الرأسمالية الأميركية وسقوط أوهام ما «بعد النيوليبرالية» - 18/10/2008
عبد الحليم فضل الله ــ لم يحن بعد وقت التفسيرات الكبيرة، فالعجلة ما زالت تدور، ومن دروس أزمة ثلاثينيات القرن الماضي أن الانهيار لا يحصل بالضرورة دفعة واحدة، حينها تطلّب الأمر سنوات عدة وسلسلة لا تنتهي من الأخطاء، قبل أن تصبح مشكلة إفلاسات محدودة إعصاراً ضارياً حوّل ما يقارب من 2500 مؤسسة مالية أميركية إلى أنقاض. جاء رد فعل الحكومات الغربية سريعاً هذه المرة، فأنفقت أو تخطط لإنفاق بضعة تريليونات من الدولارات دون تردد، لكن الخطأ الذي حدث قبل ثمانية عقود مرشح للتكرار، وهو استخدام كل المياه المتوافرة لإخماد نيران الأسواق المالية، وترك الاقتصاد الحقيقي بعد ذلك عرضة للجفاف.
ومع أنّ الرأسمالية تفصح دورياً عن عيوبها، فإن توقع نهايتها ضرب من المبالغة، إذ تعايشت حتى الآن مع مئات الأزمات (يحصي بعض المتابعين 124 أزمة في أقل من قرن)، لكن المشكلة هي في تسارع الوتيرة وارتفاع ثمن الإنقاذ. وبما أن كلمة الرأسمالية لا تعني الشيء نفسه، فإنّ تتابع الأزمات وحدّتها منذ بدء الحقبة الريغانية، يشيران إلى أنّ أحد أشكال الرأسمالية هو الذي تداعى. والفكرة المركزية هنا هي أنّ ما نشهده اليوم هو من عوارض فشل النموذج الرأسمالي الأميركي في تحقيق قفزته التالية، من النيوليبرالية إلى ما بعدها، أي من حصر حق التنظيم والرقابة بالسلطات النقدية وحدها بعدما سلب هذا الحق من مؤسسات الدولة الأخرى، إلى طور متطرف أكثر يحظر فيه كل أنواع التنظيم والرقابة، فضلاً عن التدخل.
البداية كانت في تنامي الاعتقاد أنّ بوسع الأسواق أن تتوازن من تلقاء نفسها من دون قواعد صارمة، وبمعزل عن نظام أخلاقي (نعم أخلاقي!) من شأنه تأدية مهمات لا غنى عنها: توفير التوازن بين عنصري الكسب والاستقرار، طرد المغامرين من السوق، وضع حواجز تكبح السرعات الزائدة (مثل النمو الفائق السرعة للقطاع العقاري ثم تراجعه بسرعة أكبر)، ومنع الجيل الحاضر من استعمال موارد الأجيال الآتية عبر الاستدانة. الأمر الأخير ينطبق على الأسر الأميركية التي أقحمها خفض الفوائد في دوامة الاستهلاك، فضاعفت ديونها خلال ثلاثة عقود أكثر من عشرين مرة لتصل إلى 14 تريليوناً تقريباً. الحكومة الأميركية فعلت الشيء نفسه فموّلت توسعها في الإنفاق على التسلح بالاستدانة، ومن دون أي زيادة في الضرائب حتى لا يخدش ذلك النقاء الأيديولوجي لليبرالية الجديدة.
تنامت النزعة غير الأخلاقية في الأسواق وتحوّلت إلى موجة كاسحة. لقد كانت قوية إلى حد أنها قوّضت مسلّمات السوق، وألزمت صانعي القرار بسن قواعد جديدة تسوّغ أفعال المغامرين والمضاربين، وتجيز البحث عن ربح سريع لا يرتبط بالإنتاجية. والمفارقة هي أنه في الوقت الذي كانت فيه اتفاقية بازل 2 تفرض شروطاً أكثر تشدداً على المصارف لضمان كفاية رأس المال، عمدت لجنة مراقبة عمليات البورصة في أميركا عام 2004 إلى التخلّي عن الحد الأقصى المفروض على الديون الذي يعادل 12 دولاراً مقابل دولار واحد، ليرسل ذلك إشارة البدء بحمى المضاربات والمراهنات و«الابتكارات» الخطيرة.
ويروي ماثيو فيليبس في نيوزويك قصة ذلك «الوحش» الذي تفتقت عنه أذهان مديري مصرف J.P.Morgan. فبعدما ضاق هؤلاء ذرعاً بوجود كميات هائلة من الأموال الاحتياطية المعزولة عن آلة الربح، لجأوا إلى خلق طرف ثالث مهمته شراء المخاطر وتحمل مسؤولية التخلف عن السداد، ثم خلط البنك القروض بعضها ببعض وقسّمها إلى شرائح صغيرة وباع أكثرها خطورة لمستثمرين آخرين، معتمداً طرقاً رياضية معقدة لا يمكن لمراقبي الأسواق فهمها ورصد خطورتها. كان لدى مبتدعي هذه المنتجات الغريبة إحساساً مشابهاً للذي اعترى واضعي تصاميم القنبلة النووية الأولى، والنتائج لم تكن مختلفة كثيراً، إذ تسبب ذلك الوحش بتضخم سوق «مقايضة الديون» خلال سنوات قليلة ليصل إلى حوالى 62 ألف مليار دولار أميركي، أي ما بما يكفي لتلويث الأسواق العالمية وتحويلها إلى جحيم.
من حيث الشكل، نجحت هذه الابتكارات في زيادة تمركز الاقتصاد الأميركي ومعه الاقتصاد الرأسمالي ككل حول الأسواق المالية، ففي أقل التقديرات، ساهمت هذه الأخيرة في تحقيق 30% من مجمل الأرباح الأميركية، بل يمكن الزعم أنّ النمو المتحقق خلال ولايتي بوش عائد إلى الفقاعة العقارية وإلى تقويم الأصول المتداولة في البورصات بأعلى من قيمتها الفعليّة. ولو أعيد تقويم تلك الأرباح بعد حسم المخاطر الحقيقية لما سجل الاقتصاد الأميركي طوال تلك الفترة أي نمو. نشوة الربح عطلت القدرة على الحكم لدى جميع الأطراف المعنية: المصارف ومؤسسات التأمين، وكالات التصنيف، أجهزة الرقابة، السلطات النقدية، الحكومات... الجميع كان مطمئناً إلى إمكان الاستمرار بتلك اللعبة غير الأخلاقية وغير المعقولة إلى ما لا نهاية. ومع أن إطاحة أخلاقيات السوق تقف وراء ذلك الانفلات الغرائزي الذي تحوّل إلى تدمير ذاتي كارثي، فقد كان لها مردود جيد لصانعي اللعبة، وتكفي الإشارة إلى أنّ «إكراميات» مدراء المصارف والمؤسسات المالية ارتفعت دفعة واحدة من 24 مليار دولار عام 2006 إلى 65 ملياراً في عام 2007، فيما حقق مدير ليمان براذر وحده 500 مليون دولار في سنوات قليلة.
الانتكاسة الإيديولوجية التي تواجهها الرأسمالية لا تتعلق فقط بغلوّها وبالتناقض بين نزع دور الدولة في الاقتصاد وتضخيمه في الحرب والسياسة، إن لها صلة أيضاً بافتقارها أكثر من أي وقت مضى لمرجعية أخلاقية تهدّئ من توتر «اليد الخفيّة»، التي حاولت الانتقال إلى نموذج أكثر ليبرالية وتطرفاً، لكنها فشلت في تحقيق ذلك ووضعت الاقتصاد العالمي برمته عند حافة الانهيار.
الاخبار
عبد الحليم فضل الله ــ لم يحن بعد وقت التفسيرات الكبيرة، فالعجلة ما زالت تدور، ومن دروس أزمة ثلاثينيات القرن الماضي أن الانهيار لا يحصل بالضرورة دفعة واحدة، حينها تطلّب الأمر سنوات عدة وسلسلة لا تنتهي من الأخطاء، قبل أن تصبح مشكلة إفلاسات محدودة إعصاراً ضارياً حوّل ما يقارب من 2500 مؤسسة مالية أميركية إلى أنقاض. جاء رد فعل الحكومات الغربية سريعاً هذه المرة، فأنفقت أو تخطط لإنفاق بضعة تريليونات من الدولارات دون تردد، لكن الخطأ الذي حدث قبل ثمانية عقود مرشح للتكرار، وهو استخدام كل المياه المتوافرة لإخماد نيران الأسواق المالية، وترك الاقتصاد الحقيقي بعد ذلك عرضة للجفاف.
ومع أنّ الرأسمالية تفصح دورياً عن عيوبها، فإن توقع نهايتها ضرب من المبالغة، إذ تعايشت حتى الآن مع مئات الأزمات (يحصي بعض المتابعين 124 أزمة في أقل من قرن)، لكن المشكلة هي في تسارع الوتيرة وارتفاع ثمن الإنقاذ. وبما أن كلمة الرأسمالية لا تعني الشيء نفسه، فإنّ تتابع الأزمات وحدّتها منذ بدء الحقبة الريغانية، يشيران إلى أنّ أحد أشكال الرأسمالية هو الذي تداعى. والفكرة المركزية هنا هي أنّ ما نشهده اليوم هو من عوارض فشل النموذج الرأسمالي الأميركي في تحقيق قفزته التالية، من النيوليبرالية إلى ما بعدها، أي من حصر حق التنظيم والرقابة بالسلطات النقدية وحدها بعدما سلب هذا الحق من مؤسسات الدولة الأخرى، إلى طور متطرف أكثر يحظر فيه كل أنواع التنظيم والرقابة، فضلاً عن التدخل.
البداية كانت في تنامي الاعتقاد أنّ بوسع الأسواق أن تتوازن من تلقاء نفسها من دون قواعد صارمة، وبمعزل عن نظام أخلاقي (نعم أخلاقي!) من شأنه تأدية مهمات لا غنى عنها: توفير التوازن بين عنصري الكسب والاستقرار، طرد المغامرين من السوق، وضع حواجز تكبح السرعات الزائدة (مثل النمو الفائق السرعة للقطاع العقاري ثم تراجعه بسرعة أكبر)، ومنع الجيل الحاضر من استعمال موارد الأجيال الآتية عبر الاستدانة. الأمر الأخير ينطبق على الأسر الأميركية التي أقحمها خفض الفوائد في دوامة الاستهلاك، فضاعفت ديونها خلال ثلاثة عقود أكثر من عشرين مرة لتصل إلى 14 تريليوناً تقريباً. الحكومة الأميركية فعلت الشيء نفسه فموّلت توسعها في الإنفاق على التسلح بالاستدانة، ومن دون أي زيادة في الضرائب حتى لا يخدش ذلك النقاء الأيديولوجي لليبرالية الجديدة.
تنامت النزعة غير الأخلاقية في الأسواق وتحوّلت إلى موجة كاسحة. لقد كانت قوية إلى حد أنها قوّضت مسلّمات السوق، وألزمت صانعي القرار بسن قواعد جديدة تسوّغ أفعال المغامرين والمضاربين، وتجيز البحث عن ربح سريع لا يرتبط بالإنتاجية. والمفارقة هي أنه في الوقت الذي كانت فيه اتفاقية بازل 2 تفرض شروطاً أكثر تشدداً على المصارف لضمان كفاية رأس المال، عمدت لجنة مراقبة عمليات البورصة في أميركا عام 2004 إلى التخلّي عن الحد الأقصى المفروض على الديون الذي يعادل 12 دولاراً مقابل دولار واحد، ليرسل ذلك إشارة البدء بحمى المضاربات والمراهنات و«الابتكارات» الخطيرة.
ويروي ماثيو فيليبس في نيوزويك قصة ذلك «الوحش» الذي تفتقت عنه أذهان مديري مصرف J.P.Morgan. فبعدما ضاق هؤلاء ذرعاً بوجود كميات هائلة من الأموال الاحتياطية المعزولة عن آلة الربح، لجأوا إلى خلق طرف ثالث مهمته شراء المخاطر وتحمل مسؤولية التخلف عن السداد، ثم خلط البنك القروض بعضها ببعض وقسّمها إلى شرائح صغيرة وباع أكثرها خطورة لمستثمرين آخرين، معتمداً طرقاً رياضية معقدة لا يمكن لمراقبي الأسواق فهمها ورصد خطورتها. كان لدى مبتدعي هذه المنتجات الغريبة إحساساً مشابهاً للذي اعترى واضعي تصاميم القنبلة النووية الأولى، والنتائج لم تكن مختلفة كثيراً، إذ تسبب ذلك الوحش بتضخم سوق «مقايضة الديون» خلال سنوات قليلة ليصل إلى حوالى 62 ألف مليار دولار أميركي، أي ما بما يكفي لتلويث الأسواق العالمية وتحويلها إلى جحيم.
من حيث الشكل، نجحت هذه الابتكارات في زيادة تمركز الاقتصاد الأميركي ومعه الاقتصاد الرأسمالي ككل حول الأسواق المالية، ففي أقل التقديرات، ساهمت هذه الأخيرة في تحقيق 30% من مجمل الأرباح الأميركية، بل يمكن الزعم أنّ النمو المتحقق خلال ولايتي بوش عائد إلى الفقاعة العقارية وإلى تقويم الأصول المتداولة في البورصات بأعلى من قيمتها الفعليّة. ولو أعيد تقويم تلك الأرباح بعد حسم المخاطر الحقيقية لما سجل الاقتصاد الأميركي طوال تلك الفترة أي نمو. نشوة الربح عطلت القدرة على الحكم لدى جميع الأطراف المعنية: المصارف ومؤسسات التأمين، وكالات التصنيف، أجهزة الرقابة، السلطات النقدية، الحكومات... الجميع كان مطمئناً إلى إمكان الاستمرار بتلك اللعبة غير الأخلاقية وغير المعقولة إلى ما لا نهاية. ومع أن إطاحة أخلاقيات السوق تقف وراء ذلك الانفلات الغرائزي الذي تحوّل إلى تدمير ذاتي كارثي، فقد كان لها مردود جيد لصانعي اللعبة، وتكفي الإشارة إلى أنّ «إكراميات» مدراء المصارف والمؤسسات المالية ارتفعت دفعة واحدة من 24 مليار دولار عام 2006 إلى 65 ملياراً في عام 2007، فيما حقق مدير ليمان براذر وحده 500 مليون دولار في سنوات قليلة.
الانتكاسة الإيديولوجية التي تواجهها الرأسمالية لا تتعلق فقط بغلوّها وبالتناقض بين نزع دور الدولة في الاقتصاد وتضخيمه في الحرب والسياسة، إن لها صلة أيضاً بافتقارها أكثر من أي وقت مضى لمرجعية أخلاقية تهدّئ من توتر «اليد الخفيّة»، التي حاولت الانتقال إلى نموذج أكثر ليبرالية وتطرفاً، لكنها فشلت في تحقيق ذلك ووضعت الاقتصاد العالمي برمته عند حافة الانهيار.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire