dimanche 30 novembre 2008

أزمة الرأسمالية: بنيوية




سلامة كيلة
salamehkaileh@hotmail.com
الحوار المتمدن - العدد: 2481 - 2008 / 11 / 30

هل كانت الأزمة التي تشهدها الرأسمالية اليوم مفاجئة؟ ربما للبعض فقط، حيث كان الحديث واضحاً منذ زمن بأن الرأسمالية في أزمة. ولقد إنبنت كثير من التحليلات حول الميل العسكري للولايات المتحدة على فكرة الأزمة، بعد الانهيارات التي حدثت في وول ستريت سنة 1987، وسرعة اندماج الشركات التي أعقبتها، وحيث كان يشار إلى أن أميركا تعاني من ثلاثة أمراض حقيقية: العجز في الميزان التجاري، والعجز في الميزانية، والمديونية المرتفعة على الدولة كما على الشركات والأفراد. وكانت هذه الأمراض نتاج إشكالية رأسمالية من جهة، ويعيشها الاقتصاد الأميركي من جهة أخرى.
فقد كان العجز في الميزان التجاري يؤشر إلى أن الشعب الأميركي يستهلك أكثر مما ينتج، وهذه مسألة تفضي إلى زيادة المستوردات على الصادرات، وبالتالي هروب الرأسمال إلى الخارج. وكانت المشكلة أعوص لأن الشركات الأميركية باتت تعاني من التنافس في السوق العالمي من قبل الشركات الأوروبية واليابانية، وهو الأمر الذي كان يوجد مشكلات للشركات ذاتها تفضي إلى الإفلاس، وبالتالي زيادة البطالة. وهنا كان يبدو أن الهيمنة الاقتصادية الأميركية في تراجع، لكن الأسوأ أن هذا التراجع كان يؤسس لمشكلة عميقة في أميركا. حيث كانت هذه الهيمنة تسمح للحكومة طباعة الأوراق النقدية (الدولار) دون خشية، لأنه كان قد أصبح عملة عالمية وليس أميركية فقط. وبالتالي كان يُعتمد على كلية الإنتاج العالمي في دعم قوته.
هذا الوضع كان يهتز، حيث كانت المديونية تتراكم والعجز يتزايد، والشركات تسير نحو الإفلاس، والدولار يفقد موقعه العالمي، وبالتالي يتحول كأي سلعة إلى عرضة للكساد. لهذا أصبحت قيمته الحقيقية أقل بكثير من قيمته في التداول، ومن ثم بدأ في التراجع.
لم يكن أمام الولايات المتحدة سوى طريق واحد من أجل وقف كل هذه العملية: الحرب. إن القوة الوحيدة المتماسكة التي خرجت بها الولايات المتحدة من الحرب الباردة هي الجيش بعد أن توارت القوة الروسية إلى الظل. لهذا بدأت منذ أن استشعرت بدء انهيار المنظومة الاشتراكية في التحضير لحروب تطال مناطق أساسية في العالم. المنطقة العربية أولاً، لكن كل العالم الرخو كذلك. حيث يجب وقف التنافس بالقوة العسكرية عبر السيطرة على الأسواق، كما يجب التحكم بالنفط من أجل إخضاع الرأسماليات الأخرى. أي كان الهدف هو التحكم في لعبة التنافس لمصلحة الشركات الاحتكارية الأميركية. وفي هذه العملية يبقى الدولار هو العملة العالمية، ويستمر تمويل الاستهلاك في الولايات المتحدة من خلال ذلك عبر عمليات متعددة، منها سندات الخزينة، ومنها جلب رؤوس الأموال النفطية وغيرها إلى الولايات المتحدة.
الحرب زادت من أعباء الميزانية، ورفعت المديونية إلى أكثر من 10 ترليون دولار. لكنها بالأساس لم تحل المشكلة الأعمق التي باتت من سمات النمط الرأسمالي، التي هي التراكم المالي الهائل، الذي بات خارج التوظيف في "الاقتصاد الحقيقي" (وهو التعبير الذي يطلق على القطاعات التي ترتبط بالإنتاج أساساً)، وبات لا مكان له سوى المضاربة. ولهذا جرى تطوير أسواق المال، وفرض تعميمها على العالم (كسمة حديثة للرأسمالية، وتطور فيها، وأيضاً كضرورة حتمية لا فكاك منها كما يشاع)، من أجل أن يغزو كل العالم في هجمات تدميرية متتالية. بدأت في جنوب شرق آسيا وامتدت إلى البرازيل وروسيا نهاية القرن العشرين. وهذا التراكم تغذى من طباعة الدولار ليصل إلى أرقام فلكية. وهو ما أسس لفقاعة مالية هائلة مستندة إلى دولار بات لا حامل له، لأن القدرات الإنتاجية الأميركية أضيق من أن تحمله.
وهو الأمر الذي أسس لكثافة في التوظيف في قطاعات غير منتجة، أدت إلى تضخم هائل في قيمها، مثل العقارات. حيث أشير إلى أن قيمة العقارات الأميركية المرهونة في البنوك هي 62 ترليون دولار، بينما قيمتها الفعلية هي 8 ترليون دولار. هنا كتلة الدولار التي غطت هذا التراكم هي في الواقع ثُمْن القيمة الحقيقية للدولار. وهكذا فيما يتعلق بقاعات التقنيات الحديثة، والشركات. وما من شك في أن البيع في أسواق الأسهم يفضي إلى هذه الهوة بين القيمة الفعلية للشركات وقيمها في مضاربات البورصة.
إن التوظيف هنا لا يجلب فائض قيمة، فهو لا يراكم في الإنتاج. وبالتالي تصبح المسألة هي مسألة مضاربات، أي ارتفاع أسعار السلع دون أساس اقتصادي. وهو الأمر الذي يفضي إلى تعاظم التراكم المالي دون إنتاج حقيقي.
لقد جرى توظيف المال المتراكم في نهاية السبعينات والثمانينات في ديون "العالم الثالث"، وبعض البلدان الاشتراكية، إلى أن أشبع. ثم جرى توظيفه في قطاع التكنولوجيا الحديثة وأشبع كذلك. لكنه في كل هذه الحالات كان يتضخم، وبالتالي يحتاج إلى مجالات جديدة. وهو في كل هذه الحالات كان يوجد مشكلات عويصة، وهو الأمر الذي بدأ يظهر منذ أواسط التسعينات في أسواق المال.
لكن كيف نشأ هذا المال "الهائم على وجهه"؟ هنا جوهر أزمة الرأسمالية، حيث أن التراكم الرأسمالي يصل إلى حدّ لا يكون مربحاً فيه التوظيف في "الاقتصاد الحقيقي"، أي الصناعة والزراعة والتجارة، حيث أشبع السوق، وبالتالي يصبح التوظيف في الصناعة وبالاً على الصناعة ذاتها (ونلاحظ بأن التنافس الذي يحدث يفضي إلى انهيار صناعات)، وكذلك في القطاعات الأخرى. هنا يصبح البحث عن مجالات أخرى خارج هذه القطاعات ضرورة من أجل استمرار التراكم. وما نشاهده هو هذه العملية بالتحديد، إلى الحد الذي يصبح فيه التراكم المالي أضخم بكثير من القيمة الفعلية للقطاعات الأخرى، وتصبح حركته هي الأكبر بما لا يقاس. فقد أشير إلى أن 90% من حركة الرأسمال هي في قطاع "الاستثمارات قصيرة الأجل"، أي في التوظيف في البورصات، أي في المضاربة. وهنا تصبح الأخطار أكبر.
لكن مهلاً، هذه ليست نهاية الرأسمالية، ليس لأننا لا نرغب في ذلك، بل لأن المسألة أعقد من أن تحسب هكذا. الرأسمالية لا تنهار وحدها، إنها تحتاج إلى حفاري قبرها.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire