بقلم : نصر شمالي
ليست الاستراتيجية الدولية الأميركية سوى عواصف متوالية من النيران والدخان التي تجتاح البلدان جميعها وتلتهم ممتلكاتها، إنّما بنسب متفاوتة، حيث مقدار ما تلتهمه مرتبط بمدى الحصانة الذاتية للبلد الذي تهاجمه، وليس أدلّ على ذلك من اجتماع الدول العشرين (8+12دولة) فالدول الستّ الأوائل، دول أوروبا الثرية ومعها اليابان، تخاطب واشنطن من موقع الشريك والحليف الأزلي سواء أكانت هذه الدول غاضبة معترضة أم موافقة مؤيّدة، حيث تبدو مشكلتها مقتصرة على مصير حصّتها المقرّرة من الغنائم والفرائس العالمية، ومقتصرة على لفحها من حين لآخر بالنار الأميركية وليس حرقها، أمّا الدول الأخرى، الناهضة أو التي على وشك النهوض، مضافاً إليها تلك الدول التي لا تمتلك سوى النقود البترودولارية، فهي عرضة لأفظع الأخطار التي يمكن أن تتناول وجودها برمّته، وهي لا تزال غير مقتنعة أنّها تحضر هكذا اجتماع دولي نخبوي، وقد تراوحت مواقف هذه الدول بين الرصانة والحذر وقدر لا بأس به من الثقة بالنفس كما هو حال الصين والهند وروسيا، وبين القلق والاضطراب كما هو حال البرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا، وبين الانصياع والذهول كما هو حال دول الخليج العربي النفطية!
في بداية انفجار الأزمة المالية الأميركية قال الرئيس الفرنسي ساركوزي أنّه لن يسمح للأزمة أن تمتدّ لتشمل بلاده! وقالت المستشارة الألمانية ميركل أنّ بلادها ليست بحاجة إلى إجراءات استثنائية للوقاية من آثار الأزمة! غير أنّهما، وغيرهما، اكتشفا أنّ تحصيناتهما لا تقيهما لفح النيران الأميركية الذي فاق هذه المرّة حدوده المعتادة، ولذلك سمعنا ميشيل روكار، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، يقول أنّ ما تفعله واشنطن هو سرقة صريحة لأموال دول أخرى! وقد وافقه آخرون بالقول أنّ هدف الأزمة المالية (المفتعلة؟) هو الاستيلاء على الفوائض المالية العائدة إلى دول الخليج العربي!
غير أنّ ما قاله مسيو روكار، في لحظة انفعال وغضب، عن السرقات الأميركية الصريحة يستدعي السخرية والعجب حقّاً، فما هي السياسات والحملات العسكرية الفرنسية، طيلة هذا العصر الحديث وحتى يومنا هذا، إن لم تكن سياسات وحملات هدفها سرقة ممتلكات الدول الأخرى؟ لقد نطق روكار بنصف الحقيقة، وكان ينبغي عليه القول أنّ الأميركيين يسرقون مما سرقت دولته! وبالطبع هو لا يستطيع ذلك، فهناك مبادئ وقوانين تلتزم بها الدول الستّ أو السبع، يعملون بها من دون إعلانها، منها أنّ ما يعتبر فعله جريمة في بلدان المليار الذهبي لا يعتبر فعله جريمة في العراق وفلسطين والسودان والكونغو وباكستان وأفغانستان وغيرها من دول الأمم "الوضيعة" التي هي "وسط بين الإنسان والحيوان"! إنّ الأوروبيين والأميركيين يعتبرون أنفسهم على حقّ عندما يسرقون هذه البلدان، بل هم لا يعتبرونها سرقة على الإطلاق، لكنّهم لا يجوز أن يسرقوا بعضهم حسب اتفاق "الشرف" الضمني في ما بينهم! ومن هذه المبادئ والقوانين أنّ ما يحقّ للأوروبي لا يحقّ للعربي مثلاً، فمن حقّ الأوروبيين أن يتوحّدوا ولكن ليس من حقّ العرب ذلك تحت طائلة شنّ الحرب ضدّهم لو حاولوا جدّياً، وليس هزلياً كما هو حال بعض الاتحادات الإقليمية العربية التي أقاموها ويرعونها! ومنها أيضاً أنّه لا ينبغي السماح للأمم بالتطور السلمي الحرّ، المتكافئ والمتوازن، بل ينبغي فرض التفاوت في التطوّر فرضاً، بجميع الوسائل الحربية بما فيها العسكرية، وعلى هذا الأساس نرى دولاً أوروبية، بالغة الضآلة أرضاً وسكاناً، تحتل مواقع دولية سياسية واقتصادية من الدرجة الأولى، بينما تحرم دولة كالهند من مجرّد الاقتراب من هكذا مواقع!
على أية حال فإنّ الفرنسيين وغيرهم من الحلفاء سرعان ما كظموا غيظهم ، وابتلعوا اعتراضاتهم، وانتبهوا إلى أنّ المصير الوجودي التاريخي لنظامهم الربوي الاحتكاري العالمي يقتضي تحمّل اللفح الإضافي من النيران الأميركية، لماذا؟ لأنّهم أدركوا أنّ الأزمة ليست مفتعلة، وليست عادية روتينية، ومن الخطأ تشبيهها بأزمة 1929، فهي أزمة وجود تهدّد الأسس التي ينهض عليها نظامهم العالمي، وكيف لا يكون الحال كذلك وقد خرجت من أيديهم، لأول مرة في تاريخ النظام الرأسمالي، أجزاء كبيرة من الكتلة النقدية الدولية لتستقرّ في مستعمراتهم السابقة، كالهند والصين؟ ولذلك اندفعوا يساعدون واشنطن وإن على مضض، حيث بادر الرئيس الفرنسي بالدعوة لاجتماع الدول العشرين، بعد موافقة بوش (الذي لا يعترف عنصريّاً ومصلحيّاً بحقّ أكثريتها في مجرّد حضور اجتماع على هذا المستوى!) مقتدياً بمواقف الرئيس ديغول الذي كان يمقت الولايات المتحدة مقتاً شديداً، لكنه كان في الوقت نفسه مستعداً لخوض الحرب في ركابها، دون قيد أو شرط، ضدّ الأكثرية البشرية ودفاعاً عن النظام العالمي! إنّ الأوروبيين، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يدركون جيّداً أنّ الولايات المتحدة هي ذروة صعود عصرهم، وأنّها الحصن الأخير لنظامهم العالمي!
أمّا رئيس الوزراء البريطاني فقد انطلق إلى دول الصحراء العربية يطالب فرسانها بفتح جيوبهم لنجدة واشنطن بأموالهم النقدية، وأن يفعلوا ذلك من باب النخوة والشهامة ومن دون أيّ مقابل كما يفترض بالفرسان أن يفعلوا! وماذا يملك هؤلاء غير السمع والطاعة، وهم الذين أداروا ظهورهم لأمّتهم، بل تكفّلوا بلجمها وتكبيلها وتمزيقها، وأصبحوا منذ زمن طويل مجرّد صدى أجوف مشوّه للأميركيين والأوروبيين، في نمط حياتهم وفي علاقاتهم الإقليمية والدولية؟ ماذا يفعل هؤلاء الذين لا وجود لهم إلاّ بوجود هذا النظام العالمي، ولذلك هم الأشدّ حرصاً عليه من أصحابه؟ وماذا يملكون لدعم هذا النظام سوى تقديم مدّخرات صناديقهم السيادية بشهامة الفرسان، كما دأبوا منذ عشرات السنين، لإنقاذ المؤسسات المالية الأميركية؟ إنّ تقريراً صدر عن مؤسسة "مورغان ستانلي" هو الذي وصفهم بالفرسان الذين يهبّون دوماً لنجدة الأميركيين بمدّخراتهم! غير أنّ الوضع الدولي اختلف اليوم جذرياً، ولم تعد تنفع في إقالة هذا النظام العالمي من عثرته نجدات فرسان الصحراء، الذين بلغت خسائرهم هذا العام حوالي 625 مليار دولار قابلة للزيادة، بل إنّ مدخراتهم في معظمها عرضة للشفط والضياع من قبل أولئك الأوباش الذين يقودون الولايات المتحدة والعالم، الذين شفطوا أموال مواطنيهم الأميركيين، أي استولوا عليها، لإنقاذ مؤسساتهم المالية المجرمة!
إنّ شهامة أثريائنا الفقراء، وحكّامنا المحكومين، تذكّرنا في بعض وجوهها وفي مصيرها القريب بالمأساة/المهزلة لدون كيشوت، الذي واصل نجداته الفروسية في زمن مختلف تلاشت فيه الفروسية وعلاقاتها كضرورة، إلى أن أنهكه التشرّد والضياع والخبل، وراح يحارب طواحين الهواء على أنّها جيوش!
ns_shamali@yahoo.com
www.alkader.net
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire