراحل حتى سنة 1991 و الحد من الحمائية الفعلية للصناعات، كالتخفيض من المعاليم الديوانية و تحرير الاسعار من أجل دفع المنافسة في السوق الداخلية و نزع الصعوبات أمام الاستثمار و تخفيف التمشيات الضرورية للموافقة عليه .و ذلك الى جانب القيام بعملية خوصصة تدريجية للاقتصاد من خلال السماح للقطاع الخاص بلعب دور أكثر ديناميكية ، الى حد إمكانية الحلول محل القطاع العام في مجال الانتاج و الوزيع.

في الأخير تضمن المستوى المتوسط المدى ضرورة الحد من الاستهلاك من خلال سياسة للأجور تربط هذه الأخيرة بالانتاجية و المحافظة على قدرات الدولة على الادخار من خلال التخفيض من مصاريف الميزانية و الحد من تدخل صندوق التعويض. و الى جانب ذلك تشجيع الادخار من خلال تطبيق نسبة فائدة إيجابية بالحدود الواقعية.و كل ذلك يهدف للمحافظة على التوازنات المالية.(406)

و حسب المجلس الاقتصادي و الاجتماعي ، كان من بين نتائج برنامج الاصلاح الهيكلي:

- تخفيض هام من نسبة العجز الصافي للميزانية وذلك من خلال التخفيض المهول لنمو النفقات العمومية و خاصة في مستوى الاستثمارات العمومية.

- تراجع كبير في إستثمارات المؤسسات العمومية و على المستوى الهيكلي فان النتائج غير مشجعة، وفي جميع الحالات قليلة التطابق مع النتائج المنتظرة من طرف الفلسفة الاقتصادية لبرنامج الاصلاح الهيكلي.(407)

و يعني ذلك ،أخذين بعين الاعتبار كون المخطط السابع ،1987-1991،يشكل عمليا في توجهاته الأساسية ،برنامج إعادة هيكلة متوسط المدى للبلاد،مثلما يذهب الى ذلك المنصف قن.(408) يعني ذلك أنه " في بلادنا و بعد 25 سنة من تشجيع القطاع الخاص ، لم يتحقق التطور المنتظر،لأن القطاع الخاص إتجه نحو القطاعات الهامشية و لم يتحمل دورا يذكر في الاستثمار .و الاتجاه يسير الأن (1996) نحو خلق إقتصاد خدمات تحويلي و مهمش و سوق إستهلاك لا إقتصاد خلق ثروة" حسب جمال الدين الزيادي .(409 )

في أعقاب كل ذلك ، وعلى أساسه نخلص الى تأكيد الطابع الطوباوي للنظرية الليبرالية الجديدة و فوضويتها و مجافاتها للواقع التاريخي للدولة في علاقتها بالاقتصاد.حيث أنها كانت في ظل الرأسمالية عامة ، وفي تونس خاصة ، إنطلاقا من 1956 الى بداية التسعينات، ذات طبيعة تدخلية . وما يختلف من مرحلة الى أخرى ، ومن بلد الى آخر ،هو مدى التدخل و حدته و أسبابه و دواعيه و أشكاله.

فهل يختلف واقع الدولة في ظل ما يسمى العولمة عن تاريخها ذلك؟أي هل توقفت الدولة عامة و في تونس خاصة عن أن تكون تدخلية في ظل العولمة؟.

و بالتالي فان السؤال الاساسي، عند تناول مسألة إنعكاسات العولمة على الدور الاقتصادي للدولة هو:

هل إنتهى الطابع التدخلي للدولة في ظل العولمة؟.

واقع الدولة التدخلية في ظل العولمةعامة و في تونس خاصة

من خلال موجز تاريخ تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي نتبين أن ذلك الطابع التدخلي لها كان دافعه الأساسي خدمة رأس المال ، سواء من خلال توفير الشروط العامة لإعادة الإنتاج أو تجاوز صعوبات تحقيق فائض القيمة أو كذلك لعجز رأس المال على القيام بدوره في عملية التراكم ذاتها.

على أساس ذلك يمكننا ، في علاقة بواقع الدولة و دورها الاقتصادي في ظل العولمة ،إفتراض أنه لا وجود ،مثلما يتم الترويج له و بكثافة، لتراجع في دور الدولة الاقتصادي في ظل العولمة .إنما هناك إعادة تنظيم و توجيه لذلك الدور في إطار تواصل الطابع التدخلي للدولة.أي أننا نفترض أن العولمة لا تؤدي الى إلغاء الطابع التدخلي للدولة بل هي تحل شكلا من التدخل محل شكل أخر.لأن تدخلها يعني أنها تقوم بدور في خدمة رأس المال و هي تواصل القيام بذلك الدور في ظل العولمة كذلك.

-أ- واقع الدولة التدخلية في ظل العولمة

إذا كانت الدولة تتدخل قبل العولمة لمصلحة رأس المال فان "تراجع" دورها الاقتصادي يتم كذلك لمصلحة رأس المال. و هي بالتالي و في الحالتين تدخلية.و قول ذلك لا يعني عدم الأخذ بعين الاعتبار التراجع الفعلي لدور الدولةالاقتصادي .فقد تخلت الدولة بالفعل عن سلطتها في فرض الضرائب على منتوجات المضاربة المالية و أرباح إستثمارات الشركات الكبيرة ،كما أن هامش مناورتها قد تراجع إذ أصبحت غير قادرة على تحديد سعر عملتها في علاقة بالعملات الأجنبية، كما قامت الدولة بالتخلي عن تحديد نسب الفائدة و قامت بخوصصة المنشأة العمومية...الخ. وذلك "التراجع"لا ينفي تواصل تدخلها في ظل العولمة.

فالدولة مازالت مدعوة للتدخل في المجالات التالية: (410)

- أولا في مستوى نواقص الأسواق ، بمفردات العرض و الطلب ، وهو ما يدفع السلطات العمومية الى كبح اللعبة العادية للمنافسة.

- في مستوى إنهيارات لعبة السوق.

- في مستوى إعادة البناء الصناعي للمنطق ، الذي يقود الى مفهوم الميزة المبنية.

و السياسات ذات الالهام الليبرالي هي التي تتطلب ذلك التدخل فهي تقوم أساساعلى النقاط التالية: (411)

- أسبقية السوق كمبدأ لوزيع المواد. وهو ما ينتج عنه أن تدخل الدولة داخل كل بلد يكون مقصورا على حماية المنافسة و بالتالي فان سياسات التنشيط كما السياسات القطاعية يجب تركها لأنها مكلفة و غير فعالة.هذا الى جانب أن السياسة النقدية يتم ردها الى مراقبة نمو الكتلة النقدية.

-و على المستوى العالمي يتم الدفاع عن التبادل الحر و تحديد أسعار صرف العملات بواسطة السوق.

و ما ينتج عن ذلك من إختلالات إقتصادية و إجتماعية و سياسية هو الذي يستدعي تدخل الدولة.

و حسب "برتران بلون"، تقليديا كانت السياسة الصناعية ، مثلا،(412) تتوجه الى أستثارة الأنشطة الواعدة و بعث برامج وطنية و دعم الصناعات المنهارة.لكن و منذ بعض السنوات هذه الممارسات تراجعت بالنسبة الى ممارسات ذات طبيعة أكثر أفقية تبحث عن تحسين أليات السوق و إستثارة المزيد من المبادرة في إطار تلك الآليات. و يتضمن ذلك إعادة توجيه الدعم و المساندة من الاستثمارات المادية الى الاستثمارات غير المادية و تحرير الأسعار و المنافسة و إعادة هيكلة الصناعات المؤممة و الخوصصة الجزئية. و يترافق كل ذلك بإجراءات تنظيمية و سياسات المواصفات و البحث و التنمية .فالمجهود أصبح يتجه الى مرافقة المبادرات الصناعية أكثر من إتجاهه الى المبادارات ذاتها . وقد نتج عن ذلك ، مثلا، تراجع الدعم الذي لم يعد يمثل إلأ جزءا ضعيفا من الوسائل المستعملة.لكن هناك أنواع متنامية من الوسلئل الأخرى المالية مثل المساعدات الجبائية و غير المالية مثل المواصفات و الاستشارة . الى كل ذلك يضيف "برتران بلون" أن كل هيئة عمومية تملك ميزانية أو قدرة على التنظيم تستعمل اليوم جزءا متزايدا من مواردها للتأثير على ديناميات الانتاج. و بهذا المعنى فان كل هيئة عمومية تمثيلية تساهم في الساسة الصناعية و تولد في نفس الوقت سيرورة تنافس داخل الدولة و بين الدول.و تتميز منهاج الممارسة بخصوصيات قومية داخل بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية،مثلا، حيث نجد بلدانا أو مجموعة بلدان تستعمل أساسا و قبل كل شيء البرامج الكبيرة (البرنامج النووي،ت-ج-ف، أريان ،أرباص).في حين أن البعض الأخر ، وفي بعض الأحيان نفس البلدان ، تعتمد على كثافة نفقاتها العسكرية (الولايات المتحدة الأمريكية ، بريطانيا، فرنسا). و البعض الآخر يمارس السياسة الصناعية بواسطة التفويض من خلال التفاوض و تبادل الأراء(ألمانيا و اليابان).

و لكن و رغم هذه الخصوصيات فان هناك إتجاه الى التقاطع .حيث أن الهيئات المركزية تحافظ على الاجراءات الأكثر عمومية و تستعمل أكثر فأكثر الوسائل غير المباشرة مثل تخفيض الضرائب و تقوم بتحويل تطبيق القرارات الى الهيئات القريبة من المنشآت التي تستعمل أكثر فأكثر التدخلات المباشرة.

و في إطار إعادة تنظيم وتوجيه دور الدولة الاقتصادي يمكننا وضع الخصائص العامة للسياسات الصناعية المتبعة من طرف البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية حيث أنها:

- سياسة قائمة على السوق الذي يشكل مركز السلوكات العمومية . و يتعلق الأمر بتسهيل خلق المعلومة و معالجتها و حركتها و تنظيمها. و هو ما يسمح بالمنافسة من خلال سلوكات للعرض و الطلب مشوهة أقل ما يمكن.

- سياسة مرتبطة بكل السياسات العمومية الأخرى : مراقبة التوازنات الاقتصادية الكبرى و بناء و صيانة البنية التحتية و تيسير السياسات التجارية و إجراءات سياسات التربية و التكنولوجيا.

- سياسة في نفس الوقت بنيوية و إتباعية.

هذه التوجهات الثلاث الكبرى هي التي تحدد السياسة الصناعية في تلك البلدان في ظل العولمة. و يصل "بلون" (413)من خلال ذلك الى اعتبار أن الدولة تحافظ على مسؤولياتها و أهدافها الخاصة و ميادين إختصاصها ، لكن ممارستها تتم في ميدان مشترك و في إطار شراكة مع الفاعلين الآخرين ،و خاصة المنشآت. و بعد تحليل الخصائص الجديدة للعلاقات القائمة بين الدولة و المنشآت ، و هي علاقات أصبحت قائمة بالنسبة له، على تمفصل للأنساق التراتبية و الأنساق الشبكية ، بعد ذلك ، يصل الى القول أن لاشيء يسمح باعتبار أن سيادة إقتصاد السوق ينتج عنه ضرورة دولة الحد الأدنى .فالواقع يتضمن على العكس من ذلك ثلاثة نماذج من التطورات المتساوية هي :

- من جهة بعض الوظائف العمومية تم تعويظها شيئا فشيئا من طرف المبادرة الخاصة .

- و من جهة أخرى على الدولة أن تحافظ و تنمي تدخلها في ميادين و حسب أهداف لازالت تتمتع بالشرعية (المصلحة العامة ، نواقص السوق ، ثبات و حماية الأنساق ، تحسين القدرة التنافسية ، المشاريع الكبرى).

- أخيرا ، يجب على الدولة أن تكرس نفسها لوظائف جديدة .يجب عليها إكتشاف و تبني سلوكات جديدة مؤدية الى أشكال من التعاون مع المنشأة في ميادين و بخصوص أهداف مجددة.

و هو ما يجعل الدولة ليس فقط ضامن القدرة التنافسية بل عليها كذلك التحكم في الاتجاه و ضمان أخذ حدوده بعين الاعتبار.و على أساس ذلك فان القرارات العمومية يمكنها مثلما يذهب الى ذلك "أنتجي برميستار"(414) تعديل وظيفة الانتاج للعون الخاص من خلال تقديم الخدمات العمومية ،مثلا،و شروط الطلب من خلال الشرءات العمومية خاصة،و الشروط التكنولوجية و البنية التحتية مثلا،و الشروط المالية للمردويدة الخاصة و الدعم و التشجيعات الجبائية مثلا،كذلك من خلال دور الدولة كضامن لدوام و تواصل المجتمع.و بالعودة الى "برتران بلون" و بعد إستعرضه لتواصل الطابع التدخلي للدولة في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية من خلال السياسات الصناعية نجده يتساءل : ماذا نلاحظ قبل كل شيء في ميدان الممارسات العمومية داخل الحقل الصناعي؟.و في الاجابة على ذلك السؤال يقول: يفاجؤنا هنا المستوى العالي للالتزام و التنوع الكبير جدا للتدخلات العمومية مهما كانت الدولة المأخوذة بعين الاعتبار.(415)و في علاقة بنفس الموضوع يعتبر "كريستيان مللي" أن السياسة الصناعية تجمع مختلف وسائل التدخل العمومي في الميدان الصناعي . و هي بحكم كونها كذلك إحتلت دائما مكانة خاصة في علاقة بدور الدولة الاقتصادي. وفي بعض الظروف التاريخية شكلت تلك السياسات رافعة قوية للتنمية الاقتصادية الوطنية. و هي تبقى الأن في ظل العولمة شديدة الارتباط بممارسة السيادة الوطنية على عكس السياسة التجارية و النقدية.و من خلال تحليل السياسات الصناعية المتبعة في بعض بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية ، من خلال برامج المساعدات الصناعية ، يصل الى إعتبار أنه رغم إختلاف الطرق و الأشكال فالاتجاه ليس نحو تراجع دور الدولة .(416)

الى جانب تواصل الطابع التدخلي للدولة من خلال السياسات الصناعية ، يمكننا تبين تواصل ذلك الطابع من خلال علاقة الدولة بسوق العمل.

و في هذا الاطار يسعفنا "قاي كيير"(417) إذ بالنسبة له ، وإذا قمنا بتعريف السوق كمكان للمواجهة بين عرض و طاب يحدد إلتقاؤهما سعرا و كمية متبادلة ، فاننا من خلال ذلك نتبين بشكل سريع أنه ليس هناك أي من هذه المتغيرات لا يشمله تدخل الدولة ، إذا تعلق الأمر بسوق العمل:

- العرض بحكم أن كل تشريع متعلق بالعمل يهدف الى تحديد شروط إستعماله من خلال تحديد شروط القبول بالنسبة للمستثمر( التشريع المتعلق بالنساء و الاطفال و كبار السن و المهاجرين)و ذلك الى جانب وقت العمل و تجاوزاته الممكنة.

- الطلب ، هنا كذلك يحدد تشريع العمل طرق الانتداب و أشكال العقود و الالتزامات التي يجب إحترامها و الاحتياطات الي يجب إتخاها من أجل تأطير تقديم العمل (فترة تجريب في البداية ،إعلام مسبق عند وضع حد للانتداب).

- السعر ، و ذلك من خلال تحديد الأجر الأدني مباشرة أو بطريقة غير مباشرة من خلال مختلف التحويلات.

الكميات المتبادلة، بحكم ،مثلا، أن السياسات ذات الالهام الكينزي يمكنها أن تحاول التأثير على التوازنات العفوية للسوق ، سواء إعتبرت هذه الأخيرة كافية أو على العكس مبالغ فيها.

و من مظاهر تدخل الدولة في سوق الشغل ، كذلك ،قضية عدم إنتقالية قوة العمل عالميا أي تدويل سوق قوة العمل الذي من المفروض أن يكون المكمل "الطبيعي" لتدويل سوق رأس المال. لكن الواقع "المعولم" هو غير ذلك.و الدولة أو الدول هي الفاعل الأساسي في منع عملية التدويل تلك ، أي في منع إنتقالية قوة العمل عالميا.(418)بالاضافة الى ذلك تنتظر الأسواق المالية من الدول أن تتبنى سياساتها و مصالحها. و يمكنها القيام بذلك بالاعتماد على أربع طرق هي : (419)

- رفع قيمة أرباح البورصة، و ضرائب محدودةعلى القيمة المضافة.

- خوصصة المصالح العمومية من أجل توفير فرص جديدة للاستثمار و من خلال تحويل قسم من الادخار العمومي الى البورصة.

- تحويل الرأسمال الاجتماعي الى رأس مال خاص و ذلك من خلال نظام خاص للتأمين و تقاعد.

- سياسة تدعم مرونة العمل.

و هو ما قامت و تقوم به كل الدول تقريبا.وهو ما يعطي معنى لما يقوله "جون غراي" إذ يرى أن إقتصاد السوق كان دائما خيارا تفرضه قوة الدولة .و يعلق بشير موسى نافع على ذلك بقوله أن الموجة الجديدة لاقتصاد السوق التي أخذ العالم يشهدها منذ مطلع الثمانينات، هي نتاج تدخل مباشر من الدولة في العملية الاقتصادية.(420)

وقد إستخدمت قوة الدولة التشريعية لتحطيم نقابات العمال و فتح المجال لتوسع و نفوذ و يسطرة المؤسسات الاقتصادية و الشركات الاحتكارية . وبالاعتماد على قوة الدولة و سيطرتها قدمت القطاعات الاقتصادية العامة بأرخص الأثمان لكبار الرأسماليين.بما في ذلك القطاعات ذات الطابع الاحتكاري مثل الماء و الكهرباء و خطوط المواصلات.الى ذلك يضيف سمير أمين (421)أن اليابان و الولايات المتحدة الأمريكية ليستا ،بشكل بسيط، فضاءات جغرافية جزءا من الاقتصاد العالمي الذي يتم بناءه ، إنهما و ستبقيان إقتصادان قوميان . و هنا بالضبط تعمل الدولتان على المحافظة على بناهما القومية مستفيدتان في نفس الوقت من بناء الاقتصاد العالمي كشريكين قويين.و في نفس الوقت الذي يؤكد فيه أن ذلك يمثل معركة طليعية بالنسبة للسنوات العشرين القادمة ، يتساءل من يمكنه نفي الأهمية المصيرية للاختيارات القومية التالية : في مستوى تمويل البحث و التنمية (مدنيا و عسكريا) وأنظمة التكوين الملائمة الى جانب الحمائية الفعلية للزراعة من خلال الدعم و في مستوى الموارد المنجمية و النفطية، سياسة ما يسمى بالاحتياطات الاستراتيجية.بالنسبة للبحث و التنمية ، مثلا،نجد الدولة هي الممول الأساسي لذا النشاط حيث أن الانفاق على البحث و التنمية في ألمانيا يمثل 2،8 بالمائة من النتاج المحلي الاجمالي أي 37،2 مليار دولار يسهم المال العام فيها بنسبة 37 بالمائة و الصناعات المختلفة بنسبة 60،2 بالمائة . وهذا الوزيع في اليابان هو 21،8 بالمائة و 68،2 بالمائة على التوالي و في الولايات المتحدة الأمريكية 39،2 بالمائة و 58،7 بالمائة .(422)

و يعني ذلك من وجهة نظر "ميشال بو" أنه في المرحلة الحالية و من الولايات المتحدة الى كوريا و اليابان و ألمانيا و فرنسا و البرازيل ، يظل دور الدولة الاقتصادي أساسيا رغم إختلاف الكيفيات و القطاعات. فما يسميه الرأسمالية التكنولوجية ، التي تقوم على التحالف و التداخل و الارتباط بين العلم و التقنية ، و بحكم ضخامة الاستثمارات و كبر حجم الشركات الذي تتطلبه التكنولوجا الأم (الاعلامية و الاتصال و البيوتكنولوجا و خاصة الهندسة الوراثية و علوم المادة...الخ)و فضاءات التقاطع بينها ، لكل ذلك ، فان الشركات الكبيرة جدا المرتبطة بأشكال متعددة بدول قوية ، هي وحدها القادرة على تعبأة و توجيه "التكنو-علم و التي فيها تتصور و تنجز وتشغل الأنظمة التقنية و مختلف البضائع المرتبطة بها.(423)

و رغم ذلك نجد أن معارضة الدولة بالسوق موضة رائجة اليوم.(424) و هي معارضة غير سليمة الأسس و تحملنا في الواقع و بصفة عامة لا الى حقيقة الاشتغالات المجتمعية ، لكن، فقط الى أساطير الاقتصاديين التي تم صنعها رويدا رويدا. و عدم سلامة أسس هذه المعارضة هو الذي يكشف لنا طابعها الايديولوجي.فما يحصل بالفعل ، مثلما يذهب الى ذلك "جون بيار فوجار"(425)هو أن تحولات أنماط تدخل الدولة في الاقتصادات المتقدمة،مثلا، تدخل في إطار حركة إعادة بناء الاقتصاد العالمي و لكنها لا تلغيه كليا . و هي إعادة نظر تتم ، بالنسبة له، على أساس تحرير المبادلات التجارية و تدفقات رؤوس الأموال.ذلك التحرير لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يلغي تدخل الدولة في الاقتصاد .لأن تاريخها في جانب منه بالنسبة "لإقتصاد السوق"هو تاريخ تدخلها في الاقتصاد . و المسألة كانت مقبولة من طرف كل منظري "إقتصاد السوق" منذ ظهور ذلك التنظير مع المركنتليين الى الفيزيوقراطيين الى الكلاسيكيين. و أذا كان الأمر كذلك فان ما يحصل بالفعل ليس إلغاء تدخل الدولة في الاقتصاد كليا ، مثلما سبقت الاشارة الى ذلك، إنما هي إعادة نظر في شكل معين من التدخل هو ذلك الذي إرتبط بدولة الرفاه في "الشمال" و دولة "العمال" في "الشرق" و دولة "التنمية " في "الجنوب". و هو تدخل كان نتاج أوضاع إقتصادية-إجتماعية نتبين الأن أنها كانت مرحلية و لا تتمتع بصفة الدوام و الاستمرارية، مثلما صورت في حينها.إنه تدخل إرتبط بأزمة التراكم و صعوبات تحقيق فائض القيمة في البلدان الامبريالية، وصعوبات التراكم في الشرق و الجنوب، وذلك الى جانب إحتداد الجدلية المجتمعية خاصة في "الشمال" و "الجنوب" و في إطار النظام العالمي عامة.لا تلغي العولمة الطابع التدخلي للدولة في المطلق إنما شكل تاريخي له.

تأكيدا لتواصل ذلك الطابع التدخلي للدولة ، رغم العولمة، و في إطار نقده للتصورات القائلة بنهاية الدولة-الأمة و تبيان طابعها الايديولوجي، يقول سامي نير (426)أن مثال الولايات المتحدة الأمريكية يبن ، على العكس من ذلك،و اليوم أكثر من أي يوم مضى، أن الاستراتيجيات الاقتصادية تعتمد من بين ما تعتمد علية ، على الموارد الاستراتيجية الشاملة (العسكرية و السياسية) لتلك البلاد.و في نفس الاطار و بالارتباط مع البحث في طبيعة العلاقة بين النخبة السياسية و النخبة الاقتصادية يطرح سامي نير الأسئلة التالية:

هل أن الدولة الأمريكة لا تراقب التدفقات الاقتصادية التي تمس أراضيها؟ هل أن نخبها السياسية ليس لها أي تأثير على نشاط النخب الاقتصادية ؟.

رد على ذلك يقول أنه إذا كان من الغير الممكن الاجابة بشكل قاطع ، فانه من الضروري في مقابل ذلك التأكيد على التداخل الفعلي بين القادة السياسيين و رؤساء الشركات الكبرى و البنوك و المؤسسات المالية ذات الأصل الأمريكي .و في إطار التأكيد على ذلك يستشهد سامي نير ب "فيليبس" الذي يتحدث عن تعاون غير مسبوق بين واشنطن و "وول ستريت" يجعل الأسواق المالية تتمتع بمحابات غير مسبوقة من الحكومة الفيدرالية . و يلاحظ أن تحويل المنشآت من الولايات المتحدة الى الجنوب يتم بمساعدة من مؤسسات حكومية مهمتها بالضبط هي مساعدة و دعم ذلك التحويل.و يلخص الوضع في الولايات المتحدة بالقول أن النخب السايسة هناك هي أكثر من أي مكان أخر مرتبطة بتجمعات المصالح المتعددة الجنسية.

و قبل الأن وفي الولايات المتحدة ذاتها و في زمن الريغانية و الخطاب الليبرالي الفاحش بلغ الانفاق العسكري 250 مليار دولار و العجز العمومي من 5 الى 6 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.و هي قمم لم يتم بلوغها سابقا.(427)و كمثال أخير عن تواصل الطابع التدخلي للدولة في الولايات المتحدة يمككنا ذكر ما ورد في كتاب "فخ العولمة"(428).إذ لما أرادت مؤسسات "وادي السيلكون" المختصة في صناعة برامج الكمبيوتر جلب خبراء برامج من الهند قاوم خبرءا البرمجة في الولايات المتحدة ذلك و وقفت الحكومة الى جانبهم و لم تمنح تأشيرات الدخول الى الخبراء الهنود إلا نادرا. و أعلن الرئيس الأمريكي في جانفي 1999عن مجموعة من الاجراءات المالية الهادفة الى النهوض بالصادرات ،الى جانب ما يعادل المليار دولار تخوفا من إنعكاسات الأزمة الآسياوية على الاقتصاد الأمريكي.حيث سيتم تخصيص قرابة 108 مليون دولار من ميزانية سنة 2000 للنهوض بالصادرت.(429)

و الوضع لا يختلف عن ذلك في اليابان. ففي تقريره الشامل عن الاقتصاد العالمي الصادر في 30/09/1998 ربط صندوق النقد الدولي عودة النمو الى الاقتصاد الياباني ، الذي يعاني من الركود،باتخاذ الحكومة المزيد من الاجراءات لحفز الطلب

و إعادة الاستقرار الى النظام المصرفي . وأضاف التقرير "السلطات اليابانية إتخذت إجراءات في مجال الميزانية و القطاعين النقدي و المالي و مجالات هيكلية اخرى من أجل إنعاش الاقتصاد".(430) وقد كانت الحكومة اليابانية وضعت منذ ربيع 1997 خطة لإنعاش الإقتصاد قدرها 16.600 ين أي حوالي 120 مليار دولار.(431) كما صادق مجلس النواب الياباني في يوم 13/10/1998 على مشروع قانون يتعلق باصلاح البنوك في اليابان و ينص على رصد إعتمادات عمومية لفائدة المؤسسات المالية التي تشهد أزمة . ويستند ذلك المشروع الى برنامج ضخم تبلغ إعتماداتة الجملية 60 ألف ين أي 510 مليار دولار.(432) الى جانب ذلك وضع الوزير الأول في أكتوبر 1998 مخططا لتجاوز الأزمة تضمن تخفيض الضرائب بـ 49 مليار دولار و 70 مليار دولار من النفقات العمومية.(433) و أعلن بنك اليابان المركزي يوم 23/10/1998 أن الحكومة اليابانية قدمت تسهيلات إئتمانية بقيمة 25 مليار دولار لبنك اليابان للإتمانات الطويلة الأجل. وقدم القرض عن طريق مؤسسة التأمين على الودائع . وهي مؤسسة أسستها الحكومة لحماية المودعين في البنوك التجارية اليابانية من مخاطر إفلاس تلك البنوك.(434) وقد إعتبر البنك المركزي الياباني في تقريه السنوي الذي نشر في 17/12/1998 أن تراجع الاقتصاد الياباني أصبح معتدلا بفضل...إرتفاع الاستثمارات العمومية.(435) في نفس الاطار يذكر "إقناسيو رامونيه"(436)أن سلطات طوكيو قد قامت بصياغة 11 برنامجا لإعادة دفع الاقتصاد منذ 1990. وقامت بصرف أكثر من 575 مليار دولار من أجل إعادة تشغيل الألة الاقتصادية و ذلك الى جانب تخفيض الضرائب.

و نجد الواقع نفسه في بقية البلدان الصناعية السبع الكبرى. ففي إجتماع عقد يوم 03/10/1998 في واشنطن إعتبر وزراءالمالية و حكام البنوك المركزية لتلك البلدان أن توازن المخاطر للإقتصاد العالمي قد تغير و أن نسبة التضخم منخفضة في البلدان الصناعية.و أكد البيان الصادر عن ذلك الاجتماع تصميم تلك البلدان على " خلق الظروف الملائمة لقيام نمو إقتصادي يستند الى طلب داخلي قوي" و ذلك الى جانب قيام "تحرك سريع و فاعل لتحرير النظام المالي عبر إتخاذ إجراءات لدعم المصارف القابلة للعيش مثل تأمين مساعدة رسمية كافية لها ،تقدم سريعا و بشروط مناسبة".(437)

و في الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدلي و البنك العالمي في 06/10/1998 أكد حاكم البنك المركزي الفرنسي على ألا تمنع الأزمة المالية المجموعة الدولية من تقديم المساعدة اللازمة للدول المعوزة و طالب بتركيز المساعدة العامة على أولويات التنمة كتعزيز دور الدولة في توفير ظروف تنمة القطاع الخاص.(438) وبالنسبة لفرنسا ذاتها قامت الدولة هناك بتخصيص 170 مليار فرنك فرنسي ضمن ميزانية 1998لمساعة المنشآت على الانتداب.(439) كما ان "ما يعود الى الدولة في الدورة الاقتصادية بطريق مباشر أو غير مباشر مازال في سنة 1997 يمثل 50 بالمائة من مجموع المدخول القومي لتلك البلاد في ظل أقتصاد ليبرالي".(440) في ألمانيا وضعت الحكومة برنامجا عاجلا للتصدي لبطالة الشبان و يهدف ذلك البرنامج الى توفير فرص تكوين أو عمل لحوالي مائة ألف شاب الى غاية سنة 1999. وقد رصدت لذلك إعتمادات بلغت 12 مليار دولار.(441)

الى جانب كل ذلك ذكر كاتبا "فخ العولمة" (442) أن الدولة الهندية ساعدت شركات الكمبيوتر الأمريكية على الانتقال الى الهند و قدمت لهم في، عشر مناطق أنشأت لهم خصيصا كل الهياكل التحتية الضرورية إبتداء من المختبر الكبير المكيف و أنتهاء بشبكة الاتصال عبر الأقمار الصناعية بلا ثمن تقريبا. ويضيفان الى ذلك أنه عندما توافق الشركة الكورية "سامسونغ" على أستثمار مليار دولار في مصنعها الجديد في شمال أنقلترا تحصل على مائة مليون من وزارة المالية. ونفس الشيء بالنسبة لـ "مرسيدس" في علاقة بالمصنع الذي تشيده في أحد المناطق الفرنسية.حيث يتحمل دافعو الضرائب في فرنسا و في باقي الاتحاد الأوروبي ربع مجموع المبالغ المستثمرة ويؤكد الكاتبان "وهذه ليست حالة أستثنائية أبدا" .(443)

و في جنوب شرق أسيا الأزمة حملت الحكومات على تحمل أعباء الديون المتخلدة بذمة البنوك . وتجسيدا لذلك قامت الحكومة الكورية الجنوبية بتقديم 1.18 ترليون وون (975.2 مليون دولار) الى البنوك الخمسة الى آلت إليها ملكية البنوك التي أجبرت على وقف عملياتها المستقلة. ويهدف هذا الدعم الى تحسين الأوضاع المالية لهذه البنوك و لاسيما نسبة مديونيتها لتتماشى مع معايير بنك التسويات الدولية إثر تدهور تلك النسبة منذ بداية المحادثات الخاصة بتولي زمام هذه البنوك. و تتضمن البنوك التي ستحصل على تمويل حكومي كلا من "كوكمين" و بنك الاسكان و التجارة و "شبهان" و "كورام" و "هانا" (444).كما أعلن في كوريا في سبتمبر 1998 عن ثلاث عمليات إندماج بنكية منها إندماج بنك "هانيل" و بنك كوريا،الذي تضمن ضخ 3.3 مليار من الأموال الحكومية و أسفرت الإندماجات عن تحمل الحكومة للديون البنكية المعدومة(445)

كما أختارت هونغ كونغ سبيل التدخل الحكومي من خلال الشراء في بورصة الأسهم وتغيير القواعد التنظيمية للمعاملات الأجلة.أما في ماليزيا فقد طبقتت الدولة مجموعة متشددة من الضوابط التي أنهت فعليا تجارة الرنغيت خارج البلاد و صعبت على المستثمرين تحويل أرباحهم خارج البلاد.(446)

-ب- واقع الدولة التدخلية في تونس في ظل العولمة

هل يختلف الأمر عن ذلك في تونس؟ أي هل كفت الدولة في تونس عن أن تكون تدخلية في ظل العولمة؟

الموقف المتطرف الذي توقفنا عنده ، عند إنجاز موجز لتدخلات الدولة في الشأن الاقتصادي في تونس إنطلاقا من 1956، وهو متطرف في تقييمه لدور القطاع الخاص إذ "لم يتحمل دورا يذكر في الاستثمار"، إن ذلك الموقف و رغم تطرفه ، بل بسبب من ذلك التطرف، يعكس لنا واقع الدولة في تونس في منتصف التسعينات حيث تظل "فاعلا رئيسيا" كما كانت في الستينات و السبعينات و الثمانينات. وفي جميع الحالات و رغم "التراجع" النسبي لدورها الاقتصادي فانها تبقى دولة تدخلية.

نتأكد من ذلك من خلال الأهداف التي وضعت للمخطط الثامن1992/1996. فقد كان من بينها "ضمان مساهمة أفضل للقطاع الخاص في مجهود الاستثمار إذ من المتوقع أن يرتفع قسطه من 49.8 بالمائة خلال المخطط السابع الى 52.5 بالمائة في المخطط الثامن على أن تبلغ 60 بالمائة بدون إعتبار المشاريع الجارية".(447) تكشف لنا تلك النسب ، رغم تطور مساهمة القطاع الخاص ، تواصل دور الدولة الاقتصادي رغم بداية "تراجعه". وهي بداية تعود الى السبعينات. و إذا كانت الخوصصة هي، مثلما أشير الى ذلك في موقع أخر من هذا البحث، أهم أدلة تراجع دور الدولة الاقتصادي ، فانها في تراجعها ذلك تظل تدخلية.إذ تصبح من خلال الخوصصة ، والى جانب تدخلها التقليدي، تقوم بتوسيع السوق لمصلحة رأس المال المحلي و الأجنبي: "إن للأجانب المقيمين و غير المقيمين حرية الاستثمار في المشاريع المجزة في إطار هذه المجلة( مجلة الاستثمارات)".(448) و ستمثل الاستثمارات الخارجية قرابة 7 بالمائة من جملة الاستثمارات التي ستنجز بالبلاد خلال فترة المخطط التاسع مقايل 6.6 تم تسجيلها سنة 1996. وسيساعد على تحقيق هذه الأهداف تسارع برنامج الخوصصة و فتح رأس مال عدد من المؤسسات لمساهمة المستثمرين الأجانب.الى جانب فتح المجال لهم للاستثمار عن طريق اللزمة في قطاعات البنية الأساسية".(449) و يعبر سعيد بن مصطفي أحسن تعبير عن هذا الدور من خلال تحليله للعلاقات بين البلدان المتوسطية العضوة في الاتحاد الأوروبي و بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط و من بينها تونس، بالقول "أن هذا الفضاء مدعو الى تدعيم القدرة التنافسية للبلدان المتوسطية وللإتحاد الأوروبي بحكم الأسواق الواعدة التي يفتحها".(450)

أما بالنسبة لرأس المال المحلي فيعتبر واضعوا المخطط التاسع للتنمية 1997/2001 أن المرحلة القادمة تقتضي "الإرتقاء بالمبادرة الخاصة-باعتبارها المحرك الأساسي لعملية التنمية- الى مستويات أرفع و مزيد دفع القطاع الخاص عن طريق :

-1- فسح المجال أمامه في قطاعات جديدة كان يضطلع بها القطاع العمومي لوحده(النقل و البنية الأساسية و إنتاج الكهرباء و غيرها...الخ).

-2-...

-3- تطوير برامج الخوصصة و سحبها على عدد أوفر من المؤسسات و القطاعات...

و لتكريس هذا المسعى فان القطاع الخاص مدعو بالأساس الى الاعتماد على قدراته الذاتية مع الاستفادة من الشراكة".(451)

لكن القطاع الخاص لا يترك بالفعل لمواجهة قدره لوحده بل هناك " توزيع للأدوار بين القطاعين العمومي و الخاص (يقوم على ) مبدأ التكامل بين هذين القطاعين".(452)

و لايقتصر الأمر على الخوصصة بل أن الكلفة التي تتحملها الدولة و النظام البنكي و صناديق الضمان الاجتماعي ، المتمثلة في التخلي عن الديون و إعادة جدولتها و الاعفاءا المتنوعة ...الخ كل ذلك يدفع واضعو وثيقة صادرة عن المجلس الاقتصادي و الاجتماعي بتونس الى إعتبار أنه من الغريب أن الخوصصة التي تم تصورها كرد على عجز الميزانية و كاصلاح هيكلي من أجل الاستعمال الأحسن للموراد، من الغريب أن تستفيد الخوصصة ، بما هي كذلك ، من ذلك الدعم المتنوع.(453)

و رغم ذلك فان الاستثمار الخاص الثابت من الدخل الوطني الخام في التسعينات ظل في حدود 10 بالمائة. بل أكثر من ذلك ، شهد تراجعا خلال السنوات 1994 و 1995 و 1996 حسب "أري دادوش" .(454)الذي يلاحظ الى جانب ذلك تباطؤ سرعة الاستثمار الصناعي في تونس مستغربا ترافقه مع تحرير المبادلات معتبرا أن القضية ليت قضية إدخار ، مثلما هو الشأن في بعض البلدان الأخرى ،بل القضية بالنسبة لتونس هي كون نسبة كبيرة جدا من الادخار المتوفر ، حولي 54 بالمائة،يتم إستثمارها في القطاع العام مقابل 40 بالمائة كمتوسط في البلدان السائرة في طريق النمو و 20 الى 30 بالمائة في الاقتصادات الديناميكية في آسيا الشرقية. و تتميز تونس ، دئما حسب "أري دادوش" بكون مساهمة القطاع العام في الاستثمار الكلي هي بصدد الارتفاع و ليس الانخفاض .

نلاحظ فقط أن هذا التشخيص لا يتعلق بالستينات أو السبعينات إنما بالتسعينات حيث تم في نوفمبر 1996. فالدولة تشغل 25 بالمائة من الأجراء ،بدون الأخذ بعين الاعتبار أجراء المنشآت العمومية ، في مقابل 18 بالمائة في البرتغال و 10 بالمائة في تيلاندا و 12 بالمائة في ماليزيا. و تمثل القيمة المضافة من طرف المنشآت العمومية 22 بالمائة من الناتج الوطني الخام و هوما يمثل ضعف ما هو موجود في البلدان السائرة في طريق النمو و أكثر ثلاث مرات مما هو موجود في البلدان الصناعية.

ذلك الطابع التدخلي الكثيف للدولة في تونس في منتصف التسعينات هو الذي دفع "أري دادوش" الى أعتبار أن التخفيف من ذلك الطابع يساهم في تحرير جانب من الموارد لمصلحة قطاع الصادرات و يترك مكانا للإستثمار الخاص و يدعم ثقة المستثمر الأجنبي.

ما يهما التأكيد عليه هو أن الطابع التدخلي للدولة في تونس ، وعلى النقيض من الخطاب الليبرالي الفوضوي، ورغم العولمة، تواصل كذلك في التسعينات . خاصة و أن التشجيعات المنصوص عليها بمجلة تشجيع الاستثمارات الصادرة منذ 1993 لم تطور الاقبال على الاستثمار بالشكل المرجو و بقيت نسبة التطور ضئيلة جدا إذا قارناها بدول إتخذت إجراءات مماثلة في نفس الفترة تقريبا و ذلك رغم " أن دراسة أعدها معهد الاقتصاد الكمي بتونس سنة 1997 تؤكد أن ما تقدمه تونس من تشجيعات يفوق ما يقدمه أي بلد في هذا المجال".(455)

ويمكننا تبين تواصل الطابع التدخلي للدولة ، رغم "تراجعه" النسبي، من خلال المخطط التاسع للتنمية 1997/2001.إذ أن التوجهات الأساسية له في إطار " توجهات و أولويات العمل التنموي" تقوم على المحاور التالية:

-- دعم تفتح الاقتصاد و تعزيز دور القطاع الخاص.

-- ملائمة التوجهات القطاعية.

-- تطوير البنية الأساسية.

-- تثمين الموارد البشرية.

-- التنمية الاجتماعية.

-- دعم التنمية الجهوية.(456)

قبل كل شيء وضع المخطط ذاته هو دليل على تواصل ذلك الطابع التدخلي.ثم أن الدولة هي المعني الأول و الأساسي بتجسيم تلك المحاور الستة.فهي التي تضع البرامج و المخططات و تعقد الاتفاقات التي تدعم التفتح الاقتصادي و هي التي سوف تقدم الدعم للقطاع الخاص ، وهي تقوم بذلك بالفعل. كما أنها هي التي تقوم بملائمة التوجهات القطاعية فهي التي تشرف و توجه و تتحكم في السياسة الاقتصادية الكلية. كما أن الدولة تظل "الفاعل الأساسي" في ميدان تهيئة المناطق الصناعية و أقامة السدود و تعبيد الطرقات و أقامة الجسور، وفي ميدان النقل.أي بصفة عامة تهيئة الشروط العامة لعملية التراكم كحافز " يحبذه المستثمرون المحليون و الأجانب أكثر من مختلف الأشكال التقليدية للتشجيع على الاستثمار" حسب واضعو المخطط التاسع.(457)كما تظل الدولة العون الرئيسي في ميدان تثمين الموارد البشرية من خلال المنظومة التربوية التي تشرف عليها سواء في ميدان التكوين العام أو التكوين المهني. و هي المنظومة التي يرتادها العدد الأكبر من المتعليمن و المتكونين. أما بالنسبة للمحور السادس ، و لأسباب تاريخية،تتمثل في الاهمال الكلي الذي تعرضت له المناطق الدخلية ، خارج الشريط الساحلي عامة، و القسم الشمالي الشرقي منه خاصة، من طرف "المخططات" السابقة ،

و أسباب حالية تتمثل في تواصل إحجام القطاع الخاص عن الاستثمار في المناطق الدخلية ، رغم التشجيعات الهامة التي تقدمها الدولة ذاتها، لكل ذلك ، فان الدولة هي المعنية بـ"دعم التنمية الجهوية".

و إعتمادا كذلك على المخطط التاسع يمككنا تعداد العديد من المهام الاقتصادية التي من المفروض أن تقوم بها الدولة و من بينها:الإرتقاء بالمبادرة الخاصة و فسح المجال أمامها في قطاعات جديدة كان يضطلع بها القطاع العمومي ذلك الى جانب توفير الإطار الملائم عبر تأهيل البنية الأساسية و الموارد البشرية و تعصير الإدارة و تيسير الإجراءات والتكفل بدفع مسار التنمية و ذلك بسن السياسات و الإجراءات المناسبة .كما تسهر الدولة على ضمان مصالح كل الأطراف و تعمل على إجاد التوازن بيم البعدين الاقتصادي و الاجتماعي . و الى جانب ذلك تضمن الاستقرار و تباشر تشخيص الضغوطات و العراقيل و تزيلها .كما تستشرف الدولة و تستكشف الإمكانات المتوفرة و تقوم بتقييم و دعم المكاسب و تعدل و تصلح .(458) كما تقدم الدولة الدفع اللازم لتعزيز الميزات التنافسية للمؤسسة. وقطاعيا تقوم الدولة بتأهيل قطاع الفلاحة و تأهيل الصناعة و تنمية الخدمات و تدعم الأسواق التقليدية للسياحة و تعمل على إكتساح أسواق جديدة . وتدعم إستراتيجية الطاقة و تعيد هيكلة قطاع الفسفاط و توجه الجهود نحو تكثيف البحث و الإستكشاف لتحديد المواد المنجمية بالبلاد و تقييمها و تكثف السعي من أجل ملائمة تدخل الإدرة الجهوية في إتجاه تعزيز الجانب التنموي و مزيد التنسيق بين برامج مختلف المتدخلين من خلال نشر المعلومة الاقتصادية على نطاق واسع و تشجيع وظائف الإبتكار و الإستشراف لإستباق الأحداث...الخ.(459)

ما تقدم يمكن أن يكفي لتأكيد ما ذهبنا اليه سابقا، أي تواصل الطابع التدخلي للدولة في تونس في ظل العولمة ، رغم الخطاب الليبرالي و كل البرامج التي تتضمن بالفعل "تراجعا" لدور الدولة الاقتصادي. و هو "تراجع" يتم في ظل أسهام " الإدارة في مجهود الاشتثمار من أجل تأهيل الاقتصاد و تعزيز قدرته التنافسية و تهيئة الظروف الملائمة لدفع الاستثمار الخاص في قطاعات الانتاج".(460) و "حتمية تواصل معاضدة الدولة للمجهود الإنمائي" و تزايد الحاجات المتولدة عن ضرورة المساهمة (من طرف الدولة) في تحقيق أهداف التنمية".(461) لكن و بالإضافة الى ذلك ، وبحكم أن "كسب معركة التصدير " هو في السياسة الاقتصادية للدولة في تونس أحد وسائل "تحقيق التنمية" فان الدولة تتدخل في تلك "المعركة". فقد تضمن الفصل 26 من قانون المالية لسنة 1999 طرح المداخيل المتأتية من عمليات التصدير خلال العشر سنوات الأولى للنشاط إبتداء من أول عملية تصدير من أساس الضريبة . وتطرح هذه المداخيل في حدود 40 بالمائة بعد هذه الفترة . كما تضمن الفصل 28 من نفس القانون طرح المداخيل التي يقع إستثمارها في الإكتتاب في رأس المال الأصلي أو الذي يقع الترفيع فيه من أساس الضريبة لمؤسسات تنتصب في الخارج يتمثل غرضها قصرا في ترويج السلع و الخدمات التونسية و ذلك في حدود الرأس المال الذي تم تحريره .نفس القانون تضمن حذف الأتاوات للخدمات الديوانية الموظفة على بعض المنتوجات عند التصدير و كذلك المعاليم الموظفة على زيت الزيتون عند التصدير. و في علاقة بهذا الأخير كانت الدولة قد ألغت رسوما جمركية بنسبة 1.5 بالمائة على صادراته في شهر سبتمبر 1998. و بلغت تلك الصادرات في عام 1997 حوالي 126 ألف طن صدرت نصفها الدولة .و في علاقة بأزمة تصدير زيت الزيتون في أواخر 1998 و في رده على تساؤلات نواب مجلس النواب في جلسة 16/12//1998 قال وزير التجارة "أن هياكل الوزارة ستعمل على مساعدة الخواص لإستكشاف أسواق جديدة بأمريكا و أستراليا و اليابان و مصر و روسيا و بلدان الخليج. ويجري حاليا القيام بدراسة تخص إقتحام هذه الأسواق".(462)

و يتدخل في تلك "المعركة" صندوق النهوض بالصادرات من خلال تدعيم هياكل المؤسسات وتطوير وظيفة التصدير و التشجيع على إستعمال الوسائل الحديثة للإتصال و تركيزمواقع "واب" على شبكة الأنترنات ذلك بالإضافة الى التعرف على الأسواق الخارجية وتسهيل الإنتصاب التجاري بالخارج و مساعدة المؤسسات على المشاركة بالمناقصات الدولية و كل ما يتعلق بالخارج و ذلك من خلال تطوير معدلات الدعم المالي للتعريف بالصادرات اذ يتدخل في حدود 80 بالمائة من الكلفة العامة للعملية . ويعمل الصندوق على دعم مشاركة المؤسسات التونسية في الصالونات و المعارض الدولية و تحسين اللف و التعليب و تكوين مصالح خاصة بخدمات التصدير في صلب المؤسسة و تسجيل علامات المنتوجات.(463)و قد بلغت الإعتمادات المخصصة لهذا الصندوق سنة 1997حوالي 9 مليون دينار . ويقدر حجمها بانسبة لسنة 1998 بما يقارب 15 مليون دينار في إطار عمليات تصدير المنتوجات التونسية موزعة على النحو التالي:

40.5 بالمائة للصناعات المختلفة و 36.5 بالمائة للصناعات الكهربائية و 17.2 بالمائة للمنتوجات الفلاحية و 4.9 بالمائة للنسيج و الأحذية و 0.9 للصناعات التقليدية.

و في إطار البحث عن أسواق جديدة قام صندوق النهوض بالصادرات بدعم العمليات الإشهارية بمبلغ 0.9 مليون دينار شملت أساسا إستكشاف و دراسة الأسواق و المشاركة في المعارض و التضاهرات . كما قدم دعما مباشرا بقيمة 0.7 مليون دينار للقوارص و علب السردينة و الخمور. وفي الإجتماع الأول للمجلس الأعلى للتصدير ، الذي يرأسه رئيس الدولة،تقرر توسيع مجالات تدخل الصندوق لتشمل ميادين جديدة كتنمية وظيفة التصدير داخل المؤسسة و الانتصاب التجاري بالخارج و إستعمال التقنيات الحديثة للإتصال و عمليات الاشهار و إكتشاف الأسواق و التعريف بالمنتوجات و الخدمات التونسية في الخارج و المساعدة على تكوين الاطارات و الأعوان المختصين في مجال التجارة الخارجية الدولية(464). عند إفتتاحه يوم 10 مارس 1998 لأشغال الأيام الدراسية التي نظمتها اللجنة الوطنية للتجارة الإلكترونية قال وزير التجارة "أنه تجسيما لعناية سيادة رئيس الجمهمرية بقطاع التصدير فقد أذن سيادته خلال إنعقاد الاجتماع الأول للمجلس الأعلى للتصدير باعطاء الأولوية للمصدرين و رجال الأعمال و المؤسسات في الارتباط بشبكة الأنترنات و منحهم التسهيلات و التشجيعات ببث عملياتهم الإشهارية عليها...و يمكن لهذه المؤسسات الاستفادة من إعانة صندوق النهوض بالصادرات للتعريف بمنتوجاتهم على هذه الشبكة. كما أنجز مركز النهوض بالصادرات موقع 'واب' لتمكين المؤسسات المصدرة من إدراج عملياتها الاشهارية ضمنها".(465)الى جانب ذلك قرر المجلس الأعلى للتصدير بعث مكتب تأطير في ميدان الإعلام و نشر مرشد المصدر و تنظيم بعثة متجولة في إفريقيا و أخرى في أمريكا اللاتينية.(466)

من البديهي أن كسب تلك "المعركة" في حاجة الى "سواعد". لذلك فان الدولة يتواصل تدخلها في تكوين تلك "السواعد". و لايقتصر الأمر على التدخل فقط.بل هي المستثمر الرئيسي في ميدان التكوين.حيث ،مثلا، تم رصد 700 مليون دينار على إمتداد سبع سنوات 1996/2002. وتتدخل الدولة في هذا الحقل من خلال برنامج "مان فورم" الذي يهدف الى تأهيل التكوين المهني و التشغيل من أجل تكوين 60 ألف شاب . وقد كانت الإعتمادات في هذا القطاع خلال المخطط الثامن 70 مليون دينار.(467) و في ذلك الإطار أوجدت الدولة وسائل تساعد المنشأة على تمويل التكوين الإضافي للمنتدبين الجدد. فصندوق الإدماج في الحياة المهنية يأخذ على عاتقه نفقات التكوين لمدة 11 شهرا بالنسبة للمنتدب الجديد الحاصل على شهادة جامعية و ذلك الى جانب أن الدولة تأخذ على عاتقها من خلال ذلك الصندق و لمدة سنة أجر المستفيدين من ذلك البرنامج بالإضافة الى أن النفقات الاجتماعية لمن تم إنتددابهم تؤخذ كذلك على عاتق الدولة لمدة سنة. وإذا تم إنتدابهم بصفة نهائية تتحمل الدولة تلك النفقات لمدة خمس سنوات. و في إطار التكوين التكميلي في إختصاص ما تحتاجه مؤسسة معينة أو مجموعة مؤسسات وضعت الدولة إمكانيات مادية هامة قصد تنظيم حلقات تأهيل لتمكين بعض الإختصاصات من دخول سوق الشغل.

هذا الى جانب ما قامت به الوزارة الأولى التي مكنت مجموعة من الشبان المختصين في التصرف من التكوين كمحللي إعلامية.و بعد ذلك تكفلت الدولة بالمنح و أهتمت الوزارة بكل ما يتعلق بالتكوين من مصاريف و إطارات.(468) بالإضافة الى ذلك ورد في توقعات وثيقة الميزان الاقتصادي لسنة 1999 أنه تقرر رصد إعتمادات تقدر بـ 17 مليون دينار لبرامج النهوض بالتشغيل و التأهيل المهني لينتفع بها حوالي 15.800 شخصا يتوزعون على النحو التالي:

-- عقود التكوين والتشغيل 2000.

-- برنامج التربصات للإعداد للحياة المهنية 1 : 3000

-- برنامج التربصات للإعداد للحياة المهنية 2 :2800.

-- صندوق الإدماج و التأهيل المهني :8000.(469)

و قبل ذلك كانت وزارة التكوين و التشغيل قد خصصت للفترة بين 1994/1998 إعتمادات قدرها 3950.000 دينارا لتعصير تجهيزات مراكز التكوين المهني.(470)

الى جانب كل ذلك مازالت الدولة تتدخل في ميدان الأجور من خلال تحديد الأجر الأدني الصناعي و الأدنى الفلاحي. بالإضافة الى مشاركة ممثلين عنها في "المفاوضات الإجتماعية" بين ما يسمى الأطراف الاجتماعية. و في لائحة الشؤون الاقتصادية و التنمية الجهوية و في علاقة بالموارد البشرية يوصي مؤتمر التجمع الدستوري الديمقراطي المنعقد بتونس في 30 و 31/07 و 1 أوت 1998 بـ :

-- مواصلة العمل على إصلاح النظام التربوي بما يضمن الإستجابة الى متطلبات سوق الشغل.

-- تعزيز مكانة التكوين المهني بإعتبار قدرته على تلبية حاجيات المؤسسة بالسرعة المطلوبة و مساهمته في الرفع من أدائها.(471)

"مساهمة في الرفع من أداء المؤسسة" يتواصل الطابع التدخلي للدولة في تونس في ظل العولمة من خلال مجموعة من الصناديق من بينها :

-- الصندوق القومي للنهوض بالصناعات التقليدية و الحرف الصغر:

المجلس الوزاري النعقد يوم 8 مارس 1998 قرر إلحاق هذا الصندوق المحدث على أساس القانون عدد 76 لسنة 1986 و المؤرخ في 9 أوت 1981بوزارة التكوين المهني و التشغيل ليصبح صندوقا يهدف أيضا الى النهوض بالتشغيل. و الى حدود جوان1998 بلغت الاستثمارات 243 مليون دينار . و قد بلغ عدد المشاريع الممولة 18 ألف مشروع يساهم فيها الصندوق القومي للنهوض بالصناعات التقليدية و الحرف الصغرى بقيمة 19 مليون دينار. و يمكن للمؤسسة التي يتجاوز حجم إستثماراتها 50 ألف دينار الانتفاع بإعتماد مالي يقع إرجاعه و بمنحة إستثمار تقدر بـ 6 بالمائة من جملة الاستثمارات.تم رفعها الى 10 بالمائة في إطار الاجراءات التي أقرها المجلس الوزاري المنعقد في 09/09/1998.(472)

-- صندوق تنمية القدرة التنافسية :

بلغت الاعتمادات التي وفرها هذا الصندوق 19 مليون دينار و ذلك بالنسبة للسنوات 1996 و 1997 و 1998. وقد ساهمت هذه الاعتمادات في صيانة و رفع حضور السياحة التونسية في الأسواق التقليدية و من كسب أسواق جديدة .حيث تم فتح مكاتب في روسيا و بولونيا وو تشيكا.(473)

و في إطار مساعدة المؤسسات التي تمر بصعوبات على الخروج من ذلك الوضع ، الذي يتطلب القيام بدراسات ، تم تمويل هذه الأخيرة بنسبة 70 بالمائة من طرف صندوق تنمية القدرة التنافسية.(474)و قد وقع الترفيع من سقف المنحة التي يقدمها الصندوق و المخصصة الإستثمارات "غير المادية" من 50 الى 70 بالمائة.و تشمل تدخلات الصندوق المحدث منذ 1994 مساعدات مالية لإعادة هيكلة المؤسسات في شكل إستثمارات "مادية" و إستثمارات "غير مادية"، و منح سنوية تخص برامج تطوير الجودة بالإضافة الى تمويل الدراسات القطاعية الإستراتيجية.(475)

-- صندوق النهوض و التحكم في التكنولوجيا :

و يهدف هذا الصندوق الى الرفع من نسبة الإدماج الصناعي . وذلك الى جانب تدخلاته التي بلغت 801 مليون دينار في شكل إعانات لفائدة 575 مؤسسة صناعية.وقد وقعت سنة 1998 مراجعة النصوص التطبيقية الخاصة بهذا الصندوق و ذلك بتوسيع مجالات تدخله لتشمل إنجاز الدراسات الأولية لمراقبة الجودة بالمؤسسات الصناعية و الترفيع في مبلغ المساعدة المالية .(476)و منذ إنطلاق عمل اللجنة الفنية لهذا الصندوق في منتصف 1993 و الى أواخر 1997 نظرت هذه اللجنة في 707 مطلب إنتفاع باعانة الصندوق . و وافقت على 625 ملفا بإعانات جملية تقدر بـ 10.5 مليون دينار. و تحصلت 242 مؤسسة صناعية صغرى و متوسطة على إعانة لإقتناء معدات مراقبة تكنولوجية و ذلك بمبلغ 9 ملايين دينار.و قد بلغت قيمة المساعدات الموجة للدراسات التكنولوجية و مراقبة الجودة و المساعدات الفنية ، والتي شملت 349 مؤسسة،بلغت حوالي 105 مليون دينار. كما ساهم الصندوق بقسط كبير في تمويل عمليات المساعدة الفنية في إطار تحصل المؤسسات على شهادات المواصفات.(477)

هذا الصندوق تم إدماجه داخل صندوق تنمية القدرة التنافسية بمقتضى القانون الذي صادق عليه مجلس النواب يوم 10/02/1998.(478)

-- الصندوق الوطني للضمان و صندوق تطوير اللامركزية الصناعية :

الصندوق الوطني للضمان هو صندوق لتأمين القروض يأخذ على عاتقه ثلثي القروض المتوسطة المدى التي تواجه خطر عدم التسديد في الإستثمار الصناعي الذي يستفيد من تدخلات صندوق تطوير اللامركزية الصناعية .فالبنسبة لمشروع يكلف ، مثلا 3 ملايين دينار ، نفترض، بالنسبة للمؤسسة إمكانية الحصول على قرض متوسط المدى يساوي 2.1 مليون دينار.أي ما يمثل 70 بالمائة من الكلفة الكلية للإستثمار و صندوق الضمان يمكن أن يعطي 66.6 بالمائة من المبلغ.

و من خلال قرار 10/09/1998 المتعلق بطبيعة مساهمة صندوق تطوير اللامركزية الصناعية في المؤسسات الصناعية الصغرى و المتوسطة و المؤسسات الصغرى و المتوسطة ، وتتعلق المسألة بحويل مساهمة الصندوق الى قرض مساهمة في رأس المال يكمن أن يصل الى 49 بالمائة من رأس المال الإجتماعي.يمكن لصاحب المشروع شراءها لاحقا. و هذا التغيير يهدف الى تخفيف المخاطر بالنسبة للبنك المقرض. و اذا كان هناك مخاطرة فان الدولة مستعدة لتحملها. وقد ترافق ذلك مع الإجراءات التالية :

-- منحة الدراسة التي كانت في السابق 1 بالمائة من كلفة الاستثمار و سقفها 5000 دينار إرتفعت الى 70 بالمائة من الكلفة الفعلية للدراسة بسقف حدد بـ 20.00 دينار.

-- منحة الاستثمار الخاصة بالمناطق المتروكة كانت محددة بـ 8 بالمائة من كلفة الاستثمار و 25 بالمائة بالنسبة للمناطق المنجمية .هذه المنحة تم رفعها بشكل موحد الى 30 بالمائة لكل مشروع يتم إنجازه من طرف باعث شاب في منطقة تشجيع.

-- منحة إستثمار الباعث الجديد التي كانت محددة بـ 6 بالمائة من كلفة الاستثمار بدون الأخذ بعين الاعتبار كون المشروع منتج أو غير منتج .هذه المنحة رفعت الى 10 بالمائة مع سقف حدد بـ 100.000دينار.

-- الدولة تأخذ على عاتقها جزءا من ثمن الأرض التي يشيد عليها المشروع و ذلك بنسبة 70 بالمائة للمناطق ذات الأولوية و 50 بالمائة لباقي المناطق المتروكة و ذلك بدون تجاوز سقف حدد بـ 30.000دينار.

و بالنسب لسنة 1999 'ينتظر' أن يوفر صندوق التطوير و اللامركزية الصناعية 300 ألف دينار لفائدة مراكز مساعدة بعث المؤسسات التي ستؤمن عدة عمليات تكوين للمستثمرين في مجال إبتكار المشاريع و طرق الادارة و التصرف الحديثة و تسهيل عملية الاقتراض من البنوك.(479) و تقدر الاعتمادات التي رصدت لفائدة هذا الصندوق بالنسبة لسنة 1999 بما يقارب 6 ملايين دينار و ذلك للمساعدة في تمويل برامج تشجيع الباعثين الجدد و المؤسسات الصغرى و المتوسطة و دعم التنمية الجهوية و تغطية ما تبقى من تعهدات الصندوق و تغطية مصاريف مراكز مساعدة بعث المؤسسات.(480)

و بالنسبة للباعثين الشبان يتم تمويل المشروع على النحو التالي :

- 70 بالمائة كأقصى حد من البنك .

- 10 بالمائة تمويل من الباعث على الأقل من الثلاثين بالمائة الباقية.

- البقية تمويل من الصندوق ،حوالي 45 بالمائة من 30 الباقية.

-- صندوق الإدماج و التأهيل المهني :

يساهم هذا الصندوق في تلبية الحاجات المشخصة لفائدة المؤسسات الاقتصادية . ويقدم لكل متدرب منحة تساوي نصف الأجرر الأدني المضمون في القطاع الذي يتدرب فيه.إظافة الى نفقات التأهيل بما فيها منحة التكوين. ويهدف من ضمن ما يهدف اليه الى تأهيل العاملين داخل المؤسسات و ذلك بتشجيعها على تحسين طرق العمل و تطوير معارف العاملين بها قصد تحسين الانتاج و الانتاجية. وعلى كل مؤسسة أن تقدم مطلبا توضح فيه أسباب الطلب و أن تتعهد بتحمل نصف مصاريف التكوين و يتحمل الصندوق 50 بالمائة من مصاريف الرسكلة. كما يتحمل نفقات التأهيل لفائدة مؤسسات التكوين و يساعد أصحاب المؤسسات على تأهيل الموارد البشرية بضمان تنقل اليد العاملة بين الجيهات لتلبة عروض الشغل المتاحة أو للمشاركة في مناظرات التوظيف.(481)

-- وكالة النهوض بالصناعة :

في سنة 1998 ،مثلا، بلغ عدد المشاريع التي وافقت عليها هذه المؤسسة 72 مشروعا. و في إطار التشجيع على الاستثمار تمتعت 10 مؤسسات بمنح إستثمار قيمتها 507 ألاف و 340 دينار. وتكفلت الدولة الى جانب ذلك بمساهمة الأعراف في نظام الضمان الاجتماعي لفائدة 4 مؤسسات.

-- صندوق للدراسات و صندوق لضمان المخاطر الاقتصادية :

في أعقاب إنتهاء أشغال اللجنة الحكومية المختلطة التونسية الفرنسية المنعقدة يومي 21 و 22/01/1999 تم الاتفاق على بعث صندوق للدراسات الذي سيساهم في التشجيع على بعث المؤسسات الصغرى و المتوسطة و المؤسسات الصناعية الصغرى و المتوسطة و توسيعها و تعصيرها . و ذلك الى جانب إحداث صندوق المخاطر الاقتصادية الذي سيعمل أساسا على تطوير المحيط الاقتصادي للإستثمار.(482)

-- صندوق التشجيع على الابتكار في مجال تكنولوجيا المعلومات :

قانون المالية لسنة 1999 في الفصل 12 منه تضمن إحداث هذا الصندوق الذي يهدف الى الشجيع على إحداث المشاريع التي تساهم في دعم الإبتكار في مجال تكنولوجيا المعلومات. و ينتفع بتدخلات هذا الصندوق المشاريع المنجزة في شكل شركات مكونة من قبل أشخاص طبيعيين من ذوي الجنسية التونسية و لهم شهادة جامعية و يلتزمون بالتفرغ الكامل للمشروع و ذلك الى جانب عرض فكرة أو إنتاج يتميز بصفته الإبتكارية. وحسب الفصل 15 من نفس القانون يمول هذا الصندوق بواسطة أعتمادات من ميزانية الدولة و ذلك الى جانب مصادر تمويل أخرى.

بالإضافة الى كل ذلك ، يمكننا كذلك،تبين تواصل الطابع التدخلي للدولة في تونس في ظل العولمة من خلال مجلة تشجيع الإستثمارات و برنامج التأهيل.

مجلة تشجيع الإستثمارات الصادرة بتاريخ 17/12/1993 يمكن إعتبارها من بين أهم وسائل تدخل الدولة في الاقتصاد لما تضمنته من تشجيعات تهدف الى تنمية المبادرة الخاصة مهما كان قطاع النشاط أو مكان الإنتصاب و جنسية المستثمر.(483)و يمكن إجمال الأهداف الأساسية لهذه المجلة في :

+ تجسيم التوجهات و الأهداف المرسومة في المخطط الثامن و خاصة تنمية المبادرة الخاصة و النهوض بالتصدير.

+ التشجيع يشمل كل القطاعات بإستثناء المناجم و الخدمات المالية التي لها قوانين خاصة.

+ مبدأ آلية الإنتفاع بالحوافز و تعويض تنفيل نسب الفائدة بمنح مباشرة للإستثمار "التي يحبذها المستثمر بإعتبارها تحد من كلفة المشروع عند بدايته و تحد من نزعة التداين المفرط كما كان الشأن بخصوص نظام تنفيل نسب الفائدة".(484)

+ تشجيع التراكم الخاص .إذ يقول توفيق بكار في التعليق على الأهداف الأساسية للمجلة " و يتعلق الأمر ...بالامكانيات التي فتحتها المجلة للمؤسسات لإعادة إستثمار جزء من أرباحها صلب المؤسسة نفسها . و هو ما يسمح بتطوير المؤسسة من الداخل و يعزز من قدرتها على المزاحمة".(485)

+ شمول التشجيعات لرأس المال المحلي و الأجنبي بدون أي تمييز بينهما.إذ ورد في الفصل الثالث من المجلة " للأجانب المقيمين و غير المقيمين حرية الإستثمار في المشاريع المنجزة في إطار هذه المجلة".

و من بين التشجيعات التي تقدمها الدولة من خلال المجلة يمكننا ذكر ما ورد بالفصل 7 منها: " ينتفع الأشخاص ... بطرح المداخيل أو الأرباح التي يقع إستثمارها و ذلك في حدود 35 بالمائة من المداخيل أو الأرباح الصافية الخاضعة للضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين أو للضريبة على الشركات" و الفصل 9 : تنتفع التجهيزات اللازمة لإنجاز الإستثمارات بإستثناء السيارات السياحية :

-1- بتخفيض المعاليم الديوانية الى نسبة 10 بالمائة ...

-2- بتوقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة و المعلوم على الإستهلاك و ذلك بالنسبة للتجهيزات المضنوعة محليا.

و ذلك الى جانب ما تضمنه الفصل 12 بالنسبة للمؤسسات المصدرة كليا إذ تم إعفاءها كليا من الأداءات على المرابيح المستوجبة بعنوان التصدير خلال العشرة سنوات الأولى من النشاط و إعفاء في حدود 50 بالمائة فيما بعد ذلك . و طرح المداخيل أو المرابيح التي يعاد إستثمارها من قاعدة الأداء .بينما يكون هذا الطرح محدد بـ 35 بالمائة بالنسبة للإمتيازات المشتركة.

في رده على تساؤلات نواب مجلس النواب ، في إطار جلسة برلمانية عقدت بتاريخ 05/01/1999 لمناقشة عدة مشاريع قوانين ، كان من بينها ذلك المتعلق بتنقيح و إتمام مجلة تشجيع الإستثمار ، قال وزير التنمية الاقتصادية "أن روح التنقيح لمجلة تشجيع الاستثمار هو أولا إحداث جيل جديد من المستثمرين الذين تعوزهم حاليا الخبرة و الموارد المالية...كما تم الرفع من منحة الإستثمار بمناطق التنمية الجهوية ...الى 35 بالمائة بالنسبة للمستثمرين الجدد".(486)

بعد ذلك التنقيح نجد في الفصل 39 الفقرة الأولى ما يلي :" تخول الإستثمارات التي تقوم بها المؤسسات الصناعية و مؤسسات الفلاحة و الصيد البحري ، والتي تمكن في مجهود محلي من تطوير التكنولوجيا أو التحكم فيها أو تمكن من تحسين الإنتاجية ، الإنتفاع بتكفل الدولة الكلي أو الجزئي بدفع مصاريف تكوين الأعوان لهذا الغرض". أما الفصل 45 فقرة 2 مكرر فقد تضمنن :" منحة بعنوان مساهمة الدولة في تحمل مصاريف المساعدة الفنية و المصاريف المتعلقة بإقتناء أرض مهيأة أو محلات لازمة لإنجاز مشاريع صناعية أو خدمات". وقد تضمن الفصل 46 مكرر ما يلي :" يمكن للمستثمرين الذين يقومون ببعث مشاريع في المؤسسات الصغرى و المتوسطة في ميادين الصناعة و الخدمات و الفلاحة و الصيد البحري الإنتفاع بمساهمة في رأس المال و بمنحة بعنوان مساهمة الدولة في تحمل مصاريف الدراسات و المساعدة الفنية". و بالإعتماد على الفصل 52 مكرر:"يمكن وضع أرض مخصصة لإنتصاب مشاريع ذات أهمية من حيث حجم الإستثمارات و إحداث مواطن الشغل،على ذمة المستثمرين و ذلك بالدنار الرمزي".(487)

كما تم تنقيح الفصول المتعلقة بالصندوق الوطني للضمان. و ذلك بهدف حث البنوك و شركات الإستثمار ذات رأس مال مخاطر، على تمويل المشاريع مما يساعد على تفادي اللجوء المفرط الى الضمانات العينية التي لا تتوفر في الغالب لدى الباعثين الجدد. قبل هذا التنقيح ، كان الصندوق يتدخل في صورة عجز المشاريع المنجزة في إطار صندوق النهوض بالصناعات التقليدية و المهن الصغرى و صندوق النهوض باللامركزية الصناعية ، عن تسديد قروضها . و ذلك بعد إجراءات تطلب أجالا طويلة تتمثل أساسا في إستيفاء التقاضي. بعد التعديل أصبح الصندوق الوطني للضمان يتدخل في تسديد نسبة من القروض التي تعجز تلك المشاريع عن تسديدها للبنوك. و تختلف النسب حسب نوعية المشروع .ف هي تقدر بـ 90 بالمائة إذا كان منجزا في إطار صندوق النهوض بالصناعات التقليدية و المهن الصغرى و الثلثين بالنسبة لمشاريع صندوق النهوض باللامركزية الصناعية. وأصبح الصندوق يتحمل كلفة عدم خلاص القرض منذ أن يقوم البنك بإيداع الملف لدى القضاء، الى جانب تحمله نسبة تتراوح بين 10 و 50 بالمائة من مصاريف التقاضي(488).

وفي إطار برنامج التأهيل الذي إنطلق منذ 1995 "و على ضوء التقييم الأولي لرنامج تأهيل الصناعة و قصد دعمه و توفير أكبر الحظوظ لنجاحه ، تتركز الجهود خلال الفترة القادمة على المحاور التالية:

+ تيسير إنضمام المؤسسات الصغرى و المتوسطة لبرنامج التأهيل...

+ تنشيط الإجراءات و تيسير التراتيب الإدارية.

+...

+ ... و دعما لهذا التوجه تم الترفيع في سقف المنحة بعنوان الدراسات من 20 الى 30 ألف دينار و الترفيع في المنحة المخصصة للإستثمارات غير المادية من 50 الى 70 بالمائة من التكلفة.

+ مزيد مساعدة المؤسسات و تاطيرها في مختلف مراحل إنجاز برامج تأهيلها...

+ العمل على توفير المعلومات الاقتصادية و وضعها على ذمة كل المتدخلين بما يوضح الرؤية عند تصور و بلورة مخططات التأهيل".(489) و لايقتصر الأمرعلى واضعي المخطط التاسع بل إن من يستهدفهم برنامج التأهيل يقدمون مقترحات تذكرنا بتلك التي كان المركنتليون و الفزيوقراطيون يرفعونها الى "الأمير". و مثال ذلك المقترحات التي تقدمت بها اللجنة الاقتصادية للمجلس الجهوي بولاية المنستير بعد تعرضها للإشكاليات التي تواجهها المؤسسات الصناعية . في إطار مواجهة تلك الإشكاليات تقترح اللجنة :

+ العمل على تحسين محيط المؤسسة و خاصة على مستوى تخفيض اللأعباء الاجتماعية وتكاليف المواصلات و النقل و الطاقة و معاليم الديوانة الموظفة على المواد الأولية و قطع الغيار.

+ تبسيط الاجراءات الادارية وخاصة منها القمركية و البنكية و دعم تنشيط هياكل ناجعة كفيلة بمواكبة المرحلة القادمة في تطوير المؤسسة الصناعية تقنيا و فنيا.

+ تكوين موارد بشرية بالقدر الكافي مختصة في مجال مراقبة التصرف و ضبط مقاييس جديدة للإنتاجية و تنظيم طرق العمل و الإنتاج.

+ بعث آليات تمويل جديدة تتعلق بأشهار المنتوج التونسي الجيد و ترويجه في الأسواق الخارجية.(490)

من الواضح أن المعني الأول بتجسيم تلك المقترحات هي الدولة و هي تقوم بذلك بالفل

سنة 1997 و خلال الـ 11 شهرا الأولى منها وافقت لجنة تسيير برنامج التأهيل على حوالي 182 ملفا. حصلت 117 منها على الموافقة النهائة. وقد حدد معدل المنح بـ 310 مليون دينار.(491)

بالنسبة لصفاقس، مثلا، تمت الموافقة على برامج 70 مؤسسة بلغت قيمة المنح التي حصلت عليها 17.7 مليون دينار.في ولاية المنستير و منذ إنطلاق برنامج التأهيل سنة 1995 والى نهاية 1997 وافقت لجنة التسييرعلى برامج 25 مؤسسة بإستثمارات جملية بلغت 65 مليون دينار مقابل 540 مليون دينار على المستوى الوطني. و حصلت تلك المؤسسات على 10 مليون دينار كمنح مقابل 55 مليون دينار على المستوى الوطني لفئدة 209 مؤسسة. وفي جانفي 1998 بلغ عدد المؤسسات في ولاية المنستير 48 قدرت كلفة تأهيلها الجملية بـ 119 مليون و 140 ألف دينار منها 15 مليون و 200 ألف دينار إنتفعت بها في شكل منح تأهيل.(492) و الى حدود جانفي 1998 قدمت الدولة مساعدات إجمالية للمصانع المرشحة للتأهيل في جميع القطاعات بقيمة 7 ملايين دينار . وتعهدت بتقديم مساهمة بنسبة 20 بالمائة من كلفة التحديث للمؤسسات التي تعتمد على إمكانياتها الذاتية في تنفيذ برنامج تأهيلها.(493)

و في سنة 1998 بلغ عدد المؤسسات المنخرطة في برنامج التأهيل 811 مؤسسة على المستوى الوطني.تمت الموافقة على برامج 366 منها بتكلفة جملية قدرت بـ 892.2 مليون دينار. وبلغت جملة المنح التي وافقت عليها لجنة التسييرحوالي 11.8 مليون دينار.(494) بالإضافة الى ذلك ، وفي إطار برنامج التأهيل ذاته ، أحدثت الدولة صندوق تنمية القدرة التنافيسية للصناعة و صندوق تنمية القدرة التنافسية في القطاع الفلاحي و الصيد البحري و الصناعات الغذائية. و تلك الصناديق تمنح مساعدات مالية للمؤسسات الاقتصادية مساهمة في برنامج تأهيلها. كما تخصص بالإضافة الى ذلك منحا مالية سنوية لمراكز تنمية و دعم الجودة و لإجراء الدراسات الإستراتيجية . كما قامت الدولة ببعث مخطط وطني للجودة تم في إطاره إدخال أنظمة الجودة في 300 مؤسسة و ذلك الى جانب تكوين 600 خبير و مساعدة 20 مخبر على إرساء أنظمة الجودة.(495)

إذا كان كل ما تقدم ذكره غير كافي لتأكيد تواصل الطابع التدخلي للدولة في تونس في ظل العولمة ، فانه يمكننا إضافة ما يلي:

- الإجراءات التي أقرها مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 09/09/1998 :

أولا : دعم مجالات و آليات تدخل صندوق التطوير و اللامركزية الصناعية و ذلك الى النحو التالي :

- الترفيع في سقف الإستثمار القابل لتدخل الصندوق من مليون الى ثلاثة ملايين دينار.

- تعويض الإعتماد الممنوح حاليا من طرف الصندوق في صيغة قرض الى إعتماد في شكل مساهمة في رأس المال في حدود أقصاها 49 بالمائة مع توفير تسهيلات للباعث قصد إقتناء هذه المساهمة عند رغبته في ذلك.

- إسناد منحة للدراسات و المساعدة الفنية تمثل 70 بالمائة من الكلفة الجملية و بسقف لا يتعدى 20 ألف دينار.

- إسناد منحة أستثمار تساوي 10 بالمائة من كلفة التجهيزات على أن لا تتجاوز 100 ألف دينار.

- المساهمة في كلفة الأراضي و المحلات اللازمة بنسبة الثلث وبسقف لا يفوق 30 ألف دينار.

و بالنسبة للمؤسسات الصغرى :

- توسيع تدخلات الصندوق لتشمل هذا الصنف من المؤسسات.

- المساهمة في رأس مال المؤسسة في حدود 30 بالمائة بالنسبة للمشاريع التي تفوق كلفتها مليون دينار و 10 بالمائة في رأس المال الإضافي الضروري للإنجاز إستثمارات تكميلية على أن لا تفوق الكلفة الجملية للمشروع 3 ملايين دينار.

- إسناد منحة دراسة و مساعدة فنية للمؤسسة حسب نفس الشروط المقررة للباعثين الجدد.

ثانيا :

إنشاء مركز للدراسات الإستراتيجية الصناعية لضبط التوجهات و إحكام التحليل بخصوص القطاعات الاقتصادية و الصناعية الواعدة و مساعدة المستثمرين و المؤسسات على الحصول على المعلومات اللازمة لإنجاز المشاريع بالنجاعة المرجوة.

ثالثا:

دمج صندوق التطوير و التحكم في التكنولوجا ضمن صندوق تنمية القدرة التنافسية بما يدعم آليات تأهيل المؤسسات و يضمن مزيد التنسيق في مراحل إنجاز هذا البرامج.

رابعا :

التشجيع على الإستثمار الرامي لاعادة تنشيط المؤسسات الي تمر بصعوبات إقتصادية.

والى جانب ذلك قرر نفس المجلس ما يلي :

- توسيع تدخلات الصندوق الوطني للنهوض بالصناعات التقليدية و المهن الصغرى الى أنشطة إضافية في قطاع الخدمات.

- تمكين المشاريع المنجزة بدعم من الصندوق القومي للنهوض بالصناعات التقليدية و الحرف الصغرى من فرص التوسع من خلال الإنتفاع بتدخلات صندوق التطوير و اللامركزية الصناعية.(496)

وفي المجلس الوزاري المنعقد يوم 16/09/1998 تم إقرار الإجراءات التالية :

- الرفع من منحة الإستثمار المسداة بعنوان التنمية الجهوية من 8 الى 25 بالمائة و الى 30 بالمائة بالنسبة للمستثمرين الشبان .

- الترفيع في مساهمة الدولة في كلفة الأراضي الصناعية الى حدود 75 بالمائة في مناطق التنمية الجهوية ذات الأولوية و الى 50 بالمائة بالنسبة الى بقية المناطق.

- الترفيع في نسبة مساهمة الصنوق القومي للضمان في مصاريف التقاضي بعنوان إسترجاع القروض من 50 الى 70 بالمائة بالنسبة للمشاريع المنجزة في مناطق التنمية الجهوية و ذلك قصد حث البنوك على مزيد المساهمة في تمويل هذه المشاريع.

- إقرار برنامج إضافي للتنمية الريفية المندمجة في حدود 25 مليون دينار لمزيد دعم البنية الأساسية و تكثيف فرص التشغيل بهذه المناطق .

- الرفع من نجاعة هياكل النهوض بالإستثمار و الإحاطة بالمستثمرين و ذلك بمزيد إحكام التكامل بينها من ناحية و بوضع عقود أهداف تحدد دور هذه الهياكل في تشخيص المشاريع و مساعدة الباعثين على تأمين إنجازها من ناحية أخرى.(497)

و يتواصل التدخل من خلال قرارت المجلس الوزاري المنعقد يوم 20/01/1999 إذ قرر ما يلي:

- توزيع الفائض المرتقب من الحليب بين الصناعيين حسب حصصهمم في السوق و مساعدتهم على تمويل المخزون من طرف الجهاز البنكي.

- إقرار منحة خزن للمصنعين في حدود 40 مليما على اللتر في الشهر للمساهمة في تمويل المخزون التعديلي . كما أقر نفس المجلس خطة لدعم تربية "الأراخي" المؤصلة و المولدة في تونس قصد الإستغناء تدريجيا عن التوريد في هذا القطاع و تتمثل عناصر الخطة في :

+ إعداد كراس شروط ينظم نشاط مراكز تربية "الأراخي" و تنظيم المربين في صلب جمعيات.

+ الترفيع في قيمة القرض المخصص لتربية هذا الصنف من 900 الى 1340 دينارا.

+ إسناد منحة تشجيعية للفلاحين الذين يبيعون إنتاجهم من هذا الصنف لمركز تربية "الأراخي" و ذلك في حدود 60 دينارا على الواحدة ، 40 دينارا منها للمربي البائع و 20 دينار للمركز.

+ إسناد منحة تشجيعية تتراوح بين 100 و 300 دينار لمربي هذا الصنف و ذلك حسب السلالات و شروط فنية و صحية.(498)

المجلس الوزاري النعقد يوم 22/01/1999 إهتم بقطاع النسيج و الملابس و أقر خطة عمل ترتكز على العناصر التالية :

أولا : في مجال النهوض بالقطاع و تحسين محيط عمله :

- مزيد تشجيع الإستثمار في الأنشطة الواعدة و الرامية الى الرفع من نسبة إندماج هذا القطاع و تأهيله. و ذلك بالإضافة الى الحوافز التي وقع إقرارها لفائدة الصناعات الصغرى و المتوسطة خلال المجلس الوزاري المنعقد في سبتمبر 1998

- تسوية وضعية المؤسسات المنتصبة بمناطق التنمية الجهوية قبل صدور المجلة الجديدة للإستثمار و ذلك بمواصلة تكفل الدولة بمساهمة الأعراف في نظام الضمان الإجتماعي بما يمكنها من هذاالإمتياز لمدة 10 سنوات وفق النظام الذي سبق صدور المجلة و الذي يخول للمستثمرين 5 سنوات إعفاء قابلة للتجديد.

- إيجاد نظام لبيع منتوجات النسيج و الملابس الموجهة للتصدير لغير المقيمين يمكنهم من إسترجاع الأداء على القيمة المضافة لدى مغادرتهم البلاد.

- دراسة إمكانية بعث قطبين صناعيين مختصين في النسيج و الملابس تتوفر فيهما ، فضلا عن البنية الأساسية اللازمة ، الخدمات الضرويرة لمساعدة هذا القطاع و تطويره.

ثانيا : على مستوى تطوير التكوين :

- الإسراع بإستكمال مراكز التكوين المبرمجة للفنيين و أعوان التنفيذ المختصين في الملابس و برمجة طاقات إضافية للتكوين في المجالات التي أقرت الخطة تطويرها مثل المحبوكات.

- تركيز شعب مختصة في النسيج و الملابس ضمن المعاهد العليا للدراسات التكنولوجية و بعث إختصاصات في هذا المجال بالمدارس القومية للمهندسين و ذلك تماشيا وأهداف الخطة المستقبلية للقطاع.

ثالثا : على مستوى الإشهار و التعريف :

- التعريف بالمنتوج التونسي على أوسع نطاق بالخارج من خلال حملات إشهارية و تنظيم لقاءات و معارض و كذلك صالونات متنقلة.(499)

و في علاقة بقطاع النسيج ذاته ذكر عفيف شلبي المدير العام للمركز الفني للنسيج أن الاستثمارات الجملية لتأهيل القطاع قدرت بـ 100 مليون دينار بالاضافة الى المنح و قيمتها 13.7 مليون دينار.(500)

بالنسبة للسوق المالية إنعقد مجلس وزاري يوم 01/02/1999 أقر الإجراءات التالية:

أولا : حفز الشركات على فتح رأسمالها للعموم و طلب إدراجها بالبورصة ، وذلك بتمتيعها بالإمتيازات التالية :

- التخفيض من نسبة الضريبة على مرايبح الشركات من 35 الى 20 بالمائة لمدة خمس سنوات من تاريخ إدراجها بالبورصة . على أن تقدم طلبها في ظرف 3 سنوات و أن يكون فتح رأسمالها بنسبة لاتقل عن 30 بالمائة.

- تمتيع الشركات المدرجة حاليا و التي تقل نسبة إنفتاح رأسمالها عن 30 بالمائة بهذا الإجراء اذا تولت فتح رأسمالها بنسبة لا تقل عن 20 بالمائة.

ثانيا : العمل على مزيد دعم السوق الرقاعية بتعصير آليات التداين العمومي خاصة عن طريق إنطلاق أصدار و تداول رقاع الخزينة القابة للتنظير و بدعوة المؤسسات العمومية و الجماعات المحلية الى اللجوء الى تمويل مشاريعها عن طريق السوق الرقاعية.

ثالثا : السماح لحاملي الأسهم المدرجة بالبورصة بتكوين مخصصات قابلة للطرح من قاعدة الضريبة بعنوان تقلص قيمة الأسهم.

رابعا : إحداث نظام إدخار في الأسهم المدرجة بالبورصة يتمتع بإعفاءات جبائية و من شأنه أن يحفز على الادخار طويل المدى.(501)

في مجال البنية الأساسية إنعقد مجلس وزاري بتاريخ 19/02/1999 نظر في تقدم إنجاز برنامج الوكالة العقارية الصناعية خلال المخطط التاسع .ذلك المجلس أقر الاجراءات التالية :

- فتح المجال أمام المبادرات الخاصة لتحل محل الوكالة العقارية الصناعية في تهيئة المناطق الصناعية المبرمجة في المخطط و التي لم يشرع في إنجازها.

- إقرار مبدأ تمتع الباعثين الخواص بإمتيازات عن طريق إتفاقات تهيئة المناطق الصناعية تضبط الاجراءات و الاهداف و شروط التمتع بالإمتيازات.

- تمكين الباعثين الخواص من بناء محلات صناعية لغرض البيع أو الكراء على أرض مهيأة من طرف الوكالة و ذلك وفق كراس شروط يوضع للغرض.

- تشريك المؤسسات العمومية المختصة في كلفة تهيئة الشبكات الخارجية عند تجهيز المناطق الصناعية سواء من طرف الوكالة العقارية الصناعية أو باعثين خواص مرخص لهم في ذلك بما يساهم في التخفيض من تكاليف هذه المناطق.(502)

قبل إنهاء هذا الجزء من البحث الذي سعينا من خلاله الى تبيان تواصل الطابع التدخلي للدولة في تونس حتى في ظل العولمة ، هناك معطيات كان لابد من إضافتها لأنها وحدها كافية لتأكيد ما نسعى اليه. و غيرها كثير لكن نكتفي بأضافتها هي فقط خوفا من أن يصاب هذا الجزء من البحث بمرض عظمة الرأس .

في علاقة بمشروع الميزانية العامة للدولة لسنة 1999 ذكر الوزير الأول في بيان الحكومة حول الميزان الاقتصادي و مشروع الميزانية العامة للدولة الذي قام بإلقاءه يوم 07/12/1998 "أن ميزانية الدولة ستواصل دعمها للتدخلات ذات الصبغة الاقتصادية من خلال رصدها ما يفوق 58 بالمائة من الاعتمادات المرسمة ضمن نفقات التنمية لفائدة المجلات الاقتصادية و مشاريع البنيةالأساسية".(503) و هي تقريبا نفس النسبة في ميزانية 1998 إذ كانت 57 بالمائة .(504) و في قانون المالية لسنة 1998 الفصل 2 القسم السادس ، الإستثمارات المباشرة كانت 719485000 دينار من جملة 9045000.000 دينار . و إرتفعت في قانون المالية لسنة 1999 الفصل 2 القسم السادس الاستثمارات المباشرة الى 770785000 دينار من جملة 9590.000.000.

بالنسبة لقطاع البنوك نجد الدولة في تونس تمتلك أهم بنكين و هما البنك القمي الفلاحي و الشركة التونسية للبنك . اللذان يمثلان ثلث القطاع البنكي في تونس من حيث حجم الأصول و عدد الفروع و عدد العاملين . و إذا أضفنا لهما بنك الإسكان و الإتحاد الدولي للبنوك و جزء من بنك الجنوب ، الذي تمت خوصصته ، فإن حولي 60 بالمائة من القطاع البنكي تهيمن عليه الدولة .

و قد تضمن قانون الماية لسنة 1999 وضع برنامج لتعزيز الأساس المالي للبنوك من خلال ضمان تكافلي من الدولة للقروض المتخلدة بذمة عدد من المؤسسات أو من خلال شراء ديون المؤسسات التي وقع تصفيتها . وسيشمل هذا البرنامج عدد أخر من المؤسسات التي ينتظر أن تقع خوصصتها أو تصفيتها أو إعادة هيكلتها. و تقرر في هذا الاطار أن تتحمل الدولة القروض البنكية المتبقية بذمة هذه المؤسسات بعد تصفيتها أو خوصصتها.(505) في ذلك الاطار يقول وزير المالية أن الهدف الرئيسي من هذا الاجراء هو تمكين القطاع البنكي من إستكمال تصحيح وضعه المالي و إعداده لمجابهة مقتضيات المنافسة(506).

في القطاع الفلاحي بلغ حجم الاستثمارات الفلاحية خلال العشرية 1987/1997 5000 مليون دينار 45 بالمائة منها تم إنجازها من طرف القطاع الخاص و الـ 55 بالمائة الباقية تم إنجازها من طرف الدولة.(507) و خلال العشرة أشهر الأولى من 1998 تحصل الفلاحين و المستثمرون و الباعثون الشبان على حوافز و إمتيازات فاق حجمها إمتيازات السنوات السابقة إذ قدر حجم المنح التشجيعية بـ35.630 مليون دينار سنة 1998 مقابل 24.400 سنة 1997.(508)

بالاضافة الى ذلك وفي ترتيب لأهم 200 مؤسسة في تونس نجد الثماني مؤسسات اللأولى مؤسسات تملك الدولة جانبا من رأسمالها وهي المجمع الكيمياوي التونسي و الخطوط التونسية و الشركة التونسية للكهرباء و الغاز و الشركة التونسية لتكرير النفط و الشركة القومية لتوزيع البترول و شركة فسفاط قفصة و وكالة التبغ و الوقيد و الصيدلية المركزية.(509)

نلاحظ من خلال كل ما سبق أن وضع الدولة التدخلية في تونس في ظل العولمة لا يختلف عن وضعها في بقية أنحاء العالم من جهة تواصل تدخلها في الاقتصاد حتى في ظل العولمة و هيمنة الخطاب الليبرالي الفوضوي.

لكن ذلك لا يمنعنا من ملاحضة وجود "تراجع" في دور الدولة الاقتصادي في تونس في ظل العولمة. و هو تراجع إعتبرنا أنه يجب النظر له على أساس أنه يدخل في إطار إعادة تنظيم و توجيه لذلك الدور ، وليس إلغاءه بشكل مطلق.و طبيعة الأزمة هي التي فرضت إعادة التنظيم و التوجيه تلك من حيث أن رأس المال المتأزم في حاجة الى تعميق توسعه. ويمكنه القيام بذلك على "حساب" الدولة و القطاعات الإنتاجية التي يهيمن عليها.هنا تجد الخوصصة كل معناها من جهة كونها عملية توسيع للسوق تقوم بها الدولة لمصلحة رأس المال.

في تونس و على النقيض من الخطاب الليبرالي الرائج حول تفكيك دور الدولة و تراجعه بل إلغاءه تحت تأثير العولمة ، يمكننا إرجاع بداية ذلك "التراجع" الى السبعينات و نهاية مرحلة "الإشتراكية الدستورية" (1962/1971). وهي التي تميزت بـ "تضخم" و كثافة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي و في ظل عجز رأس المال المحلي عن القيام بدوه في عملية التراكم.و إذا كان لابد من تاريخ ، فيمكننا إعتبار مؤتمر المنستير للحزب الحاكم المنعقد من 11 الى 15 أكتوبر 1971 بداية لمسار هو الذي يتعمق في التسعينات في ظل العولمة و " سياسة الدولة في خوصصة القطاعات التنافسية". وقد أورد عبد االطيف الهرماسي أن اللائحة حول "الإشتراكية الدستورية" إعتبرت " أن تدخل الدولة (له) حده" وهو عدم " المساس بالقطاع الخاص" وقد كانت "الإشتراكية" "فرضت تضحيات على البوجوازية ...و نالت من المصالح الفردية الضيقة و المباشرة لما فيه مصلحة الرأسمالية عامة".(510)

لذلك و مع بداية السبعينات شرع بتصفية الكثير من العناصر التي تأسست عليها "الإشتراكية الدستورية"و خاصة التدخل المكثف للدولة في الإقتصاد .حيث شرع في حل التعاضديات الفلاحية و التعاضديات التجارية في مستوى الجملة و التفصيل و إلغاء إحتكار الدولة للتجارة الخارجية في عدد من القطاعات.و تم التفويت في جزء من أراضي الدولة. ويلاحظ عبد اللطيف الهرماسي(511) " وفي قطاع الصناعة و الخدمات طرح شعار تطهير المؤسسات بتحويها الى القطاع الخاص أو تمكينه من مواطيء قدم فيها ، إلا أن العملية شهدت مصاعب عند الإنجاز ، تجد بعض أسبابها في أن رأس المال المحلي رغم نموه النسبي بقى عاجزا عن تحمل أعباء شركات عمومية أنشئت باستثمارات ضخمت ...و بقيت حالات التفويت معزولة". أن ذلك العجز هو الأصل في "تضخم" الطابع التدخلي للدولة في تونس في مرحلة 1962/1971. و هو كذلك العائق أمام سعي الدولة الى التخفيف من ذلك الطابع لأنه أصبح عائقا أمام نمو رأس المال المحلي. وسوف يتواصل ذلك الوضع طيلة السبعينات و النصف الأول من الثمانينات.حيث إنطلاقا من هذه الأخيرة ندخل في مرحلة جديدة إقترنت بأزمة الديون و بداية تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي سنة 1986. الذي تضمن تقليص تدخل الدولة و الضغط على النفقات العمومية و إعطاء الأولوية "للجدوى الإقتصادية" و دعم القدرة التنافسية للمؤسسات. و من أجل ذلك لابد من تحرير الإستثمار و التجارة الداخلية و الخارجية و تقليص الحماية الجمركية و الحد من الإستهلاك و تدخل صندوق التعويض. و ذلك الى جانب إعادة هيكلة القطاع العام و بيع المؤسسات ذات الطابع التنافسي.(512)

إذا حاولنا تحديد لمصلحة من وضع هذا البرنامج نتبين أن :

-- إعادة التوازنات المالية هدفها الأساسي الوفاء بالديون الخارجية و بالتالي هي في خدمة مصلحة رأس المال الأجنبي الخاص و العام.

-- تقليص تدخل الدولة مع الخوصصة أساسا يتم لمصلحة رأس المال المحلي و الأجنبي.

-- الضغط على النفقات العمومية الهدف منه تسديد الديون لمصلحة رأس المال الأجنبي.

-- إعطاء الأولوية "للجودة الإقتصادية" و دعم القدرة التنافسية للمؤسسات ، في خدمة رأس المال المحلي و الأجنبي.

-- تحرير الأسعار يتم لمصلحة رأس المال بشقيه.

-- و نفس الشيء بالنسبة لتحرير التجارة الدخلية و الخارجية و خفض الحماية الجمركية .

-- الضغط على الإستهلاك و يعني فعليا التخفيض من كلفة إعادة إنتاج قوة العمل و بالتالي يتم ذلك الضغط ،كذلك، لمصلحة رأس المال.

-- تقليص الدعم المقدم لصدنوق التعويض يحقق نفس الهدف.

-- إعادة الهيكلة في معناها الفعلي تعني إساسا الخوصصة و هي تتم كذلك لمصلحة رأس المال لأنها تتضمن توسيع مجال نشاطه.

عندما نصل الى التسعينات يصبح التساؤل عن الجديد مشروعا.إذ أن إستراتيجية هذه العشرية قامت ، كذلك، على الخوصصة و كسب معركة التصدير و الإندماج في السوق العاليمة و ربح معركة الجودة و المنافسة. ما هو الجديد مقارنة بالتمشي الذي شرع بإتباعه منذ عشريتي السبعينات و الثمانينات. ومع ملاحظة أن بدايته في السبعينات تقترن ببداية الأزمة في البلدان الإمبريالية. أن مقارنة بسيطة بين المخططين السادس و التاسع نتبين من خلالها أن الأساس و الأهداف تكاد تكون هي نفسها : التفويت/الخوصصة و إعادة الهيكلة و التصدير.

ما يمكن قوله هو أن التناقضات العالمية لما قبل التسعينات لم تكن تسمح بالذهاب بتلك الإستراتيجية الى مدها الأبعد.ليس في تونس فقط، بل في مختلف أنحاء العالم.لذلك، وبحكم إعادة ترتيب تلك التناقضات في بداية الثمانينات، وفي بداية التسعينات خاصة، أصبح من الممكن لواضعي تلك الإستراتيجية السير بها الى منتهاها "الطبيعي". وهو ما تم إعتباره عملية تفكيك ثلاثية الأبعاد و إستعادة تنازلات كان رأس المال قد أجبر على تقديمها.

و الوضع في تونس لا يشذ عن ذلك . و هو ما نلاحظه بالفعل .إذ تعمقت السياسات و البرامج التي شرع في تنفيذها في السبعينات و الثمانينات في التسعينات.يتجسد ذلك في تسارع نسق خوصصة المؤسسات العمومية و إمضاء إتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي و الإنخراط في منظمة التجارة العالمية. مما يعني تواصل "تراجع" دور الدولة الاقتصادي في التسعينات.فاذا " بقيت حالات التفويت معزولة في السبعينات و الثمانينات" حسب عبد اللطيف الهرماسي(513) فانها لم تعد كذلك في التسعينات.إذ شهدت تسارعا في نسقها.تأكيدا لذلك ،وفي حديث لـ "رويترز" يوم 28/09/1998 قال عيسى الحيدوسي كاتب الدولة لدى وزير التنمية الاقتصادية المكلف بالمساهمات العمومية أنه من المتوقع أن يدر برنامج التخصيص في تونس ما بين 500 و 520 مليون دينار سنة 1998، مضيفا الى ذلك أن الرقم يتجاوز حصيلة برنامج التخصيص خلال العقد الماضي ، أي الثمانينات حيث بلغت الحصيلة 390 مليون دينار.(514) عيسى الحيدوسي ، نفسه ن في إطار الحوار الذي جمعه مع مجموعة من الطلبة و الأساتذة من خلال المحاضرة التي ألقاها يوم 24/10/1998 حول الخوصصة في تونس ، في ذلك الإطار قال الحيدوسي أن القطاعات التي من الممكن أن تظل ، خلال السنوات القادمة ذات طابع إسترتيجي، ويقصد بذلك عادة تلك التي لن تشملها عمليات الخوصصة، إن تلك القطاعات بالنسبة له ثلاث. و تتمثل في توزيع المياه و النقل و الكهرباء.لكن و بالنسبة لهذا الأخير سيقع مع حلول سنة 2002خوصصة إنتاجه الذي ستتكفل به شركتان واحدة يابانية و أخرى أمريكية.ستقومان بانتاج الكهرباء و بيعه للشركة التونسية للكهرباء و الغز.و يعني ذلك في الواقع أن برنامج الخوصصة سوف يشمل كل القطاعات ما عدى توزيع المياه و النقل. وهو ما حصل بالفعل لأن " الخوصصة هي الفعل المباشر و الأول لعملية إعادة هيكلة المؤسسات العمومية" حسب وزير التنمية الاقتصادية التونسي.(515) "ألان لو نوار" ذكر أن برنامج الخوصصة في تونس إنطلق بمعدل 6 مؤسسات خلال الفترة الفاصلة بين سنتي 1987 و 1994 ليصل الى معدل 15 مؤسسة بين سنتي 1995 و 1997، مضيفا أن النسق سيتسارع خلال السنوات الثلاث القادمة بمعدل عرض عمومي للبيع في الشهر و ذلك بهدف إنهاء البرنامج مع نهاية سنة 2001. وقد أكد أن الخوصصة يجب أن تشمل المؤسسات ذات المردوية.(516)

خلال الفترة الممتدة بين 1987 و أكتوبر 1998 تم تخصيص 104 مؤسسات . بيعت 45 منها بين سنتي 1995 و 1997. ويحتل قطاع السياحة المرتبة الأولى من حيث عدد المؤسسات التي تم تخصيصها حيث بلغت 24 مؤسسة.ويحتل قطاع النقل المرتبة الثانية حيث بلغ عدد المؤسسات التي شملها البرنامج 14 شركة(الى حد أكتوبر 1998). و شهد قطاع الصناعات الميكانيكية و الكيمائية بيع 12 مؤسسة. كما بيعت14 في قطاع الصيد البحري و الصناعات الغذائية و 14 في قطاع التجارة و 5 في قطاع النسيج و 10 في قطاع البناء و 2 في قطاع الإسمنت و واحدة في قطاع الإتصالات.(517) و خلال 1998/1999 ستتم 50 عملية خوصصة . و خلال 1999/2000 سيتم خوصصة ما لا يقل عن 50 مؤسسة أخرى من بينها مصانع الإسمنت الأربعة الباقية.(518)

و قد تضمن المخطط التسع 1997/2001 قائمة المنشآت العمومية التي تعمل في القطاع التنافسي و التي سيقع بيعها. و يبلغ عددها 63 مؤسسة. و في جوان 1998 صدر أمر رئاسي يحدد سلطة الإشراف على المنشآت العمومية و محددا قائمة هذه الأخيرة. و يحيل ذلك الأمر وجوبا على وزارة التنمية الاقتصادية الإشراف على كل المؤسسات العمومية التي تقرر بيعها من قبل لجنة التطهير وإعادة هيكلة المنشآت ذات المساهمة العمومية ، والى حد صدور ذلك الأمر تعود الى إشراف وزارة التنمية الاقتصادية 24 شركة. ويعني أشراف تلك الوزارة عليها أنه تم إقرار تخصيصها أو هي مرشحة لذلك.(519) تأكيدا لذلك التسارع نلاحظ أنه تم في سنة 1994 بيع 8 مؤسسات عمومية و 17 سنة 1995 و 30 سنة 1996.(520)

ذلك هو المعنى المباشر لـ "تراجع" دور الدولة الاقتصادي في تونس في ظل العولمة.أي تراجع دورها كمنتج و تاجر و مقدم خدمات.

لكن لمصلحة من يحصل ذلك "التراجع" الذي إعتبر بمثابة عملية إعادة تنظيم و توجيه لدور الدولة الاقتصادي؟.

إن طرح القضية بصيغة تراجع دور الدولة و إضعافه ، بل إلغاءه ، هو طرح غير سليم ،لأن الطابع التدخلي للدولة ، و الأمر سواء بالنسبة "للشمال و "الجنوب" ، قد فرضته أساسا مصلحة رأس المال. فدولة الرفاه أو دولة التنمية قد كان تدخلهما ، أساسا، في خدمة رأس المال و في الحالين من أجل توفير الشروط العامة لعملية التركم و في الأولى للضغوطات التي يواجهها رأس المال في تحقيق فائض القيمة و في الثانية لعجز رأس المال عن القيام بدوره في عملية التراكم.

و إذا كان الأمر كذلك، وبحكم طبيعة الأزمة في البلدان الإمبريالية و تمكن رأس المال المحلي في تونس من مراكمة ثروات أصبحت تسمح له "بتحمل أعباء مؤسسات أنجزت بإستثمارات ضخمة" ، بحكم كل ذلك ، فإن المحتوى الفعلي لإديولوجيا تراجع دور الدولة هو توسيع "السوق" لمصلحة رأس المال من خلال تخلي الدولة عن القطاعات التي كانت تحت إشرافها ، عندما تطلبت مصلحة رأس المال ذلك.فتخلي الدولة و تركها المجال للقطاع الخاص هو المحتوى الفعلي لخطاب العولمة حول تراجع دور الدولة و فقدانها للكثير من مكونات السيادة و عجزها أمام الشركات المتعددة الجنسية و رأس المال المعولم المتجاوز لكل الحدود و الغير خاضع لأية قاعدة.

في هذا الإطار نجد اللائحة العامة الصادرة عن مؤتمر التجمع الدستوري الديمقراطي المنعقد أيام 30 و 31/07 و 1 أوت 1998 بتونس وبعد مباركتها "الخيار التونسي في المجال التنموي" و "سلامة الخيارات وصواب المنهج"، بعد ذلك تضمنت تلك اللائحة ما يلي :"و يثمن المؤتمرون الخطوات التي قطعتها بلادنا خلال العشرية الماضية على درب تحرير الاقتصاد و تفتحه و إدماجه في الدورة العالمية و إعادة الإعتبار للمبادرة و دعم المؤسسة الاقتصادية و إعادة توزيع الأدوار بين القطاعين العمومي و الخاص".(521)

هذا التفتح و الإدماج و إعادة الإعتبار و الدعم و إعادة التوزيع ، هي كلها التي تساهم في "تراجع" دور الدولة الاقتصادي في ظل العولمة في تونس.فما يتم تثمينه في الواقع هو هذا "التراجع" الذي يتم في مصلحة رأس المال . و بالتالي فان ما يثمن هو الخدمات التي تقدمها الدولة في تونس لرأس المال.ذلك أن ذلك "التراجع" يتم ، مثلما سبقت الإشارة الى ذلك،في إطار توسيع السوق لمصلحته. الى جانب ذلك ، وحسب بوجمعة الرميلي " كل الدلائل تشير الى أن دور الدولة تعاظم ، لا في نطاق التسيير المباشر للإنتاج و إنما إنتقل الى ما هو أهم من ذلك ، حسن التصرف في الأزمات الرأسمالية ، الى درجة أصبح من بعدها يستحيل تصور الرأسمالية بدون دور هام للدولة يتمثل في أستعاب الأزمات المتتالية للرأسمالية".(522)و يعني ذلك أن دور الدولة الاقتصادي تراجع في مستوى "التسيير المباشر للإنتاج".أي أن دورها المباشر في عملية الإنتاج كمنتج لفائض القيمة يتراجع بفعل أزمة رأس المال خاصة الإمبريالي.لكن و بحكم أن ذلك التراجع ذاته يمكن أن يولد الأزمات و هو يولدها بالفعل ، فان دور الدولة الاقتصادي يصبح هاما في علاقة بالتحكم في تلك الأزمات و محاولة البحث عن مخارج لها.

كون "تراجع" دور الدولة الاقتصادي يتم في مصلحة رأس المال يتأكد ذلك ، مثلا، من خلال قرءتنا للائحة الشؤون الاقتصادية و التنمية الجهوية الصادرة عن مؤتمر التجمع الدستوري الديمقراطي الذي سبقت الاشارة اليه ، حيث تذكرنا التوصيات التي تضمنتها هذه اللائحة بتلك التي كان يرفعها المركنتيليون الى "الأمير".فكل التوصيات ذات الطابع الاقتصادي ترفع و توجه الى الدولة و ينتظر منها إنجازها خدمة "للتنمية". أي في الواقع خدمة لرأس المال.نتبين ذلك إذا أخذنا التوصيات المتعلقة بـ :

-1- الخطوط العامة : يوصي المؤتمر بـ :

+ مواصلة العمل على تفتح الاقتصاد الوطني و تحريره.

+ إعادة توزيع الأدوار بين القطاعين العمومي و الخاص وضمان التكامل بينهما.

+ تفرغ الدولة الى مهام التنظيم و التحكم و التنشيط و الاشراف على القطاعات الاستراتيجية و توجيهها و توفير الخدمات العمومية.

+ ترسيخ القناعة بأهمية إعتماد برنامج التأهيل الشامل.

+ تأهيل المؤسسة باعتبارها وحدة إنتاج و تأهيل محيطها الطبيعي و البشري.

+ مزيد من دفع الاستثمار الداخلي و إستقطاب الاستثمار الأجنبي.

+ تكثيف الاحاطة بالباعثين و العمل على إجاد جيل جديد من الباعثين الشبان.

-2- السياسة النقدية و المالية : يوصي المؤتمر بـ :

+ مواصلة إصلاح السياسة النقدية و المالية من خلال تأهيل الجهاز البنكي.

+ تدعيم الادخار المالي و توجيهه نحو تمويل القطاعات المنتجة.

+مواصلة السياسات الرامية الى التخفيض من عجز الميزانية.

+ دعم التمشي التدريجي نحو التحرير الكامل للدينار.

+ مزيد تطوير قطاع التأمين خدمة لقطاعات الانتاج و تيسيرا لإندماج الاقتصاد الوطني في الدورة الاقتصادية العالمية.

-3- الصناعة : يوصي المؤتمر بـ :

+ملائمة قوانين الاستثمار الحالية و خاصة المجلة الموحدة للاستثمار مع التوجهات المستقبلية للصناعة في ضوء إتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.

+ تشجيع المناولة الصناعية في إطار التكامل بين المؤسسات.

+ التحكم في تكاليف الانتاج و خاصة منها التكاليف الاجتماعية و تكاليف خدمات المساندة و القروض و ثمن الأراضي بالمناطق الصناعية لتحسين مردودية المؤسسة.

+ حث المؤسسات على مزيد الاستثمار في التكوين و التأطير و في إقتناء التكنولوجيا المتطورة دعما لقدرتها التنافسية.

كما يوصي المؤتمر الدولة في هذا المجال بـ :

+ مواصلة الاصلاحات الهيكلية المتعلقة بدفع برنامج التأهيل الشامل في إتجاه الرفع من قدرة المؤسسة الصناعية.

+ توفير المعلومة الاقتصادية و ربط الصناعة التونسية ببنوك المعطيات لمسايرة حاجيات الأسواق العالمية و مواكبة التطورات الاقتصادية في العالم و بعث للصناعة...الخ.(523)

نعيد ملاحظة أن كل تلك التوصيات توجه الى الدولة التي ينتظر منها إنجازها ، و هي تقوم بذلك بالفعل.و كل اللائحة هي على شاكلة الأمثلة التي أخذناها، مع شيء من الإطالة ، نعتذر عنها، إنما هدفنا من ذلك التأكيد على أن دور الدولة الاقتصادي لا يلغى بل يعاد تنظيمه في خدمة رأس المال. و ترفع تلك التوصيات الى الدولة التي تتبنى هي و رافعو تلك التوصيات التوجه القائل بتراجع دور الدولة و ضعفها و فقدانها لجانب من سيادتها أن لم يكن كلها.

من خلال تلك التوصيات نلاحظ أن رأس المال المحلي ليس المستفيد الوحيد من "تراجع" دور الدولة الاقتصادي في تونس ،بل الفائدة تعود على رأس المال "الأجنبي" كذلك. فالى جانب ما ورد في تلك التوصيات و الفصل الثالث من مجلة تشجيع الاستثمارات، خاطب رئيس الدولة إعضاء السلك الديبلوماسي المعتمدين في تونس قائلا :" رفعنا خلال السنة المنقضية (1998) نسق برنامج التخصيص بما يستجيب لمقتضيات المرحلة و تنشيط حركة الاقتصاد الوطني. و إذ نسجل ما لقيه هذا البرمامج من أهتمام لدى شركائنا،فأننا نأمل أن يكون برنامج التخصيص عاملا مهما من عوامل تنشيط الشراكة و دفع الاستثمار الخارجي".(524) و يعتبر عبد الباقي الهرماسي ،وزير الثقافة ،" أن الأهداف التي تصبو تونس الى تحقيقها عديدة ...(منها) فتح آفاق جديدة أمام المستثمرين التونسيين و الأجانب".(525)

و هو ما تجسد فعليا خلال سنة 1998 حيث أن 80 بالمائة من حصيلة برنامج التخصيص مصدرها خارجي.(526) ويعني ذلك تعميق تدويل عملية الانتاج في تونس.و ينتج ذلك عن " مواصلة العمل على تفتح الاقتصاد الوطني و تحريره... و مزيد إستجلاب الاستثمار الأجنبي... و تيسير أندماج الاقتصاد الوطني في الدورة الاقتصادية العالمية...و ملائمة قوانين الاستثمار الحالية و خاصة المجلة الموحدة للإستثمار مع التوجهات المستقبلية للصناعة في ضوء إتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي"، مثلما ورد في لائحة الشؤون الاقتصادية و التنمية الجهوية الصادرة عن مؤتمر التجمع الدستوري الديمقراطي(تونس جويلية /أوت 1998).(527)

و قبل التعرض لإتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي كسبب من أسباب "تراجع" دور الدولة الاقتصادي في تونس ، نواصل مع "فتح الأفاق الجديدة أمام المستثمرين الأجانب" من خلال الخوصصة التي يعتبرها وزير التنمية الاقتصادية تعزيزا للشراكة و دفعا للإستثمار الخارجي.(528)

سنة 1992 و من خلال عينة مكونة من 8 عمليات تخصيص يستنتج الشادلي العياري "أن كل عمليات الخوصصة التي تمت في الثماني حالات المذكورة ...كانت بمساهمة من جيهات غير تونسية...و يعني ذلك أن الخوصصة ، في تونس، فتحت نافذة أخرى لرأس المال الأجنبي ضمن اقتصاد البلاد".(529) و بين 1997 و 2001 "ستمثل الاستثمارات الخارجية قرابة 7 بالمائة من جملة الاستثمارات التي ستنجز بالبلاد خلال فترة المخطط التاسع مقابل 6.6 تم تسجيلها سنة 1996. وسيساعد على تحقيق هذه الأهداف تسارع برنامج الخوصصة و فتح رأس مال عدد من المؤسسات لمساهمة المستثمرين الأجانب الى جانب فسح المجال لهم للإستثمار عن طريق اللزمة في قطاعات البنية الأساسية."

و ذلك حسب المخطط التاسع.(530) و باستثناء قطاع الطاقة فان الاستثمارات الأجنبية المباشرة ستبلغ 1250 مليون دينار.أي بمعدل 250 مليون دينار في سنة " وهو مايمثل قرابة مرتين و نصف المستوى المسجل خلال المخطط الثامن" وذلك دائما حسب المخطط التاسع (531) ، الذي يهدف الى " توسيع مجلات الاستثمار الخارجي و تنويع صيغه ، ذلك بفتح المجال للقطاع الخاص لإنجاز مشاريع البنية الأساسية في ميدان توليد الكهرباء و الطرق السيارة و محطات تطهير المياه المستعملة في إطار نظام اللزمة و رفع سقف إقتناء السهم و المنابات الاجتماعية بدون ترخيص مسبق من قبل المستثمرين الأجانب الى حد 49 بالمائة و ذلك تيسيرا لدفع الشراكة ، الى جانب رفع سقف مساهمة المستثمرين الأجانب الى 66 بالمائة بالنسبة لمشاريع التنمية الفلاحية و تربية الأسماك وإلغاء الترخيص المسبق بالنسبة لإستثمارات الأجانب في قطاع الخدمات ذات القيمة المضافة المتصلة بالصناعة".(532)

بصفة عامة و بين 1987 و 1997 تطورت الإستثمارات الأجنبية على النحو التالي : إستثمار مباشر 85 مليون دينار سنة 1987، أصبح 379 مليون دينار سنة 1997. في الطاقة كانت 60 مليون دينار و إرتفعت الى 247 مليون دينار .قطاعات إخرى كانت 25 مليون دينار و إرتفعت الى 132 مليون دينار. و إستثمارات المحفظة كانت 16 مليون دينار و إرتفعت الى 129 مليون دينار.(533) و نمت الإستثمارات المباشرة خلال الثلاثة أشهر الأولى من 1998 بـ 6.77 بالمائة (534). و حسب أرقام أخرى تعد تونس أول بلد متوسطي من حيث الإستثمارات الأجنبية المباشرة بالنسبة للناتج الداخلي الخام. وقد إرتفع تدفق تلك الإستثمارات من 86 مليون دينار سنة 1990 الى 320 مليون دينار سنة 1996 و 445 مليون دينار سنة 1997.(535) و في رواية أخرى كانت الإستثمارات الأجنبية المباشرة 50 مليون دسنار سنة 1994 و أصبحت 68 مليون دينار سنة 1995 و إرتفعت الى 93 مليون دينار سنة 1996 وسنة 1998 قدرت بـ 120 مليون دينار.(536)

ما يهمنا تسجيله ،رغم إختلاف تلك الأرقام و تضاربها ، هو إرتفاعها من سنة الى أخرى . و هو الارتفاع المرتبط بتسارع نسق برنامج الخوصصة في تونس و مساهمة رأس المال الأجنبي فيه. و هو ما نجد تأكيدا له لدى عيسى الحيدوسي كاتب الدولة لدى وزير التنمية الاقتصادية المكلف بالمساهمات العمومية ، إذ صرح أنه من مجموع البرامج التي تم إنجازها في برنامج الخوصصة الى حدود أكتوبر 1998 ، 53 بالمائة من مداخيلها تم توفيرها من طرف مستثمرين أجانب مضيفا في نفس الاطار أن مساهمة الاستثمار الأجنبي المباشر سوف تتدعم في المستقبل. و في ذلك الاطار يدخل تحوير 1997 الذي يسمح للأجانب بامتلاك 50 بالمائة من أسهم منشأة بدون ترخيص مسبق.و ذلك الى جانب تشجيعات أخرى من بينها الاعفاء الجبائي بالنسبة للأرباح أو المداخيل التي يعاد إستثمارها و الاعفاء من أداءات تسجيل تحويل الملكية و الاعفاء من الضريبة على الأرباح الخاصة بالشركات بالنسبة للخمس سنوات الأولى من النشاط الفعلي و ذلك الى جانب الاعفاء الكلي أو الجزئي من الأداء على المعاملات في البورصة.(537)

اذا كان برنامج الخوصصة ينتج "تراجعا" لدور الدولة في تونس في ظل العولمة، أي في الواقع إعادة تنظيم وتوجيه لذلك الدور في خدمة رأس المال من جهة كون برنامج الخوصصة يتضمن عملية توسيع للسوق لمصلحته، فان إتفاق الشراكة الذي عقدته "تونس" مع الاتحاد الأوروبي في أفريل 1995 ينتج نفس الشيء، لأنه يتضمن "تراجعا" لأحد أشكال الدور الاقتصادي للدولة التدخلية في تونس . وهو دوها الحمائي، أي دورها في حماية المنتوج و رأس المال المحلي من خلال الأداءات الجمركية التي تقوم بفرضها على المنتجات الموردة. و هي من خلال ذلك تقوم بعمل إقتصادي في خدمة رأس المال المحلي.

إتفاق الشراكة هذا بين الدولة في تونس و الإتحاد الأوروبي يشمل إلغاء الحوجز الجمركية أمام منتوجات الصناعات المعملية القادمة من الإتحاد الأوروبي. أما المنتجات الفلاحية و الخدمات فستكون موضوع "تفاوض" بعد خمس سنوات من عقد إتفاق أفريل 1995.

إتفاق الشراكة إحتوى أربع قوائم على أساسها يتم رفع الحواجز الجمركية.و ذلك حسب جدول زمني مختلف بين القائمات الأربع :

-- القائمة الأولى : وتهم المنتجات الغير مصنعة في تونس و يبدأ إلغاء المعاليم الخاصة بها مباشرة بعد إمضاء الاتفاق و تمثل 12 بالمائة من واردات تونس.

-- القائمة الثانية : و تشمل المواد الأولية و غيرها من المواد التي لا تصنع محليا يبدأ تفكيك المعاليم المتعلقة بها إنطلاقا من السنة الأولى لبداية تطبيق الاتفاق و لمدة خمس سنوات و تمثل 28 بالمائة من واردات تونس.

-- القائة الثالثة : و هي قائمة المنتوجات المصنعة في تونس و تمثل 30 بالمائة من الواردات يبدأ رفع الحواجز بالنسبة لها أنطلاقا من السنة الأولى لبداية تطبيق الاتفاق و تمتد على 12 سنة بمعدل 12/1 من مجموع منتجات القائمة سنويا.

-- القائمة الرابعة و تشمل بقية المنتوجات و ترفع الحواجز عنها على إمتداد 12 سنة مع أربع سنوات إمهال و معدل تفكيك 8/1 سنويا من المجموع.

ما يجب ملاحظته، قبل كل شيء، هو أن إلغاء الحدود الجمركية و تفكيكها يتم من طرف الدولة في تونس فقط لأن أغلب المنتوجات الصناعية "التونسية" تتمتع بحرية الدخول الى الاتحاد الأوروبي قبل عقد إتفاق أفريل 1995. و هو ما يعني أن تلك المنتجات لن تستفيد كثيرا من ذلك الاتفاق. بعد تلك الملاحظة يمكننا إعتبار هذا الاتفاق سبب في "تراجع" دور الدولة الاقتصادي من جهتين. جهة أولى هي جهة إلغاء دورها الحمائي.و هو دور إقتصادي . و جهة ثانية تتعلق بما ينتج عنه من نقص في مداخيل الدولة بحوالي 552 مليون دينار أي بنسبة 13.4 بالمائة من المداخيل الديوانية العادية للدولة.(538)

منطقيا ، ذلك "التراجع" هو تراجع في خدمة ٍاس المال الأوروبي لأن تراجع الدور الحمائي للدولة في تونس يخدم مصلحته .لأنه يسهل و صوله الى السوق التونسية. و ما يمثل نقصا في مداخيل الدولة في تونس يمثل زيادة في مداخيل رأس المال الأوروبي المتعامل مع السوق التونسية.على أساس ذلك فان الدولة في تونس و من خلال عقدها للأتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي تواصل القيام بدور إقتصادي في ظل العولمة.

الى جانب برنامج الخوصصة و إتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ، يمكننا تبين تواصل الطابع التدخلي للدولة في تونس في ظل العولمة من خلال مسألتي إنتقالية قوة العمل و التصدير و هما شديتي الإرتباط.

كنا ذكرنا سابقا أن سمير أمين و "أرقيري إيمانويل" يتفقان على أن النظام العالمي يتميز بإنتقالية رأس المال و عدم إنتقالية قوة العمل التي يسمح إنعدامها بإنتقال القيم من "محيط" النظام الى "مركزه". و يعتبر "أرقيري " أن التقسيم السياسي للعالم الى دول ، أي ما يسميه "إيمانوال فالرشتاين" "نظام الدول العالمي" كبناء فوقي سياسي للنظام الرأسمالي العالمي ، إن ذلك التقسيم ، أو النظام هو الشرط الأساسي لتحول القيم من "الجنوب" الى "الشمال" . و عند ربط ذلك بما يقوله وزير الخارجية التونسي ، سعيد بن مصطفى،وذكر سابقا في علاقة بطبيعة الارتباطات بين البلدان المتوسطية العضوة في الاتحاد الأوروبي و بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط و من بينها تونس ، إذ يعتبر " أن هذا الفضاء مدعو الى تدعيم القدرة التنافسية للبلدان المتوسطية و الاتحاد الأوروبي ". إذا أخذنا كل ذلك بعين الاعتبار ، أي إذا كانت الدولة في تونس عنصرا من بين العناصر المكونة لنظام الدول العالمي كبناء فوقي سياسي للنظام الرأسمالي العالمي ، وإذا كان تقسيم العالم الى دول يتواصل في ظل العولمة ، ومن بين الوظائف الأساسية لهذا التقسيم المحافظة على الأجور المنخفظة في "محيط النظام" ،و هو ما يجعل إنتقال القيم منه الى "مركز النظام" ممكنا ، واذا كانت تونس جزءا من "محيط النظام"، إذا كان كل ذلك كذلك، فإن أحد أشكال تواصل الطابع التدخلي للدولة في تونس في ظل العولمة هو تواصل دورها "كفاعل أساسي"يمنع إنتقال اليد العاملة المحلية الى "مركز النظام" و يحافظ على أجورها المنخفظة.

نذكر هنا أن الشادلي العياري إعتبر أن الشريك العربي في الفضاء الأوروبي المتوسطي هو شريك أمني أساسا.

إن ذلك الدور هو الذي يعطي "لمعركة التصدير" في تونس شيئا من معناها. من جهة كون تلك " المعركة" توفر لبلدان الاتحاد الأوروبي "أسلحة" منخفضة أسعارها مما يدعم قدرتها التنافسية/الحربية.

و يعني ذلك أن ما تشمله تلك المعركة هو أساسا سلعا إستهلاكية تدخل في تكوين رأس المال المتغير. وبحكم إنخفاض أسعارها العائد الى إنخفاض الأجور في تونس ، من ضمن أسباب أخرى، فانها تساهم في تخفيض رأس المال المتغير.لأن تلك السلع تستهلك أساسا من قبل الأجراء و بالتالي فان إنخفاض إسعارها يساهم في تخفيض كلفة قوة العمل و بالتالي رأس المال المتغير.و المثال النموذجي هنا هو النسج و الملابس. و تونس هي المزود الرابع للإتحاد الأوروبي بتلك السلعة و فارق الأجور في هذا القطاع بين تونس و الاتحاد الأوروبي هو من 1 الى 20. و تخفيض قيمة قوة العمل بتلك الطريقة هو ما يدعم القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي. و الدولة في تونس هي التي توفر شروط ذلك.

من كل ماسبق نخلص الى إعتبار أن ما يجب أن يكون موضوع تساؤل و بحث ، ليس الطبيعة التدخلية للدولة في تونس ، لأن هذا المعطى ، مثلما حاولنا أن نبين ذلك،ثابت في إطار الرأسمالية،سواء كانت تونسية أو غيرها،إنما مدى التدخل و وظيفته و أسبابه و أشكاله هي التي تتغير من دولة الى أخرى و من مرحلة الى أخرى، حسب الظروف التاريخية الخاصة بكل دولة و حسب تناقضات عمليات التركم و ضرورياتها.إن مايجب أن يكون موضوع بحث و تسائل هو دور الدولة ، مسؤوليتها عن السياسات و البرامج و المخططات التي تقوم بوضعها و تطبيقها مع تحميل مسؤوليتها الى تحديات المنافسة الدولية و الى العولمة.

إن كل ذلك يدفعنا الى إعادة التأكيد أن القضية ليست تراجع دور الدولة أو عدم تراجعه ، إنما هي حدود ذلك التراجع و معناه، الى أي حد يتراجع دور الدولة و في خدمة من؟ لمصلحة من يتراجع دور الدولة؟.

و طرح المسألة بالإعتماد على مفردتي التراجع أو التكثف ، لا ينفي أن الدولة كانت دائما في ظل الرأسمالية ذات طابع تدخلي. و بالتالي فالقضية تتعلق بمستوى ذلك التدخل و أسبابه سواء تراجع أو تعمق.فتاريخ الدولة في ظل النظام الرأسمالي ، هو في جانب منه ن تاريخ تدخلها في النشاط الاقتصادي حتى في ظل أكثر الحكومات ليبرالية.على أساس ذلك فان الاشكالية الأسلم التي يجب طرحها في ظل العولمة ، في علاقة بدور الدولة الاقتصادي هي : الى أي مدى يتراجع دور الدولة و في أي الميادين و ما هي أسباب ذلك و لمصلحة من؟.

طرح المسألة بهذا الشكل هو مايساعدنا على تجاوز الاضطراب و الخلط و عدم الوضوح الذي لف طبيعة العلاقة بين العولمة و الدولة.إن طرحها بهذا الشكل هو ما يساعدنا على الذهاب مباشرة الى ما هم أساسي بدون الوقوع في متاهات ما يسميه "إقناسيو رامونيه" الظلامية الجديدة أو الفكر الوحيد.

لذلك يمكننا إعتبار أن الدولة تتحمل جانبا كبيرا من المسؤولية في علاقة بما يحصل في ظل العولمة و بإسمها. وما ينظر له على أنه تراجعا لدورها المتمثل أساسا في تراجع دورها الاقتصادي ، لايمكن أن ينظر له على أساس أنه إضعافا لها و لوظيفتها المجتمعية العامة في الانتاج و إعادة الانتاج،بحكم أنها في خدمة رأس المال. و ذلك التراجع الاقتصادي المتمثل أساسا في الخوصصة و التحرير يتم لمصلحة رأس المال

و بالتالي يذهب في إتجاه تقويته. فالخوصصة هي في جوهرها توسيع للسوق لمصلحة رأس المال المتأزم و بالتالي فان دور الدولة الاقتصادي لا يتراجع إنما يتم إعادة تنظيمه و توجيهه في إطار البحث عن حل للأزمة.

إعادة التأكيد على هذا التصور تسمح لنا بكشف الطابع الطوباوي للنظرية الليبرالية

و فوضويتها و مجافاتها للواقع التاريخي للدولة الرأسمالية في علاقتها بالاقتصاد حيث أنها كانت و لازال تذات طبيعة تدخلة. و ما يختلف من دولة الى أخرى و من مرحلة الى أخرى هو مدى التخل و حدته و أسبابه و دواعيه و المستفيدين منه و المتضررين منه.

وجود متضررين من ذلك التراجع يفتح الباب أمامنا لتناول أنعكاسات العولمة على الدور السياسي للدولة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire