vendredi 17 octobre 2008

العولمة كواقعة إقتصادية

العولمة كواقعة إقتصادية

محمد البلطي

baltym@yahoo.fr

تناول ما يسمى العولمة بالدراسة من جهة محتواها الإقتصادي لا يتضمن إهمال أبعادها الأخرى .إنما التركيز في هذه المساهمة يتم قصدا، وفقط، على بعدها الإقتصادي لأنه، حسب ما نعتقد البعد أو المستوى المحدد أو المهيمن فيها.

في هذا المجال ينظر "إقناسيو رامونيه" الى العوملة كدعم للنقدية و التحرير و التبادل التجاري الحر و حرية تدفق رؤوس الأموال و الخوصصة المكثفة. و ينتج عن ذلك إسباغ مشهدي، للطابع المتعدد الجنسيات على الاقتصاد. و هو ما يعني بالنسبة له تسارع الديناميات الرأسمالية التي تسهلها الثورة الاعلامية. و في الغرب أدى ذلك التسارع الى إعادة هيكلة مؤلمة للصناعة في بداية الثمانينات و نزع الأسلحة الايديولوجية للاشتراكية الديمقراطية.أما في الشرق فقد أدى ذلك التسارع الى إفلاس الاقتصاد المخطط. و كانت النتيجة في العالم الثالث عجز هذا الأخير و إنغلاقه.

لقد أصبحت التوازنات الاقتصادية الكبرى تتعلق بآليات تنظيم شديدة الحساسية يحددها في أغلب الأحيان ما يسمى السوق المعولم و منطق العولمة . و هو ما يجعل عولمة الاقتصاد الديناميكية المهيمنة في نهاية القرن العشرن. لا يختلف عن ذلك ما يقوله سمير أمين.إذ أن ما يقع خلف خطاب العولمة في الصيرورة التارخية الحالية هو الاستقلال الذاتي لرأس المال المتحرك(circulant) و إنتصار نموذج المجتمع ذو الوجه الاقتصادية الكوكبية.

في نفس التصور العام عن العوملة في بعدها الاقتصادي، و بعد تعداد المراحل السابقة التي مر بها النظاك الرأسمالي و هي :

-- المرحلة المركنتيلية 1600-1800.

-- مرحلة الصناعات الكبرى 1800-1920.

-- المرحلة التيلورية-الفوردية 1920-1980،

و بعد تبيان أن النسق العالمي قد ظهر خلال هذه المراحل الثلاثة كاقتصاد مابين قومي(internationale)، بعد ذلك ، و بالعودة الى "ميشال بو" يعتبر سمير أمين أن المرحلة الجديدة تشهد إنبثاق إقتصاد عالمي (une économie mondiale)، .إذ القرار الاقتصادي أصبح قرارا عالميا ولم يعد قوميا كما كان في المراحل السابقة.ذلك أن الرأسمالية قد تطورت على قاعدة الدول البورجوازية القومية الى حدود نهاية الحرب العالمية الثانية. و يؤرخ سمير أمين لذلك التحول بالاعتماد على حرب الخليج الثانية التي أنهت مرحلة و فتحت أمامنا مرحلة جديدة.و يتسائل كيف يمكننا أن نحدد هذه المرحلة الجديدة التي تنطلق إبتداء من 1989/1991، من الانهيار المزدوج للأنظمة الشرق المسماة إشتراكية و لطموحات بلدان الجنوب في الاستقلال الوطني ، ختاما لمرحلة باندونغ1955/1975؟.جوابا على هذا السؤال يقول سمير أمين أنه يحددها ، كمرحلة أولى على الأقل،بكونها مطبوعة بمحاولة جديدة لفرض توحيد العالم على قاعدة السوق و بواسطته. و"ميشال بو" الذي يعتمد عليه سمير أمين يعتبر أن الرأسمالية اليوم لم تعد منغلقة في يعدي نشأتها الأولى: البعد القومي و البعد المابين قومي(internatioal )،.إن الرأسمالية اليوم ، بالنسبة له، تصبح متعددة القومية و عالمية (multinational et mondial)،أكثر فاكثر. و بالاضافة الى ذلك يلاحظ "بو" أنه في حين كان الانتاج في الازمان السابقة موجها بواسطة حاجات و معتقدات و سلطات المجتمعات ، تتجه المجتمعات، اليوم ،أكثر فاكثر، الى أن تكون خاضعة للاقتصاد. و ينتج عن ذلك الاتجاه الان ، أنه، و لأول مرة، تجد الدول و الشركات و المجتمعات نفسها مأخوذة و مجروفة و غارقة في عاصفة عولمة إقتصادية و مالية.

هذا الجانب الاقتصادي في العولمة هو ما يؤكد عليه كل من "ريمون بار" و "إدوارد لوتووك".الأول يعتبر أن العولمة قد جاءت نتيجة تحرر الأنشطة الاقتصادية الذي تولد عن الغاء الرقابة و غياب القيود.أما بالنسبة للثاني فالعولمة هي "أنصهار العدد الهائل من الاقتصادات القروية و الاقليمية و الوطنية في إقتصاد عالمي شمولي واحد لا مكان فيه للخاملين، بل يقوده أولئك الذين يقدرون على مواجهة عواصف المنافسة الهوجاء".في نفس الاتجاه،تقريبا ، يذهب "أنطوني قيدنز".إذ ، و بالاعتماد على "إيمانويل فالرشتاين"، إتخذ الاقتصاد العالمي شكل نسق-عالم رأسمالي(a capitalist world-system).

العوامل الفاعلة في تلك الصيرورة تتمثل بالنسبة لسامي نير في الاستقلال الذاتي الكلي لأسواق رؤوس الأموال و إنفصال التدفقات المالية عن كل رابطة أرضية و ذلك الى جانب المنشأة الشبكية و تسارع الاستثمار الاجنبي المباشر. و ذلك ما يجعل كلمة العولمة مرادفة لتحرير الأسواق. و السياسة الاقتصادية مهما كان حقل إختصاصها تفقد طبيعتها القومية. و تحرير أسواق رأس المال هو الذي أدى الى تسارع الاستثمار الاجنبي المباشر، و هذا الأخير بالنسبة لسامي نير، هو أحد أهم العوامل الفاعلة في العولمة.و هو هنا يلتقي مع صادق جلال العظم في تعريفه للعولمة على أساس أنها الاستثمار المباشر.و قد تمت عملية التسارع تلك بطريقة مدهشة: بين 1987 و 1990، مثلا، تم إستثمار 100 مليار دولار سنويا أي عشرة مرات أكثر مما تم إستثماره في السنوات الثلاث الاولى من السبعينات. و بين 1983 و 1989 نمت الاستثمارات الاجنبية المباشرة بـ 29 بالمائة سنويا تقريبا. في حين أن تصدير البضائع لم ينمو الا بـ 9 بالمائة سنويا. و قد إرتبط ذلك التوسع بنمو غير مسبوق لقطاع البنوك و المالية و التأمين.و يؤكد ذلك "هوارد فاتشات" حيث يشير الى أن الاستثمارات الاجنبية المباشرة قد تضاعفت عشرة مرات خلال عشرة سنوات. حيث إنتقلت من 60 مليار دولار في السنة سنة 1985 الى 315 مليار دولار سنة 1995 و 335 نليار دولار سنة 1997.و تستثمر بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية سنويا حوالي 130 مليار دولار في بلدان العالم الثالث منها أكثر من 40 مليار في الصين.

الى جانب الاستثمار الاجنبي المباشر يُنظر الى الشركات المتعددة الجنسية أو الشركات العالمية أو الشركات العابرة للأمم أو المنشأة الشبكية على أنها من العوامل الفاعلة في صيرورة العولمة من جهة كونها واقعة إقتصادية.

بناء على إحصائيات منظمة مؤتمر الأمم المتحدة لتجارة و التنمية هناك ما يقرب من أربعين ألف شركة تمتلك مصانع في ما يزيد على ثلاث دول. و وصلت قيمة مبيعات المائة الكبرى منها الى ما يقرب 1.4بليون دولار في العام الواحد. و تهيمن الشركات العابرة للقارات على ثلثي التجارة العالمية. و تنجز ما يقرب من نصف هذه التجارة في داخل شبكة المصانع التي تعود ملكيتها الى الشركة الأم. من هنا فان هذه الشركات قد صارت محور العولمة و القوة الدافعة لها بلا إنقطاع.

و بالعودة الى "إقناسيو رامونيه" نجد أن السبعينات قد شهدت توسع الشركات المتعددة الجنسية و كانت أنذاك تشبّه بالاخطبوط.حيث لها إمتدادات متعددة، لكنها تابعة الى نفس المركز المحدد جغرافيا أين تتم صياغة الاستراتيجية.أما منشأة اليوم المعولمة(l’entreprise global) فلم يعد لها مركز.إنها كائن بلا جسم و لا قلب.إنها ليست الا شبكة تتكون من عناصر متعددة و متكاملة منتشرة في كامل الكوكب.لقد أصبح من الممكن للمنشأة الفرنسية أن تقترض من سويسرا و تقيم مراكز بحوثها في ألمانيا و أن تشتري ألاتها من كوريا الجنوبية و تنشأ مصانعها في الصين و تصوغ حملة تسويقها و دعايتها في أيطاليا و تبيع في الولايات المتحدة الأمريكية و أن يكون لها شركات ذات رأس مال مشترك في بولونيا و المغرب و المكسيك.و يصل "رامونيه"،مثله مثل كاتبا "فخ العولمة" ، الى إعتبار المنشأة تفقد هويتها، بل و في بعض الاحيان تفقد شخصيتها الخاصة. و مثال ذلك المنشأة اليابانية "مزدا" التي و منذ 1991 تنتج إحدى سياراة"فورد" في مصنع "مزدا" بـ"فلات كوك" في "ميشغان".بعض هذه السيارات تصدر الى اليابان و تباع باسم "فورد". و هناك صنف من سيارت "مزدا" تم إنتاجه في مصنع "فورد" بـ"لويس فيل" بـ "كونتكي" ثم تباع في مغازات "مزدا" بالولايات المتحدةا الامريكية. في نفس الوقت تقوم"نيسان" بتصور شاحنة خفيفة جديدة في "سان دياقو" بـ "كلفورنيا"، هذه الشاحنة سوف يتم تجميعها في مصنع"فورد" بـ"أوهايو" بالاعتماد على قطع منتجة من طرف "نيسان" في مصنعها بـ"تنيسي" ثم تسويقها من طرف "فورد" و "نيسان" في الولايات المتحدة و اليابان.كل ذلك يدفع الى الساؤل من هي "فورد" من هي "نيسان" من هي "مزدا". و في علاقة باحدى الشركات "الألمانية" يتساءل كاتبا فخ العولمة : هل يبقى شيء ألماني الطابع في شركة "هوكست".

لا يختلف عن ذلك ما يذهب اليه سامي نير بل يؤكده.إذ بعد ذكر أن هناك 37 ألف شركة متعددة الجنسية ، يقول أن هذه الاخيرة تنتج من أجل سوق شمل الكوكب كله بالفعل.فالثورة التكنولوجية لا تهم نظم الانتاج فقط و لكن كذلك نمط التنظيم و التصرف في الرأسمالية على مستوى الكوكب ككل.و هو ما يجعل المنشأة الشبكية فاعلا مميزا في العولمة.فقد أصبحت الشركات المتعددة الجنسية قادرة الأن على نقل وحداتها الاقتصادية الى حيث تكون الامتيازات أكبر.مما يجعل المنتوج ليس فقط يمكن أن يكون له أمكنة مختلفة للانتاج بل إن جنسيته قد أصبحت غير محددة.إن البضائع لم يعد لها وطن.و هو ما يعني ، مثلما يذهب الى ذلك سامي نير أن الشركات المتعددة الجنسية أصبح لها الحرية الكاملة في التحكم في السوق العالمي. و هي تتحكم في ثلث الانتاج المملوك للقطاع الخاص.أما "دانينق" فيقدر عدد المتعددة الجنسيات سنة 1988 بحوالي 20 ألف مع أملاك خارجية تقدر بحوالي 1.1 ترليون دولار، أي ما يمثل 8 بالمائة من الانتاج العالمي الخام.و تبلغ قيمة أملاكها الجملية أكثر من 4 ترليون دولار.كما تنتج ما بين 25 و 30 بالمائة من الانتاج الداخلي الخام للبلدان ذات إقتصاد السوق مجتمعة و 75 بالمائة من التجارة العالمية للسلع و 80 بالمائة من المبادلات التكنولوجية و خبرات التصرف في العالم. و أكثر من 300من بينها قامت بـ 70 بالمائة من الاستثمارات الخارجية في العالم. و تملك 25 بالمائة من رأس المال في العالم . و توسع مجال نشاطها دفع "دانينق" الى الحديث عن الصناعات المعولمة بالفعل. و هي تلك الميهمن عليها من طرف الشركات الكبرى ذات الجنسيات المتعددة التي تنتج و تسوق في أكبر الاقتصادات في العالم. و أهم مثال بالنسبة له تمثله الصناعات البتروكميائية و هناك صناعات أقل أهمية منها صناعة السيارات و الصناعات الالكترونية و الصناعات الصيدلية و السجائر و المشروبات و الاكلات السريعة و الاستشارات المالية و النزل الفخمة.

يمكن إجمال تصور العولمة كواقعة إقتصادية بالاعتماد على "مالكولم ويترز" الذي ينظر الى الرأسمالية كمحرّك لعولمة الاقتصاد بحكم خصوصية مؤسساتها، مثل الاسواق المالية و السلع و الطابع التعاقدي لعلاقات الشغل و الملكية القابلة للفصل عن صاحبها. و هي كلها تسمح و تسهّل المبادلات الاقتصادية على مسافات بعيدة.كل ذلك الى جانب إعتبار أن العناصر التي تعتبر وسائل لانشاء العلاقات الاقتصادية المعولمة هي التجارة و الاستثمار و الانتاج و المبادلات المالية وهجرة العمل و التعاون الاقتصادي الدولي و الممارسات التنظيمية.

و بالنسبة لـ"أنطوني قيدنز" يعتبر نمو الصناعة من بين أبعاد العولمة . و الخاصية الاساسية لذلك النمو هي توسع تقسيم العمل الدولي الذي يتضمن التمايز بين المناطق القليلة التصنيع و المناطق الأكثر تصنيعا في العالم.

من الواضح أن ما سبق عرضه يشكل الرؤية الأكثر إنتشارا و رواجا عن العولمة كواقعة إقتصادية.لكن كل ما سبق يُجبُّ من طرف "إلي كوهين"Elie Cohen، نقطة نقطة تقريبا.ومن أجل الخروج من المقاربات التي يقدمها الخطاب العام حول العولمة من الهام ، بالنسبة له، التمييز بين حركة التدويل((internationalisationالتي بدأت منذ 1945، و القطيعة الممكنة التي حصلت في السنوات الثمانين في النظام الاقتصادي العالمي على حساب الدول و لمصلحة القوى اللاشخصية للسوق المعولم.

في النمط الأول،الاقتصاد العالمي(l’économie internationale)،الوحدات الاساسية هي الاقتصادات القومية.و رغم نمو المبادلات و الاستثمارات التي تؤدي الى إندماج الاقتصاد العالمي و التخصص و تقسيم العمل، فان العلاقات بين الأمم و داخل هذه الأخيرة تبقى هي المحددة سواء في ترتيب العلاقات العالمية(مابين القومية) أو في الفضاء الداخلي.و في هذا النموذج تنمو الشركات المتعددة الجنسية و تتبادل و تستثمر في العالم لكنها ، رغم ذلك، تحافظ على قاعدة قومية، يمكن التعرف عليها بشكل واضح. و هي خاضعة للقوانين القومية. و بالاضافة الى ذلك فان الاقتصاد العالمي (مابين القومي) مندمج، بمعنى أنه و منذ نهاية القرن 19 سمحت ثورة الاتصال(التلغراف)بحصول المبادلات في زمن واقعي .كما أنه مفتوح للمبادلات و تدفقات رؤوس الاموال.

أما الاقتصاد المعولم(l’économie mondialisée) فيمثل نموذجا مثاليا يختلف عن الاقتصاد العالمي، يتم بناءه بالتعارض مع هذا الأخير.في هذا الاقتصاد المعولمة تنحل الاقتصادات القومية و تتمفصل على المستوى العالمي من خلال مجموعة من الصيرورات و المبادلات.و يلاحظ "إلي كوهين" أن تنظيما إقتصاديا كهذا يطرح قبل كل شيء قضية الحكومة: من يستطيع التحكم في مجموعة من الصيرورات و المبادلات التي لها تأثير كبير على الأمم لكنها لا تخضع لسلطتها؟. و بالاضافة الى ذلك فان الشركات المتعددة الجنسية تتحول في هذا النموذج الى شركات معولمة، بمعني أنها تقطع الارتباطات التي تشدها الى قاعدتها القومية و تدافع عن نفسها ضد أي تدخل و لا يحركها الا منطق البحث عن زيادة شبكة قيمتها على المستوى العالمي.و على أساس ذلك تصبح كل سياسة قومية ،إرادية،إما غير ممكنة أو مضادة للانتاج. و في الاخير ينتج عن نمط كهذا أن توزيع السلطة بين الفاعلين القوميين على المسرح الداخلي و بين الأمم على المسرح العالمي ، يتغير جذريا.فالدولة-الأمة لم يعد في مقدورها إدعاء إحتكار السلطة في إطار العلاقات العالمية و يجب عليها التعاطي مع المنظمات الجهوية و العالمية و حتى الشركات المعولمة.

في الرد على هذا النموذج و من أجل تبيان عدم واقعيته يعتمد "إلي كوهين"على المعطيات المتاحة،متسائلا هل يمكننا التأكيد أن المرحلة الأخيرة تتميز بتسارع له دلالة لحركة المبادلات؟.الاجابة بالنسبة له سوف تكون سلبية بالنسبة للمرحلة السابقة لسنة 1993.وحسب القاعدة العامة فان التجارة الدولية تنمو بشكل أسرع من نمو النتاجات الداخلية الخامّة، و هي تدعم الاتجاه و لكنها لا تقلبه.فالتجارة العالمية تزايدة بنسبة 6.6 بالمائة في المتوسط سنويا بين 1950 و 1980، أي بفارق 2.3 عن تزايد الانتلاج. و في السنوات الثمانين الفارق لم يعد أكثر من 0.9 نقطة مقارنة بالانتاج الداخلي الخام.و في المرحلة 1991/1993، التي تتميز في البلدان الأوروبية بتباطىء نمو الانتاج الداخلي الخام،تباطأت التجارة الخارجية كذلك.بالاضافة الى أن المبادلات الخارجية تهم أساسا بلدان الثلاثية و خاصة بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية(OCDE).كما أن توسيع المبادلات ليشمل بلدان أخرى لم يغير من هيمنة الثلاثية:80 بالمائة من التجارة العالمية يتم إنجازها من طرف بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية و 70 بالمائة من تدفقات رؤوس الاموال تجد أصولها في البلدان الخمسة الأولى المتقدمة.

على أساس ذلك يتساءل"ألي كوهين" هل يتمثل الجديد في توسع مناطق التبادل الى خارج الثلاثية( الولايات المتحدة الامريكية و الاتحاد الاوروبي و اليابان)؟ و يجيب، هناك من الأكيد نموا قويا للمبادلات بين آسيا الشرقية وباقي العالم، بل هناك نمو هاما للمبادلات الجهوية، لكن ، كل ذلك ، بالنسبة له، لا يسمح بتحديد خصائص حركة و إعطاء إسم لها.إن العالم ، حسب "إلي كوهين"، قد شهد مراحل تفتح و مراحل إنغلاق ، وفي المجموع فإنه ليس أكثر إنفتاحا الأن مما كان عليه الأمر في عشية الحرب العالمية الأولى.

هل كان هناك تكثيقا في حركة تصدير رؤوس الأموال؟.

بالاعتماد على "فريدن دي روقفسكي" »Friedn de Rogowski » ، يعتبر "كوهين" أننا و منذ ثلاثين سنة بحضور تسارع للمبادلات و تدفق الاستثمارات المباشرة و التوظيفات المالية . و في المتوسط بين 1960 و 1989 و في 24 بلدا عضوا في منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية ،تزايد حجم الصادرات بنسبة 6.3 سنويا، في حين أن الانتاج لم يتزايد إلا بنسبة 3.7 بالمائة . و خلال نفس المدة فان مجموع الواردات و الصادرات في علاقة بالانتاج القومي الخام إنتقل من 9.6 بالمائة الى 20.6 بالمائة . و الارقام المماثلة بالنسبة للاتحاد الاوروبي كانت 37.6 بالمائة الى 56.3 بالمائة . و تدفقات رؤوس الاموال تزايدت بشكل أسرع.إذ في السبعينات كانت التدفقات الاستثمارية في العالم 39.8 مليار دولار و بين 1986 و 1992 إنتقل الرقم الى 167.2 مليار دولار. و مرت إستثمارات المحفظة من 15 الى 205 مليار دولار في السنة.و يلاحظ "كوهين" أن الارقام المقدمة بهذا الشكل هي أرقان كبيرة، خاصة بالنسبة لتدفقات الاستثمار المباشر.لكن و إذا إقتصرنا على هذا المؤشر وإذا و ضعناه في أفق تاريخي فان الصورة تتغير كليا.إذ أنه في سنة 1991 لم يتم بلوغ المستوى النسبي لتصدير رؤوس الأموال في سنة 1913.

بعد ذلك يصل "إلي كوهين" الى التساؤل: هل إنبثقت شركات متعددة الجنسية قوية خارج الثلاثية؟.

في الوقع و خلال السبعينات 90 بالمائة من 37.000 متعددة الجنسية التي تراقب 206.000 فرع أجنبي كانت تنتمي الى البلدان المتقدمة و لم تكن و لو واحدة من بين الـ 100 الأوائل تنتمي الى أحد البلدان السائرة في طريق النمو.

الى جانب كل ما سبق يتساءل هل هناك عدم تناظر في داخل الثلاثية؟ و هو يطرح هذا السؤال في إطار الرد على ما يروج له بصدد اليابان الذي تشكل شركاته حاملات طائرات.في الواقع إستثمارات اليابان الخارجية لم تكن تمثل سنة 1992 الا 13 بالمائة من جملة الاستثمارات العالمية الخارجية.ذلك في حين أن المملكة المتحدة كانت تحوز 45.5 بالمائة منها سنة 1914.

و يقول "إلي كوهين" أن أهم حجة لدى المدافعين عن أطروحة الاقتصاد المعولم(l’économie mondialisée) تتمثل في نمو الشركات المعولمة(les firmes globales ). في الرد على ذلك يشير الى أن الدراسات الموسعة لأنشطتها و لأملاكها و مناطق تواجدها تؤدي الى الاستنتاج أن الشركات المعولمة بالفعل نادرة. و بالاضافة الى ذلك فانها و حيثما إنغرست تخضع للقوانين القومية. و في إطار ذلك يستشهد بـ "هيرستHisrt" و "تومسنThomsen" اللذان يصلان الى إستنتاج أساسي مفاده أن القاعدة و الاتجاه القومي للشركات متعددة الجنسية يفرضان نفسيهما كشيئا بديهيا. و هناك بعدين لمسالة القاعدة القومية. يرتبط الأول بكون 70 الى 75 بالمائة من القيمة المضافة لدى هذه الشركات هي ذات أصل قومي.أما الثاني فيرتبط بأهمية القاعدة الجهوية .فهناك إتجاه للاندماج الجهوي خاصة في ميدان البحث و التنمية.و مهما كان الامر فان المنشأة العالمية تبقى و بشكل كبير محددة بقاعدتها القومية، بأساسها القومي.و من وجهة النظر هذه فهي شركات متعددة الجنسية و ليست عابرة للجنسيات. و بالتالي يمكن التحكم فيها من طرف الحكومات القومية.

و في ما يتعلق بالتسيير الاقتصادي، في عالم تنمو فيه التبعية المتبادلة فان الاستنتاج الذي يفرض، هو أن الهياكل مثل 'القات'(GATT) التي حلت محلها المنظمة العالمية للتجارة و 'النفتا'(NAFTA) أو الاتحاد الاوروبي التي يتم إعتبارها في كل مكان كتمظهرات للاقتصاد المعولم، ترتبط بارادة الدول. و هي في الواقع أدوات لتعاون متعدد الاطراف ، جزئي و محدد و حصل بشأنه تفاوض بين كتل تجارية و لا تعبر عن إنتصار التبادل المتعدد الاطراف. و في المحصلة النهائية فان التطورات التي بصدد الحصول تقابل بالنسبة لـ "إلي كوهين"، أكثر ما تقابل ، نمطا من الاقتصاد المنفتح، العالمي، مثلما تم بناءه، رويدا رويدا، بعد الحرب . و هو يعني أن تلك التطورات لا تماثل بالفعل نمطا من الاقتصاد المعولم.

ما يجب ملاحظته هنا هو أن "إلي كوهين" ليس الوحيد الذي يدافع عن وجهة النظر هذه. ففي علاقة بما يسمى الشركات المتعددة الجنسيات يقول "أُُنطوني قيدنز" أن الانفصال بين الساسي و الاقتصادي في البلدان الرأسمالية يسمح للشركات فيها أن تتوسع عالميا لكن تلك الشركات لها دائما مركز يربطها بدولة معينة.و التنظيم الشبكي للمنشأة و إمتداداتها العالمية هو ما يدفع "قلبان Gilpin " الى الربط بين العولمة و الرأسمالية.حيث يصبح العالم بالنسبة له معولما الى الحد الذي يتوسّع فيه السّوق الراسمالي و عملية الانتاج و تشملان كل ركن من أركان الكوكب.و العولمة متصورة بهذا الشكل غير متحققة بالفعل.أي أن الاقتصاد السياسي العالمي ليس معولما في الواقع بل يتجسد في محاولات قومية للنجاح في دفع الأجوار الى الافلاس من خلال الرسوم التنافسية و منع الهجرة و دعم الاستثمار و التصدير و الحد من التوريد. و الفاعلين في هذه الصيرورة هم ، في أغلب الأحيان، تجمعات دولية جهوية مثل 'أسيان ASEAN " و 'أباكAPEC " و الاتحاد الأوروبي و "نفتاNAFTA".لكن هذه التجمعات تتصرف مثلما كانت تفعل الدول المركنتيلية في القرنين السابع والثامن عشر.

ما جبّه "إلي كوهين" و ما ذهب اليه هو يضعنا في مواجهة موقفين متطرفين الى حد ما في التعاطي مع التحولات الاقتصادية التي حصلت أو تحصل في ظل ما يسمى العولمة و تعطي لهذه الاخيرة طبيعتها الاقتصادية.و هو ما يدفعنا الى الساؤل عن ما الذي تمت أو تتم عولمته؟ و بشكل أسلم ، ما الذي جرى أو يجري تدويله في الواقع؟.

قبل الاجابة على هذا السؤال لابد من التأكيد على واقع لا يمكن إنكاره و هو تعمق وحدة العالم الاقتصادية في ظل ما يسمى العولمة. و هي وحدة يشترك في التأكيد عليها الموقفان المتطرفان، كل بطريقته.و هي وحدة تتعمق و ليست جديدة. و عدم جدتها هو ما يدفعنا الى التمييز بين التدويل و العولمة. ويعني ذلك :

-- أن وحدة العالم في ظل الرأسمالية ليست وليدة العولمة.

-- التدويل كخاصية من خصائص الرأسمالية ليس واقعا جديدا وليد العولمة.

على وجاهة الفكرة الأولى لن نفعل أكثر من أيراد نصوص تنتمي الى فترات مختلفة تؤكد ذلك و هي :

-- نص يعود الى 1680 أو 1683:

« Les communication des peuples entre eux sont si étendues sur tout le globe terrestre que l’on peut quasiment dire que le monde entier est une seule ville où se tient une foire permanante de toutes les marchandises et où tout homme ,sans sortir de chez lui peut au moyen de l’argent s’approvisionner et jouir de tout ce que produisent la terre , les animaux et le labeur humain,Merveilleuse invention »

Germiniano Montanari,Della monetta,Trattato mercantile 1680.

-- نص يعود الى 1783 :

« Il n’ya plus aujoudhui de Francois,d’Allemans,d’Espagnols,d’Anglais meme,quoiqu’on en dise ;il n’ya que des Européens.Tous ont les memes gouts ,les meme passions,les meme mœurs ,parce qu’aucun n’a recu de forme nationale par une institution particulière.Tous dans les meme circonstances front les meme choses, tous parleront du bien public et ne penseront qu’à eux-meme, tous venteront le mèdiocrité et voudront etre des Crèsusn ils n’ont de passion que celle de l’or .Sur d’avoir avec lui tout ce qui les tente, tous se venderont au premier qui voudra les payer.Que leur importe à quel maitre ils obèissent , de quel Etat ils suivent les loix ?Pourvu qu’ils trouvent de l’argent à voer et des femmes à corrompre, ils sont partout dans leurs pays »

Hean-Jaques RouseauM Considerations sue le Gouvernement de la polgne et sur sa reformation projetée, 1783.

-- نص يعود الى سنة 1866:

« Actuellement les cinq parties du monde sont nos tributaires volentaires.Les plaines de l’Amèrique du Nord, la Russie , voila nos champs de blé ; Chicago,Odessa sont nos frontiers ; le Canada, les pays Baltique , nps forets.l’Australie contient nos stations de moutons ,l’Amerique nos troupeaux de bœufs.Le Perou nous expèdie sont argent , la Californie ,l’Australie leur or.Les chinois cultivent le thè pour nous et des Indes orientales affluent vers nos rivages le cafè, le sucre, les èpices.La Frances et ‘Espagne sont nos vignobles , la mèditerranée est notre verger ;notre coton, nous le teunons des Etas Unis et de maintes autres parties du monde »

Stanley Hewons 1866.

-- نص يود الى 1872-1875 :

« corrélativement a cette centralisation(des capitaux), à l’expropriation du grand nombre des capitalistes par le petit , se developpent sur une èchelle toujours croissante l’application de la science à la technique ,l’exploitation de la terr avec methode et ensemble , la transformationde l’oùtil en instruments puissants seulement par l’usage commun, partant l’économie des moyens de production, l’enrelacement de tous les peuples dans le rèseau du marchè universel, doù le caractère international im primè au régime capitaliste »

Karl Marx 1872

-- نص يعود الى سنة 1986 لكنه يتعلق بالمرحلة التي تلت 1848 :

"إن الموضوع الرئيسي للمرحلة التي تلت 1848، هو إتساع الاقتصاد الرأسنالي حتى يطال العالم بمجموعه... لقد كانت تلك المرحلة مرحلة صيرورة العالم رأسماليا...بحيث كانت الكرة كلّها بعد قليل جزءا من هذا الاقتصاد.لقد كان إنشاء هذا العالم الموحّد أبرز ظاهرة إتسم بها ذلك العصر دون شك...لقد بات العالم كلّه تحت تصرف الرأسمالية"

إريك هوبسباوم.

-- نص يعود الى 1969 :

"جميع المجتمعات المعاصرة، ما عدا بعض الجيوب الوقتية منخرطة و مستوعبة كلّها في المنظومة العالمية. و ليس ثمة تشكيلة إجتماعية-إقتصادية عيانية معاصرة بوسعها أن تدرك خارج عذه المنظومة"

سمير أمين

-- نص يعود الى 1990 :

« Capitalism was from the beginning an affair of the world economy and not of nation-states…capital has never allowed its aspirations to be determined by national boundariers »

Immanuel Wallerstein.

ما نخرج به من تلك النصوص هو أن العالم بدأ يشكل"مدينة و احدة" منذ 1680، و هو المسار الذي يتدعم و يتعمق منذ ذلك الحين.و تحول العالم من "مدينة واحدة" الى "قرية صغيرة" في ظل العولمة، لا يغير من واقع وحدته الاسبق عليها شيئا.و الاختلاف بين العالم المدينة الواحدة و العالم القرية الصغيرة هو إختلاف في الكم و ليس في النوع.

و إذا كانت العولمة تعني التدويل فان هذا الاخير أسبق عليها في الوجود و إن كانت تتظمنه. و لكنها شيئا أخر أكثر من التدويل. فما هو التدويل؟.

نقصد بالتدويل بشكل بسيط التوسّع العالمي لعلاقات الانتاج الرأسمالية إنطلاقا من مراكز نشوؤها و تعمق ذلك التوسّع بحيث يشمل أهم الاجزاء المكونة للكوكب

و يعني ذلك أن العمليات الأساسية للانتاج و إعادة الانتاج و التراكم و تنظيم العمل و التسويق و التوزيع صارت تتم على الصعيد الدولي . و تدويل الانتاج هو الاساس الموضوعي لتدويل رأس المال. و يعني ذلك بصفة عامة أن دورة الانتاج و إعادة الانتاج صارت تجري على صعيد دولي و ليس على الصعيد القومي ، وإنها صارت تنتقل باضطراد من المستوى القومي الى الصعيد الدولي.

و بالنسبة لـ"نيكوس بولانتزاس" تتمثل ملامح الدويل في :

-أ- نمو قواعد إستغلال الرأسمال الخاص أو تجمع عدة رؤوس أموال في عدة أوطان، أي إتساع المكنان الذي يقوم فيه رأس المال كعلاقة إجتماعية.

-ب- نزعة رؤوس أموال مصدرها عدة بلدان مختلفة الى الاجتماع في ظل ملكية إقتصادية واحدة.

و يلاحظ"بولانتزاس" "أن حالات رؤوس الاموال التي لا تمتلك قاعدة مهيمنة كعلاقات إجتماعية في بلد معين نادرة جدا". أما "شارل بتلهايم" فيلخص المسألة بقوله أن نمط الانتاج الرأسمالي محكوم باتجاهين لاعادة الانتاج.واحد على مستوى قومي و الاخر على مستوى دولي. و هذا الاخير ينحو باتجاه تفجير الاول. و هو ما يسمى باتجاه تدويل نمط الانتاج الرأسمالي.و هو تقريبا نفس ما يذهب اليه "بولانتزاس".إذ أن نمط الانتاج الرأسمالي يتصف في إعادة إنتاجه الموسّع بنزعة مزدوجة: إعادة إنتاجه داخل تشكيلة إجتماعية يرسخ فيها قدمه و إقامة هيمنته و توسعه خارج هذه التشكيلة.و يعمل شكلا هذهه النزعة في وقت واحد. و هذه النزعة المزدوجة تسم نمط الانتاج الرأسمالي منذ بدايته.لكنها تتخذ أهمية خاصة في المرحلة الامبريالية.

في نفس الاطار يقول فؤاد مرسي أن الرأسمالية كانت تسعى دائما لإدماج العالم كله في سوق رأسمالية عالمية واحدة.و هو ما يجعل توسيع السوق يشكل القانون المطلق لنمو الرأسمالية.لقد كانت الرأسمالية دائما نظاما عالميا، مثلما يذهب الى ذلك سمير أمين. و هو يلتقي في ذلك مع "روزا لوكسمبورغ" التي تعتبر توسّع الاسواق و إمتدادها على الصعيد العالمي هما من طبيعة الراسمالية. و يجد ذلك التوسع أساسه في "التناقض الدائمم بين الطاقة على الانتاج و الطاقة الاستهلاك. الذي هو إنعكاس للتناقض الجوهري لنمط الانتاج الرأسمالي يصار الى تجاوزه عن طريق تعميق السوق في الداخل و إنتشارها في الخارج".لذلك يعتبر "فالرشتاين" أن الرأسمالية كانت منذ بدايتها مسألة إقتصاد دولي و ليست مسألة دولة-أمة.فرأس المال لم يسمح أبدا أن تكون تطلعاته محددة بواسطة الحدود القومية.

إذا كان ذلك هو شأن الرأسمالية 'دائما' ، متى بدأ بالفعل ذلك المسار؟.

يمكننا هنا توزيع الاجابات بين حدين.الاول هو القرن 15 و الثاني هو النصف الاول من القرن 20.

في علاقة بالحد الاول يقول لنا سمير أمين أن مسيرة التدويل الكونية قد بدأت منذ خمسة قرون باكتشاف أمريكا.و هو يستشهد بـ"أليفار كوكس" الذي يعيد تكون السوق العالمية الى القرن 16.هذا التاريخ الثاني يحصل بصدده إجماع بين كل من سمير أمين و "فالرشتيان" و جيوفاني أريقي" و "أنريه غندر فرانك"و "مارتا فونتيس"، و موضوع ذلك الاجناع هو" وجود شيء يمكن أن نطلق عليه إسم إقتصاد رأسمالي عالمي منذ القرن السادس عشر". و يؤكد ذلك "فالرشتاين" بشكل لا لبس فيه إذ" الاقتصاد الرأسمالي العالمي قائم منذ ما لا يقل عن خمسمئة عام". هذا التحديد يوافق عليه "مالكولم ويترو" معتبرا أن ذلك النسق الاقتصادي الموحّد قد تشكل بين 1600 و 1870.و هو تقريبا نفس ما يذهب اليه "أنطوني قيدنز". و بالنسبة لـ"هارالد نويبرت" ، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، و عندما لم تكن العملية الاستعمارية قد أشرفت بعد على الانتهاء ، و لكنها دخلت مرحلة جديدة إكتسب النظام الاستعماري الرأسمالي شكله الشمولي العالمي. و في نهاية القرن الثامن عشر كان لكل من إسبانيا و البرتغال و المقاطعات المتحدة و فرنسا و بريطانيا العظمى إمبراطوريات شاسعة و راء البحار و شبكات تجارة عالمية" حسب "تشارلز تلي". و بصفة عامة و مثلما يذهب الى ذلك رضا قويعة،كان يجب إنتظار القرن 18حتى يأخذ النظام الرأسمالي شكله الاكثر إكتمالا.إذ أن شراسته و هيمنته لم تبقيا داخليتين بل إنتشرتا في العالم كله. و في علاقة بانقترا و مستشهدا بـ"بستيا Bastia "، الذي يقول في علاقة بالقرنين 18 و 19 أن أنقلترا قد فتحت كل موانئهاـ لقد حطمت كل الحدود التي تفصلها عن الأمم، لقد كان لها 50 مستعمرة و لم يعد لها إلا واحدة : هي العالم.

و يعتبر القرن 19 و النصف الاول من القرن العشرين مرحلة إكتمال التوسع العالمي للرأسمالية.

فقد "كان القرن التاسع عشر هو أوان تعميق التكامل و التوسع الذي لم يسبق له نظير للتجارة و التدفقات الاستثمارية و هجرة الناس.و قد تم توفير وجه من وجوه الادترة العالمية من خلال ممارسة السيطرة عن طريق الامبراطوريات و لاسيما الامبراطورية البريطانية".ذلك ما يؤكد عليه فؤاد مرسي.حيث إنطلقت الرأسمالية بالنسبة له تجوب العالم كله منذ القرن التاسع عشر بفضل ثورتين.ثورة الصناعة و ثورة المواصلات.و في علاقة بالقرن التاسع عشر ذاته يعتبر "جيوفاني أريغي" أن إتجاهات و أحداث الفترة 1848-1896 تتوافق مع توقعات البيان الشيوعي .فانتشار ممارسة التجارة الحرة و ثورة المواصلات التي إنطلقت طوال العشرين عاما أو ربع القرن الى ثلث 1848، جعلت رأسمالية السوق حقيقة عالمية أكثر من أي وقت مضى.فقد إشتدت المنافسة على السوق العالمية و توسعت الصناعة بسرعة طوال معظم نصف القرن اللاحق.أما بالنسبة لتوقعات البان الشيوعي ذاتها فـ"لقد أنتجت الصناعة الكبيرة السوق العالمية... و أعطت السوق العالمية هذه التجارة و الملاحة و الاتصالات بين البلدان تطورا هائلا لا يمكن تقديره و هو ما عاد تاثيره على توسع التجارة و الملاحة و السكك الحديدية.كما أن البرجوازية توسعت بالدرجة ذاتها...و أدخلت البرجوازية عبر إستغلالها للسوق الدولية كلا من الانتاج و الاستهلاك في كافة بلدان العالم في إطار السياسة العالمية.أي أنها قامت ...بنسف الاسس الوطنية للصناعة".لكن و في الواقع و حسب سمير أمين، لا يمكن الحديث عن نظام رأسمالي عالمي قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر.أي في حدود تاريخ إنفتاح الصين عن طريق حرب الافيون(1840) و إنفتاح الامبراطورية العثمانية في نفس التاريخ تقريبا و السيطرة على الهند بعد سحق إنتفاظة السيباي(1857). و بعد ذلك غزو إفريقيا جنوب الصحراء(بعد مؤتمر برلين 1875)، فهذه كلها جعلت الكرة الارضية حقلا لفعل قانون القيمة المعولمة.لذاك يعتبر سمير أمين أن تكون السوق العالمية و الصراع من أجل الحصول على المواد الاولية و المنافسة من أجل الاحتكار الاستعماري كلها حصلت قبل الربع الاخير من القرن 19.فقد تم غزو العالم بين 1880 و 1900. و تحولت السوق الى سوق عالمية.لذلك عندما تحولت الرأسمالية في نهاية القرن التاسع عشر الى رأسمالية إحتكارية تجمع بين الصناعة و المال، أصبح لتصدير رأس المال الاولوية على تصدير السلع و أدمج، حسب فؤاد مرسي،إقتصاد المستعمرات و أشباه المستعمرات، و هو الوضع الذي صارت اليه بلدان آسيا ة إفريقيا و أمريكا اللاتينية، التي تخصصت في الخامات، أدمج بالكامل في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.فـ" هستيريا التنافس حول المستعمرات التي إستبدت بالدول الرأسمالية الاقوى...أفضت كما هو معروف في مغيب القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين الى إقتسام العالم و لأول مرة في التاريخ بين أقطاب النظام الرأسمالي العالمي "و ذلك حسب الهادي التيمومي.و قد إندمجت الخصائص الاساسية للنظام الراسمالي العالمي بالنسبة لـ " براكلوتBarrachough" بين 1870 و 1914 و ذلك من خلال ثلاث مجالات. يتمثل الاول في نمو شبكات النقل و الاتصال التي ربطت فيما بينها مختلف أجزاء العالم و خاصة من خلال السكة الحديدية و السفن و التلغراف.أما المجال الثاني الذي وحّد العالم فيتمل في النمو السريع للتجارة مع ما يرافقه من تبعية و خاصة بين البلدان الصناعية الغربية و باقي العالم. و يتمثل المجال الثالث في تدفقات كبيرة لرأس المال خاصة في شكل إستثمارات مباشرة عن طريق الشركات الاوروبية في المناطق غير المصنعة. و هذا المجال الثالث هو الذي يؤكد عليه رضا قويعة إذ يعيد عولمة رأس المال المالي (la mondialisation du capital financier) الى نهاية القرن 19 و بداية القرن 20.و يتأكد بالنسبة له الطابع العالمي للنظام الرأسمالي من خلال تدويل الازمة كذلك.حيث أن الازمات المختلفة لنهاية القرن التاسع عشر تقدم عددا من الخصائص الجديدة .فلأول مرة أصبحت الازمة أزمة فائض إنتاج . و هي أزمة لا تجد أصولها في كل بلد على حدة فقط ، بل في الخارج كذلك ، إن الأمر يتعلق بازمة عالمية.

و في عام 1914 كانت الدول الأوروبية تتحكم سياسا بحوالي 84 بالمائة من أراضي العالم. و هو ما سوف يجعل،لاحقا ، الأزمة التي إنفجرت في أكتوبر سنة 1929، بسبب إنهيار بورصة نيويورك، تمتد بشكل سريع الى كل العالم. مما دفع "ذي إكونميست The Econimist" ، سنة 1930، الى كتابة "إن المعضلة العظمى التي تواجه جيلنا تكمن في أن نجاحاتنا في المجال الاقتصادي تتفوق على نجاحاتنا في المجال الساسي على نحو جعل الاقتصاد و السايسة لا يسيران بخطوة واحدة.فاقتصاديا أصبح العالم يتحرك كما لو كان وحدة واحدة شاملة".

هذه 'الوحدة الواحدة الشاملة' التي أصبح يمثلها الاقتصاد العالمي هي التي دفعت فؤاد مرسي الى إعتبار"أن الجانب الاكثر إثارة في تطور ما بعد الحرب العالمية الثانية هو الطابع الكوني المتزايد للاقتصاد العالمي في مجالات التجارة و الانتاج و التدفقات المالية و الهجرة".فقد تغيرت، بالنسبة له،الرأسمالية العالمية بعد الحرب الثانية تغيرات جذرية، و أصبحت قادرة بكفاءة مذهلة على التكيف و أصبحت متخطية لاطار القوميات نحو العالمية. و يعتبر واضعوا تقرير لجنة 'إدارة شؤون المجتمع العالمي' أن الطابع الدولي للاقتصاد العالمي تحقق خلال النصف الاول من القرن العشرين. و تعمق إنطلاقا من 1945 حيث تمت عولمة الانتاج و التجارة و الاستثمارات بواسطة الشركات المتعددة الجنسية.فالتكامل الاقتصادي العالمي يرجع الفضل في الوصول اليه ، جزئيا، بالنسبة لواضعي التقرير،الى النظام و الاستقرار النسبي لادارة الشؤون الاقتصادية للعالم فيما بعد الحرب العالمية الثانية.و لا يختلف عن ذلك ما ذهب اليه"كريستيان ميللي" من خلال إعادته لصيرورة العولمة الى مابعد الحرب الثانية من خلال تحرير التجارة العالمية.

في سنة 1969 يعتبر سمير أمين "أن الرأسمالية أصبحت منظومة عالمية و ليس تجاور 'رأسماليات وطنية'". و ما هو أهم من ذلك"أن التحكير المتعاظم للاقتصاد العالمي يتجلى...في حقل التحركات الدولية لرؤوس الاموال عبر تقوية إتجاهين متعارضين معا: إتجاه الاستثمار المباشر(الشكل الطبيعي للاستثمار الخارجي لدى الاحتكارات)، و إتجاه الاستثمار في المحفظة المالية(الشكل الطبيعي من توظيف سيولات الاحتكارات توظيفا مضاربا)".

نسجل من خلال كل ما سبق ذكره ، في علاقة بالتأريخ للطابع العالمي للرأسمالية ، أن كل من إستشهدنا بهم يؤكدون على ذلك الطابع، و إن إختلوا بصدد تعيين زمان تأكد ذلك الطابع العالمي للرأسمالية، و رغم ذلك لا وجود ليهم لحديث عن العولمة. و إن وجد لدى البعض منهم فانه لا يتم بالشكل المكثف الذي حصل و يحصل خاصة في تسعينات القرن العشرين.و هو ما يطرح قضية التأريخ للعولمة، بالضافة الى التساؤل، مثلما سبقت الاشارة الى ذلك، عن ما الذي تتم عولمته،خاصة و أن هيمنة الرأسمالية عالميا واقعة تأكدت مع نهاية القرن 19 و بداية القرن العشرين، على أقل تقدير، أي مع إنتقال الرأسمالية من المرحلة التنافسية الى المرحلة المبريالية.

في إطار التأريخ للكلمة في اللغة الانقليزية يشير "مالكولم ويترز" الى أن كلمة Global تعود الى أكثر من 400 سنة.لكن أستعمال كلمات مثل Globaliszation و Globalize و Globalzing، لم يبدأ الا حوالي 1960. و منجد Webster1961 هو الاول الذي يتضمن تعاريف لـ Globalism و Globalization .أما في الدوئر الأكادمية فلم تصبح الكلمة ذات معنى الا في بداية أو منتصف الثمانينات. و قد أصبح إستعمالها ذاته معولما إنطلاقا من ذلك الحين. هذا مع ملاحظة إستحالة تتبع قواعد إنتشار ذلك الاستعمال مثلما يذهب الى ذلك "رونالد روبارستون" الذي يعد أول من نشر مقال في علم الاجتماع يتضمن عنوانه كلمة العولمة.و كان ذلك سنة 1985. و كان قد إستعمل أحد مشتقات الكلمة سنة 1983. و يذكر "ويترز" أن مكتبة الكنقرس الامريكي لم تكن تتضمن الى حدود فيفري 1994 الا 34 مقالا تتضمن في عنوانها كلمة العولمة أو أحد مشتقاتها. و كلها نشرت بعد سنة 1987.فقضية بدايتها هي من بين القضايا التي تثيرها العولمة. و يقترح "ويترز" لتلك البداية ثلاث إمكانيات هي على التوالي :

-- العولمة بدأت كصيرورة منذ بداية التاريخ و بدأت تأثيراتها منذ ذلك الحين، لكنها شهدت حديثا تسارعا مفاجأ.

-- العولمة معاصرة للحداثة و نمو الرأسمالية و كان هناك تسارعا في نسقها 'حديثا'.

-- العولمة ظاهرة جديدة مرتبطة مع صيرورات إجتماعية تسمى ما بعد التصنيع و ما بعد الحداثة أو فوضى الرأسمالية.

و يذهب ، هو، الى أن بعض عناصر العولمة كانت دائما موجودة، لكنها الى حود منتصف القرن العشرين لم تكن خطية في نموها. وقد بدأ ذلك النمو في القرنين 15 و 16، في مرحلة الحداثة المبكرة. و هو في هذا الاطار يربط بين تلك الحداثة و الثورة الكوبرنيكية، لانها الوحيدة القادرة على إقناع الانسانية بانها تسكن كوكب واحد. و على ذلك فهناك بالنسبة لـ"ويترز" إرتباطا كبيرا بين العولمة و الحداثة. و يلخص ما يمكن تسميته مسبقات العولمة في العناصر التالية :

-- إنبثاق الرأسمالية يشكل أهم ديناميكية مؤدية الى العولمة.فالرأسمالية تمثل نمط إنتاج يعطي قوة كبيرة لمن يكون تحت رقابتهم.

-- الرأسمالية تتضمن صيرورتان أساسيتان تتجهان الى تعميق الاندماج المجتمعي .الاولى تتمثل في صيرورة التراكم التي تتطلب زيادة الانتاج.أما الثانية فتتمثل في صيرورة التسليع أو التتجير أو إخضاع كل شيء لمنطق السوق، مما يؤدي الى زيادة مستوى الاستهلاك.

-- الرأسمالية تلبس لٌبوس الحداثة، و هي توفر إمكانية ، ليس فقط لزيادة مستوى الرفاه الفردي، بل كذلك التحرر من الضغوطات و التقاليد، و هو ما يجعل من غير الممكن تلافي الحداثة أو مقاومتة الرأسمالية.

-- إن الحداثة أكثر من إيديولوجا، أي أن إتجاهاتها المختلفة تساعد على تحرير مجموعة من الانشطة من أطرها المحلية و التقليدية و تسمح باعطاءها طابعا قوميا وفوق قومي.

إن أحد مفاتيح إنبثاق البنية الحديثة هو الدولة-الأمة.التي أصبحت العنصر الاساسي في تحديد و تحقيق الاهداف الاجتماعية الجماعية. وقد كانت في البداية تهتم بالامن و النظام الداخلي لكن أهدافها توسعت رويدا رويدا لكي تشمل تنظيم الشروط المادية الجماعية و الفردية مع الاهتمام بالاقتصاد القومي و نظام الرّفاه.

-- تحقيق الاهداف القومية فرض على الدول إقامة علاقات مع الدول الاخرى. وقد أدى ذلك الى إنبثاق نظام العلاقات الدولية.و مفتاح تلك العلاقات في القرن 19 كان الحرب و التحالف و الديبلوماسية و الاستعمار. و خلال القرن العشرين توسعت تلك العلاقات لتشمل التبادل و التنظيم الضريبي و العلاقات الثقافية.

-- العلاقات الدولية لم تعد هي الروابط الوحيدة بين المجتمعات .فنظام متوازن للعلاقات الدولية يسمح بنمو أنشطة فوق قومية، أي علاقات بين المجتمعات ترتكز أساسا على المبادلات الاقتصادية لكن تشمل كذلك الاذواق و الموضة و الأفكار.

-- إن الإتصال الالكتروني و النقل السريع تمثل تكنولوجيات هامة لنمو تلك الانشطة فوق القومية-العابرة للأمم، و الطابع الحيني لهذه الاخيرة أوجد إمكانية إتجاه الثقافة

وجهة عالمية. تلك هي مسبقات العولمة بالنسبة لـ"ويترز". و رغم أن بعضها يعود الى قرون خلت فان كلمة العولمة لم تصبح دراجة في تحليل التغيير الاجتماعي الا في التسعينات .

و بصفة عامة يمكننا تقسيم 'المؤرخين' للعولمة الى قسمين أساسين.قسم أول يعتبرها 'قديمة' و يعود بها الى حدود القرن 16، و البعض الى أبعد من ذلك ، و لكنها شهدت تسارعا في نسقها في الثمانينات و /أو التسعينات.أما القسم الثاني فيعيدها الى الثمانينات و /أو التسعينات.

سامي نير يعتبر أن جدة العولمة يمكن النظر اليها من خلال الاطار التاريخي القصير، منذ 1945، و الطويل : مرحلة الرأسمالية الصناعية التي بدأت في القرن 19.و يضيف الى ذلك أنه من الممكن طبيعيا دراسة العولمة اليوم بالرجوع ، مثلا، الى المبراطورية الرومانية، و حتى من خلال الانتقال من عصر الى أخر.هذا التصور نجد تأكيدا له في مقدمة كتاب" La Mondialisation des enti-sociétés "، حيث يتم التأكيد على أن النقاش حول العولمة قديم.كما هو الشأن كذلك بالنسبة لفكرتها.فهذه الاخيرة ، حسب "لوران مونييه"فكرة ليست جديدة.و يكفي للتدليل على ذلك تذكر الغزوات و الفتوحات و المشاريع الامبريالية و إسكندر الكبير و الامبراطورية البريطانية في القرن 19 و كذلك "سيسل رودس" الذي صرّح : لو كان ذلك ممكنا لألحقة الكواكب.أما سمير أمين فيقول أنه" مما لا شك فيه أن العولمة- و هي ليست جديدة كليا، بحكم أنها بدأت منذ خمسة قرون مع غزو أوريكا ثم عالمية الانوار-قد قطعت مرحلة جديدة خلال السنوات الاربع الاخيرة بسبب كثافة المبادلات و التصالات من كل نوع، كما بالبعد العالمي لوسائل الدمار". هذا مع العالم أنه كتب ذلك سنة 1991.و يتفق في ذلك مع "برتران دلانوي" الذي يرى أن الاقتصاد العالمي يشهد اليوم صيرورة غير مسبوقة من التحول و الاندماج. و في الواقع إنطلقت هذه الحركة منذ القرن 16 لكن عمقها و سرعتها اليوم لا مثيل لهما لكيا.

في مقابل ذلك يعيد "كريستيان مللي" صيرورة العولمة الاقتصادية الى مابعد الحرب العالمية الثانية من خلال تحرير التجارة العالمية، لكنها عرفت في الثمانينات تسارعا لاتجاهاتها بالتوازي مع توجهات جديدة. و كلمة كوكبة، بالنسبة له ، التي تصف هذه المرحلة ، و التي تعمم إستعمالها،تشير الى الطبيعة التي أصبحت معقدة لمختلف الانشطة الاقتصادية.و هو تقريبا نفس ما يقوله "إقناسيو رامونيه"إذ أن هذه العولمة الاقتصادية التي تعمقت بسبب تسارع المبادلات التجارية بين الأمم بعد الإمضاء سنة 1947 على إتفاقيات "القات" قد أدت الاتصالات الى إنفجارها في بداية الثمانينات. مما أدى الى تعمق العولمة الاقتصادية خلال هذه العشرية الاخيرة و في التسعينات. و تم ذلك من خلال تدعيم التحرير و التبادل الحر و النقدية و التدفقات الحرة لرؤوس الاموال و الخوصصة المكثفة.

إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للقسم الأول من من 'أرّخوا' للعلوملة، فان القسم الثاني منهم يعيدها الى السبعينات أو الثمانينات أو كذلك الى التسعينات.

"رُبار كاستال" يعيد المسار الحالي الى السبعينات كنتيجة أساسيية للأولوية الي شرع في إعطائها منذ ذلك الحين للمنشأة و المردودية الاقتصادية و تضخيم المنشأة كمصدر وحيد للثروة.و هو يتفق في ذلك مع سامي نير الذي يعيد الانعطاف الكبير الى السبعينات، بسبب تخلي الولايات المتحدة الامريكية من جانب واحد على إتفاقيات "بريتون وودز" سنة 1971. وهو ما فتح الدورة التاريخية الجديدة. وقد بدأت هذه الاخيرة، بالنسبة لـ"كورنلوس كاستور ياديس" مع رونالد ريغن و مارقريت تاتشر في الثمانينات. و إكتسب ذلك المزيد من قوة الدفع بعد إنهيار الاتحاد السوفياتي و الكتلة الاوروبية الشرقية.لذلك يؤكد سامي نير أنه من الضروري أن نفكر في العولمة أخذين بعين الاعتبار التغيرات الجيو-سياسية الكبيرة التي حصلت في السنوات الاخيرة.فانهيار الامبراطورية السوفياتية يعني توسّع مجال تأثير الرأسمالية الليبرالية العالمية. و ذلك الى جانب نهاية القطبية الثنائية التي ميزت العلاقات الدولية منذ 1945.

و يعيد كاتبا "فخ العولمة" بداية المسار الى منتصف الثمانينات ، قبل 'تلك التغيرات الاستراتيجية الكبيرة'.فـ "التكامل الاقتصادي المتخطي لكل الحدود الدولية لا ينجم إذا بفعل قانون طبيعي أو تقدم تكنولوجي...بل هو في الواقع النتيجة الحتمية لتلك الساسات التي إنتهجتها الحكومات في البلدان الصناعية الغربية منذ عقد من الزمن ولاتزال تطبقها حتى هذا اليوم".هذا مع ملاحظة أن الكتاب صدر سنة 1996، و بالتالي فان التاريخ التقريبي يكون 1986.

لكن تلك السياسات لم تقتصر على "البلدان الصناعية الغربية".فـ"جلبار ريست" يرجع بدايات العولمة في 'الجنوب' الى إجراءات الاصلاح الهيكلي التي فرضها صندوق النفد الدولي على بلدان عيديدة إنطلاقا من الثمانينات. و حرب الخليج الثانية هي بالنسبة لسمير أمين علامة تاريخية .إذ شكلت النقطة الفاصلة في وضع حد لمرحلة و فتح مرحلة جديدة. و هويتسائل بصدد هذه الاخيرة" كيف يمكننا أن نحدد هذه المرحلة الجديدة التي تنطلق إبتداء من 1989-1991، من الانهيار المزدوج لأنظمة الشرق المسماة إشتراكية و لطموحات بلدان الجنوب في الاستقلال الوطني". و لا يختلف عن ذلك تحديد "إدغار موران".إذ العولمة في معناها الحالي الذي يرد الى الاقتصاد قد بدأت سنة 1991. و ردها الى ذلك البعد إرتبط بعودة التحاليل الساسية ذات الالهام الليبرالي منذ بداية التسعينات.و إرجاع العولمة الى هذه الاخيرة هو مايقوم به "سُمّار أُرالSumer Oral".حيث يعتبر أن إتفاق جولة الاوراقواي ، الذي تم إمضاءه من طرف 117 بلدا سنة 1993، يشكل مرحلة أساسية في صيرورة العولمة. و لا يختلف "ميشال بو" مع ذالك التحديد. فالعولمة شملت العالم الواسع في التسعينات. و هو هنا يلتقي مع "ميشال كمايسو" في تعليقه على أزمة المكسيك سنة 1994 التي "كانت الازمة الكبيرة الاولي في عالمنا الجديد، عالم الاسواق المعولمة".

بالاضافة الى كل ما سبق هناك طريقة تبسيطية في التأريخ للعولمة.إذ هناك من يحدد بدايتها بيوم 9/11/1989 و هو تاريخ سقوط جدار برلين. و يذهب البعض الاخر الى إعتبار أوت 1991 هو تلك البداية مع موافقة 'غورباتشوف' على حرب الخليج الثانية. و بعض ثالث يعتبر أن تلك البداية كانت يوم 8/12/1991 و هو تاريخ تفكك الاتحاد السوفياتي.

نسجل أن كلا القسمين من من أرخوا للعولمة يتفقان ، رغم إختلافهما في تحديد البداية ، على أن مايسمى العولمة قد شهدت تسارعا و تعمقا في الثمانينات و خاصة في التسعينات.

و كنا قد بينا، في ما سبق، أن تدويل علاقات الانتاج الرأسمالية ليس وليد العولمة بل هو أسبق منها. و بالاعتماد على ذلك نصل الى محالولة الاجابة على سؤال : ما الذي تتم عولمته في الواقع؟ ما هو المحتوى الاقتصادي للعولمة؟.

الاجابة على هذا السؤال تستدعي تحديد طبيعة الازمة التي تعاني منها الرأسمالية منذ بداية السبعينات.

الازمة تعني،بشكل بسيط ، عدم قدرة النظام على إحتواء تناقضاته و التحكم فيها و وصولها الى درجة معينة من الاحتداد يمكن أن تشكل خطرا على وجود النظام نفسه.

النظام هنا هنا هو النظام الرأسمالي و التناقضات هي تناقضاته. و من هذه الاخيرة التناقض بين القدرة على الانتاج و القدرة على التصريف، على تحقيق فائض القيمة. و هو ما يؤدي الى الضغط على الاجور لتوليد ربح متزايد تفرضه المنافسة التي تؤدي الى الاستثمار بشكل فائض على الطلب النهائي مما يجعل الركود النسبي المرض المزمن للرأسمالية.

إن الإنتاج الرأسمالي لا يمكن التحكم فيه و تخطيطه، لأنه قائم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج و البحث عن الربح و المزيد منه، و هو ما يولد ،دوريا أزمات فائض الانتاج التي تكون مصحوبة بوجود فائض نقدي غير قابل للرسملة.و الطبيعة الدورية للانتاج الرأسمالي هي من بين بديهيات المهتمين بدراسته.

و حسب بشارة خضر "كانت الازمة مرحلة تحول طويلة(1970/1990) و تشبه هذه المرحلة بشكل مذهل مرحلة 'الهبوط الكبير' لاعوام 1873/1895: فقدان الثقة بالاقتصاد السائد، إقتصادات وطنية منهكة، رأسماليات جديدة تعزز مواقعها، إنحدار صناعات تقليدية ، إنطلاقة قوية لتكنولوجيات و أنشطة جدية ، إندفاعة جديدة باتجاه التدويل و العولمة". هذه المقارنة بين أزمتي 1873-1895 و 1970-1990 يقيمها بشارة خضر بالرجوع الى "ميشال بو". و إذا كان هذا الاخير يضع حد لنهاية الازمة في 1990 فان سمير أمين لا يضع حدا الا لبدايتها و هو 1968. و يضع تأريخا للازمات الدوية على النحو التالي: 1814-1848 و 1872-1893 و 1914-1945 و 1968-...، هذا مع العلم أن مرجع التأريخ لهذه الازمات قد صدر سنة 1997. و يعتبر سمير أمين أن الازمة الاخيرة هي أزمة فائض إنتاج و أزمة فائض في رأس المال. و هوحسب رأيه يشترك مع "بول سويزي" و "هاري مقدوف" في تحديد أسباب تلك الازمة.إذ أن قانون الربح الوحيد الجانب، إذا لم يصتدم بمقاومة القوى الاجتماعية المناقضة للنسق ، التي تمثلها تطلعات العمال و الشعوب، ينتج ذلك القانون بشكل حتمي إنعدام التوازن لمصلحة العرض الذي يكون أعلى من الطلب بنيويا. بمعنى أخر فان الاسواق ليست ذاتية التنظيم بل هي في حاجة الى التنظيم حتى تكون قادرة على الاشتغال. لا يخرج عن هذا الاجاه ما يذهب اليه "مالكولم ويترز".إذ عند تحليله لاسباب تطور بنية المنشأة في ظل العولمة، و هي بنية أصبحت أقل صلابة و أقل تراتبا، أي أن البنية الجديدة للمنشأة تتجاوز الفوردية و التيلورية، يعيد "ويترز" ذلك التطور الى حاجة المنشأة الى تجاوب مرن مع ضغوطات السوق و عدم ثباته و وجدود فائض من السلع فيه. و هو تقريبا نفس التفسير الذي يعتمده "دفيد هارفي" للتعاطي مع و فهم إعادة هيكلة المنشأة .فهذه الاخيرة تعبر عن ما يسميه أزمة فائض التراكم التي ترتبط بالطابع الدوري لدورة الانتاج الرأسمالية التي تتميز بمرحلة صعود و توسع تليها مرحلة أخرى من الانهيار

و التراجع. و من خصائص هذه الاخيرة وجود جزء كبير من رأس المال و العمل خارج الاستعمال. و يظهر ذلك في أزمة البطالة و إختناق السوق و تعطل جانب من الطاقة الصناعية، و الاكتشافات الغير قابلة للتسويق. و كل هذا يستدعي بالنسبة له إعادة هيكلة جذرية للتراكم الراسمالي . و يعتبر "ويترز"أن نهاية القرن العشرين شهدت أزمة شاملة معترف بها . و في إطار هذه الاخيرة ظهرت الدول عاجزة عن جعل الاقتصادات تنمو و غير قادرة على الاستجابة لحاجات و مطالب مواطنيها. كما ظهرت الدول في إطار تلك الازمة عاجزة عن ضمان الشفافية في علاقة بالمعاملات المالية و ممارسة السلطة. الى جانب عدم قدرتها على ضمان مستقبل لسكانها. في نفس الاتجاه تقريبا يذهب "إقناسيو رامونيه Ignacio Ramonet" حين يعتبر أن الاقتصاد العالمي يشهد إنقلابا جذريا مماثلا لذلك الذي حصل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نتيجة للثورة الصناعية الثانية شهدت الانتاجية قفزة عظيمة مولدة الازمة الكبرى لسنة 1873. و يلخص "فرنسوا شيزناي" المسألة بقوله :نحن في مواجهة أزمة فائض إنتاج عالمية.

تشخيص "ويترز" و "دفيد هارفي "و المقارنة التي يقيمها "رامونيه" و تصريح سمير أمين و "فرنسوا شيزناي"، كل ذلك يدفعنا الى إعتبار الازمة أزمة فائض إنتاج مترافقة مع أزمة فائض نقدي.و مؤشرات ذلك يمكن أن تحبر الاف الصفحات.

لقد بدأت الازمة عند نهاية ما يسمى الثلاثين المجيدة.أي منذ السبعينات. و هي حسب سمير أمين أزمة عامة لنموذج التراكم.بمعني أن أغلب التشكيلات الاجتماعية في الشرق و الجنوب غير قادرة على ضمان إعادة الانتاج الموسّع، وفي بعض الاحيان حتى إعادة الانتاج البسيط. و في البلدان الامبريالية تأخد أزمة التراكم الشكل الاضافي المعكوس، أي بالمفردات الاقتصادية الكلاسيكية، مظهر فائض في عرض الادخار مقارنة بالطلب الاستثماري المنتج. و هذا الفائض يتم إستثماره في هروب الى الامام في المضاربة المالية التي تخلق أوضاع غير مسبوقة.

وإذا كان الانهيار الكبير الذي حصل في أواخر القرن 19 قد نتج عنه البحث عن أسواق جديدة و الحمائية و التركز(concentration) الصناعي و البنكي و الإستثمار في الخارج و القروض العالمية، الى جانب تقاسم العالم و الدخول في عصر تكنولوجي جديد. و في ذلك الحين "هوبسن" و "هلفردينق"سميا الواقع الجديد : المبريالية.إذا كان الامر كذلك، و الى جانب أن أزمة الثلاثينات قد تم تجاوزها عن طريق تعميق دور الدولة في تحقيق فائض القيمة في إطار السياسات ذات المرجعية الكينزية، و ذلك بالاضافة الى أن الازمة الحالية تعيد الفاعلية لقانون إتجاه معدل الربح نحو الانخفاض، و هو ما يتناقض مع طبيعة الرأسمالية الساعية الى الربح و المزيد منه، إذا كان الامر كذلك، و في ظل أزمة فائض الانتاج و الفائض النقدي الغير قابل للرسملة في البلدان الامبريالية، فانه يمكننا إعتبار أن العولمة هي ، مثلها مثل الامبريالية و السياسات ذات المرجعية الكينزية، محاولة تقوم بها الرأسماليات الامبريالية للخروج من أزمتها تلك.و قد كانت تناقضات النظام الرأسمالي العالمي قد دفعت البلدان الامبريالية الى تقديم تنازلات لقوى إجتماعية، داخلية و خارجية، مناقضة للنظام في إطار العمل على إحتواء تلك الناقضات في داخل النظام ذاته. و بحكم أن تلك التنازلات كانت من ضمن العوامل التي أدت الى إنخفاض معدل الربح في البلدان الامبريالية، و بحكم أن الاسباب التاريخية التي أدت الى تقديم تلك التنازلات قد زالت، فان الامبرياليات المتأزمة تعمل من خلال ما يسمى العولمة ، على إستعادة تلك التنازلات.و هو ما جعل منها صيرورة لتفكيك "دولة الرفاه" في "الغرب" و "دولة العمال" في "الشرق" و "دولة التنمية " في " الجنوب"

و هو ما يجعل المحتوى الاقتصادي العام للعولمة يتجسد في تعميق تدويل علاقات الانتاج الرأسمالية، كمحاولة لحل تلك الازمة. و هو تعميق يترافق مع إنفصال جانب من رأس المال الاجتماعي في شكل فائض نقدي يتجه نحو تعميق المضاربة كحل من حلول الازمة ذاتها.على أساس ذلك يكون المحتوى الاقتصادي للعولمة هو :

-- تعميق التمركز.

-- توسيع السوق لمصلحة رأس المال : الخوصصة و الشراكة و المنشأة الشبكية.

-- إنفصال جزء من رأس المال الاجتماعي في شكل فائض نقدي و إستثراء المضاربة و هيمنة رأس المال النقدي على باقي مكونات رأس المال الاجتماعي.

فالازمة بطبيعتها تلك تؤدي الى تفعيل قانون إتجاه معدل الربح نحو الانخفاض. و هو ما يتناقض مع طبيعة الرأسمالية ذاتها القائمة على البحث عن الربح و المزيد منه دائما.

و إذا كانت أزمة أواخر القرن 19 و بداية القرن العشرين قد كانت الامبريالية حلها، و إذا كانت أزمة 1929 قد حلت لاحقا عن طريق التدخل المكثف للدولة في تحقيق فاض القيمة، فان الازمة المنطلقة منذ السبعينات تشكل الريغانية و التاتشرية-الليبرالية الجديدة ، في الثمانينات بداية حلها داخل البلدان الرأسمالية الامبريالية، و العولمة، بمحتواها الاقتصادي السابق ذكره، هي تدويلا لذلك الحل، خاصة في ظل إعادة ترتيب التناقضات العالمية.

لن نتناول هنا العنصرين الاول و الثاني لانه لا جديد فيما يتعلق بهما تحت شمس أليات التراكم الرأسمالي خاصة في مرحلته الامبريالية.الجديد يكمن في العنصر الثالث الناتج عن أزمة الفائض النقدي الغير قابل للرسملة في ظل أزمة فائض الانتاج.

قبل محاولة تبيان هذا الجديد نلاحظ، بالاعتماد على كارل ماركس، أن كل أوهام النظام النقدي تجد مصدرها في أنه لا يُنظر الى النقود، في شكلها كشيء مادي له خصائص محددة،على أساس أنها تمثل علاقات إنتاج إجتماعية.

بعد ذلك ، يذهب "دفيد هارفي " الى أنه ، مثلما كان الامر في القرن 19، كانت بنى الاسواق المالية من ضمن أول , أعمق ما تأثر بفاعيل الازمة الحالية. و من ضمن ما نتج عن ذلك، أنه لم يعد هناك طبقة رأسمالية مالية تنظم و تسير النسق، الذي عمته الفوضى و أصبح يتميز بأخطار كبيرة.كما بات رغم ذلك ، أو بسبه، كثير القوة و قادرا على إخضاع الحكومات القومية و الشركات العابرة للأمم لضغوطات السوق. و كان "جون كينز"، نصف قرن قبل إكتشاف الحاسوب الشخصي و تكنولوجيا المعلومات و الاقمار الصناعية، قد إعتبر أنه كلما تزايد إكتمال تنظيم أسواق الاستثمار ، تزايد خطر هيمنة المضاربة. و تمثل هذه الاخيرة ، حسب سمير أمين الشكل الطبيعي لوظيف سيولات الاحتكارات.

و إذا كانت الاسواق المالية هي النموذج المركزي لهذه المرحلة، و بحكم أنها تفرض كعلم مرجعي ، ليس العلوم الطبيعية و الميكانيك النيوتني أو الكمياء العضوية، لكن حساب الاحتمالات و نظرية الالعاب ، نظرية الفوضى و المنطق الضبابي و علوم الحياة، بحكم ذلك تصبح المضاربة هي النشاط "الاقتصادي " الاساسي لـ"رأس المال" النقدي، كشكل من أشكال رأس المال الاجتماعي.أي إن القطاع المالي في البلدان الرأسمالية الامبريالية أصبحت له، مثلما يلاحظ ذلك سامي نير، حياته الخاصة.إنها حضارة المضاربة، فوضى المضاربة كعنصر أساسي في العولمة. و هو ما يعني أن المضاربة تهيمن على الانتاج.و النتائج الاجتماعية الكارثية للليبرالية الجديدة تحصل في إطار إقتصادي حيث إنتصرت الانشطة المالية و أصبحت الاسواق المالية تمارس تأثيرا كبيرا جدا. و مثلما كان ممكنا في السابق القول أن مأتي عائلة تتحكم في مصير فرنسا، فانه يمكننا الان التاكيد أن مأتي متصرّف يتحكمون في مصير الارض كما يؤكد ذلك"إقناسو رامونيه".

و بالنسبة لسمير أمين العولمة الجديدة تتميز بشكل كبير عن المراحل السابقة. فهي تقوم على تداخل بين رؤوس الاموال. و ذلك الى جانب أن رأس المال الذي كان الى حد الان و بشكل دائم وطنيا، يتجه الى فقدان هذه الخاصية.حيث ينبثق في مكانه رأس مال مهيمن مُعولم إنطلاقا من قطاعه المالي . و هو في طريقه الى التَعولم بنسق سريع و بشكل غير معقول. و رأس المال هذا هو وسيلة العولمة بالنسبة له.و تتصف الراسمالية "الجديدة"، حسب محمد سعيد طالب بغلبة الطابع المالي و الانشطة الريعية و المضاربة المالية على الانشطة الانتاجية. و في التعليق على أزمة 1994 في المكسيك و ملابسات مواجهتها يؤكد كاتبا "فخ العولمة":" لامراء أن الازمة المكسيكية قد سلطت الاضواء على طبيعة النظام العالمي الجديد في عصر العولمة.فقد أماط المتعاملون مع الازمة ، على نحو لا سابقة له حتى الان، اللثام عن التغيير الجدي الذي طرأ على موازين القوى في العالم إثر سيادة التكامل الاقتصادي العالمي.فكما لو كانوا مسيرين من قبل يد خفية تُخضع الجميع،أعني حكومة القوة العظمى، الولايات المتحدة الامريكية و صندوق النقد الدولي،الذي كان معروفا لذلك الحين بجبروته و عظمته، و كذلك المصارف المركزية الاوروبية، نعم خضع هؤلاء جميعا،لما أملته عليهم قوة فاقت قوتهم، قوة لم يكن بمقدورهم التعرف على حجم ذخيرتها التدميرية، أعني السوق المالية الدولية". و يعرّف عزام محجوب هذه الاخيرة من جهة كونها"تعني إندماج الاسواق المالية في سوق عالمية واحدة، و ذلك برفع كل العراقيل و الحواجز أمام رؤوس الاموال".

الطابع المهيمن للأسواق المالية يعني أن هناك جديدا في طبيعة العلاقة بين العناصر المكونة لرأس المال الاجتماعي. و هو جديد يتمثل في إنفصال جانب كبير من رأس المال النقدي عن رأس المال الصناعي-المنتج و رأس المال التجاري، متخذا ، بسبب أزمة فائض الانتاج، شكل فائض نقدي غير قابل للتحول الى رأس مال منتج أو تجاري. و هو ما يدفعه باتجاه المضاربة.

تساعدنا على توضيح ذلك عودة سريعة الى التاريخ.في مقابل ما نلاحظه من كثافة لحركة 'رأس المال النقدي' و هيمنة الانشطة المالية المنفصلة عن الاقتصاد الواقعي-المنتج، في مقابل ذلك، تساعدنا تلك العودة على تبين أن الطابع العالمي لحركة رأس المال النقدي ليس جديدا لكيا، ليس وليد العولمة.و في هذا الاطار يذهب رضا قويعة الى أن هناك ثلاثة دوافع تفسر إتجاه رؤوس الاموال الانقليزية نحو الخارج إنطلاقا من القرن 19.و هي إنخفاض نسبة الفائدة و إتمام إنجاز السكك الحديدية في البلدان المتقدمة. و بالتالي يمكن لرؤوس الاموال الاتجاه نحو الخطوط الحديدة الطويلة في بلدان مثل الولايات المتحدة الامريكية و الهند.أما السبب الثالث فهو تشكل العناصر الاساسية لنظامم بنكي فاعل.حيث تصبح البنوك الانقليزية و الفرنسية و الالمانية هي الفاعلة في ميدان الاستثمار و التسليف الخارجي. و في الاطار نفسه يذكر ، رضا قويعة،أن 54 بالمائة من الادخار الداخلي الانقليزي كان مستثمرا في الخارج في نهاية القرن 19. وقد بلغت هذه النسبة 96 بالمائة خلال المرحلة 1904-1913.لكن الاهم من كل ذلك هو أن تلك الاستثمارات كانت تتجه الى الاقتصاد الواقعي-المنتج.فقد كانت توجه الى ميدان البنية الاساسية و الطرقات و الموانىء و السككك الحديدية و الاشغال العامة و تجهيزات التلغراف و الاستغلال المنجمي...الخ. و قد شهدت الاستثمارات الانقليزية تطورا متواصلا إذ كانت 104 مليون ليرة في 1906 و 148 في 1907 و 225 في 1913، أي ما يمثل ثلث أملاك الرأسماليين الانقليز، متجاوزة بذلك الاستثمار الدخلي الصافي.و يمكن ملاحظة نفس الشيء بالنسبة للاستثمارات الفرنسية في الخارج.فقد تجاوزت في بداية القرن العشرين الاستثمارات في الداخل و مثلت 900 مليون في المتوسط في السنة. و كانت مساهمة راس المال البنكي في ذلك هامة.و مثل الاستثمارات الانقليزية ، إتجهت الفرنسية الى الاقتصاد الواقعي من خلال بعث مصانع النسيج و الحديد و إستثمرت في ميدان بناء السفن و مناجم الفحم. و يعتبر رضا قويعة أن عولمة(Mondialisation) رأس المال المالي قد تمت في أواخر القرن 19 و بداية القرن 20. و يربط ذلك ، مثلما سبقت الاشارةاليه، باقامة شبكة بنكية فعالة.ذلك النظام البنكي كان يساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الاستثمار الصناعي. و يلاحظ سمير أمين أن الازمة الكبرى لنهاية القرن 19 قد كانت مرفوقة بهيمنة الجانب المالي الذي تم من خلال تأكيد هيمنة رأس المال النقدي، على رأس المال المنتج.و بلغة كارل ماركس هيمنة المسار المباشر : ن--ن' على المسار الانتاجي : ن-- إ -- ن' .

ما يهمنا التأكيد عليه من كل ما سبق هو أن هيمنة رأس المال النقدي ، و رغم وجود المضاربة،لكنها ثانوية،كانت هيمنة في إطار من التحالف بينه و بين رأس المال الصناعي-المنتج. و هي على أساس ذلك هيمنة لم تكن تتضمن إنفصاله شبه الكلي عن حركة الاقتصاد الواقعي. و هو ما يحصل لجانب كبير من رأس المال النقدي في ظل العولمة، بسبب أزمة فاض الاتناج المولدة لفائض نقدي.

على أساس ذلك يكون الانفصال بين حركة الاقتصاد الواقعي و حركة جانب كبير من رأس المال النقدي هو أحد خصائص العولمة كواقعة إقتصادية. و هو إنفصال يتم على قاعدة غياب حل منتج للفائض النقدي مما يدفع هذا الاخير باتجاه المضاربة كحل بالنسبة للاقتصادات الامبريالية المتأزمة.

و يترافق نمو الانشطة المالية و توسعها مع نمو صنف جديد من طرق المضاربة و التلاعبات المالية. و يلاحظ سامي نير أن عولمة الليبرالية هي صيرورة شاسعة لتملك الفضاء العالمي، و ما يميزها عن الماضي، أنها لا تتم و السلاح في اليد بل هي صيرورة يحصل بشأنها إتفاق بين النخب المالية العالمية. و من المستحيل بالنسبة له أن تكون وضعية مماثلة قد وجدت في الماضي.

و الاسواق المالية حسب "مالكولم ويترز" هي أكثر أبعاد 'الحياة الاقتصادية' عولمة. و لهذه الاسواق تاريخ طويل من التدويل. و بالاعتماد على "غل بان Gil pin" يحدد "ويترز" ثلاث مراحل لنمو الاسواق المالية العالمية:

-1- 1870-1914،كانت بريطانيا أهم مصدرلرأس المال و تركزت الانشطة المالية العالمية في لندن التي أصبحت تسير النظام المالي العالمي.

-2- 1920-1939، أجبرت الحرب العالمية الاولى العديد من البلدان الاوروبية ، بما في ذلك بريطانيا، على تصفية إستثماراتها الخارجية، و في نفس الوقت كانت الولايات المتحدة الامريكية تتحول الى قوة إقتصادية ، و الى حدود 1929 و فرت الولايات المتحدة السيولة للنظام المالي لكنها حدت من القروض الخارجية في نفس العام، و بعد ذلك ضلت الاسواق محافظة على سيولتها الى حد الحرب العالمية الثانية.

-3- 1947-1985، أصبحت نيويورك المركز المالي العالمي، أي مصرفي الاحتياطات الاجنبية، وأهم سوق لرأس المال ، و أرض الخلاص الاخير.و تأكد الدور الامريكي في المالية العالمية من خلال البنك العالمي و صندوق النقد الدولي .كما تميزت هذه المرحلة بنمو المساعدات المالية الدولية الى درجة تساويها في الاهمية مع الاستثمارات الخاصة.

و حسب "ويترز" النظام المالي لم يكن لا قبل الحرب الثانية و لابعدها معولما كليا.إذ كان في الحالتين ممركز و مضمون من طرف دولة واحدة، بريطانيا أو الولايات المتحدة الامريكية.و قد إنهار نظام لندن في الثلاثينات، حيث لم تكن حكومة جاهزة لضمانه. و حصلت أزمة مماثلة في بداية السبعينات ، كان سببها الاساسي التراجع النسبي للقدرة التنافسية للولايات المتحدة الامريكية. و قد ساهمت العديد من العناصر في التراجع الامريكي. من بينها صعود الكتل التجارية الجهوية و صعود اليابان و البلدان الصناعية الجديدة و الصدمة النفطية الاولى. و تحولت الولايات المتحدة الامريكية الى مدين بعد أن كانت دائنا. وبدأت تمول عجزها بضخ الدولارات في السوق و فعلت الدول النفطية نفس الشيء بفوائضها المالية. و الاهم من كل ذلك ، تكون سوق للدولارات الامريكية، سوق الدولار الاوروبي ، خارج سيطرة الولايات المتحدة الامريكية. و تزايد حجم تلك الاموال الغير خاضعة لاي دولة من 50 بليون دولار سنة 1973 الى 2 ترليون دولار سنة 1987. و هي تقريبا نفس الكيمة الموجدة في الولايات المتحدة الامريكية ذاتها.لذلك يرجع سامي نير بداية هيمنة الانشطة المالية ، هيمنة إحتكار القلة المالي ، الى تحلل الولايات المتحدة الامريكية من إتفاقات "بريتون وودز" سنة 1971 و ما نتج عنه من عدم قابلية الدولار للتحويل، الى جانب الكمية المهولة من الدولارات التي تراكمت خارج الولايات المتحدة الامريكية، التي دفعت الى نمو غير مسبوق للاسواق المالية. و حصلت هذه الهيمنة في إطار يتميز بالتباطىء، بل بالركود المعمم، الذي دخل فيه الاقتصاد العالمي إنطلاقا من منتصف السبعينات.

هذا التشخيص لا يختلف عن ذلك الذي يقوم به "ويترز". و كان من الممكن، بعد إنهيار نظام "بريتون وودز"،إنتضار تحول مركز السوق المالية العالمية، مثلا، الى فرنكفورت أو طوطيو.لكن هذا لم يحدث و ما حصل بالفعل هو بداية صيرورة العولمة.مما جعل تحديد مركز للسوق بدون معنى. و بالتالي فان المرحلة الرابعة في تطور النظام المالي العالمي إنبثقت، حسب "ويترز"،كنتيجة للتلاقي بين إنهيار نيويورك و نمو وسائل الاتصال المرتبطة بالحاسوب و الحينية. وقد نمت السوق المالية المعولمة في إتجاهين.يتضمن الاول إلغاء قيود الزمان و المكان على المعاملات التي أصبحت تتم على مدار الساعة.أما الاتجاه الثاني فيتمثل في التنوع الذي أصبحت عليه السوق المالية.فقد تحولت البنوك الى المتاجرة في الاوراق المالية و شركات البناء و إتحادات التسليف تحولت الى بنوك.

"هاري مقدوف" يعيد نشوؤ تلك السوق الى الثمانينات، إذ شهدت هذه الاخيرة ولادة مرحلة جديدة كليا من الانشطة المالية العالمية. و ذلك مع صعود الاسواق المالية الاكثر حرية و الاكثر تعقيدا، تلك التي لم يرى العالم مثيلا لها في السابق.

و في نفس الاجاه يسير كل من "دانيال بودرو" و "برنار ماريس" من خلال إعادتهما ذلك التحول الذي يؤثر في الاقتصاد العالمي الى الثمانينات.معتبران أن رأسمالية ما بعد الحرب في فرنسا و الولايات المتحدة الامريكية، كانت تقوم على أساس نسق لاحتكار القلة مدعوما من طرف القوة العمومية، من وجهة نظر الاستثمار و القروض و الطلب الى جانب الدور الاساسي للنظام البنكي، و حيث كانت السوق النقدية و المالية منظمتان و مراقبتان.أما الان فان الاسواق النقدية و المالية المستقلة تراقب الرأسمالية.لقد أصبح السوق يراقب السوق. و منطق هذا النسق بسيط:

ففي محل نسق حيث التمويل و المخاطر مؤمنة من طرف بنك الدولة/ و حيث يتم تحديد القيمة في الميدان التجاري، محل ذلك النسق حل نسق حيث التمويل مضمون بواسطة الادخار و أين يتم تحديد"القيمة" في الاسواق المالية/البورصة. وقد أصبحت هذه الاخيرة هي التي تحدد مسبقا أن هذه المؤسسة يجب أن توفر من 15 الى 18 بالمائة صاف، كما أصبح ممكنا لها إغلاق مصنع"فيلفورتvilvorte" أو نقل مصنع الى البرازيل. و معني ذلك هو الانتقال من 'إقتصاد الديون" الى 'إقتصاد الاسواق المالية'، أين تشترط حركة السيولة الكثيفة "ربحا" سريعا، و أصبح "المستثمرون المؤسسيون" أو "صناعيو التوظيف" يرغبون في مردود مرتفع من 15 الى 20 بالمائة. و ينتج عن ذلك أن مخاطرة رأس المال لم يعد يتحملها حامل الاسهم، فهذا الاخير أصبح يحصل مسبقا على نتائج النشاط الاقتصادي للمنشأة. و تقوم الاسواق المالية باستعمال تقنيات عنيفة، ذلك أنها تحدد جزء سيولة الشركات الذي يعود اليها. وإذا لم يكن الامر كذلك فانها تنسحب من رأسمالها.كما تفرض على المنشأة وضع قواعد تحدد حقوق حاملي الاسهم، و تبني مرونة العمل. و يعني ذلك ، بالنسبة لسامي نير الإنفصال بين الرأسمالية المنتجة و الرأسمالية المالية و تحول هذه الاخيرة الى إقطاع مالي على صورة المدن-الدولة في القرن 16.

كانت المبادلات في الاسواق النقدية و المالية و في البورصة، زمن "كينز" تمثل مرتين المبادلات السلعية.لكنها أصبحت اليوم مثلما يشير الى ذلك "ميشال بو" تمثل عشرات المرات قيمتها. فالعلاقة بين عمليات بيع و شراء العملات في أسواق الصّرف و العمليات المرتبطة بالتجارة العالمية للسلع كانت 6 سنة 1979/ و 20 سنة 1986 و 57 سنة 1995. و كان المجموع الصافي لعمليات الصّرف 1300 مليار دولار في اليوم سنة 1995. وقد أورد "هُوارد فاتشتال" أن المبادلات المتعلقة بالعملات كانت 150 مليار دولار في اليوم سنة 1985 لكنها تجاوزت 1000 مليار دولار في اليوم و البعض يتحدث عن 1500 بل 1800 و 2000 مليار دولار في اليوم. و حسب الرّئيس المدير العام لبنك التنمية للاقتصاد التونسي "أن حجم الاموال المتداولة في العالم تبلغ 15 مرة حجم الانتاج العالمي" و يقدر "إقناسيو رامونيه Ignacio Ramonet " حجم المعاملات في الاسواق النقدية و المالية بحوالي 50 مرّة قيمة المبادلات التجارية العالمية. و في السوق الاوروبية للدولار في لندن المعدل اليومي لدوران 'رأس المال' يبلغ 300 مليار دولار أي 74 ترليون دولار في العام. و يدور فيها حوالي 150 مليار دولار يوميا أي ما يقارب من 35 ترليون دولار في السنة في إطار عمليات تبادل العملات في أهم مراكز المال في العالم.ذلك في حين بلغت قيمة البضائع و الخدمات المتبادلة عالميا 6300 مليار دولار. و في التسعينات تضاعفت القيمة الاسمية للمبادلات لتصل ، على مستوى العالم، الى قيمة خيالية،إذ بلغت 41 ألف مليار دولار.

كما يتجسد الانفصال السابق ذكرة في النتيجة التي يصل اليها كاتبا "فخ العولمة"، وذلك بعد إستعراض وحدة الأسواق المالية في مختلف مناطق العالم،إذ " لم يعد مستوى النشاط الاقتصادي و لا المصرف المركزي الالماني(مثلا) هما اللذان يقرران سعر الفائدة في السوق الالمانية، بل سيقرره ما يراه أولئك الذين مهنتهم جني الارباح و العمل على مراكمها" من خلال التعامل في الاسهم و سندات الديون الحكومية و ما يسمى المشتقات."فالى جانب العملات يجري تداول حوالي 70 ألف من الاوراق التجارية بكل حرية عبر الحدود" و "بواسطة التعامل بالمشتقات تحرر قطاع المال من القطاع الحقيقي". و هو ما يجعل من الممكن"أن المصارف قد حققت أرباحا طائلة من خلال المخاطر التي تصاحب التذبذبات التي يفرزها التعامل بالمشتقات، فالمصرف الالماني 'دوتش بنك Deutch Banck" بمفرده حقق من خلال المشتقات ما يقارب المليار مارك. و ما الاهمية المتزايدة لهذه العمليات في ميزانية هذا المصرف سوى دليل واحد على التغيير الذي طرأ على دور المصارف في عالم المال المعولم.فاهمية الودائع و منح القروض هي في تراجع مستمر. من ناحية أخرى فان العديد من الشركات الكبرى لم تعد في حاجة الى المصارف .فهي صارت على نحو أو أخر مصرف.و لعل شركة'سيمنز' خير مثال على ذلك.فهي تحقق بعملياتها النقدية و المالية أرباحا تفوق ما تحققه بمنتجاتها المعروفة في أرجاء المعمورة. و هناك المئات من الشركات الكبرى أضحت تصدر هي نفسها و على مستوى العالم سندات دين تمول بها ما تحتاج اليه من رأس مال".

ذلك الإنفصال هو ما يؤكد عليه أحمد كرم كاهية الرئيس و المدير العام لبنك الامان(تونس).فهناك ، بالنسبة له، رأس مال و رأس مال،ملاحضا أن نوعية راس المال الستثمر شهدت تغير ملحوضا، حيث أصبح نصيب تمويل الاستثمارات و التجارة الحقيقية فيها محتشما جدا بالنسبة لرؤوس الاموال المضاربة التي لا تمت للوضع الاقتصادي بصلة. و يضيف"يكتسي هذا الوضع خطورة كبرى بالرجوع الى المبالغ الكبيرة التي تتحرك بسرعة الضوء في كل أرجاء المعمورة اليوم.من ذلك أن الحركات المالية التي تسجل كل يوم تقدر بنحو 1500 مليار دولار غير أن 3 بالمائة فقط من هذا المبلغ يوظف لتمويل عمليات تجارية و إقتصادية حقيقية. و النسبة المتبقية، أي 97 بالمالئة تمثل عمليات مضاربة أو عمليات ليست لها صلة مباشرة بالنمو الاقتصادي العالمي".و في إطار تحديده لخصائص ما يسميه الراسمالية الكوكبية كمرحلة ما بعد إمبريالية في تطور الرأسمالية، يلاحظ إسماعيل صبري عبد الله أن "دور النشاط المالي(زاد)..الى أبعاد غير مسبوقة...و بمساندة البنوك يضارب الناس في الاسواق النقدية و أسواق أسعار الصرف بمبالغ خيالية. و حجم التعامل اليومي فيها وصل الى ترليون دولار...و تدفع ظروف النمو الاقتصادي البطيء أو موجات الانكماش المسؤولين في ...الشركات الى الحد من الاستثمار الانتاجي و تفضيل إستخدام فائض السيولة لديها في عمليات المضاربة في أسواق الصرف و أسواق الاوراق المالية". و كدليل على هيمنة الطابع المالي يذكر إسماعيل صبري عبد الله، أن إجمالي إرادات القطاع المالي ، بنوك و تأمين و مؤسسات إدخار و إستثمار، تبلغ 22.5 بالمائة من إجمالي إيرادات الشركات الخمسمائة الكبرى في قائمة "فورتشن". و نجد على العكس أن نصيب التعدين و المعادن و المنتجات المعدنية لم تزد إيرادتها عن 2.8 بالمائة.

الطابع المضارب للكتلة النقدية الدائرة يجعلها ، بالنسبة لـ"جاك قرينفالد" مخطرة لانها تتعلق بقرارات ليست لا من الميدان الاقتصادي و لا من الميدان الاجتماعي خاصة.و لكنها قرارات مالية صرفة تفرض منطق مصالحها على الفاعلين ، وخاصة على المنشآت. و هو ما يدفع"ميشال كامديسو"، المدير العام لصندوق النقد الدولي، الى القول" إن ألغاء القيود على حركة رأس المال تتم أحيانا على الرغم من تعارضها مع المنطق السليم"، مضيفا "إننا على عتبة الدخول الى القرن الحادي و العشرين، و هو عصر بيل غيتس و جورج سوروس، بينما تدار الاسواق كما كانت أيام بالزاك".

هذه العودة الى رأسمالية 'أيام بالزاك' تجد تفسيرها، كما يعتقد سمير أمين، في كون الثورة التنولوجية المعاصرة لا تحمل حلا للفائض الزائد(l’exedent du surplus)، وهو ما يفسر الهروب الى المضاربةالمالية.فالموجة الحالية من التجديد المتمركزة حول الاعلامية، ليس من الاكيد أن يكون لها نفس التأثيرات التي كانت للسكك الحديدية و صناعة السيارات في المراحل السابقة من توسع تراكم رأس المال.

فالازمة ، بالنسبة لسمير أمين،كما هو شأنها دائما، تعبر عن نفسها بفائض في رؤوس الاموال لا تجد مجالات تصريف ذات مردودية كافية في توسيع النظام الانتاجي.و التصرّف الرأسمالي في الازمة يعمل من أجل تعويض عدم الكفاية ذلك بمخارج مالية ذات مردودية، عاملا من خلال ذلك على الرّفع من شأن الامن المالي، حتى و لو كان على حساب التوسّع الاقتصادي.

و الصرف المعوّم و نسب الفائدة المرتفعة و الخوصصة و السياسات المولدة لعجز كبير جدا في ميزان مدفوعات الولايات المتحدة الامريكية، و أولوية سياسات التصرّف في خدمة دين العالم الثالث ، كل ذلك يشكل ، حسب سمير أمين الوسائل العملية لهيمنة الانشطة المالية.التي يعتبرها مهاتير محمد، الوزير الاول (سابقا)الماليزي غير ضرورية و غير منتجة و غير إخلاقية.فالمضاربة المولّدة للتفقير يجب ، بالنسبة له، منعها.

و من بين النتائج الاقتصادية لهيمنة الانشطة المالية ، يمكننا ذكر نظرية نزع الطابع 'المادي' عن الاقتصاد.أي ذلك المسار الذي يتضمن فقدان ملكية عناصر مادية مثل الارض و المواد الاولية لأهميتها مقارنة بعوامل'غير مادية' مثل المعرفة العلمية و التكنولوجية المتطورة جدا و المعلومات و الاتصال و الاشهار و المالية.كما تؤدي تلك الهيمنة و إنفصال رؤوس الاموال عن حاجة الاسواق الى إدخال الاضطراب على "السوق".فالقطاع النقدي و المالي يمكن أن تدخل عليه الاضطرابات، يمكن أن تحدث فيه "عاصفة" تحمل معها العملة و الاقتصاد القوميين و الارباح الممكنة و الاستثمارات. و قد حصل ذلك بالفعل سنة 1987 في الولايات المتحدة الامريكية

و سنة 1993 في أوروبا و سنة 1994 في المكسيك و سنة 1997 في جنوب شرق آسيا و في سنة 1998 في روسيا و البرازيل...الخ. و ينتج عن ذلك في علاقة بالاقتصاد الواقعي أن نسبة مساهمة الصناعات السلعية قد إنخفضت نتيجة للخوصصة و التسريح المكثف للعمال في القطاع العام و الخاص و الاعتماد على كل من 'الصناعات' الخدمية و 'المراكمة' ببيع المال كسلعة في أسواق المال.فقد إخفض نصيب الصناعات السلعية في الاستثمار مما نتج عنه إنخفاض نسبة مساهمة الصناعات السلعية في 'المراكمة الرأسمالية مابعد الصناعية'. وقد أصبحت الصناعة السلعية تسهم بما يتراوح مابين 20 و 25 بالمائة في الولايات المتحدة الامريكية. و تنخفض هذه النسبة تباعا في بريطانيا بتوفير العامال الصناعين بمعدل عامل كل عشر دقائق. وقد إنخفضت قيمة أسهم الصناعات الثقيلة كصناعة الحديد و الصلب و هو ما نتج عنه شطبها من سجل السندات المالي للمئة صناعة التي تؤلف أقوى و أكبر صناعات في بريطانيا، كل ذلك حسب خديجة محمد صفوت. الى جانب ذلك تتجسد تلك الهيمنة في نمو ما يسمى إستثمارات المحفظة أو الاستثمارات العائمة التي بلغت أكثر من 500 مليار دولار. و هي إستثمارات ليس لها أية علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالانتاج.مما يجعل المضاربة المتنامية مضرة بالاقتصاد الكلي الى درجة أن البنوك المركزية لم تعد قادرة من خلال سياسة الصرف و نسب الفائدة على مواجهة إضطراب الاقتصاد الكلي.

و قد كان "كينز" منذ الثلاثينات حذر من النائج السلبية لتلك الهيمنة.فاذا أُمتصت الثروة من طرف المعاملات المالية ، و إذا تم إهمال الاستثمارات المباشرة، فان الأمم تعرّض نفسها الى الخطر الذي حدده "كينز" بقوله أنه لا يمكننا إنتضار الكثير من وضعية حيث نمو بلد ما يصبح النتاج الثانوي لأنشطة محل ميسر.و هو مايجعل النمط الاقتصادي المرتبط بهذا التطور يؤدي ، مثلما يذهب الى ذلك سمير أمين، الى الانغلاق في أزمة دائمة من النقص في الاستهلاك و هيمنة الانشطة المالية.

و إذا كان كل إنفصال عن الواقع يفقد الحسّ بالمسؤولية تجاهه، فان الأمر كذلك بالنسبة للشكل النقدي من راس المال الاجتماعي المنفصل عن حركة الاقتصاد الواقعي. و بالتالي فان شأنها لا يعنيه في شيء. و "جورج سوروس"، الذي إشتهر كمضارب في الاسواق المالية، يؤكد أن التاريخ قد بين أنه من الممكن ، بالفعل، أن تنهار الاسواق المالية مولدة الانكماش الاقتصادي و الاضطرابات الاجتماعية.فالاسواق ،بالنسبة له، غير مستقرة بشكل أساسي. و على النقيض مما يصرّح به إيديولوجيو دعه يعمل فهو يعتبر أن نسقن"نا" مهدد بالانهيار، و إنهياره سوف يمثل مأساة لا يمكننا تخيل نتائجها. و عندما وجّه النقد الى "ميشال كماديسو" في علاقة بأزمة المكسيك سنة 1994، بان المضاربين قد جنوا ثمار المليارات الممنوحة، إعترف بذلك و بأن "العالم في قبضة هؤلاء الصبيان".

و من كل ماسبق يمكنا الاستنتاج أن ما يحصل في ظل ما يسمى العولمة و باسمها يتضمن، من ضمن ما يتضمنه، وضع حد للتحاف بين أشكال راس المال الاجتماعي (رأس المال الصناعي-المنتج، رأس المال التجاري و رأس المال البنكي-النقدي) الذي قامت عليه الراسمالية إنطلاقا من أواخر القرن 19 و بداية القرن العشرين.

و قد باشرت ما يسمى الشركات المتعددة الحنسية إنجاز ذلك، بحكم قدرتها على توفير حاجياتها المالية بدون الرجوع الى الجهاز البنكي المستقل عنها. و ما بدأته تلك المؤسسات تقوم العولمة بتعميمه و إعطاءه شكله الناجز لمصلحة هيمنة رأس المال النقدي على بقية الاشكال الاخرى لرأس المال الاجتماعي. و ذلك هو المحتوى الفعلي للإيديولوجيا تحرير 'السوق'، أي تحرير رأس المال النقدي من التحالف مع رأس المال التجاري و رأس المال الصناعي..

ففي مسار إنتاجي يهيمن عليه رأس المال الصناعي-المنتج، تكون وظيفة السوق الاساسية هي تحقيق فائض القيمة، أي تحويله من شكله السلعي الى شكله النقدي. و في حالة الهيمنة المطلقة لرأس المال النقدي على ذلك المسار، في ظل الانفصال بين حركة النشاك الانتاجي و حركة رأس المال النقدي، فان وظيفة "السوق" تصبح وظيفة ريعية.أي أن رأس المال النقدي لم يعد يوظف بشكل منتج ،سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.إذ نجد أنفسنا في مواجهة الوضعية التي تولد فيها النقود نقودا بدون أية علاقة مع الانتاج الحقيقي. و بالتالي فان المعادلة : ن- إ – ن' تتحول بواسطة الالاعيب المالية و المتاجرة في المشتقات الى : ن1 – ن2 – ن3 . حيث ن1 كمية النقود من شكل معين التي يتم تقديمها من أجل شراء كمية نقود من شكل أخر هي ن2، يتم مبادلتها لاحقا بدون المرور بالمسار الانتاجي مقابل إما الشكل الاول ن1 أو شكل ثلاث من النقود ن3.

ما يصبغ الطابع الريعي على هذه المعادلة هو أنها تمكن القائمين بها من "حق" في الثروة الاجتماعية دون أن يساهموا في إنتاجها بأي شكل من الاشكال. و لا يقتصر أمرها على ذلك، بل هي تولد الاضطراب في الاقتصاد الواقعي.

إن عدم إستقرار العالم يجب البحث له عن تفسير في إعادة تقسيم السلطة و الهيمنة تلك بين مكونات رأس المال الاجتماعي. و البحث عن مخارج رأسماية لعودة الفاعلية لقانون إتجاه معدل الربح نحو الانخفاض الذي يتضمن، من ضمن ما يتضمنه، هجوما منظما على كل مكونات تجديد قوة العمل. و التاكيد للمرة الالف لقانون التفقير.و أن نظام الاجر هو العبودية المعاصرة.

مراجع

1-سميرأمين، الراكم على الصعيد العالمي،دار إبن خلدون، بيروت الطبعة الثالثة 1981 + أزمة الامبيالية أزمة بنيوية، دار الحداثة-بيروت بدون تاريخ + البادل غير المتكافىء و قانون القيمة-دار الحقيقة-بيروت – الطبعة الاولى نوفمبر 1974

2- الهادي التيمومي-الجدل حول الامبريالية منذ بداياته الى اليوم-دار الفرابي بيروت-دار محمد علي الحامي-تونس 1992

3- هانس بيتر مارتين و الدشومان هار-فخ العولمة-عالم المعرفة-المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الاداب-الكويت 1998

4-نيكوس بولانتزاس –الطبقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي اليوم-منشورات وزارة الثقافة و الارشاد القومي-دمشق 1983

5- جماعي-الاضطراب الكبير-دار الفرابي-بيروت الطبعة الاولى 1991

6- أريك هوبسباوم-عصر راس المال-دار الفرابي-بيروت 1986

7- محمد سعيد طالب-النظان العالمي الجديد و القضايا العربية الراهنة-الاهالي للطباعة و النشر و التوزيع-دمشق 1994

8-فؤاد مرسي-الراسمالية تجدد نفسها-المجلس الوطني للثافة و الفنون و الاداب-عالم المعرفة-الكويت 1990

9-نص تقرير لجنة ادرة شؤون المجتمع العالمي-جيران في عالم واحد-الكويت-عالم المعرفة 1995

10- الكرمل –خريف 1997

11- القدس العربي السنة 10 العدد 2945 -29/10/1998

Michel Beaud,L’économie mondial dans les années 80,la decouvert,Paris 1989-12

Michel Beaud, Le basculement du monde , la decouvert, Paris , 1997-13

Eli Chen, Mondialisation et souvrenneté économiqie, Le debat N° 97, 12/1997-14

Ridha Guia , Phases du capitalisme et histoire de la pensée économique,orbis imprssion, tunis 1994-15

Antony Giddens, The consequences of modernity,Stanford uniersity Press 1990-16

Ignaci ramonet , Géopolitique du chaos,Editions galilée,Pris 1997-17

Malcolm Waters, Globalization,Routlege, Printed in great Britain, 1995-18

Collectif, la mondialisation des anti-sociètès,presses universitairs de France, 1997-19

Karl Marx,contribution à la critique de l’économie politique,Edition du-20 progrès,Moscou 1975 et Le capital,Edition sociales,Paris 1976

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire