محمد البلطي
baltym@yahoo.fr
ما يسمي الأزمة المالية التي يقال أنها إنطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية وتهدد كل العالم بتبعاتها تعيد بعث الكثير من الأساطير خاصة تلك المتعلقة بالدولة و دورها في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي.في مقابل تلك الأساطير نحاول بيان حقيقة ذلك الدور.
اذا نظرنا الى الموضوع من وجهة نظر الفكر الاقتصادي و مدى تعبيره عن الطابع التدخلي للدولة في ظل الرأسمالية ، نجد جلال أمين يلخص لنا تاريخ ذلك الفكر اذ " كان الماركنتيليين يعبرون عن التجار و الصناع قبل الثورة الصناعية ، تحت شعار أن على الدولة أن تتدخل تدخلا حاسما و شاملا في النشاط الاقتصادي .ثم جاء الكلاسيكيون 1760-1780 المعبرون عن مصالح الراسمالية الأنقليزية في عصر المنافسة الحرة. فقالوا أن على الدولة أن تنسحب من النشاط الاقتصادي . ثم جاء "كينز" كمعبر عن مصالح الرأسماية في عصر المنافسة غير المكتملة، تحت شعار أن على الدولة أن تقوم بدور فعال في الاقتصاد و الأزمة الاقتصادية ، وهي نتجة لإمتناع الدولة عن التدخل . و "ملتون فريدمان" يعبر بهذا الخصوص عن مصالح الرأسمالية في عصر الشركات المتعددة الجنسية، أي المدرسة الليبرالية الجديدة التي تدعو الى تقليص دور الدولة في العملية الانتاجية و تغيير هذا الدور بما يخدم سياسات الشركات المتعددة الجنسية على النطاق العالمي".(326)
تأكيدا للطابع التدخلي لفكر المركنتليين نجد رضا قويعة يعرف المركنتيلية ، بالعودة الى "بسنيي" على أنها نظرية إثراء الأمم بواسطة مراكمة المعادن الثمينة، التي تتطلب أن تفيض الصادرات على الواردات، لكن ذلك غير كافي،لأن الجواب على سؤال: كيف يمكننا الاثراء يتطلب تدخل "الأمير"لأن توسع قوته السياسية و نجاحات جيوشه في البر و البحر تسمح بحماية المصالح في الخارج و بالتالي تدعم مراكمة الثروات في البلاد.(327)
و يلاحظ رضا قويعة ، أن أهمية التجارة الخارجية لدى المركنتيليين ، هي التي صنعت عقليتهم الاستعمارية .لأن غزو الأسواق الخارجية يتطلب دعم الدولة. و الى جانب غزو الأسواق يكون دعم الدولة ضروريا من أجل تدعيم الأسطول البحري و انشاء و صيانة البنية التحتية الضرورية لتنمية التجارة و مساعدة و تنظيم المنشأة، خاصة المصدرة.ان تدخل الدولة ضروري و هو تدخل يشمل جميع مستويات الحياة الاقتصادية . و يعني ذلك أن المركنتيليين تدخليين.(328) أما بالنسبة للنظرية الفيزيوقراطية التي أهملها جلال أمين عند تلخيصه لتاريخ الفكر الاقتصادي ، فيقول عنها رضا قويعة أنها نسق اقتصادي كان يظهر لكتاب عصره كتعبير عن عقل متعالي ذلك الخاص بالكائن الأعلى .لذلك فان كل الاقتراحات تبحث عن تدعيم تراكم رأس المال في الزراعة و هي موجهة الى الدولة.(329)
بعد المركنتيليين و الفيزيوقراطيين التدخليين،و ذلك من خلال الاقتراحات التي كانوا يقدمونها الى الدولة ،ظهرت المدرسة الكلاسيكية(سميث و ريكاردو و صاي).
عن آدام سميث ، يقول رضا قويعة (330)،بحكم أن الأفكار المهيمنة في عصره كانت حمائية و تدخلية ، حاول سميث تحطيم الحواجز التي تعيق تحسين ثروة الأمة.و المدرسة الكلاسيكية ،بصفة عامة،تقوم على ثلاث اقتراحات(331):
- ان الطبيعة تحدد نظاما اجتماعيا شاملا، قوانينه الموضوعية يمكن اكشافها بواسطة العقل ، وهذه القوانين طبيعية أزلية ، صالحة لكل زمان و مكان.
- ان الأفراد من خلال متابعة مصالحهم الخاصة يحققون بفظل "اليد الخفية" المصلحة الاجتماعية .فمجوع المصالح الخاصة يمثل في القاعدة العامة مصلحة المجموعة.
- أما القاعدة التي تهمنا في موضوع الحال فهي : على الدولة أن تتدخل أقل ما يمكن، وفقط من أجل ردع أولائك الذين لا يحترمون قواعد اللعبة : "دعه يعمل دعه يمر".و الملكية الخاصة و الحريات الفردية ،هما فقط، ما يضمن سعادة البشر. و دور الدولة محصور في وظيفتها السياسية ( الدولة-الشرطي، التي يجب أن تضمن إحترام العقود و الأمن).(332)
و يقوم التصور الليبرالي للسوق لدى "دي بوازقيبارت"، الذي يعتبر مؤسس الليبرالية،و تأثيره على "فوربوني" و "مونتسكيو" و "ملون" ، و خاصة على "أدام سميث" ، غير مشكوك فيه الأن،مثلما تشير الى ذلك "سيمون ميسونيي" ، يقوم ذلك التصور على العناصر التالية:
- فكرة النظام الاقتصادي العفوي و الطبيعي الناتج عن لعبة الأليات و التوازنات الفاعلة في أنشطة التجارة ،و يجب علينا ترك القوانين الطبيعية تفعل فعلها و بالتالي نقيم الحرية.
- فكرة المسلك الذي يتأسس على التبعية المتبادلة بين الأعوان و تماثل حاجياتهم.
- التوازن يكون نتيجة مواجهة عنيفة و قصوى بين المصالح المتناقضة،عقلانية المصلحة مفهومة بشكل جيد تسمح بتنظيم الرهانات بواسطة معادلات(كل شخص يجب أن تكون له مصلحة في المبادلات حتى تتجدد هذه الأخيرة)، وعلى أساس ذلك فان التجارة الحرة تقيم السلام و المساواة.
- السوق هي المكان الذي يحصل فيه التوازن بواسطة الأسعار المحكومة بالعرض و الطلب .
-عدد الأسواق يبلغ خمسة : سوق المنتجات الزراعية و سوق المنتجات الصناعية و سوق مواد التجهيز و سوق العمل و سوق الممتلكات التي يمكن تسليفها.و العلاقات التي تنشأ داخل كل منها تنشر مفاعيلها على طول المسلك.
و ما يهمنا أكثر من غيره،
- الدولة تلعب دورا محددا في المسلك بواسطة حركات رؤوس الأموال التي تتسبب فيها(الاقتراض العمومي) ومن خلال تدفقات نفقاتها و بالتالي بواسطة الجباية.
نلاحظ أن هذا التصور للسوق لا ينفي تدخل الدولة ، بل يستدعيه و يذهب رضا قويعة الى نفس التصور الذي نجده لدى "ملون"(333) و "فنسانت دي قورناي"(334) و "فرون فوربوناي".(335)
بعد هذا الفاصل الليبرالي ، الذي لم يدم طويلا، تبدأ مرحلة طويلة من تدخل الدولة ، ظهرت تباشيرها مع أزمة 1873. و تأكدت مع أزمة 1929. و بصدد تلك الأزمات يقول رض قويعة (336)أنها أنتجت اتباع سياسات حمائية في مختلف البلدان . و لكن كذلك اجراءات متعددة لدفع الاقتصاد و مقاومة الأزمة.أكثر من ذلك،و بحكم أن السياسات التي إتبعت من طرف الحكومات كان مآلها الفشل، و ساهمت في تعميق الأزمة ، فان التدخل يتخذ وجهة أخرى مع "كينز" الذي يقترح (337) حلولا أخرى غير ظرفية للخروج من الأزمة.فهو يعتبر أن سياسة لتدخل الدولة تفرض نفسها. و في حين قامت السياسات الماقبل كينزية ، أساسا، على تخفيض الأجور و الأسعار و اتباع اجراءات حمائية ، فان أحسن طريقة لتدخل الدولة هي المالية العمومية ، أي ميزانية الدولة، التي تعتبر وسيلة جيدة للسياسة الاقتصادية و اعادة دفع الاقتصاد. وفي حين كانت المواقف التقليدية تقوم على المراحل الثلاث التالية:
- العملة و المالية أولا ، اذ بالنسبة للكلاسيكيين ، التوازن النقدي و توازن الميزانية كانا يمثلان الشروط المسبقة للوفرة الاقتصادية.
- ثانيا ، الاقتصاد، حيث يكون التطور محكوما بشكل حر بواسطة اللعبة العفوية لآلة الأسعار.
- و في الأخير الاجتماعي ، من أجل توزيع المزيد لابد من انتاج المزيد.
"كينز" قلب نظام الأفكار ذلك، حيث نجد لديه:
- الاجتماعي أولا، و تتعلق المسألة بضمان التشغيل الكامل، قبل كل شيء، وهو في نفس الوقت اختبار و سبب لصحة الاقتصاد.
ثانيا الاقتصاد،أي أن ضمان التشغيل الكامل يولد التطور الاقتصادي الذي يتغدى من نمو الدخل.
- و في الأخير ، العملة و المالية.
و بحسب هذا التصور، لا خوف من التضحية بالتوازن النقدي و توازن الميزانية.
و ذلك يعني أن تفكير "كينز" يتجسد في التصريح بأن الدواء الأول للأزمة الاقتصادية يظل بين يدي الدولة . ويقول "كينز" "قد يبدو لأي كاتب سياسي من القرن التاسع عشر أو أي رجل أعمال أمريكي من القطاع المالي اليوم، أن في توسيع
وظائف الدولة الذي حتمته ضرورة الملائمة بين الاقبال على الاستهلاك و الترغيب في الاسثمار ، خرقا فضيعا للمبادىء الفردانية.الا أننا نعتبر هذا التوسع على العكس من ذلك، الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون التحلل الكامل للمؤسسات الاقاصادية الحالية و الشرط لكي تقوم المبادرة الفردية بدور متميز".(338)
و تدخل الدولة لا يرتبط بالأزمة فقط بل إن النظرية الاقتصادية الأنقلو-ساكسونية، حتى في مرحلة صعود الليبرالية ، لم تقم أبدا بركن الدولة في الصف الخلفي، وذلك لسببين على الأقل(339): لأن إقتصاد السوق تمت مأسسته، وهو لذلك يتطلب سلطة قوية من أجل فرض إحترام إشتغال مؤسساته، و لأن السوق و بسبب النواقص التي ترافق لعبته يتطلب التدخلات العمومية.و تلخص "كولات فوازان" التطور الذي حصل في علاقة بدور الدولة الاقتصادي ،باعتبار الرؤية الاقتصادية التقليدية تجعل من الدولة فاعلا اقتصاديا مثلها مثل كل الفاعلين ، تسعى الى زيادة مكانتها انطلاقا من محدداتها الخاصة، لكنها فاعلا خصوصيا مهيمنا، وبشكل أكثر تحديدا ، فان الدولة فاعلا موحدا و متجانسا يملك المعلومات الكافية وأهدافه محددة، وهي الى جانب ذلك كلية القدرة بحكم وسائل الفعل التي تملكها للتأثير على المؤسسات كما على العلاقات بين الفاعلين.أما بالنسبة للأدب المعاصر فقد أهتم برفض تلك الفرضيات حول طيبعة الدولة.حيث تم تخيير البحث عن مكاسب من الدرجة الثانية، والدولة لا تملك المعلومات الكاملة و الشاملة حول النسق الاقتصادي، وهي ليست كتلة متجانسة.على أساس ذلك توصل التحليل الى حرمان الدولة شيئا فشيئا من بعض خصائصها، باسم ربح ضروري ، من جهة الواقعية.
هذا التطور الفكري الأخير ينقلنا الى تصورات انعكاسات العولمة على الدولة.لكن قبل الخوض في هذه المسألة ، يمكننا إعتبار أن الفكر الاقتصادي التدخلي ، منذ المركنتليين الى "كينز" ، يعكس واقع الدولة التدخلية.
واقع الدولة التدخلية
على المستوى الحدثي "إقتصاد السوق" لايمكن ، مثلما يشير الى ذلك "رجيب أجي" (340)، فصله أبدا عن كل شكل من اشكال التنظيم ، بل هو يظهر دائما كمظهر و بعد من أبعاد مركب يدمج في مستويات متغيرة تدخل السلط العمومية. ففي كل المجتمعات حيث يوجد "إقتصاد السوق"، فقط جزءا محددا من الأنشطة الاقتصادية يخضع بالفعل الى التنظيم بواسطة السوق. و بمعنى أخر و على مستوى الواقع ،نحن دائما في مواجهة إقتصادات مختلطة حيث حضور الدولة و السلطة العمومية دائما في الحياة الاقتصادية.و هو ما يؤكده" ميشال ماي"(341) بقوله أن صورة الدولة التي لا تتدخل في النشاط الاقتصادي بالنسبة لصورة الدولة التي تتدخل في ذلك النشاط ، هي صورة إيديولوجية. الى ذلك يضيف "بتران بلًًًُُُُُُون" إنه الى جانب المسؤوليات المرتبطة بالعدالة و الشرطة و التربية و الصحة و البنية التحتية ، تتحمل كل دولة أو تشارك في مسؤوليات ذات طبيعة إنتاجية بشكل مباشر .و يعيد ذلك التدخل الى عدة أسباب منها:
- التحكم في نواقص السوق عندما لا تحصل التكيفات أو أنها تتطلب أجلا طويلا جدا. و ذلك الى جانب وضع قواعد لعبة الانتاج التي تنظم اشتغال السوق مثل القواعد الاجتماعية و الأجرية و قواعد الجباية و المنافسة و القواعد التقنية و الاطار القانوني للعقود و فض النزاعات.
-بعث الصناعات و حمايتها بواسطة أنظمة قمركية و سياسات إقتصادية كلية أو زيادة القدرات الانتاجية بواسطة الاستثمار المباشر و توجيه الاستثمار الخاص.
- زيادة الكفاءة داخل المنشآت بواسطة التكوين و الاعلام و التجديد الصناعي و البحث و التنمية و بعث "عقلية صناعية" ترتكز على قيم الاستثمار و المخاطرة و التحدي.
- في بعض الشروط التاريخية المحددة جدا تأخذ الدولة على عاتقها مسؤولية أنشطة صناعية معينة . و يتعلق الأمر بتنمية ميادين صناعية عمومية معتبرة حيوية بالنسة لبلد في وضعية إحتكار طبيعي أو بسب تأثيرات خارجية أو في علاقة بصناعة وليدة أو ميزات طبيعية وطنية محددة.(342)
و من وجهة نظر تاريخية عامة، وهو شيء أكيد بالنسبة لـ "ميشال بو" (343)، يبين لنا التاريخ أنه عندما تمتد جذور الرأسمالية في بلد ما تكون في البداية سهلة العطب و هو ما يجعلها في حاجة الى الدولة .ذلك الاستنتاج وضعت على أساسه القاعدة العامة التالية: في كل مرة تتدعم و تتأكد في العالم أو في جزء منه رأسمالية قومية يمكننا أن نكون متأكدين ،بالنسبة للبلد المعني، أن العلاقة بين الدولة و الفاعلين الرأسماليين هي علاقة قوية و فعالة. وهو ما يجعل الدولة في البلدان الرأسمالية ، دائما و تقريبا، الداعم و الأخ الأكبر المتفهم أو المشرف الصعب ، على رأسماليتها القومية.فنضج الرأسمالية قد تم في علاقة وثيقة مع تشكل الدولة-الأمة الحديثة في ما بين القرنين 16 و 18.لذلك أعتبر كل من "أندريه قندر فرانك" و" مارتا فونتيس"(344)" أن الدولة القومية تشكلت و إكتسبت كثيرا من جوانبها المهمة بهدف التمكن من التنافس بصورة أفضل في الاقتصاد العالمي". وهو ما يجعل "كل أولئك الذين يؤيدون المنافسة شفهيا سرعان ما يعتقدون بأن السوق قد دمر و أن الأمر صار يتطلب تدخلا و المساعدات المالية للدولة، حينما تتحقق المنافسة الحقة فعلا" .ذلك ما يقوله "فردناند لا سينا" الاقتصادي النمساوي و وزير مالية النمسا لمدة معينة.(345)و هو لايختلف في ذلك عن إبن بلده المهاجر الى الولايات المتحدة الأمريكية "كارل بولاني" الذي يؤكد أن تأسيس أسواق تتمتع بالحرية الكاملة " لا يؤدي أبدا الى القضاء على اللوائح و التدخلات (الحكومية)بل يتسبب في زيادتها و توسعها العضيمين".(346)و في إطار تلخيصه للجدل الذي دار بين الليبراليين و الماركسيين في علاقة بدور الدولة ، و هم يتفقون على أنه كان دورا ثانويا ، في إطار ذلك و ردا على ذلك الاتفاق ، يعتبر عبد اللطيف الهرماسي (347)"أن نشاط الدولة كان أهم من ذلك بكثير ،مما توقعه المنظرون" مؤكدا على "الدور الحاسم الذي لعبته الدولة في كل البلدان و كل مراحل تطور الرأسمالية" و هو ما يجعل" الثقافة الليبرالية الأوروبية(مثلا)كانت و لا تزال مزيجا متغيرا من الحريات الاقتصادية ، أي من "إقتصاد السوق" و من تدخلات الدولة"، حسب الشاذلي العياري .(348)في نفس الاتجاه ، وفي إطار نقده للايديولوجا الليبرالية الجديدة التي توجد في خلفية برنامج الاصلاح الهيكلي الذي شرع في تطبيقه في تونس إنطلاقا من سنة 1986، و الذي يتضمن سعيا الى تفكيك دور الدولة المباشر و المكثف في عملية الانتاح ، في إطار نقده هذا المسعى الأخير بحكم طابعه الظار ، يشير تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي و الاجتماعي بتونس الى أن الحمائية و تدخل الدولة كانا في البلدان المتقدمة القاعدة خلال المراحل الطويلة لبناء أو إعادة هيكلة جهاز إنتاجي فعال. و التجارب تبين ،حسب ذلك التقرير ، أن الدولة المستثمر و الدولة المصدرة للأوامر هما واقعتان لا يمكن مداورتهما في إطار الاستراتيجيات الصناعية.(349)
موجز تاريخ الدولة التدخلية
بالنسبة للبداية الفعلية "للتدخل الدئم"السابق إستعراضه يقول لنا "ميشال بو"أنه مع نشوء الرأسمالية في 1500كانت السلطة الزمنية و السلطة الروحية متصارعتين ،أستمدت الرأسمالية قوتها من الفراغات التي لا تخضع لا لهذه و لا لتلك . و هو ما لم يمنع تجار كل مدينة من الاستفادة من دعم مؤسسات الدولة، مثلما سيفعله لاحقا بدولهم المنفكتوريون و الصناعيون في كل بلد.فالبدايات الأولى للرأسملية تعود الى خمس أو ستة قرون خلت من خلال أنشطة الجار الذين قاموا لاحقا بتمويل الحرفيين و حصلوا من الأمير على الحماية و الامتيازات. و من خلال كل ذلك تغير كل شيء، حيث لم يعد الدافع الى التبادل و الانتاج هو عظمة الأمير و الاثراء الشخصي و العائلي بل الأرباح التي تسمح بالمزيد من التبادل و الانتاج. وهما اللذان يصبحان الدافع المحدد في الأزمنة الحديثة، مع وجه أساسي هو المستثمر و شكل تنظيمي لا يمكن فصله عن السوق و مرتبط مباشرة الى هذا الحد أو ذلك بالدولة ، هو المنشأة.لأن الدولة و تأكيد وجودها لعبا كذلك دورهما في تشكل الرأسمالية. و يلاحظ "ميشال بو" أن هذا الطابع التدخلي للدولة وجد في السابق ، حيث تدخلت الدولة في تنظيم عملية الري و تجهيز المدن و قامت ببناء الطرق و القنوات.لكن الدول في أوروبا الغربية في القرنين 17 و 18 ذهبت الى أبعد من ذلك .فقد قامت بإلغاء الأداءات و الحدود القمركية الداخلية و قدمت المساعدات و قامت ببناء الموانىء و التحصينات وصيانة الأصاطيل و الجيوش في مواجهة الأجانب، الأعداء و المنافسين،ووضعت القوانين حول التشرد و العمل الاجباري للأطفال المهملين و المتسولين و فككت الأنظمة الحرفية و سنت القوانين حول الفقراء و بعثت بنكا مختصا في ضرب السكة القومية.(350)كان ذلك هو الدور الذي لعبته الدولة في نشأة الرأسمالية القومية .كما أن " الدولة الرأسمالية المتوافقة مع المرحلة الرأسمالية التنافسية(الدولة الليبرالية) كان لها دائما دور إقتصاديا :و صورة الدولة الليبرالية كمجرد دولة دركي أو حارس ليلي يسير فيها الاقتصاد تلقلئيا ، كانت دائما أسطورة ...لقد إحتفضت الدولة الليبرالية ،دائما،بوظائف إقتصادية هامة و على درجة متفاوتة، مؤكدا ، حسب مختلف التشكيلات الاجتماعية الرأسمالية".(351)
في بريطانيا، وحسب "تشارلز تلي" (352)، "التعبئة الدائمة للحروب ضد فرنسا و لاسيما في الفترة 1793 و 1815 و سعت الى درجة كبيرة الضرئب و الدين القومي و تدخل الدولة في الاقتصاد...لكن المسؤولين القوميين ، في القرن التاسع عشر ، زجوا بأنفسهم في عمليات البوليس و التعليم و مراقبة المصانع و النزاعات الصاناعية و الاسكان و الصحة العامة و كثير من الشؤون الأخرى بدرجة لا سابق لها".و قد بدأ التوسع الأكثر درامية في نشاط الدولة غير العسكري في عصر التخصص العسكري ،بعد عام 1850 تقريبا. فقد إتسع نطاق الدولة ليتجاوز لبها العسكري و أخذ مواطنوها يطالبون بحقوقهم منها في ميادين شديدة الاتساع تمتد من الحماية الى القضاء و الانتاج و الوزيع ، وذلك دائما حسب "تشارلزتلي".أما "أريك هوبسباوم" فيعيد ذلك "التوسع الدرامي" للطابع التدخلي للدولة الى سنة 1875،ذلك أن المرحلة التي تلت مرحلة ما يسميه الظفر الليبرالي ، التي كانت مختلفة جدا عنها ، فهي على الصعيد الاقتصادي سرعان ما تخلت عن المبادرة الخاصة القائمة على المنافسة و تخلت عن عدم التدخل الحكومي لصالح تجمعات صناعية كبيرة و تدخل حكومي مرموق.(353)
و لا يختلف الأمر بالنسبة لمرحلة 1880-1945.فبالعودة اى سمير أمين ،نجد أنها قد تميزت، و على النقيض من الخطاب الفوضوي المناقض للدولة ، بالطابع التدخلي لهذه الأخيرة.إذ أنها كانت هناك من أجل ضمان تصرف في الكتلة المهيمنة و من أجل تأطير و تنظيم الأسواق ،دعم الفلاحين مثلا،و التحكم في المنافسة الدولية من خلال الحمائية و التصرف النقدي.فتدخل الدولة النشط في هذا الاتجاه يعتبر شرعيا بشكل تام في تلك المرحلة بل حتى ضروريا.
أما مرحلة 1945-1980 فقد تظمنت تدخلا منظما و معمما للدولة في ظل السياسات ذات الالهام الكينزي أو الكينزية الجديدة.(354) لكن قبل 1945، شهدت نهاية العشرينات و بداية الثلاثينات من القرن 20 إنتشار تدخل الدولة "بحيث أصبحت إعادة الانتاج في الكثير من الأقطار الرأسمالية تتوقف على دور الدولة و ليس على حركة أسواق رأس المال، وحلت رأسمالية الدولة محل الأشكال الأخرى من الرأسمالية التي أضعفتها الاحتكارات".(355) و يعيد رضا قويعة ذلك التطور الى أزمة 1929(356)و هو يلتقي مع سمير أمين في ذلك.إذ إبتداءا من أزمة 1930 أصبحت الدولة ملزمة بالتدخل بشكل فعال في سياق إعادة الانتاج من أجل دعم الاحتكارات و إمتصاص جزء من الفائض الذي لم تعد إعادة الانتاج الرأسماية بقادرة على إمتصاصه في إطار المزاحمة الاحتكارية.(357)
و قد بدأ تدخل الدولة ذلك خلال حقبة "الأزمة البنيوية" 1948-1968 لكي يتواصل في مرحلة التوسع اللاحقة.(358)و هو ما دفع محمد سعيد طالب الى القول(359)"كانت المرحلة اليكنزية بعد الحرب العالمية الثانية هي مرحلة الرأسمالية الاحتكارية و تدخل الدولة لصالح الاحتكارات القومية و تشابك مصالح الدولة و الاحتكارات معا". الى ذلك يضيف "لقد برهنت الوقائع التاريخية على طوباوية النظرية الكارثية للرأسملية التي بشرت بها الماركسية...لأن تدخل الدولة الرأسمالية و أجهزتها المختلفة ، أصبح عاملا حاسما في العملية الانتاجية بكليتها و أكثر من أي وقت مضى .فالدولة تتدخل في دورة الانتاج و في آليات السوق و في الائتمان و الاستثمار و الادخار و توزيع الدخل عن طريق سياسة الضرئب و الموازنة العامة ،وتتدخل في أى وقت لوقف الأزمة . وهي بما لديها من إمكانيات مالية و إدارية و تشريعية و بما يخولها الدستور من آليات تنظيمية و تنفيذية و تشريعية و رقابية ،و بما تملكه من أجهزة متخصصة تعمل كلها في خدمة الاقتصاد الرأسمالي". وهو يلتقي في ذلك مع قؤاد مرسي(360)و سمير أمين(361) و "نيكوس بولانتزاس". وحسب هذا الأخير "المرحلة الامبريالية المقابلة للرأسمالية الاحتكارية ،تتميز بإنتقال السيطرة في آن واحد في التشكيلة الاجتماعية و في السلسلة الامبريالية من الاقتصاد الى السياسة(الدولة)...و بشكل خاص بعد أزمة 1930 يفرض رأس المال الاحتكاري داخل الحواضر هيمنته على رأس المال التنافسي مع إستتباع سيطرة العامل السياسي (الدولة) داخل هذه التشكيلات...و تتدخل الدولة في المرحلة الرأسمالية الاحكارية في الاقتصاد بطريقة حاسمة بما أن دورها لا يقتصر بأساسه على توالد ما يسميه "إنقلز" 'شروط عامة' لانتاج فائض القيمة، بل يمتد الى دورة التوالد الموسع لرأس المال كعلاقات إجتماعية أيضا".(362)
وبصفة عامة فان القرن العشرين هو قرن الدولة التدخلية بالنسبة لـ "ويترز".(363)فقد تميز هذا القرن بما يسميه الدولة المنظمة.إرتبط نمو الدولة التدخلية المنظمة بالحرب العالمية و الانهيار الكبير و ما يسميه الثورة الشيوعية و الفاشية التي صاحبتهما. وأصبحت الدولة ذات طابع مركزي تنفيذي تتدخل في اهم النشاطات.إذ أصبحت مقارنة بدولة القرن التاسع عشر الليبرالية أكثر تدخلية من خلال وضع المخططات و التصرف الاقتصادي و الجبائي خاصة كما قامت بدور الوسيط بين مجموعات المصالح المجتمعية و خاصة بين الأجراء والمؤجرين.أما أهم إستراتيجية لها فهي دعم الاستثمار و النمو الصناعي بهدف توسيع الاقتصاد الكلي . و يلاحظ "ويترز" أن ذلك الطابع التدخلي للدولة تطورالى أن أصبحت الدولة دولة رفاه و منذ منتصف القرن العشرين تبنت أغلب الدول بما في ذلك تلك التي خضعت للاستعمار سابقا ،شكلا من أشكال دولة الرفاه.
كأمثلة تارخية على ذلك الطابع التدخلي ، كان إنشاء السكك الحديدية في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة مدعوما من الحكومة الفيدرالية و حكومات الولايات و البلديات.(364) أما "التنمية" فقد تمت في ظل تدخل نشيط للدولة منذ القرن التاسع عشر حتى السنوات الستين.حيث سخرت الدولة موارد كبيرة جدا لتنمية الفلاحة و حافظة على الاستهلاك الشعبي في مستويات منخفضة نسبيا ، و الى حدود السنوات السبعين كان النظام النقدي و المالي في اليابان خاضعا للتنظيم.(365) و في علاقة بآسيا يقول الشاذلي العياري (366)"أن الرأسمالية اليابانية أو الكورية ،مثلا، ليست رأسمالية محررة من القيود بل مخططة حكوميا و قطاعيا".أما تقرير المجلس الاقتصادي و الاجتماعي بتونس ، الذي سبقت الاشارة اليه،فيلاحظ أنه ، سواء تعلق الأمر باليابان أو كوريا الجنوبية أوتيوان، فإن التصنيع يخضع لاستراتيجيات طويلة المدى على أساس سياسة متفق عليها بين القطاعات الاقتصادية و الدولة التي تشجع و تعتمد على شركات كبرى .فقد لعبت الدولة دورا أساسيا في إطار الاستراتيجيات الصناعية في بلدان جنوب شرق آسيا. وهو نفس ما قامت به ألمانيا و إيطايا . ويضيف ذلك التقرير أنه في أغلب البلدان الأوروبية كان الدور الذي لعبته الدولة في تطور المؤسسات دورا هاما قبل الحرب العالمية الثانية و خلال كامل مرحلة إعادة البناء و الى حد السنوات الستين.ففي فرنسا،مثلا،تم إنجاز إعادة البناء بالاعتماد على استرتيجيات صناعية منظمة بشكل مسبق من طرف الدولة . و من بين والوسائل التي إستعملت هناك المنح و القروض التي قدمت الى المؤسسات العمومية و الخاصة في إطار قوانين برامج التي تحدد بشكل مسبق ما تلتزم الدولة بتقديمه من أموال و ذلك الى جانب العقود التي تم وضعها بالاتفاق مع الدولة التي تلتزم بتقديم إمتيازات مالية.و يعتبر التقرير أن التاريخ الاقتصادي المعاصر لأغلب البلدان الصناعية التي تعتمد على إقتصاد السوق يبين أن إعادة بناء الجهاز الانتاجي و تجاوز التخلف التكنولوجي تم تنظيمها و في نفس الوقت من طرف دولة مصدرة للأوامر و مستثمرة.(367)و يعود ذلك الوضع في ألمانيا الى القرن التاسع عشر .إذ من بين أهم عوامل تصنيعها(368) الطابع المركزي للدولة و تدخلها من خلال إعطاء التوجيهات و الأوامر و ضعف التعارض بين الرأسمالية و التدخلية.
وإذا كان لابد من تفسير للطبيعة التدخلية للدولة في ظل الرأسمالية فان "ميشال بو" يقول أن تفسير ذلك الوضع بسيط.
اذ واقعيا و تاريخيا ما نسميه الرأسمالية نمت في إطار الدولة-الأمة التي تحددت بدورها في نفس الوقت الذي نشأة فيه الدولة الحديثة . وفي هذا الاطار نشأت علاقات قوية بين المنشآت في بلد ما و دولتهم ، بين الرأسماليات القوية (البريطانية و اليابانية و الأمريكية ...الج)و دولهم . و هي علاقات قوية و معقدة في نفس الوقت ، سواء تعلق الأمر بالحمائية و التبادل الحر أو العلاقات مع الشركات الكبرى ولعبة المنافسة و الدفع المعطى لبعض القطاعات الأساسية أو المتقدمة و الدعم المقدم لبعض الأنشطة في تجارتها أو توسعها العالمي.(369)و في المرحلة الاحتكارية يرتبط تدخل الدولة حسب سمير أمين (370) بعدم فاعلية تصدير البضائع و رأس المال في الحد من فاعلية قانون إتجاه معدل الربح نحو الانخفاض ، للأن التجارة تتوازن بين البلدان الرأسمالية المركزية وتصدير رأس المال يولد تدفقا عكسيا يتجه الى التفوق على التصدير نفسه.لذلك يتم إمتصاص الفائض بطرق أخرى هي التبذير الاقتصادي و الانفاق العام و تتدخل الدولة من جهتها تدخلا نشيطا لامتصاص الفائض الزائد.
واقع الدولة التدخلية في ظل ما يسمى العولمة
من خلال موجز تاريخ تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي نتبين أن ذلك الطابع التدخلي لها كان دافعه الأساسي خدمة رأس المال ، سواء من خلال توفير الشروط العامة لإعادة الإنتاج أو تجاوز صعوبات تحقيق فائض القيمة أو كذلك لعجز رأس المال على القيام بدوره في عملية التراكم ذاتها.
على أساس ذلك يمكننا ، في علاقة بواقع الدولة و دورها الاقتصادي في ظل العولمة ،إفتراض أنه لا وجود ،مثلما يتم الترويج له و بكثافة، لتراجع في دور الدولة الاقتصادي في ظل العولمة .إنما هناك إعادة تنظيم و توجيه لذلك الدور في إطار تواصل الطابع التدخلي للدولة.أي أننا نفترض أن العولمة لا تؤدي الى إلغاء الطابع التدخلي للدولة بل هي تحل شكلا من التدخل محل شكل أخر.لأن تدخلها يعني أنها تقوم بدور في خدمة رأس المال و هي تواصل القيام بذلك الدور في ظل العولمة كذلك.و يتأكد ذلك من خلال ما تقوم به كل الدول الإمبريالية في مواجهة ما يسمى الأزمة المالية المنطلقة من الولايات المتحدة الأمريكية منذ 2007 و التي بلغت إحدى قممها في 2008.
إذا كانت الدولة تتدخل قبل العولمة لمصلحة رأس المال فان "تراجع" دورها الاقتصادي يتم كذلك لمصلحة رأس المال. و هي بالتالي و في الحالتين تدخلية.و قول ذلك لا يعني عدم الأخذ بعين الاعتبار التراجع الفعلي لدور الدولةالاقتصادي .فقد تخلت الدولة بالفعل عن سلطتها في فرض الضرائب على منتوجات المضاربة المالية و أرباح إستثمارات الشركات الكبيرة ،كما أن هامش مناورتها قد تراجع إذ أصبحت غير قادرة على تحديد سعر عملتها في علاقة بالعملات الأجنبية، كما قامت الدولة بالتخلي عن تحديد نسب الفائدة و قامت بخوصصة المنشأة العمومية...الخ. وذلك "التراجع"لا ينفي تواصل تدخلها في ظل العولمة.
فالدولة مازالت مدعوة للتدخل في المجالات التالية: (410)
- أولا في مستوى نواقص الأسواق ، بمفردات العرض و الطلب ، وهو ما يدفع السلطات العمومية الى كبح اللعبة العادية للمنافسة.
- في مستوى إنهيارات لعبة السوق.
- في مستوى إعادة البناء الصناعي للمنطق ، الذي يقود الى مفهوم الميزة المبنية.
و السياسات ذات الالهام الليبرالي هي التي تتطلب ذلك التدخل فهي تقوم أساساعلى النقاط التالية: (411)
- أسبقية السوق كمبدأ لوزيع المواد. وهو ما ينتج عنه أن تدخل الدولة داخل كل بلد يكون مقصورا على حماية المنافسة و بالتالي فان سياسات التنشيط كما السياسات القطاعية يجب تركها لأنها مكلفة و غير فعالة.هذا الى جانب أن السياسة النقدية يتم ردها الى مراقبة نمو الكتلة النقدية.
-و على المستوى العالمي يتم الدفاع عن التبادل الحر و تحديد أسعار صرف العملات بواسطة السوق.
و ما ينتج عن ذلك من إختلالات إقتصادية و إجتماعية و سياسية هو الذي يستدعي تدخل الدولة.
و حسب "برتران بلون"، تقليديا كانت السياسة الصناعية ، مثلا،(412) تتوجه الى أستثارة الأنشطة الواعدة و بعث برامج وطنية و دعم الصناعات المنهارة.لكن و منذ بعض السنوات هذه الممارسات تراجعت بالنسبة الى ممارسات ذات طبيعة أكثر أفقية تبحث عن تحسين أليات السوق و إستثارة المزيد من المبادرة في إطار تلك الآليات. و يتضمن ذلك إعادة توجيه الدعم و المساندة من الاستثمارات المادية الى الاستثمارات غير المادية و تحرير الأسعار و المنافسة و إعادة هيكلة الصناعات المؤممة و الخوصصة الجزئية. و يترافق كل ذلك بإجراءات تنظيمية و سياسات المواصفات و البحث و التنمية .فالمجهود أصبح يتجه الى مرافقة المبادرات الصناعية أكثر من إتجاهه الى المبادارات ذاتها . وقد نتج عن ذلك ، مثلا، تراجع الدعم الذي لم يعد يمثل إلأ جزءا ضعيفا من الوسائل المستعملة.لكن هناك أنواع متنامية من الوسلئل الأخرى المالية مثل المساعدات الجبائية و غير المالية مثل المواصفات و الاستشارة . الى كل ذلك يضيف "برتران بلون" أن كل هيئة عمومية تملك ميزانية أو قدرة على التنظيم تستعمل اليوم جزءا متزايدا من مواردها للتأثير على ديناميات الانتاج. و بهذا المعنى فان كل هيئة عمومية تمثيلية تساهم في السياسة الصناعية و تولد في نفس الوقت سيرورة تنافس داخل الدولة و بين الدول.و تتميز منهاج الممارسة بخصوصيات قومية داخل بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية،مثلا، حيث نجد بلدانا أو مجموعة بلدان تستعمل أساسا و قبل كل شيء البرامج الكبيرة (البرنامج النووي،ت-ج-ف، أريان ،أرباص).في حين أن البعض الأخر ، وفي بعض الأحيان نفس البلدان ، تعتمد على كثافة نفقاتها العسكرية (الولايات المتحدة الأمريكية ، بريطانيا، فرنسا). و البعض الآخر يمارس السياسة الصناعية بواسطة التفويض من خلال التفاوض و تبادل الأراء(ألمانيا و اليابان).
و لكن و رغم هذه الخصوصيات فان هناك إتجاه الى التقاطع .حيث أن الهيئات المركزية تحافظ على الاجراءات الأكثر عمومية و تستعمل أكثر فأكثر الوسائل غير المباشرة مثل تخفيض الضرائب و تقوم بتحويل تطبيق القرارات الى الهيئات القريبة من المنشآت التي تستعمل أكثر فأكثر التدخلات المباشرة.
و في إطار إعادة تنظيم وتوجيه دور الدولة الاقتصادي يمكننا وضع الخصائص العامة للسياسات الصناعية المتبعة من طرف البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية حيث أنها:
- سياسة قائمة على السوق الذي يشكل مركز السلوكات العمومية . و يتعلق الأمر بتسهيل خلق المعلومة و معالجتها و حركتها و تنظيمها. و هو ما يسمح بالمنافسة من خلال سلوكات للعرض و الطلب مشوهة أقل ما يمكن.
- سياسة مرتبطة بكل السياسات العمومية الأخرى : مراقبة التوازنات الاقتصادية الكبرى و بناء و صيانة البنية التحتية و تيسير السياسات التجارية و إجراءات سياسات التربية و التكنولوجيا.
- سياسة في نفس الوقت بنيوية و إتباعية.
هذه التوجهات الثلاث الكبرى هي التي تحدد السياسة الصناعية في تلك البلدان في ظل العولمة. و يصل "بلون" (413)من خلال ذلك الى اعتبار أن الدولة تحافظ على مسؤولياتها و أهدافها الخاصة و ميادين إختصاصها ، لكن ممارستها تتم في ميدان مشترك و في إطار شراكة مع الفاعلين الآخرين ،و خاصة المنشآت. و بعد تحليل الخصائص الجديدة للعلاقات القائمة بين الدولة و المنشآت ، و هي علاقات أصبحت قائمة بالنسبة له، على تمفصل للأنساق التراتبية و الأنساق الشبكية ، بعد ذلك ، يصل الى القول أن لاشيء يسمح باعتبار أن سيادة إقتصاد السوق ينتج عنه ضرورة دولة الحد الأدنى .فالواقع يتضمن على العكس من ذلك ثلاثة نماذج من التطورات المتساوية هي :
- من جهة بعض الوظائف العمومية تم تعويظها شيئا فشيئا من طرف المبادرة الخاصة .
- و من جهة أخرى على الدولة أن تحافظ و تنمي تدخلها في ميادين و حسب أهداف لازالت تتمتع بالشرعية (المصلحة العامة ، نواقص السوق ، ثبات و حماية الأنساق ، تحسين القدرة التنافسية ، المشاريع الكبرى).
- أخيرا ، يجب على الدولة أن تكرس نفسها لوظائف جديدة .يجب عليها إكتشاف و تبني سلوكات جديدة مؤدية الى أشكال من التعاون مع المنشأة في ميادين و بخصوص أهداف مجددة.
و هو ما يجعل الدولة ليس فقط ضامن القدرة التنافسية بل عليها كذلك التحكم في الاتجاه و ضمان أخذ حدوده بعين الاعتبار.و على أساس ذلك فان القرارات العمومية يمكنها مثلما يذهب الى ذلك "أنتجي برميستار"(414) تعديل وظيفة الانتاج للعون الخاص من خلال تقديم الخدمات العمومية ،مثلا،و شروط الطلب من خلال الشرءات العمومية خاصة،و الشروط التكنولوجية و البنية التحتية مثلا،و الشروط المالية للمردويدة الخاصة و الدعم و التشجيعات الجبائية مثلا،كذلك من خلال دور الدولة كضامن لدوام و تواصل المجتمع.و بالعودة الى "برتران بلون" و بعد إستعرضه لتواصل الطابع التدخلي للدولة في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية من خلال السياسات الصناعية نجده يتساءل : ماذا نلاحظ قبل كل شيء في ميدان الممارسات العمومية داخل الحقل الصناعي؟.و في الاجابة على ذلك السؤال يقول: يفاجؤنا هنا المستوى العالي للالتزام و التنوع الكبير جدا للتدخلات العمومية مهما كانت الدولة المأخوذة بعين الاعتبار.(415)و في علاقة بنفس الموضوع يعتبر "كريستيان مللي" أن السياسة الصناعية تجمع مختلف وسائل التدخل العمومي في الميدان الصناعي . و هي بحكم كونها كذلك إحتلت دائما مكانة خاصة في علاقة بدور الدولة الاقتصادي. وفي بعض الظروف التاريخية شكلت تلك السياسات رافعة قوية للتنمية الاقتصادية الوطنية. و هي تبقى الأن في ظل العولمة شديدة الارتباط بممارسة السيادة الوطنية على عكس السياسة التجارية و النقدية.و من خلال تحليل السياسات الصناعية المتبعة في بعض بلدان منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية ، من خلال برامج المساعدات الصناعية ، يصل الى إعتبار أنه رغم إختلاف الطرق و الأشكال فالاتجاه ليس نحو تراجع دور الدولة .(416)
الى جانب تواصل الطابع التدخلي للدولة من خلال السياسات الصناعية ، يمكننا تبين تواصل ذلك الطابع من خلال علاقة الدولة بسوق العمل.
و في هذا الاطار يسعفنا "قاي كيير"(417) إذ بالنسبة له ، وإذا قمنا بتعريف السوق كمكان للمواجهة بين عرض و طاب يحدد إلتقاؤهما سعرا و كمية متبادلة ، فاننا من خلال ذلك نتبين بشكل سريع أنه ليس هناك أي من هذه المتغيرات لا يشمله تدخل الدولة ، إذا تعلق الأمر بسوق العمل:
- العرض بحكم أن كل تشريع متعلق بالعمل يهدف الى تحديد شروط إستعماله من خلال تحديد شروط القبول بالنسبة للمستثمر( التشريع المتعلق بالنساء و الاطفال و كبار السن و المهاجرين)و ذلك الى جانب وقت العمل و تجاوزاته الممكنة.
- الطلب ، هنا كذلك يحدد تشريع العمل طرق الانتداب و أشكال العقود و الالتزامات التي يجب إحترامها و الاحتياطات الي يجب إتخاها من أجل تأطير تقديم العمل (فترة تجريب في البداية ،إعلام مسبق عند وضع حد للانتداب).
- السعر ، و ذلك من خلال تحديد الأجر الأدني مباشرة أو بطريقة غير مباشرة من خلال مختلف التحويلات.
الكميات المتبادلة، بحكم ،مثلا، أن السياسات ذات الالهام الكينزي يمكنها أن تحاول التأثير على التوازنات العفوية للسوق ، سواء إعتبرت هذه الأخيرة كافية أو على العكس مبالغ فيها.
و من مظاهر تدخل الدولة في سوق الشغل ، كذلك ،قضية عدم إنتقالية قوة العمل عالميا أي تدويل سوق قوة العمل الذي من المفروض أن يكون المكمل "الطبيعي" لتدويل سوق رأس المال. لكن الواقع "المعولم" هو غير ذلك.و الدولة أو الدول هي الفاعل الأساسي في منع عملية التدويل تلك ، أي في منع إنتقالية قوة العمل عالميا.(418)بالاضافة الى ذلك تنتظر الأسواق المالية من الدول أن تتبنى سياساتها و مصالحها. و يمكنها القيام بذلك بالاعتماد على أربع طرق هي : (419)
- رفع قيمة أرباح البورصة، و ضرائب محدودةعلى القيمة المضافة.
- خوصصة المصالح العمومية من أجل توفير فرص جديدة للاستثمار و من خلال تحويل قسم من الادخار العمومي الى البورصة.
- تحويل الرأسمال الاجتماعي الى رأس مال خاص و ذلك من خلال نظام خاص للتأمين و تقاعد.
- سياسة تدعم مرونة العمل.
و هو ما قامت و تقوم به كل الدول تقريبا.وهو ما يعطي معنى لما يقوله "جون غراي" إذ يرى أن إقتصاد السوق كان دائما خيارا تفرضه قوة الدولة .و يعلق بشير موسى نافع على ذلك بقوله أن الموجة الجديدة لاقتصاد السوق التي أخذ العالم يشهدها منذ مطلع الثمانينات، هي نتاج تدخل مباشر من الدولة في العملية الاقتصادية.(420)
وقد إستخدمت قوة الدولة التشريعية لتحطيم نقابات العمال و فتح المجال لتوسع و نفوذ و يسطرة المؤسسات الاقتصادية و الشركات الاحتكارية . وبالاعتماد على قوة الدولة و سيطرتها قدمت القطاعات الاقتصادية العامة بأرخص الأثمان لكبار الرأسماليين.بما في ذلك القطاعات ذات الطابع الاحتكاري مثل الماء و الكهرباء و خطوط المواصلات.الى ذلك يضيف سمير أمين (421)أن اليابان و الولايات المتحدة الأمريكية ليستا ،بشكل بسيط، فضاءات جغرافية جزءا من الاقتصاد العالمي الذي يتم بناءه ، إنهما و ستبقيان إقتصادان قوميان . و هنا بالضبط تعمل الدولتان على المحافظة على بناهما القومية مستفيدتان في نفس الوقت من بناء الاقتصاد العالمي كشريكين قويين.و في نفس الوقت الذي يؤكد فيه أن ذلك يمثل معركة طليعية بالنسبة للسنوات العشرين القادمة ، يتساءل من يمكنه نفي الأهمية المصيرية للاختيارات القومية التالية : في مستوى تمويل البحث و التنمية (مدنيا و عسكريا) وأنظمة التكوين الملائمة الى جانب الحمائية الفعلية للزراعة من خلال الدعم و في مستوى الموارد المنجمية و النفطية، سياسة ما يسمى بالاحتياطات الاستراتيجية.بالنسبة للبحث و التنمية ، مثلا،نجد الدولة هي الممول الأساسي لذا النشاط حيث أن الانفاق على البحث و التنمية في ألمانيا يمثل 2،8 بالمائة من النتاج المحلي الاجمالي أي 37،2 مليار دولار يسهم المال العام فيها بنسبة 37 بالمائة و الصناعات المختلفة بنسبة 60،2 بالمائة . وهذا الوزيع في اليابان هو 21،8 بالمائة و 68،2 بالمائة على التوالي و في الولايات المتحدة الأمريكية 39،2 بالمائة و 58،7 بالمائة .(422)
و يعني ذلك من وجهة نظر "ميشال بو" أنه في المرحلة الحالية و من الولايات المتحدة الى كوريا و اليابان و ألمانيا و فرنسا و البرازيل ، يظل دور الدولة الاقتصادي أساسيا رغم إختلاف الكيفيات و القطاعات. فما يسميه الرأسمالية التكنولوجية ، التي تقوم على التحالف و التداخل و الارتباط بين العلم و التقنية ، و بحكم ضخامة الاستثمارات و كبر حجم الشركات الذي تتطلبه التكنولوجا الأم (الاعلامية و الاتصال و البيوتكنولوجا و خاصة الهندسة الوراثية و علوم المادة...الخ)و فضاءات التقاطع بينها ، لكل ذلك ، فان الشركات الكبيرة جدا المرتبطة بأشكال متعددة بدول قوية ، هي وحدها القادرة على تعبأة و توجيه "التكنو-علم و التي فيها تتصور و تنجز وتشغل الأنظمة التقنية و مختلف البضائع المرتبطة بها.(423)
و رغم ذلك نجد أن معارضة الدولة بالسوق موضة رائجة اليوم.(424) و هي معارضة غير سليمة الأسس و تحملنا في الواقع و بصفة عامة لا الى حقيقة الاشتغالات المجتمعية ، لكن، فقط الى أساطير الاقتصاديين التي تم صنعها رويدا رويدا. و عدم سلامة أسس هذه المعارضة هو الذي يكشف لنا طابعها الايديولوجي.فما يحصل بالفعل ، مثلما يذهب الى ذلك "جون بيار فوجار"(425)هو أن تحولات أنماط تدخل الدولة في الاقتصادات المتقدمة،مثلا، تدخل في إطار حركة إعادة بناء الاقتصاد العالمي و لكنها لا تلغيه كليا . و هي إعادة نظر تتم ، بالنسبة له، على أساس تحرير المبادلات التجارية و تدفقات رؤوس الأموال.ذلك التحرير لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يلغي تدخل الدولة في الاقتصاد .لأن تاريخها في جانب منه بالنسبة "لإقتصاد السوق"هو تاريخ تدخلها في الاقتصاد . و المسألة كانت مقبولة من طرف كل منظري "إقتصاد السوق" منذ ظهور ذلك التنظير مع المركنتليين الى الفيزيوقراطيين الى الكلاسيكيين. و أذا كان الأمر كذلك فان ما يحصل بالفعل ليس إلغاء تدخل الدولة في الاقتصاد كليا ، مثلما سبقت الاشارة الى ذلك، إنما هي إعادة نظر في شكل معين من التدخل هو ذلك الذي إرتبط بدولة الرفاه في "الشمال" و دولة "العمال" في "الشرق" و دولة "التنمية " في "الجنوب". و هو تدخل كان نتاج أوضاع إقتصادية-إجتماعية نتبين الأن أنها كانت مرحلية و لا تتمتع بصفة الدوام و الاستمرارية، مثلما صورت في حينها.إنه تدخل إرتبط بأزمة التراكم و صعوبات تحقيق فائض القيمة في البلدان الامبريالية، وصعوبات التراكم في الشرق و الجنوب، وذلك الى جانب إحتداد الجدلية المجتمعية خاصة في "الشمال" و "الجنوب" و في إطار النظام العالمي عامة.لا تلغي العولمة الطابع التدخلي للدولة في المطلق إنما شكل تاريخي له.
تأكيدا لتواصل ذلك الطابع التدخلي للدولة ، رغم العولمة، و في إطار نقده للتصورات القائلة بنهاية الدولة-الأمة و تبيان طابعها الايديولوجي، يقول سامي نير (426)أن مثال الولايات المتحدة الأمريكية يبن ، على العكس من ذلك،و اليوم أكثر من أي يوم مضى، أن الاستراتيجيات الاقتصادية تعتمد من بين ما تعتمد علية ، على الموارد الاستراتيجية الشاملة (العسكرية و السياسية) لتلك البلاد.و في نفس الاطار و بالارتباط مع البحث في طبيعة العلاقة بين النخبة السياسية و النخبة الاقتصادية يطرح سامي نير الأسئلة التالية:
هل أن الدولة الأمريكة لا تراقب التدفقات الاقتصادية التي تمس أراضيها؟ هل أن نخبها السياسية ليس لها أي تأثير على نشاط النخب الاقتصادية ؟.
رد على ذلك يقول أنه إذا كان من الغير الممكن الاجابة بشكل قاطع ، فانه من الضروري في مقابل ذلك التأكيد على التداخل الفعلي بين القادة السياسيين و رؤساء الشركات الكبرى و البنوك و المؤسسات المالية ذات الأصل الأمريكي .و في إطار التأكيد على ذلك يستشهد سامي نير ب "فيليبس" الذي يتحدث عن تعاون غير مسبوق بين واشنطن و "وول ستريت" يجعل الأسواق المالية تتمتع بمحابات غير مسبوقة من الحكومة الفيدرالية . و يلاحظ أن تحويل المنشآت من الولايات المتحدة الى الجنوب يتم بمساعدة من مؤسسات حكومية مهمتها بالضبط هي مساعدة و دعم ذلك التحويل.و يلخص الوضع في الولايات المتحدة بالقول أن النخب السايسة هناك هي أكثر من أي مكان أخر مرتبطة بتجمعات المصالح المتعددة الجنسية.
و قبل الأن وفي الولايات المتحدة ذاتها و في زمن الريغانية و الخطاب الليبرالي الفاحش بلغ الانفاق العسكري 250 مليار دولار و العجز العمومي من 5 الى 6 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.و هي قمم لم يتم بلوغها سابقا.(427)و كمثال أخير عن تواصل الطابع التدخلي للدولة في الولايات المتحدة يمككنا ذكر ما ورد في كتاب "فخ العولمة"(428).إذ لما أرادت مؤسسات "وادي السيلكون" المختصة في صناعة برامج الكمبيوتر جلب خبراء برامج من الهند قاوم خبرءا البرمجة في الولايات المتحدة ذلك و وقفت الحكومة الى جانبهم و لم تمنح تأشيرات الدخول الى الخبراء الهنود إلا نادرا. و أعلن الرئيس الأمريكي في جانفي 1999عن مجموعة من الاجراءات المالية الهادفة الى النهوض بالصادرات ،الى جانب ما يعادل المليار دولار تخوفا من إنعكاسات الأزمة الآسياوية على الاقتصاد الأمريكي.حيث سيتم تخصيص قرابة 108 مليون دولار من ميزانية سنة 2000 للنهوض بالصادرت.(429)و تعاطي الحكومة الفيدرالية مع "أزمة" 2008 المالية لا يفعل إلا تأكيد ذلك.
و الوضع لا يختلف عن ذلك في اليابان. ففي تقريره الشامل عن الاقتصاد العالمي الصادر في 30/09/1998 ربط صندوق النقد الدولي عودة النمو الى الاقتصاد الياباني ، الذي يعاني من الركود،باتخاذ الحكومة المزيد من الاجراءات لحفز الطلب
و إعادة الاستقرار الى النظام المصرفي . وأضاف التقرير "السلطات اليابانية إتخذت إجراءات في مجال الميزانية و القطاعين النقدي و المالي و مجالات هيكلية اخرى من أجل إنعاش الاقتصاد".(430) وقد كانت الحكومة اليابانية وضعت منذ ربيع 1997 خطة لإنعاش الإقتصاد قدرها 16.600 ين أي حوالي 120 مليار دولار.(431) كما صادق مجلس النواب الياباني في يوم 13/10/1998 على مشروع قانون يتعلق باصلاح البنوك في اليابان و ينص على رصد إعتمادات عمومية لفائدة المؤسسات المالية التي تشهد أزمة . ويستند ذلك المشروع الى برنامج ضخم تبلغ إعتماداتة الجملية 60 ألف ين أي 510 مليار دولار.(432) الى جانب ذلك وضع الوزير الأول في أكتوبر 1998 مخططا لتجاوز الأزمة تضمن تخفيض الضرائب بـ 49 مليار دولار و 70 مليار دولار من النفقات العمومية.(433) و أعلن بنك اليابان المركزي يوم 23/10/1998 أن الحكومة اليابانية قدمت تسهيلات إئتمانية بقيمة 25 مليار دولار لبنك اليابان للإتمانات الطويلة الأجل. وقدم القرض عن طريق مؤسسة التأمين على الودائع . وهي مؤسسة أسستها الحكومة لحماية المودعين في البنوك التجارية اليابانية من مخاطر إفلاس تلك البنوك.(434) وقد إعتبر البنك المركزي الياباني في تقريه السنوي الذي نشر في 17/12/1998 أن تراجع الاقتصاد الياباني أصبح معتدلا بفضل...إرتفاع الاستثمارات العمومية.(435) في نفس الاطار يذكر "إقناسيو رامونيه"(436)أن سلطات طوكيو قد قامت بصياغة 11 برنامجا لإعادة دفع الاقتصاد منذ 1990. وقامت بصرف أكثر من 575 مليار دولار من أجل إعادة تشغيل الألة الاقتصادية و ذلك الى جانب تخفيض الضرائب.
و نجد الواقع نفسه في بقية البلدان الصناعية السبع الكبرى. ففي إجتماع عقد يوم 03/10/1998 في واشنطن إعتبر وزراءالمالية و حكام البنوك المركزية لتلك البلدان أن توازن المخاطر للإقتصاد العالمي قد تغير و أن نسبة التضخم منخفضة في البلدان الصناعية.و أكد البيان الصادر عن ذلك الاجتماع تصميم تلك البلدان على " خلق الظروف الملائمة لقيام نمو إقتصادي يستند الى طلب داخلي قوي" و ذلك الى جانب قيام "تحرك سريع و فاعل لتحرير النظام المالي عبر إتخاذ إجراءات لدعم المصارف القابلة للعيش مثل تأمين مساعدة رسمية كافية لها ،تقدم سريعا و بشروط مناسبة".(437)
و في الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدلي و البنك العالمي في 06/10/1998 أكد حاكم البنك المركزي الفرنسي على ألا تمنع الأزمة المالية المجموعة الدولية من تقديم المساعدة اللازمة للدول المعوزة و طالب بتركيز المساعدة العامة على أولويات التنمة كتعزيز دور الدولة في توفير ظروف تنمة القطاع الخاص.(438) وبالنسبة لفرنسا ذاتها قامت الدولة هناك بتخصيص 170 مليار فرنك فرنسي ضمن ميزانية 1998لمساعة المنشآت على الانتداب.(439) كما ان "ما يعود الى الدولة في الدورة الاقتصادية بطريق مباشر أو غير مباشر مازال في سنة 1997 يمثل 50 بالمائة من مجموع المدخول القومي لتلك البلاد في ظل أقتصاد ليبرالي".(440) في ألمانيا وضعت الحكومة برنامجا عاجلا للتصدي لبطالة الشبان و يهدف ذلك البرنامج الى توفير فرص تكوين أو عمل لحوالي مائة ألف شاب الى غاية سنة 1999. وقد رصدت لذلك إعتمادات بلغت 12 مليار دولار.(441)
الى جانب كل ذلك ذكر كاتبا "فخ العولمة" (442) أن الدولة الهندية ساعدت شركات الكمبيوتر الأمريكية على الانتقال الى الهند و قدمت لهم في، عشر مناطق أنشأت لهم خصيصا كل الهياكل التحتية الضرورية إبتداء من المختبر الكبير المكيف و أنتهاء بشبكة الاتصال عبر الأقمار الصناعية بلا ثمن تقريبا. ويضيفان الى ذلك أنه عندما توافق الشركة الكورية "سامسونغ" على أستثمار مليار دولار في مصنعها الجديد في شمال أنقلترا تحصل على مائة مليون من وزارة المالية. ونفس الشيء بالنسبة لـ "مرسيدس" في علاقة بالمصنع الذي تشيده في أحد المناطق الفرنسية.حيث يتحمل دافعو الضرائب في فرنسا و في باقي الاتحاد الأوروبي ربع مجموع المبالغ المستثمرة ويؤكد الكاتبان "وهذه ليست حالة أستثنائية أبدا" .(443)
و في جنوب شرق أسيا أزمة 1997 حملت الحكومات على تحمل أعباء الديون المتخلدة بذمة البنوك . وتجسيدا لذلك قامت الحكومة الكورية الجنوبية بتقديم 1.18 ترليون وون (975.2 مليون دولار) الى البنوك الخمسة الى آلت إليها ملكية البنوك التي أجبرت على وقف عملياتها المستقلة. ويهدف هذا الدعم الى تحسين الأوضاع المالية لهذه البنوك و لاسيما نسبة مديونيتها لتتماشى مع معايير بنك التسويات الدولية إثر تدهور تلك النسبة منذ بداية المحادثات الخاصة بتولي زمام هذه البنوك. و تتضمن البنوك التي ستحصل على تمويل حكومي كلا من "كوكمين" و بنك الاسكان و التجارة و "شبهان" و "كورام" و "هانا" (444).كما أعلن في كوريا في سبتمبر 1998 عن ثلاث عمليات إندماج بنكية منها إندماج بنك "هانيل" و بنك كوريا،الذي تضمن ضخ 3.3 مليار من الأموال الحكومية و أسفرت الإندماجات عن تحمل الحكومة للديون البنكية المعدومة(445)
كما أختارت هونغ كونغ سبيل التدخل الحكومي من خلال الشراء في بورصة الأسهم وتغيير القواعد التنظيمية للمعاملات الأجلة.أما في ماليزيا فقد طبقتت الدولة مجموعة متشددة من الضوابط التي أنهت فعليا تجارة الرنغيت خارج البلاد و صعبت على المستثمرين تحويل أرباحهم خارج البلاد.(446)
من كل ماسبق نخلص الى إعتبار أن ما يجب أن يكون موضوع تساؤل و بحث ، ليس الطبيعة التدخلية للدولة فيظل الرأسمالية ، لأن هذا المعطى ، مثلما حاولنا أن نبين ذلك،ثابت في إطار الرأسمالية، ،إنما مدى التدخل و وظيفته و أسبابه و أشكاله هي التي تتغير من دولة الى أخرى و من مرحلة الى أخرى، حسب الظروف التاريخية الخاصة بكل دولة و حسب تناقضات عمليات التركم و ضرورياتها.إن مايجب أن يكون موضوع بحث و تسائل هو دور الدولة ، مسؤوليتها عن السياسات و البرامج و المخططات التي تقوم بوضعها و تطبيقها مع تحميل مسؤوليتها الى تحديات المنافسة الدولية و الى العولمة.
إن كل ذلك يدفعنا الى إعادة التأكيد أن القضية ليست تراجع دور الدولة أو عدم تراجعه ، إنما هي حدود ذلك التراجع و معناه، الى أي حد يتراجع دور الدولة و في خدمة من؟ لمصلحة من يتراجع دور الدولة؟.
و طرح المسألة بالإعتماد على مفردتي التراجع أو التكثف ، لا ينفي أن الدولة كانت دائما في ظل الرأسمالية ذات طابع تدخلي. و بالتالي فالقضية تتعلق بمستوى ذلك التدخل و أسبابه سواء تراجع أو تعمق.فتاريخ الدولة في ظل النظام الرأسمالي ، هو في جانب منه تاريخ تدخلها في النشاط الاقتصادي حتى في ظل أكثر الحكومات ليبرالية.على أساس ذلك فان الاشكالية الأسلم التي يجب طرحها في ظل العولمة ، في علاقة بدور الدولة الاقتصادي هي : الى أي مدى يتراجع دور الدولة و في أي الميادين و ما هي أسباب ذلك و لمصلحة من؟.
طرح المسألة بهذا الشكل هو مايساعدنا على تجاوز الاضطراب و الخلط و عدم الوضوح الذي لف طبيعة العلاقة بين العولمة و الدولة.إن طرحها بهذا الشكل هو ما يساعدنا على الذهاب مباشرة الى ما هو أساسي بدون الوقوع في متاهات ما يسميه "إقناسيو رامونيه" الظلامية الجديدة أو الفكر الوحيد.
لذلك يمكننا إعتبار أن الدولة تتحمل جانبا كبيرا من المسؤولية في علاقة بما يحصل في ظل العولمة و بإسمها. وما ينظر له على أنه تراجعا لدورها المتمثل أساسا في تراجع دورها الاقتصادي ، لايمكن أن ينظر له على أساس أنه إضعافا لها و لوظيفتها المجتمعية العامة في الانتاج و إعادة الانتاج،بحكم أنها في خدمة رأس المال. و ذلك التراجع الاقتصادي المتمثل أساسا في الخوصصة و التحرير يتم لمصلحة رأس المال
و بالتالي يذهب في إتجاه تقويته. فالخوصصة هي في جوهرها توسيع للسوق لمصلحة رأس المال المتأزم و بالتالي فان دور الدولة الاقتصادي لا يتراجع إنما يتم إعادة تنظيمه و توجيهه في إطار البحث عن حل للأزمة.
إعادة التأكيد على هذا التصور تسمح لنا بكشف الطابع الطوباوي للنظرية الليبرالية
و فوضويتها و مجافاتها للواقع التاريخي للدولة الرأسمالية في علاقتها بالاقتصاد حيث أنها كانت و لازال تذات طبيعة تدخلة. و ما يختلف من دولة الى أخرى و من مرحلة الى أخرى هو مدى التخل و حدته و أسبابه و دواعيه و المستفيدين منه و المتضررين منه.
http://crise-azma.blogspot.com/
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire