صبحي حديدي
في المواسم الإنتخابية، كما في مناسبات الغليان الشعبوي وإذكاء نار الحميّة الوطنية، يطيب للساسة الأمريكيين أن يلهجوا، ليل نهار، بمصطلح عتيق أكل الدهر عليه وشرب، دهر الولايات المتحدة مثل دهور سائر المعمورة ما وراء المحيط.
ورغم أنّه ليس بضاعة أمريكية المنشأ أو الصنع، إذْ سنّه للمرّة الأولى المفكّر السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل في مطلع العقد الثالث من القرن التاسع عشر، فإنّ مصطلح 'الإستثناء الأمريكي'، أو 'الإستثنائية الأمريكية' كما يردّد البعض، لا يكاد يغيب عن ألسنة أهل السياسة في الولايات المتحدة، على اختلاف عقائدهم ومشاربهم، سواء قصدوا به الداخل (إبقاء جذوة 'الحلم الأمريكي' متقدة عارمة)، أو لوّحوا به للخارج ('واجب' الولايات المتحدة تجاه الإنسانية جمعاء، و'الدور الخاصّ' الذي ألقاه التاريخ على عاتقها...).
بالطبع، لا أحد اليوم يفكّر برجل مثل توكفيل وهو يستخدم المصطلح، ليس لأنّ مدلولاته الراهنة انحرفت تماماً ونهائياً عن تلك الأصلية التي شرحها المفكّر الفرنسي فحسب، بل لأنّ تلك المدلولات صارت عائقاً أمام نزوع الساسة الأمريكيين إلى حشر المصطلح في دائرة واحدة، وشبه وحيدة ربما، هي أنّ أمريكا ذات امتياز كوني فائق، في أيّ شيء وكلّ شيء. المرشّح الجمهوري للرئاسة، جون ماكين، قال مؤخراً: 'أنا، بالفعل، مؤمن بالإستثنائية الأمريكية. أنا لا أعرف أمّة سوانا تعتنق حقاً، وبعمق، مبدأ أننا جميعاً متساوون'. آخرون، من طينة المحافظين الجدد مثلاً، يرون الإستثناء في ما تتمتّع به أمريكا من 'هبة الخير'، المسلحة بالقوّة الإقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، والتي تمنح الحقّ وتفرض الواجب للقيام بأيّ فعل على نطاق العالم، ما دام يستهدف الصواب، دون الإكتراث بمدى شرعيته أو طبيعة عواقبه.
ونستذكر، هنا، أنّ التاريخ يضرب أمثلة على قوى عظمى أخرى لمست في ذاتها القدرة على قيادة الكون، بهبة من الله أو القدر كما قال ساستها وفلاسفتها. في القرن الأول قبل الميلاد، وفي تقريظ ما سُمّي بـ 'السلام الروماني'، رأى شيشرون أنّ الشعب الروماني يتحمل مسؤولية رعاية الكون وفرض القانون الروماني على 'الشعوب البدائية'، سواء بالإقناع أو بالإكراه. الإمبراطورية البريطانية كانت، من جهتها، بمثابة 'عبء الرجل الأبيض كما فرضته يد التاريخ الجليلة'؛ وفي العقد الأوّل من القرن الماضي اعتبر البريطاني جورج أنوين أنّ 'حسّ الإمبراطورية ملائم لمزاج الإنكليزي، لكنّ ضميره السياسي ينفر منه. ماذا في وسعه أن يفعل؟ لا مهرب له من قبول هذا الواجب الأعلى الذي فرضه الله، وهذا الشرف الذي أسبغه القدر'. تلك كانت مرحلة السلام البريطاني.
بيد أن سلام الولايات المتحدة، أو الـ Pax Americana في المصطلح المستقرّ، كان منذ البدء حالة استثنائية في بواعثها وأهدافها، رغم أنه ظلّ بدوره 'واجباً لا يجوز التواني عن القيام به'، و'هبة من الله'! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح إلى الشكوى من هذا الواجب المقدّس الذي أطلق عليه سلسلة تسميات، منها 'الإمبراطورية بالصدفة العمياء'، و'الإمبريالية بالتطوّع'، و'العبء الجديد للرجل الأبيض'. وفي كتاب بعنوان 'السلام الأمريكي' صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فييتنام من جعله كتاباً أثيراً لدى شرائح واسعة في أمريكا، يقول رونالد ستيل: 'على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً... نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا'!
السلامان الروماني والبريطاني كانا، في الجوهر، سلسلة ترتيبات استهدفت حماية المصالح الرومانية والبريطانية عبر خلق نسق خاص من النظام والقانون تنتعش فيه تلك المصالح، ويجري خلاله تسخير الجهد العسكري بما يكفل حماية ذلك النسق. أمّا السلام الأمريكي فإنه يفترض مسبقاً حالة من التطابق والتوافق التامّين بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح الإنسانية جمعاء. والحكومات أو الحركات السياسية التي تعترض على هذا التطابق الفطري إنما تضمر العداء للولايات المتحدة، وتناهض سلامها الكوني، بالضرورة. الحرب ضد أولئك 'العصاة' تصبح، تأسيساً على ذلك، مهمة مقدسة تستهدف خير البشرية والمجتمع الدولي، وحملة صليبية مديدة متجددة من أجل عالم 'لائق' و'حرّ' و'ديمقراطي'. هذه، دون أيّ تبديل أو تعديل، هي اللغة التي استمعنا إليها كلّما تعيّن أن تذهب أمريكا إلى الحرب!
وثمّة هنا تناقض موروث في الواقع، لأنّ هذا السلام الأمريكي يتّصف بأنه خير مَنْ يرسل وأسوأ من يستقبل: لأنّ الأمريكيين يرسلون بفعالية عالية، فإن الإنسانية تكاد تتأمرك؛ ولكن لأنهم يستقبلون بشكل بالغ السوء، فقد قاوموا طويلاً محاولات أَنْسَنتهم، بمعنى تعليمهم كيفية التجاوب مع حاجات ورغبات الإنسانية في ما يتبقى من العالم خارج حدود الولايات المتحدة، كما يقول الباحث الكيني علي مزروعي. الأمريكيون يملكون عدداً متنوّعاً ومتشعباً من لغات الإرسال والإتصال مع العالم الخارجي، ولكن ينبغي تمييز تلك الوسائل الموضوعة بتصرفهم عن تلك التي يستخدمونها فعلياً.
الإنتاج هو أحد تلك اللغات، فالولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الثانية كدولة بين دول متكافئة، أو تكاد، في قدراتها الإقتصادية، وخرجت منها صاحبة الإقتصاد الأعظم في الكون. والكارثة التي دحرت رايخ هتلر وأمبراطورية اليابان، أقعدت الحلفاء من جانب آخر: إنكلترا كانت على شفير الإفلاس، ومجتمعات فرنسا وإيطاليا انقسمت على نفسها، والسوفييت انشغلوا بدفن 20 مليون قتيل. وهكذا احتلّت الولايات المتحدة موقع صيرفيّ العالم الأول، والمالك الوحيد لأسلحة فتاكة قادرة على صنع وصياغة السياسات الكونية.
لغة ثانية هي التكنولوجيا، التي استُخدمت كوسيلة ضغط منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. لقد تمثلت تلك اللغة في حظر تصدير التكنولوجيا أو السعي إلى وقفها أو تعطيلها حين تكون قد قطعت مراحل حاسمة (مثال إيران، راهناً)، واعتماد سياسة إنتقائية تمييزية في تصدير التكنولوجيا لأغراض صناعية سلمية في دول العالم الثالث، والسكوت على وجود حالات متقدمة أو ناجزة من تطوير الأسلحة النووية عند دول حليفة (إسرائيل في الطليعة، وفي المثال الأبرز).
لغة ثالثة هي العمل على تكريس معادلات من النقائض التي يكمل بعضها البعض الآخر في سلّم المصالح الأمريكية، كما في مثال اصطناع علاقة تعسفية بين مفهومي 'الرأسمالية' و'الديمقراطية'. إذا نُظر إلى الرأسمالية كعقيدة لاقتصاد تنافسي ينتج قوى السوق، فإنّ الديمقراطية الليبرالية هي بالضرورة، وحدها تقريباً، عقيدة السياسة التنافسية التي تخلق التعددية السياسية. الميزان الحسابي النهائي هو التالي ببساطة: تصدير رأسمالية أكثر، وديمقراطية أقلّ. وإذْ تعلّق الحملات الأمريكية من أجل حقوق الإنسان لافتة الغاية الأخلاقية (الديمقراطية)، فإن الحملات من أجل اقتصاد السوق لا تجد مفرّاً من رفع راية الربح وفائض القيمة (الرأسمالية)، فتكون المعادلة هكذا: لكي نعطيكم الديمقراطية ينبغي أن تقبلوا الرأسمالية... بشروطها/شروطنا التبادلية الراهنة.
ولكن ماذا عن ديمقراطية الإمبراطورية ذاتها، بين ظهرانيها، بحقّ أبنائها، وفي قلب ركائز 'الإستثنائية الامريكية' دون سواها؟ قبل زمن ليس بالبعيد كان فيليب جيمس، أحد أبرز مخضرمي التخطيط الاستراتيجي الأمريكي، قد أطلق صفة 'الكابوس' على التسجيلات الهاتفية التي وافق الرئيس الأمريكي جورج بوش على إجرائها بحقّ عدد من الشخصيات الذين ترتاب الإدارة في أنهم على صلة بمنظمة 'القاعدة'. 'هل تنقلب أمريكا إلى الشاكلة التي تخشاها كلّ الخشية'، تساءل جيمس قبل أنّ يحدّد الشاكلة تلك: 'دولة على غرار الأخ الأكبر'، في إشارة إلى النظام البوليسي السوفييتي كما تخيّله الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة '1984'، حيث 'الحكم للأوامر العليا، ولا أحد مستثنى من تنصّت البوليس السرّي، وكلّ شيء مسموح به دفاعاً عن الوطن، بما في ذلك التعذيب'؟ هذا، في صياغة أخرى تأخذ بعين الإعتبار أننا نتحدّث عن الولايات المتحدة الأمريكية وليس عن نظام استبداد وفساد وجمهورية وراثية دكتاتورية، إنقلاب من استثنائية الحلم إلى... استثنائية الكابوس؛ أو، كما في تعبير جيمس نفسه: 'عالم أورويلي، حيث المذكّرات الإدارية المدافعة عن التعذيب تُسطّر في وزارة العدل ذاتها، ويصبح القضاء مهنة فائضة عن الحاجة في الشأن العام'!
وهل، في المقابل، ثمة حاجة للكثير من العناء كي يدرك المرء عواقب هذه الدولة الأورويلية على نطاق عالمي، أنّى اتجه المرء ما وراء المحيط؟
ألا تواصل الولايات المتحدة احتلال، وأداء، دور روما الإمبراطورية في العالم القديم؟
أفلا تنتهك القوانين داخل حدودها وضدّ مواطنيها بقدر ما تفعل ضدّ العالم (إنشاء سجون أمريكية غير شرعية في بعض البلدان الأوروبية، ونقل المعتقلين المختطفين في رحلات جوية سرّية عبر مطارات الديمقراطيات الغربية...)، لكي لا نتذكّر تلك الحقوق الكونية التي يرى قياصرة أمريكا أنّ من حقّ روما القرن الحادي والعشرين أن تتجاهلها تماماً (إعفاء الصناعة الأمريكية من التزامات بروتوكول كيوتو حول تخفيف غازات الإحتباس الحراري، على سبيل المثال)؟
ثمّ ماذا عن الكوابيس الإجتماعية لهذه الديمقراطية ـ الإستثناء؟ الحقائق، كما في تقرير روبرت رايش (وزير العمل الأسبق)، تقول إنّ البون بين الفقراء والأغنياء في الولايات المتحدة ليس شاسعاً فحسب، بل هو الأوسع منذ قيام البلد. والمشكلة لا تقتصر على حقيقة أن 20' من مواطني أمريكا يتحكمون بالناتج القومي الإجمالي، بل في أن هؤلاء يستأثرون بنسبة 99' من صافي أرباح الناتج القومي الإجمالي! والرئيس بوش يقول إنّ الوظائف في ازدياد، فتكذّبه الإحصائيات: مليونا وظيفة فُقدت في عهده! وهو يقول، مفاخراً بمواطنيه الدنيا قاطبة، إنّ الشعب الأمريكي أكثر شعوب الأرض كدّاً واجتهاداً. وبالفعل، تقول الإحصائيات، إنّ على الأمريكي أن يشتغل أكثر في عهد بوش، لكي يحافظ على وظيفته وضمانه الصحي وتعليم أبنائه، ولكي لا يهبط إلى لائحة البطالة القاتلة. هذا لكي لا نضيف الهزّات الراهنة التي تعيشها المصارف والأسواق والبورصات، حيث صار في حكم المسلّم به، وتحصيل الحاصل، أنّ صغار دافعي الضرائب هم كبار المتضرّرين.
وليس أدلّ على المآلات الراهنة لمفهوم 'الإستثناء الأمريكي' من ذلك التراشق القذر للاتهامات، ذات اليمين وذات الشمال، حيث الرائحة الكريهة عنصرية أو دينية، وحيث محاكم التفتيش تُنصب في رابعة النهار، وكأنّ الحلم الأمريكي يرتد القهقرى خمسة قرون. امرأة أمريكية طاعنة في السنّ تسأل ماكين إذا كان أوباما عربياً حقاً، فيجيب المرشّح الجمهوري: كلاّ يا سيدتي، إنه ليس عربياً، بل هو رجل محترم! ماكين يستخدم شبكة إتصالات هاتفية آلية تتولى تشويه سمعة أوباما، هي ذاتها الشبكة التي استخدمها جورج بوش ضدّه، سنة 2004، أثناء الإنتخابات الحزبية التمهيدية، وأقسم ماكين أنه لن يلجأ إليها أبداً وتحت أيّ ظرف. سارة بالين، المرشحة لمنصب نائب الرئيس، تلمّح ـ ثمّ تعتذر، بعد ساعات! ـ إلى أنّ بعض الولايات أكثر وفاء لأمريكا من ولايات أخرى... أكثر عداء للوطن! الحزب الجمهوري ينخرط، كابراً عن كابر، في اتهام أوباما بالتحالف مع الإرهابيين، لأنه حضر تجمعاً ضدّ حرب فييتنام حين كان في سنّ... الثامنة!
أهو استثناء هذا الحلم الأمريكي، أم عود دائم زائف، على بدء كان في الأساس كاذباً؟
' كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
24/10/2008
في المواسم الإنتخابية، كما في مناسبات الغليان الشعبوي وإذكاء نار الحميّة الوطنية، يطيب للساسة الأمريكيين أن يلهجوا، ليل نهار، بمصطلح عتيق أكل الدهر عليه وشرب، دهر الولايات المتحدة مثل دهور سائر المعمورة ما وراء المحيط.
ورغم أنّه ليس بضاعة أمريكية المنشأ أو الصنع، إذْ سنّه للمرّة الأولى المفكّر السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل في مطلع العقد الثالث من القرن التاسع عشر، فإنّ مصطلح 'الإستثناء الأمريكي'، أو 'الإستثنائية الأمريكية' كما يردّد البعض، لا يكاد يغيب عن ألسنة أهل السياسة في الولايات المتحدة، على اختلاف عقائدهم ومشاربهم، سواء قصدوا به الداخل (إبقاء جذوة 'الحلم الأمريكي' متقدة عارمة)، أو لوّحوا به للخارج ('واجب' الولايات المتحدة تجاه الإنسانية جمعاء، و'الدور الخاصّ' الذي ألقاه التاريخ على عاتقها...).
بالطبع، لا أحد اليوم يفكّر برجل مثل توكفيل وهو يستخدم المصطلح، ليس لأنّ مدلولاته الراهنة انحرفت تماماً ونهائياً عن تلك الأصلية التي شرحها المفكّر الفرنسي فحسب، بل لأنّ تلك المدلولات صارت عائقاً أمام نزوع الساسة الأمريكيين إلى حشر المصطلح في دائرة واحدة، وشبه وحيدة ربما، هي أنّ أمريكا ذات امتياز كوني فائق، في أيّ شيء وكلّ شيء. المرشّح الجمهوري للرئاسة، جون ماكين، قال مؤخراً: 'أنا، بالفعل، مؤمن بالإستثنائية الأمريكية. أنا لا أعرف أمّة سوانا تعتنق حقاً، وبعمق، مبدأ أننا جميعاً متساوون'. آخرون، من طينة المحافظين الجدد مثلاً، يرون الإستثناء في ما تتمتّع به أمريكا من 'هبة الخير'، المسلحة بالقوّة الإقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، والتي تمنح الحقّ وتفرض الواجب للقيام بأيّ فعل على نطاق العالم، ما دام يستهدف الصواب، دون الإكتراث بمدى شرعيته أو طبيعة عواقبه.
ونستذكر، هنا، أنّ التاريخ يضرب أمثلة على قوى عظمى أخرى لمست في ذاتها القدرة على قيادة الكون، بهبة من الله أو القدر كما قال ساستها وفلاسفتها. في القرن الأول قبل الميلاد، وفي تقريظ ما سُمّي بـ 'السلام الروماني'، رأى شيشرون أنّ الشعب الروماني يتحمل مسؤولية رعاية الكون وفرض القانون الروماني على 'الشعوب البدائية'، سواء بالإقناع أو بالإكراه. الإمبراطورية البريطانية كانت، من جهتها، بمثابة 'عبء الرجل الأبيض كما فرضته يد التاريخ الجليلة'؛ وفي العقد الأوّل من القرن الماضي اعتبر البريطاني جورج أنوين أنّ 'حسّ الإمبراطورية ملائم لمزاج الإنكليزي، لكنّ ضميره السياسي ينفر منه. ماذا في وسعه أن يفعل؟ لا مهرب له من قبول هذا الواجب الأعلى الذي فرضه الله، وهذا الشرف الذي أسبغه القدر'. تلك كانت مرحلة السلام البريطاني.
بيد أن سلام الولايات المتحدة، أو الـ Pax Americana في المصطلح المستقرّ، كان منذ البدء حالة استثنائية في بواعثها وأهدافها، رغم أنه ظلّ بدوره 'واجباً لا يجوز التواني عن القيام به'، و'هبة من الله'! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح إلى الشكوى من هذا الواجب المقدّس الذي أطلق عليه سلسلة تسميات، منها 'الإمبراطورية بالصدفة العمياء'، و'الإمبريالية بالتطوّع'، و'العبء الجديد للرجل الأبيض'. وفي كتاب بعنوان 'السلام الأمريكي' صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فييتنام من جعله كتاباً أثيراً لدى شرائح واسعة في أمريكا، يقول رونالد ستيل: 'على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً... نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا'!
السلامان الروماني والبريطاني كانا، في الجوهر، سلسلة ترتيبات استهدفت حماية المصالح الرومانية والبريطانية عبر خلق نسق خاص من النظام والقانون تنتعش فيه تلك المصالح، ويجري خلاله تسخير الجهد العسكري بما يكفل حماية ذلك النسق. أمّا السلام الأمريكي فإنه يفترض مسبقاً حالة من التطابق والتوافق التامّين بين مصالح الولايات المتحدة ومصالح الإنسانية جمعاء. والحكومات أو الحركات السياسية التي تعترض على هذا التطابق الفطري إنما تضمر العداء للولايات المتحدة، وتناهض سلامها الكوني، بالضرورة. الحرب ضد أولئك 'العصاة' تصبح، تأسيساً على ذلك، مهمة مقدسة تستهدف خير البشرية والمجتمع الدولي، وحملة صليبية مديدة متجددة من أجل عالم 'لائق' و'حرّ' و'ديمقراطي'. هذه، دون أيّ تبديل أو تعديل، هي اللغة التي استمعنا إليها كلّما تعيّن أن تذهب أمريكا إلى الحرب!
وثمّة هنا تناقض موروث في الواقع، لأنّ هذا السلام الأمريكي يتّصف بأنه خير مَنْ يرسل وأسوأ من يستقبل: لأنّ الأمريكيين يرسلون بفعالية عالية، فإن الإنسانية تكاد تتأمرك؛ ولكن لأنهم يستقبلون بشكل بالغ السوء، فقد قاوموا طويلاً محاولات أَنْسَنتهم، بمعنى تعليمهم كيفية التجاوب مع حاجات ورغبات الإنسانية في ما يتبقى من العالم خارج حدود الولايات المتحدة، كما يقول الباحث الكيني علي مزروعي. الأمريكيون يملكون عدداً متنوّعاً ومتشعباً من لغات الإرسال والإتصال مع العالم الخارجي، ولكن ينبغي تمييز تلك الوسائل الموضوعة بتصرفهم عن تلك التي يستخدمونها فعلياً.
الإنتاج هو أحد تلك اللغات، فالولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الثانية كدولة بين دول متكافئة، أو تكاد، في قدراتها الإقتصادية، وخرجت منها صاحبة الإقتصاد الأعظم في الكون. والكارثة التي دحرت رايخ هتلر وأمبراطورية اليابان، أقعدت الحلفاء من جانب آخر: إنكلترا كانت على شفير الإفلاس، ومجتمعات فرنسا وإيطاليا انقسمت على نفسها، والسوفييت انشغلوا بدفن 20 مليون قتيل. وهكذا احتلّت الولايات المتحدة موقع صيرفيّ العالم الأول، والمالك الوحيد لأسلحة فتاكة قادرة على صنع وصياغة السياسات الكونية.
لغة ثانية هي التكنولوجيا، التي استُخدمت كوسيلة ضغط منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. لقد تمثلت تلك اللغة في حظر تصدير التكنولوجيا أو السعي إلى وقفها أو تعطيلها حين تكون قد قطعت مراحل حاسمة (مثال إيران، راهناً)، واعتماد سياسة إنتقائية تمييزية في تصدير التكنولوجيا لأغراض صناعية سلمية في دول العالم الثالث، والسكوت على وجود حالات متقدمة أو ناجزة من تطوير الأسلحة النووية عند دول حليفة (إسرائيل في الطليعة، وفي المثال الأبرز).
لغة ثالثة هي العمل على تكريس معادلات من النقائض التي يكمل بعضها البعض الآخر في سلّم المصالح الأمريكية، كما في مثال اصطناع علاقة تعسفية بين مفهومي 'الرأسمالية' و'الديمقراطية'. إذا نُظر إلى الرأسمالية كعقيدة لاقتصاد تنافسي ينتج قوى السوق، فإنّ الديمقراطية الليبرالية هي بالضرورة، وحدها تقريباً، عقيدة السياسة التنافسية التي تخلق التعددية السياسية. الميزان الحسابي النهائي هو التالي ببساطة: تصدير رأسمالية أكثر، وديمقراطية أقلّ. وإذْ تعلّق الحملات الأمريكية من أجل حقوق الإنسان لافتة الغاية الأخلاقية (الديمقراطية)، فإن الحملات من أجل اقتصاد السوق لا تجد مفرّاً من رفع راية الربح وفائض القيمة (الرأسمالية)، فتكون المعادلة هكذا: لكي نعطيكم الديمقراطية ينبغي أن تقبلوا الرأسمالية... بشروطها/شروطنا التبادلية الراهنة.
ولكن ماذا عن ديمقراطية الإمبراطورية ذاتها، بين ظهرانيها، بحقّ أبنائها، وفي قلب ركائز 'الإستثنائية الامريكية' دون سواها؟ قبل زمن ليس بالبعيد كان فيليب جيمس، أحد أبرز مخضرمي التخطيط الاستراتيجي الأمريكي، قد أطلق صفة 'الكابوس' على التسجيلات الهاتفية التي وافق الرئيس الأمريكي جورج بوش على إجرائها بحقّ عدد من الشخصيات الذين ترتاب الإدارة في أنهم على صلة بمنظمة 'القاعدة'. 'هل تنقلب أمريكا إلى الشاكلة التي تخشاها كلّ الخشية'، تساءل جيمس قبل أنّ يحدّد الشاكلة تلك: 'دولة على غرار الأخ الأكبر'، في إشارة إلى النظام البوليسي السوفييتي كما تخيّله الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة '1984'، حيث 'الحكم للأوامر العليا، ولا أحد مستثنى من تنصّت البوليس السرّي، وكلّ شيء مسموح به دفاعاً عن الوطن، بما في ذلك التعذيب'؟ هذا، في صياغة أخرى تأخذ بعين الإعتبار أننا نتحدّث عن الولايات المتحدة الأمريكية وليس عن نظام استبداد وفساد وجمهورية وراثية دكتاتورية، إنقلاب من استثنائية الحلم إلى... استثنائية الكابوس؛ أو، كما في تعبير جيمس نفسه: 'عالم أورويلي، حيث المذكّرات الإدارية المدافعة عن التعذيب تُسطّر في وزارة العدل ذاتها، ويصبح القضاء مهنة فائضة عن الحاجة في الشأن العام'!
وهل، في المقابل، ثمة حاجة للكثير من العناء كي يدرك المرء عواقب هذه الدولة الأورويلية على نطاق عالمي، أنّى اتجه المرء ما وراء المحيط؟
ألا تواصل الولايات المتحدة احتلال، وأداء، دور روما الإمبراطورية في العالم القديم؟
أفلا تنتهك القوانين داخل حدودها وضدّ مواطنيها بقدر ما تفعل ضدّ العالم (إنشاء سجون أمريكية غير شرعية في بعض البلدان الأوروبية، ونقل المعتقلين المختطفين في رحلات جوية سرّية عبر مطارات الديمقراطيات الغربية...)، لكي لا نتذكّر تلك الحقوق الكونية التي يرى قياصرة أمريكا أنّ من حقّ روما القرن الحادي والعشرين أن تتجاهلها تماماً (إعفاء الصناعة الأمريكية من التزامات بروتوكول كيوتو حول تخفيف غازات الإحتباس الحراري، على سبيل المثال)؟
ثمّ ماذا عن الكوابيس الإجتماعية لهذه الديمقراطية ـ الإستثناء؟ الحقائق، كما في تقرير روبرت رايش (وزير العمل الأسبق)، تقول إنّ البون بين الفقراء والأغنياء في الولايات المتحدة ليس شاسعاً فحسب، بل هو الأوسع منذ قيام البلد. والمشكلة لا تقتصر على حقيقة أن 20' من مواطني أمريكا يتحكمون بالناتج القومي الإجمالي، بل في أن هؤلاء يستأثرون بنسبة 99' من صافي أرباح الناتج القومي الإجمالي! والرئيس بوش يقول إنّ الوظائف في ازدياد، فتكذّبه الإحصائيات: مليونا وظيفة فُقدت في عهده! وهو يقول، مفاخراً بمواطنيه الدنيا قاطبة، إنّ الشعب الأمريكي أكثر شعوب الأرض كدّاً واجتهاداً. وبالفعل، تقول الإحصائيات، إنّ على الأمريكي أن يشتغل أكثر في عهد بوش، لكي يحافظ على وظيفته وضمانه الصحي وتعليم أبنائه، ولكي لا يهبط إلى لائحة البطالة القاتلة. هذا لكي لا نضيف الهزّات الراهنة التي تعيشها المصارف والأسواق والبورصات، حيث صار في حكم المسلّم به، وتحصيل الحاصل، أنّ صغار دافعي الضرائب هم كبار المتضرّرين.
وليس أدلّ على المآلات الراهنة لمفهوم 'الإستثناء الأمريكي' من ذلك التراشق القذر للاتهامات، ذات اليمين وذات الشمال، حيث الرائحة الكريهة عنصرية أو دينية، وحيث محاكم التفتيش تُنصب في رابعة النهار، وكأنّ الحلم الأمريكي يرتد القهقرى خمسة قرون. امرأة أمريكية طاعنة في السنّ تسأل ماكين إذا كان أوباما عربياً حقاً، فيجيب المرشّح الجمهوري: كلاّ يا سيدتي، إنه ليس عربياً، بل هو رجل محترم! ماكين يستخدم شبكة إتصالات هاتفية آلية تتولى تشويه سمعة أوباما، هي ذاتها الشبكة التي استخدمها جورج بوش ضدّه، سنة 2004، أثناء الإنتخابات الحزبية التمهيدية، وأقسم ماكين أنه لن يلجأ إليها أبداً وتحت أيّ ظرف. سارة بالين، المرشحة لمنصب نائب الرئيس، تلمّح ـ ثمّ تعتذر، بعد ساعات! ـ إلى أنّ بعض الولايات أكثر وفاء لأمريكا من ولايات أخرى... أكثر عداء للوطن! الحزب الجمهوري ينخرط، كابراً عن كابر، في اتهام أوباما بالتحالف مع الإرهابيين، لأنه حضر تجمعاً ضدّ حرب فييتنام حين كان في سنّ... الثامنة!
أهو استثناء هذا الحلم الأمريكي، أم عود دائم زائف، على بدء كان في الأساس كاذباً؟
' كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire