mercredi 19 novembre 2008

اﻷزمة المالية: حتّى يكون فهم الشّعب الكريم أكثر عمقا




أبوذر
ما سبق من شرح باﻷمس، كان بالإمكان عنونته ب « ابستملوجيا النّقد و أثر اﻷدواة الماليّة الحديثة في تعميق أزمة الرّأسماليّة : الدّيون المستندة للرّهن العقّاري نموذجا » لولا أنّ الهدف منه إنّما كان المساهمة في نشر ثقافة اقتصاديّة حقيقيّة و ليس استعراض « عضلات » غالبا ما تكون وهميّة. هذا الشّرح، كما يعلم أخصّائيّوا التّعليم و التّكوين، لا بدّ أن يحمل الكثير أو القليل من التّبسيط الذّي ينتج عنه عدم المطابقة الكلّيّة للواقع. لكن في المقابل لا بدّ لهذا التّبسيط أن يتجنّب أيّ تغيير لجوهر المسألة الذي يستهدفها الشّرح و إلاّ خرج عن كونه محاولة لإفهام المعلومات الخقيقيّة. إنّها مسألة معقّدة أخرى. سنحاول هنا أن نتقدّم أكثر في الفهم بالتّقليل الضّروري للتّبسيط الذي سبق و لكن دون التّخلّي عنه كليّا.

نلاحظ من خلال ما سبق من الشّرح أنّ النّقد الورقي المتداول (وصولات البنوك) هي أموال تصدرها البنوك التّجاريّة. لهذا، عندما يقع بأيديكم في المرّة القادمة « خميّس » أو « عاشور »، على رأي شرطة التّغيير، تذكّروا أنّ مصدر تلك الورقة الحقيقي هو بنك الجنوب أو بنك تونس العربي الدّولي أو حتّى الإتّحاد البنكي للصّناعة و التّجارة الذّي أصبح بنكا « عكريّا » صرفا (نسبة للعكري)و ليس البنك المركزي التّونسي كما كتب في صدارتها. و اﻷهم من هذا أنّ ذلك النّقد تمّ إصداره بمناسبة إسناد قرض من البنك التّجاري لفائدة فرد أو مؤسّسة أو حتّى الدّولة نفسها. فالوصولات/المال/النّقد المتداول يزداد في كلّ مرّة يسند فيه أحد البنوك قرضا ما و ينقص كلّما سدّد أحد المتداينين قرضا ما. في النّهاية يكون مجموع النّقد المتداول بين النّاس في لحظة معيّنة هو مجموع القروض المستحقّة لدى البنوك في تلك اللّحظة. هذا ما يسمّى عند الإقتصاديّين بالكتلة النّقديّة (*) وهو معطى على قدر كبير من اﻷهميّة.

فالمال/النّقد في النّظام الرّأسمالي ليس في الحقيقة إلاّ مجموعة من الدّيون التي تسند بفوائض. نعم يبدو هذا اﻷمر في غاية الغرابة بل اللاّمعقوليّة ولكنّها الحقيقة التي يصطدم بها دائما من يسمعها ﻷوّل مرّة.

يقول المحافظ « قراهام توور » (**) أمام لجنة البرلمان الفدرالي الكندي للبنوك و التّجارة : « في كلّ مرّة يسند فيه بنك من البنوك قرض، يكون قد خلق دين جديد أي إيداع جديد ﻷموال جديدة لم تكن موجودة من قبل ».(***) و يضيف « توور » في نفس المصدر « كلّ مبلغ جديد من النّقد يتأتّى بالظّرورة من بنك تجاري في شكل إصدار لدين ما... كلّ المال المتداول هو في اﻷصل تمّ إقراضه لجهة ما من طرف بنك ما و بما أنّ كلّ القروض هي ديون مستحقّة، إذا فإنّ كلّ النّقد المتداول هو ديون »

تعبير اﻷوراق الماليّة هنا هو تعبير مجازي فحاليّا لا تمثّل اﻷوراق الماليّة المعروفة إلاّ نسبة ضئيلة جدّا من جملة اﻷموال المتداولة. تعبير اﻷموال الإلكترونيّة قد يكون أكثر دقّة فغالبيّة النّقد المتداول على أيّامنا هو مجرّد أرقام تحفظ في ذاكرة الكمبيوتر. عندما يتقدّم شخص إلى بنك و يحصل على قرض مقداره مائة ألف دينار فإنّ مجرّد ضغط عون البنك التّجاري على أزرار الكمبيوتر كفيل بخلق ذلك المبلغ من المال من لا شئ. هي سلطة ضخمة ولكن المبدأ اللّبرالي الذي يفترض تحييد الدّولة أكثر ما يمكن عن الإقتصاد هو الذّي منح أولائك التّجّار كلّ تلك السّلطة.

هذه اﻷزمة الإقتصاديّة لا تزال في بدايتها، سترون بأمّ أعينكم آثارها المدمّرة. قد تتساءلون في لحظة ما، من أين لهؤلاء « البنكاجيّة » أن يحدثوا كلّ هذا ؟ الآن تعرفون الإجابة. إنّها شورى التّجّار كما يقول مظفّر النّوّاب.

خلال إدلاءه بشهادته أمام البرلمان الفدرالي، كان أكثر أعضاء اللّجنة أسئلة للمحافظ « توور » هو النّائب المعروف بكندا « جيري » (****) و ذلك لخبرته الكبيرة في المجال المالي. لمّا سأل النّائب « لماذا تفرّط الدّولة في سلطة إصدار النّقد لفائدة تجمّع تجاري خاص ثمّ تستدين منه تلك اﻷموال و تدفع الفوائد التّي قد تؤدّي باﻷمّة برمّتها إلى الإفلاس؟ »، اكتفى المحافظ بالقول « لو كانت الحكومة تريد تغيير هذا فالبرلمان يمكنه التّصويت على ذلك ». إنّها شورى التّجّار ولا شئ غيرها.

شخصيّا لا أعتقد أنّ هؤلاء « البنكاجيّة » لم يكونو يعرفون، و لا أقول يتوقّعون، هذه النّتيجة الحتميّة التي صار العالم إليها من جرّاء ما اقترفوا. فهم أبعد ما يكون عن الجهل أو انعدام الكفاءة. و اﻷهمّ من ذلك أنّهم كانوا يتصرّفون في إطار القوانين و الإجراءات. الحقيقة هي أنّهم هم من وضعو تلك القوانين والإجراءات على مقاساتهم. في سنة ألفين و سبعة بلغت أجرة « ألّويد بلانكفاين » رئيس بنك « قولدمان ساكس » (*****) مبلغ ثمانية و ستّون مليونا و نصف من الدّولارات اﻷمريكيّة لوحده. من السّخف أن نعتقد أنّهم، لمّا أقرضوا كلّ تلك اﻷموال لكلّ أولائك الفقراء بضمان ارتفاع أسعار العقّارات التي كانوا يعرفون جيّدا أنّه غير لامتناهي، أرادوا أن يعيش مواطنيهم المسحوقين الحلم اﻷمريكي ولو لمدّة محدودة قبل افتتاح الجحيم. صحيح أنّهم أرادو تذرير تلك المخاطر الماحقة التي صنعوها و صحيح أنّهم نجحوا في ذلك جزئيّا عبر أدواتهم الماليّة المعقّدة التي غالبا ما كانوا الوحيدين القادرين على فهمها و لكن قد يكون عزاء أولائك المساكين أنّ جلاّديهم قد خسروا بعض الملايين هم كذلك.

جاء في وثيقة إعلان واشنطن لقمّة ما سمّي بمجموعة العشرين حول اﻷسواق الماليّة و الإقتصاد العالمي التي صدرت يوم السّبت الماضي في باب « المبادئ المشتركة لإصلاح اﻷسواق الماليّة » النّقطة التّاسعة : « أنّه يتعيّن دعم الشّفافيّة و المسؤوليّة وكذلك إحكام تنظيم عمل هذه اﻷسواق ». و هذا الكلام هو صيغة دبلوماسيّة لاعتراف واضح و صريح بأنّ عمل هذه اﻷسواق يعمّه الفوضى و انعدام الشّفافيّة.


أبوذر ، السّابع عشر تشرين الثّابي


(*) Monetary mass.
(**) Graham F. Towers, Gouverneur de la Banque centrale du Canada de 1934 à 1955.
(***) Standing Committee on Banking and Commerce, Minutes of Proceedings and Evidence Respecting the Bank of Canada, Ottawa, J.O. Patenaude, I.S.O., Printer to the King’s Most Excellent Majesty, 1939, pp. 113, 238, 459, 461 & 794.
(****) McGeer, K.C., (a.k.a. Gerry) ancien maire de la ville de Vancouver à l'époque.
(*****) Lloyd Blankfein, président de « Goldman Sachs Group Inc. »
www.tunisnews.net

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire