نقولا الزهر
nghsns@yahoo.fr
الحوار المتمدن - العدد: 2466 - 2008 / 11 / 15
-1-
ابتدأت الأزمة بمسألة الرهن العقاري، وحاول بعض المحللين الاقتصاديين تصويرها بأنها مسألة عابرة، فمنهم من راح يربطها بجشع مديري المصارف وموظفي المؤسسات المالية الكبار، الذين دفعهم جشعهم إلى المبالغة في إقراض المال للأفراد من أجل شراء بيوت لهم، ومن ثم بيعت الرهون التي أخذت منهم إلى مؤسسات مالية أخرى، وكان الأمر أنه لم يعد بمقدور المقترضين سداد ديونهم. ومن المحللين من ألقى بالمسؤولية على مصرف الاحتياط الفيديرالي الأميركي الذي خفض سعر الفائدة وهذا ما شجع الناس على الاستدانة، وكذلك عزي الأمر إلى أسباب أخرى تتعلق بضعف رقابة البنوك المركزية على المصارف والشركات المالية وأسس وأنظمة الإقراض والاستثمار فيها.
وبغض النظر عن اختلاف وجهة نظر المحللين حول أسباب نشوء الأزمة الراهنة، فإن العديد من المحللين الاقتصاديين يرى أنها أكثر خطورة من الأزمة الاقتصادية التي تفجرت في عام 1929من القرن الماضي. وهم يعزونها إلى أسباب أعمق، من قضية الرهن العقاري، وإن كانت هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير والسبب المباشر لاندلاعها. فيرون أسبابها الحقيقية تتعلق ببنية النظام الرأسمالي وتناقضاته، وخاصة في حقبة الليبرالية الجديدة التي أطلقها كل من (ريغان وتاتشر) في بداية الثمانينات من القرن الماضي، التي تقوم على الحرية المطلقة للسوق دون أي تدخل أو رقابة من الدولة، وكذلك الحال يجب أن نأخذ بعين الاعتبار دور العولمة وتطور وسائل الإنتاج الهائل وطفرة الاتصالات، في تزايد حدة التناقضات.
في اعتقادنا، الأزمة الراهنة ستؤثر مفاعيلها على دول العالم كله، ولن تكون واحدة منها بمنأى عن هذا التأثير وإن كان بنسب متفاوتة. وإن لم يكن التأثير عن طريق المصارف والبورصات، فسيكون عن طريق النفط والغاز و المواد الخام التي تصدرها هذه الدولة أو تلك، أو البضائع المصنعة والتقنيات التي تستوردها. ولذلك لن تغير في الأمر شيئاً سياسة دفن الرؤوس تحت الرمال التي يتبعها بعض الدول الشمولية والشعبوية.
إن النظام الرأسمالي في حقبته العولمية الراهنة يستغرق العالم كله، ولا يوجد أي نظام اقتصادي آخر غيره، وإن كان يتمظهر بتنوعات رأسمالية مختلفة، أميركية وأوربية ويابانية وروسية وصينية وهندية وخليجية، وعالم- ثالثية شمولية متخلفة وتابعة، فكل هذه التنوعات تخضع بشكل أو بآخر مركز النظام المالي العالمي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة .
إن عدوى الأزمة المالية إلى كل المعمورة، تنطلق من كون النظام الرأسمالي ذا سمة عالمية. كان يؤكد على هذه السمة كل من ماركس وإنجلز قبل قرن ونصف. وكذلك كان يؤكد عليها بليخانوف ولينين وروزا لوكسمبورغ ومعظم رواد تيار الاشتراكية الديموقراطية.
-2-
اعترف زعماء وقادة النظام الرأسمالي العالمي بخطورة الأزمة المالية والاقتصادية التي تجتاحه في الوقت الراهن، ولذلك انداروا جميعاً لتطويقها حفاظاً على نظامهم. فجورج دبليو بوش سليل التاتشرية والريغانية، استنفر مجلسي الكونغرس للموافقة على دعم الخزينة الأميركية للمصارف وشركات التأمين بمبلغ 750 مليار دولار، وكذلك نيكولا ساركوزي الذي بدأ ولايته معجباً بالسياسة الاقتصادية الأميركية، باعتبارها الرافعة التي تؤدي إلى تقدم فرنسا ولحاقها بأميركا، نراه أيضاً يستنفر جميع الحكام الأوربيين لتقديم المليارات إلى المصارف، وبراون رئيس الوزراء البريطاني يلجأ إلى تأميم بعض البنوك المهددة بالإفلاس، وتقتدي به دول أخرى. وفي نفس المنحى يذهب حكام ألمانيا وايطاليا وباقي الدول الأوربية الأخرى، وكذلك اليابان وكوريا واندونيسيا. وفي روسيا يتراكض تنانين المال الكبار باتجاه الكريملين لطلب مساعدة الدولة أيضاً. ومن ثم يوجه ساركوزي دعوته لإصلاح النظام الرأسمالي العالمي ووضع قواعد مالية جديدة له؛ ومن ثم دعوة لمؤتمر عالمي لا يقتصر فقط على الدول السبع أو الثمانية الصناعية الكبرى، إنما على دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل والمكسيك وماليزيا وغيرها لتوسيع الإسهام في وضع الحلول للأزمة.
وانطلاقاً من الوضع الدولي الناشئ عن المستجدات الاقتصادية والسياسية، يمكن طرح بعض الاستنتاجات:
1- سقطت عملياً مقولة نهاية التاريخ لفوكوياما التي طرحها في أوائل التسعينات من القرن الماضي، و كان قد تراجع عن مقولته هذه عبر عدة مقالات نشرها في السنوات الأخيرة، وهذا يعني استمرار وجود التناقضات وتواتر الأزمات في النظام الرأسمالي العالمي. وهناك مقدمات تنبئ بأنه يمكن أن يعاني من تناقضات بنيوية حادة في حقبة العولمة التي نعيش أولى مراحلها في الوقت الراهن.
2- انهيار ما سمي بالليبرالية الجديدة التي بشَّر بها في أوائل الثمانينات من القرن الماضي كل من تاتشر وريغان، التي تقوم على الحرية الكاملة للسوق، باعتبار أنها تصلح نفسها تلقائياً دون أي تدخل من الدولة. ومن أهم مؤشرات هذا السقوط، هو الشروع السريع في استخدام الأساليب (الكنزية) القائمة على تدخل الدولة في السوق عند الحاجة، كما حدث بعد الأزمة الرأسمالية الشهيرة التي انفجرت في ثلاثينات القرن الماضي.
3- لقد بينت هذه الأزمة بجلاء، أنه كلما تضخم الرأسمال المالي وتزايدت هيمنته على الرأسمال الانتاجي الحقيقي (توظيف الجزء الأكبر من الرأسمال في البورصات والرهونات والسمسرة المالية)، كلما تضخم حجم التناقضات التي تؤدي إلى تفجير الأزمة الاقتصادية.
4- أعادت تداعيات هذه الأزمة للدولة دورها في الاقتصاد، وأحيَت إمكانية تدخلها في شؤونه باعتبارها ظهيره الوحيد في مثل هذه الظروف.
5- كرسَّت هذه الأزمة بالإضافة إلى التعثرات السياسية والعسكرية الأميركية المختلفة في منطقة الشرق الأوسط، مقولة عدم قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم منفردة ولو أنها تتمتع بأكبر اقتصاد وأضخم قوة عسكرية فيه.
5- دعَّمت نتائج هذه الأزمة شأنَ ودورَ بعض الاقتصادات الرأسمالية الناشئة مثل (الصين والهند والبرازيل والمكسيك واندونيسيا وكوريا وماليزيا.....)
6- يمكن أن تلعب نتائج هذه الأزمة دوراً ملموساً في نشوء نظام دولي جديد يقوم على أساس التعددية القطبية، وربما تؤدي إلى تحسين وضع المنظمة الدولية وجعله أكثر ديموقراطية وعدلاً. وقد بدأ الحديث عن هذه التعددية علناً، وقد رأينا ذلك في تصريحات وزير خارجية روسيا لا فروف إبان الأزمة الجيورجية، وفي تصريحات ساركوزي أثناء آخر اجتماع له مع بوش لمعالجة الأزمة المالية.
-3-
نخطئ كثيراً نحن السوريين والعرب عموماً، إذا قاربنا الأزمة المالية الراهنة بروح من التبسيط والشماتة والتمني باعتبارها أزمة أميركية فقط. مثل هذا الموقف يمكن أن يكون مفهوماً من سائق تكسي سمعته يقول: الله يهد أميركا وإن شاء الله تتحول إلى أفقر دولة في العالم ". فهذا الكلام ينطق بلسان شرائح واسعة جداً من شعبنا العربي إزاء الولايات المتحدة المنحازة على طول الخط إلى جانب إسرائيل. لكن ما هو غير مفهوم أن نرى مثقفين يعتبرون الأزمة وكأنها ايذاناً بإسدال الستار على وجود الولايات المتحدة في المشهد الدولي. ولقد رأينا واحداً من هؤلاء يصرح إلى إحدى الفضائيات: إنشاء الله عن قريب جداً سنرى الأميركيين وهم يتسولون على أبواب بغداد وطهران ودمشق.ولقد ذهب أحد المثقفين القوميين ليقول في مقالة له: الولايات المتحدة ظاهرة عابرة".
ولقد راح بعض اليساريين والشيوعيين في عالمنا العربي يقارب الأزمة المالية الراهنة وكأن حدوثها يعيد الاعتبار للاتحاد السوفيتي ويبعثه مجدداً من تحت الرماد. تنطلق هذه المقاربة اليسراوية من الفرضية القائلة أن انهيار الاتحاد السوفييتي كان بسبب تآمر الغرب وإسرائيل، متجاهلة أي دور للعوامل الذاتية في الداخل( الجمود العقائدي والبيروقراطية والقمع وفقدان الحرية والديموقراطية)، وكذلك متجاهلة السبب النظري الاستراتيجي الأساس، المتعلق بإشكالية وصعوبة بناء الاشتراكية في بلد واحد.
وبطبيعة الحال، فقد استفاد الغرب من أزمة الاتحاد السوفييتي الداخلية المزمنة إلى أقصى الحدود، وكسب الرهان وانتصر عليه في الحرب الباردة، حينما سقط خصمه من تلقاء ذاته بدون عنف ودون أية معارضة منظمة متبلورة وواضحة، ودون أن يدافع عنه لا الجيش السوفييتي ولا ملايين الحزبيين والشبيبة.
وكذلك، فإن مقاربة الأزمة المالية الرأسمالية الراهنة بنظرية المؤامرة واعتبارها من تدبير الصهيونية العالمية وصنع الولايات المتحدة الأميركية، هي أيضاً بعيدة عن الواقع ومناقضة لموضوعيةِ تناقضات النظام الرأسمالي العالمي التي تعتبر من أهم مقولات ماركس، التي لا يزال الواقع يؤيد راهنيتها.
وكذلك نخطئ كثيراً إذا قاربنا هذه الأزمة وكأنها ستقود النظام الرأسمالي إلى سقوطٍ مبكر. في اعتقادنا، سيستمر هذا النظام في محاولته تخطي أزماته، ولكن إلي أي مدى سيستمر في قدرته على هذا التخطي؟ ليس من السهولة تقدير هذا المدى، ولكن لا بد أن تأتي مرحلة لن يكون قادرا على حل تناقضاته، وافتراضنا هذا لا يختلف عن مضمون تراجع فرانسيسكو فوكو ياما عن مقولته. وعلى الأغلب ستكون تناقضات النظام الرأسمالي أكثر حدة وخطورة في المراحل الأكثر تطوراً من حقبة العولمة التي نمر بها الآن، أي في المجتمعات المستقبلية الأكثر تقدماً، حيث ستكون أدوات الإنتاج فيها أكثر تقانة وأتمتة ورقمية، ولقد نوهت بوضوح الباحثة (حنة أرنت) في كتابها(شرط الإنسان الحديث/1958) بتفاقم هذه التناقضات الاجتماعية وزيادة اغتراب الإنسان في هذه المرحلة من التطور الاجتماعي والإنساني التي نحن بصددها.
-4-
أما فيما يتعلق بما يقال الآن عن استحضار ماركس و زيادة قراءة كتبه في خضم الأزمة المالية الراهنة، فهذا شيء طبيعي، لأن ماركس يعتبر من أهم الذين قاموا بتحليل بنية النظام الرأسمالي في القرن التاسع عشر، والرأسماليون في الغرب ليس لديهم عقدة ماركس ويحاولون الاستفادة من تحليلاته المرموقة . والأزمة ربما تستدعي قراءة بليخانوف ولينين وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي وكل رواد الاشتراكية الديموقراطية، وكل المناقشات التي كانت تجري بينهم في تلك الحقبة. ولماذا لا نقول أيضاً أنها تتطلب العودة إلى غرامشي ولوكاش وسانتياغو كاريو مؤلف كتاب الشيوعية الأوربية (الأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني في الستينات)،وكل الماركسيين الجدد.
ولكن الخطورة، ، أن يكون التعامل مع هذا التراث الماركسي، خاصة لدى الشيوعيين واليساريين العرب عموماً، على منهج الفقهاء، أو على الطريقة السلفية التمامية القائمة على تقديس النص وتصنيمه واستطلاقه(تحويل ما هو نسبي إلى مطلق)، فهذا المنهج (الماضوي)،يتناقض مع موقف ماركس الذي كان ينظر إلى العلم والمعرفة باعتبارهما نسبيان حين يقول: (لا علم كامل إلا في خلية النحل)، أما علم الإنسان فهو ناقص ونقصه سر تقدم البشرية. طبعاً ما أنتج ماركس وإنجلز من معارف ومقولات ومفاهيم في القرن التاسع عشر، يبقى مصدراً فكرياً مرموقاً في تاريخ الفكر العالمي، ويمكن أن تكون بعض مقولاته وأدوات المعرفة التي وضعها لا تزال سارية المفعول ولها علاقة بواقعنا الحالي. ولكن هذه المعارف باعتبارها نسبية وليست مطلقة، فيجب ألا ينظر إليها أنها صالحة لكل زمان ومكان، فهي بحكم النفي ونفي النفي يمكن أن يبقى بعضها راهناً وعلى علاقة بالواقع الحالي، وبعضها الآخر ليس له صلة بهذا الواقع. ومن جانب آخر، نحن نرى أن تناقضات هذه الحقبة الرأسمالية وتعقيداتها، لا بد إلا أن تفرز نظريين جدد قادرين على تحليل الواقع الراهن واستشراف بعض المستقبل، مستعينين بما لديهم من أدوات الماضي المعرفية المحافظة على راهنيتها(ماركسية وغير ماركسية).
-5-
ربما الأزمة الراهنة تقوي مشروعية العودة إلى استشراف وتصور النظام الذي يعقب (الرأسمالية)، ومن المبكر أن نفتش عن تسمية لهذا النظام، وفي هذا السياق المهم هو استشراف إمكانية وشكل وآلية نشوئه.
نعتقد أن هذا النظام المستقبلي البديل الذي تطمح إليه شعوب العالم ، والذي لابد أن يكون أحسن و أكثر عدلا وإنسانية وديموقراطية ، سينشأ في رحم وأحشاء النظام الرأسمالي عبر نضالات شاقة دؤوبة وطويلة. ومثل هذا النظام سوف ينشأ على مستوى عالمي، وليس ضمن دولة أو قلعة واحدة (يستنزف الجزء الأكبر من مواردها لحمايتها)كما حدث في القرن الماضي.... في هذا الإطار، حتى لينين في أواخر أيامه، خاصة بعد فشل الثورة في ألمانيا وهنغاريا، بدأت تتعاظم لديه الشكوك حول إمكانية انتصار الاشتراكية في روسيا، أي في بلد واحد محاصر من نظام رأسمالي عالمي، وهذه الشكوك بالذات هي التي كانت وراء السياسة الاقتصادية الجديدة(النيب) التي طرحها في أوائل العشرينات ولم تطبق بسبب مرضه. وكذلك حاول خروشوف بعد عدة عقود اللجوء إلى هذه التجربة ولكنه فشل نتيجة الجمود العقائدي الذي كان يسيطر على مفاصل الحزب الشيوعي السوفيتي آنذاك، وحتى في عهد بريجنيف الذي لجا مجدداً إلى تكريس الستالينية، فقد دعا رئيس الوزراء كوسيجن إلى إصلاح إداري واقتصادي . وإلى تنشيط السوق، وتحرير بعض الأمور، ولكن عطالة البيروقراطية الهائلة أبقت مقترحاته الإصلاحية حبراً على ورق...إلى أن انهار هذا النظام بفعل النخر الداخلي.
وفي سياق آفاق تطور النظام الرأسمالي نعتقد كما كان يرى ماركس وكما يرى غرامشي أيضاً، أن هيمنة الرأسمال على المجتمع المدني تضعف في المؤسسات الرأسمالية الأكثر تطوراً وتقنية، وليس في أضعفها. وببساطة نحن نرى أن تحولاً اشتراكياً مستقبلياً يمكن أن يحدث في الولايات المتحدة وأوربا الغربية أو اليابان قبل أن يحدث في بلد متخلف أو شبه إقطاعي، ولقد انطلقت أول حركة للنضال ضد الليبرالية الجديدة ومن أجل عولمة بديلة من مدينة (سياتل) في الولايات المتحدة الأميركية.. وكذلك نرى مثل هذه الحركات تنشط في البلدان الرأسمالية المتقدمة في أميركا وأوربا واليابان والهند والبرازيل، ولا نرى مثيلاً لها تنشط في بلدان العالم الثالث والرابع والخامس، لأن هذه الشعوب التي تتعطش إلى الحريات الإنسانية الأساسية، مثل حق الحياة والتعبير والقول والكتابة وسيادة دولة الحق والقانون، تتطلع أولا للخلاص من الاستبداد والقمع والفساد في بلدانها، لتندار فيما بعد إلى نضالات أكثر طموحاً، ولقد كان النضال من أجل الديموقراطية دائما في مقدمة النضالات المؤهبة للنضالات الاجتماعية......
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire