بقلم نقولا ناصر*
يلتقي يواشنطن في الخامس عشر من الشهر الجاري قادة عشرين دولة وممثلي المؤسسات المالية الدولية الكبرى بحضور الامم المتحدة كشاهد زور ممثلة بامينها العام بان كي-مون في قمة سميت قمة العشرين وتوصف بعامة بانها قمة "بريتون وودز – 2" هدفها احتواء الازمة الاقتصادية العالمية و"اصلاح" النظام المالي العالمي ، والمفارقة ان هذه القمة يستضيفها ويراسها الرئيس الاميركي جورج بوش الابن الذي فجرت مغامراته العسكرية في الخارج ازمة الائتمان المالية الاميركية المسؤولة عن تفجير الازمة العالمية بينما يغطيها ظل خليفته باراك اوياما الذي وصل الى سدة الرئاسة بدعم اكثر من خمسين ملياردير منهم اغنى رجل في العالم ، وارين بوفيت ، على اساس برنامج يستهدف اعادة العافية الى القوة الشرائية للطبقة الوسطى الاميركية حتى تستطيع بدورها اعادة الحياة الى "اعمال" داعميه الاغنياء ، اما الفقراء والعاطلون عن العمل فقد كانوا دائما جزء بنيويا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الذي تحاول قمة العشرين انقاذه الان .
ان الدعوة التي اعلنها رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون لعقد مؤتمر "بريتون وودز – 2" تؤكد وجود قناعة دولية يكاد المجتمع الدولي ، حكومات وشعوبا ، يجمع عليها بضرورة البحث عن نظام عالمي اقتصادي وسياسي جديد يكون بديلا للنظام الذي تاسس في "بريتون وودز – 1" عام 1944 ، لكن دعوته تؤكد من جانب اخر تصميما راسماليا على وضع قواعد منظمة لنسخة جديدة من الراسمالية بعد انهيار نسختها الليبرالية والنيوليبرالية الاميركية بينما تطمح الدول النامية والفقيرة وجيوش الجوعى والمرضى والعاطلين عن العمل فيها الى نظام بديل ينهي هيمنة القطب الاميركي الاوحد الذي تحول الى مركز للاحتكارات العابرة للقارات وصندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما من مؤسسات "بريتون وودز – 1" المسؤولة عن الهوة المتسعة بين الاغنياء والفقراء ، دولا وشعوبا .
لقد كان "بريتون وودز – 1" ناديا للاغنياء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وضع اسس نظام دولي للاغنياء فقط يخدم اعادة بناء الدول الغنية التي فجرت الحرب فدمرتها الحرب بدليل ان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين قد حضره لكنه رفض انضمام الاتحاد السوفياتي الى مؤسساته لتظل "المنظومة الاشتراكية" الدولية لاحقا خارج اطاره بينما لم يكن للعالم الثالث الذي كان خاضعا في معظمه للاستعمار المباشر للدول الاعضاء في هذا النادي اي مساهمة فيه ناهيك عن حضوره وبالتالي فان "بريتون وودز – 2" الذي ينعقد في واشنطن يوم السبت سيكون بدوره ناديا للاغنياء انفسهم يخدم مصالحهم ويعالج مشاكلهم فقط .
ولا استطيع مغالبة مشاعر الاحباط وانا اراقب النظام العالمي الذي احتكر صنع القرار الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يواجه امكانية واقعية للانهيار بدوره ، لكنه يكاد ينجح في انقاذ قلة الاقلية التي تصنع قادته وحكوماته والتي صنعت ازمته المالية الراهنة بالسطو مجددا على جيوب دافعي الضرائب ، ليهدد الملايين من اصحاب الياقات البيضاء والزرقاء في عقر دوره الراسمالية بالانضمام الى جيوش العاطلين عن العمل والجوعى والمرضى والاميين الذين همشتهم احتكاراته العابرة للقارات وهدمت حدود السيادة الوطنية لبلدانهم بعد ان حولت اوطانهم الى "جمهوريات موز" وابار نفط ومناجم معادن يحتلها ان رفضت ان تكون مستباحة له ، ويعد بقواعد وانظمة جديدة لاطالة عمره يامل في ان تجنبه تكرار ازمات مماثلة ، بينما تتيح ازمته الحالية ظروفا موضوعية لبناء نظام عالمي جديد حقا تحكم العلاقات الدولية فيه ديموقراطية الاحتكام الى القانون الدولي وتحتكم علاقات البشر فيه الى القانون الانساني .
وعندما اقرا ان الازمة المالية العالمية يمكن ان تزيد عدد العاطلين عن العمل اكثر من عشرين مليون نسمة من (190) مليونا عام 2007 الى (210) ملايين عام 2009 وتزيد عدد من يعيشون على اقل من دولار واحد في اليوم حوالي اربعين مليون انسان ليرتفع عديدهم الى (100) مليون ، كما قال المدير العام لمنظمة العمل الدولية جوان سومافيا في العشرين من الشهر الماضي ،
واقرا بان الازمة كانت فرصة ذهبية لدور النشر التي تملك حقوق نشر كتاب راس المال لكارل ماركس لانها زادت مبيعاته اضعافا حيث يجد الكثيرون اليوم في هذه الازمة تصديقا لتحليله للنظام الراسمالي وازماته الدورية لانه حذر مبكرا جدا من ان الراسمالية تقوم على اساس استغلال اجور العمال بحيث لا يتقاضون ابدا ما يكفي لكي يعيدوا شراء ما انتجوه هم انفسهم فينجم عن ذلك فائض في الانتاج وفترات كساد تتوالى في ازمات دورية لا يمكن حلها الا بالاشتراكية ، أي ملكية المجتمع لوسائل الانتاج ،
واقرا بعد ذلك ما نصح به ديفيد ماكى المستشار الاقتصادي لبنك جيه بي مورغان تشيس ، احد اكبر المصارف العالمية العابرة للقارات ، من انه "في نهاية المطاف ، اذا اممنا ما يكفي من النظام المالي فان ذلك لا بد ان ينجح" في وقف الانهيار المالي الحالي واتابع بعد ذلك اجراءات "التاميم" التي لجات اليها الادارة الاميركية والحكومة البريطانية وغير ذلك من اشكال "التدخل" القوي للدولة الراسمالية الغربية باسم المجتمع ، لانقاذ ثلاثين مصرفا دوليا من امثال جيه بي مورغان تشيس على حساب المجتمع نفسه بالرغم من انه المتضرر الاول من ازمة هذه البنوك ،
ثم اقرا مقالة بعنوان "كارل ماركس والازمة المالية العالمية" كتبها مؤخرا بيرند ديبسمان لرويترز اقتبس فيها ما قاله "البيان الشيوعي" عن تركيز الائتمان المالي كخطوة كبرى في الطريق الى الاشتراكية قبل ان يلاحظ بانه منذ بداية عهد "السوق الحرة" عام 1980 ارتفعت حصة واحد في المائة من الاميركيين من الدخل القومي من حوالي ثمانية في المائة الى حوالي عشرين في المائة ، لاتذكر ماركس عندما حذر من ان تركيز راس المال وهو يخلق احتكارات اكبر فاكبر تبحث عن اسواق اجنبية تستوعب فائض سلعها وتسعى للوصول الى كميات اكبر وارخص من المواد الخام والعمالة انما يحفر قبره بيده ،
لاتابع بعد ذلك جولة براون في دول الخليج النفطية العربية ليناشدها توفير السيولة النقدية من صناديقها السيادية لاخراج النظام الراسمالي الغربي من ازمته الحالية باسم "التعاون الدولي" ، الذي تذكره هو وبوش الان بعد ان ادار بلداهما الظهر للمجتمع الدولي قبل ثماني سنوات فقط عندما قاما بغزو العراق ،
عندما اقرا ذلك ، وهو غيض من فيض الادلة على فشل "راسمالية السوق الحرة" و "الاسواق التي تنظم نفسها بنفسها" دون تدخل من المجتمع و"الاقتصاد الذي يعتمد على العرض" ، ثم استمع الى نشرات الاخبار عن مليارات الدولارات التي تسحبها دولة السوق الحرة من جيوب دافعي الضرائب لانقاذ الاحتكارات الجشعة التي افرغت هذه الجيوب من النزر اليسير الذي ابقته لها ، فانني لا استطيع مغالبة مشاعر القهر لانني ارى في الازمة الراهنة بوادر انهيار لنظام غير انساني لم تعد دولته "الراسمالية الليبرالية" قادرة على تمويل حروبها الخارجية وتوفير الرفاه لشعوبها في الداخل في الوقت نفسه ، كما هو حال الادارة الاميركية الحالية مع ازمتها المالية وحربيها على العراق وافغانستان ، لكنني لا ارى القوى الدولية او الاجتماعية التي لها مصلحة حيوية في انهياره تبادر الى انتهاز هذه الفرصة التاريخية لصياغة نظام عالمي اقتصادي وسياسي جديد يحمي مصالحها .
فالاتحاد الاوروبي ، التي تتيح له الازمة المالية الاميركية الحالية فرصة تاريخية لكي يكون له على الصعيد الدولي وزن سياسي يعادل وزنه الاقتصادي لكي يتخلص من التبعية السياسية والعسكرية للقيادة الاميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، يختارالانضمام الى جهود هذه القيادة لانقاذ نفسها باقتراح عقد قمة او قمم دولية تحت القيادة الاميركية في نيويورك نفسها حيث انفجرت الازمة لانقاذ الراسمالية من "ليبراليتها الجديدة" ، كما قال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي باسم الاتحاد الاوروبي وهو يحمل هذه الليبرالية الاميركية المسؤولية عن الازمة الاقتصادية العالمية الراهنة ، بدلا من ان يساهم في بناء نظام دولي جديد متعدد الاقطاب .
والصين التي يؤهلها نموذجها الاقتصادي المستقل والناجح لعرضه كنموذج بديل للنظام الراسمالي مرتهنة لكونها الشريك التجاري الاول للمركز الاميركي لهذا النظام بحيث لا تجرؤ على اي مبادرة لاستغلال الفرصة التاريخية التي تتيحها الازمة الاميركية لبناء نظام عالمي اقتصادي ودولي جديد .
وروسيا التي تنفست الصعداء لان الازمة الاميركية كبحت حملة واشنطن عليها لكي لا تتعافى من اثار قيادتها للاتحاد السوفياتي السابق بتوسيع حدود حلف شمال الاطلسي "الناتو" الذي تقوده الى مرمى قذيفة مدفعية من موسكو لا تستغل الفرصة المتاحة ايضا لكي تتخلص من هذا التهديد ويغريها بدلا من ذلك ضمها كعضو ثامن الى مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى المستفيدة من النظام العالمي السائد منذ الحرب العالمية الثانية والمسؤولة عن ضمان استمراره .
بينما بالكاد تستطيع الوقوف على اقدامها وهي في خضم عملية نمو تمنعها من اي مبادرة جريئة للبحث عن نظام عالمي جديد بديل دول مثل الهند والبرازيل والدول العربية النفطية وغيرها من الدول النامية التي تتصدر حركة لعدم الانحياز فقدت الكثير من مصداقيتها بعد انهيار نظام القطبين الدولي وضاقت جدا مساحة عدم الانحياز التي بقيت لها بعد انفراد القطب الاميركي الاوحد بها وتغوله عليها .
ان حضور هذه الدول الاخيرة لقمة العشرين مثله مثل مشاركة الامم المتحدة فيها لا يزيد على كونه دور شاهد الزور لانقاذ نظام عالمي لم تساهم في وضع اسسه ولن يسمح لها نادي "بريتون وودز – 1" بان يكون لها أي دور حقيقي في "تجديد" اسسه ، بالرغم من الدعوة الشجاعة للرئيس البرازيلي لويز ايناسيو لولا دا سيلفا اثناء اجتماع وزراء مالية ومحافظي البنوك المركزية للدول العشرين في ساو باولو نهاية الاسبوع الماضي الى اصلاح حقيقي للنظام الدولي يقوم على اساس الاستثمار في "الانتاج" وقد كان لولا مصيبا عندما صرح اثناء زيارته اللاحقة لايطاليا بانه لا يتوقع الكثير من قمة العشرين .
واغالب الاحساس بالقهر ايضا لان انهيار نظام القطبين قاد الى حالة الضعف الشديد الذي تعاني منه الحركة العمالية العالمية وتشظي الاحزاب الشيوعية والاشتراكية التي كانت تقودها كما قاد الى انحسار حركة التحرر الوطني في "العالم الثالث" التي كانت متضامنة معها في النضال ضد نفس النظام الراسمالي الذي يضطهد الطرفين بحيث لم يعد هناك اليوم ممثلون لاي من الحركتين لاستغلال الفرصة التاريخية السانحة للانعتاق من ربقة هذا النظام .
"بريتون وودز – 2" ليست نظاما عالميا جديدا
ويقهرني اكثر ان ارى في المقابل السياسيين والمنظرين والاقتصاديين الراسماليين يجهدون الان للدفاع عن نظامهم بتوحيد صفوفهم حد ان يمحي الخط الفاصل بين الجمهوريين والديموقراطيين الذين يقودون المركز الاميركي للنظام الراسمالي العالمي بحيث يخذل الاولون رئيسهم الجمهوري لكي تفوز خطته لانقاذ النظام المصرفي بدعم الحزب الديموقراطي المعارض فقط ، فخطة الرئيس جورج بوش الابن للانقاذ المالي ما كان لها ان تحصل على مصادقة الكونغرس لولا دعم الديموقراطيين له ، حيث تحول الانقسام الحزبي بين الديموقراطيين وبين الجمهوريين الى مهزلة اذ القيت البرامج الحزبية في سلة المهملات حتى لم تعد هناك اية فوارق بينهم عندما ادلوا باصواتهم على اسس غير حزبية وفي تجاهل كامل لناخبيهم من دافعي الضرائب اذ ايد خطة بوش "الجمهوري" (172) نائبا "ديموقراطيا" و(91) جمهوريا وعارض خطة الرئيس "الجمهوري" (108) نواب جمهوريين و(63) ديموقراطيا، أي ان الحزب "المعارض" هو الذي انجح خطة بوش للانقاذ بينما خذله حزبه .
ان ظهور الانقسام في الحزب الجمهوري الاميركي الحاكم الى العلن كما يبين التاييد الذي اعلنه كولن باول ، وزير خارجية جورج بوش الجمهوري السايق ، لمرشح الحزب الديموقراطي للرئاسة باراك اوباما ، ثم اقتراح هذا الاخير مؤخرا بسحب مائة وخمسين مليار دولار اضافة الى رزمة ال (700) مليار التي اقرها الكونغرس من جيوب دافعي الضرائب ، والرقم القياسي الذي سجلته التبرعات لحملة اوباما الانتخابية ، ثم تبني اوباما "الديموقراطي" لخطة بوش "الجمهوري" لابقاء ما لايقل عن خمسين الفا من قوات الاحتلال الاميركي في العراق الى اجل غير مسمى من اجل "محاربة الارهاب" ثم ارسال القوات التي يتسنى سحبها من العراق الى افغانستان ، كما اعلن بوش نفسه مؤخرا ، واتفاقه مع منافسه الجمهوري على الرئاسة جون ماكين على ضرورة زيادة حجم القوات المسلحة الاميركية وزيادة الميزانية المخصصة لها ، انما هي جميعها وغيرها مؤشرات الى ان الراسماليين جميعهم في الازمات هم حزب واحد يصطفون معا مهما اختلفت مسميات الاحزاب التي يتنافسون فيما بينهم في اطرها على اقتسام مغانم الراسمالية ، وليست مؤشرات الى ان من كانوا يركبون قارب بوش الغارق ويسارعون الان الى القفز منه للنجاة بانفسهم انما يقفزون هربا من زورق الليبرالية والليبرالية الجديدة الذي كان المحافظون الجدد يتحكمون بادارة دفته الى سفينة الراسمالية ذاتها .
ان الداعين الى "بريتون وودز – 2" لا يسعون الى نظام عالمي جديد بل الى انقاذ الراسمالية والنظام الذي اسسته في "بريتون وودز – 1" وتعزيز صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية عن طريق توفير الية للرقابة على احتكارات القلة التي زج جشعها النظام الراسمالي في ازمته الراهنة نتيجة لعدم وجود رقابة تضبط انفلاتها وجموحها على امل ان يقود ذلك الى عدم تكرار الازمة الحالية ، التي يحملون المسؤولية عنها لليبرالية والنيوليبرالية التي تبناها المحافظون الجدد في البيت الابيض الاميركي فيقولون ان الازمة "من صنع الانسان" ، لا ملازمة بنيوية للنظام نفسه كما قال ماركس ، واذا كان هناك فشل في النظام فانه فشل "الراسمالية على النمط الاميركي" ، لا فشل الراسمالية على الاطلاق ، وان شطط "الليبراليين الجدد" الاميركيين كان "جنونا" و "خيانة للراسمالية" كما قال ساركوزي عشية لقائه بوش في كامب ديفيد في الثامن عشر من الشهر الجاري ، وان علاج "هذه" الازمة الراسمالية يكون فقط بالمزيد من الراسمالية .
لذلك فان الدعوة التي وجهها تلميذ "عمالي" للنسخة البريطانية من النيوليبرالية الاميركية التي كانت رائدتها في المملكة المتحدة زعيمة حزب المحافظين ورئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر ، وهو نظيرها الحالي غوردون براون ، لعقد مؤتمر "بريتون وودز – 2" هي من ناحية دليل على ان سدنة الراسمالية الليبرالية والنيوليبرالية انفسهم قد اعترفوا بفشلها وبمسؤوليتها عن الازمة الاقتصادية العالمية الراهنة ، وهي من ناحية ثانية اعتراف منهم بضرورة البحث عن قواعد جديدة للنظام الراسمالي العالمي وبالتالي للنظام السياسي السائد حاليا ، وهذا في حد ذاته هو من ناحية ثالثة اعتراف منهم كذلك بضرورة اقامة نظام دولي جديد .
لكن الاهم من كل ذلك هو ان ملخص دعوة براون هو تجديد النظام السائد ، لا استبداله ، مما يكشف اصرارا من المستفيدين من هذا النظام على استمراره ومنع انهياره بتجديده وتحصينه ضد سلبياته التي فجرت الازمة الحالية لكي لا تتكرر وبالتالي اصرارا على منع قيام نظام بديل وعلى اجهاض دعوات ومبادرات دولية متزايدة لا تحض على هدم النظام القائم بل تدعو فقط الى شراكة فيه تنهي الاحادية القطبية واحتكارها لصنع القرار الاقتصادي والمالي والسياسي ، شراكة بين القطاعين العام والخاص اثبتت نجاعتها في النموذج الصيني ، وشراكة دولية في الموارد الوطنية الحيوية للعالم لا تخرجها من ولاية السيادة الوطنية كما اثبتت جدواها في النموذج الفنزويلي للتعاون الاقليمي الذي يقوده هوغو شافيز في الحديقة الخلفية اللاتينية للولايات المتحدة الاميركية ، الزعيمة الفاشلة ل"النظام العالمي الجديد" الذي ما زالت تجهد لاقامته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي .
لماذا الاهتمام المفاجئ للاغنياء بالفقراء؟
وقد كانت مفارقة لافتة للنظر ان تتكرر مرارا مؤخرا على السنة بوش وساركوزي وبراون وكبار مسؤولي المؤسسات التي اسسها "بريتون وودز – 1" عبارات "الفقراء" والدول الفقيرة" و"الدول النامية" ، ممن لهم مصلحة حيوية حقيقية في قيام نظام دولي اقتصادي وسياسي جديد تماما ، بينما تهدد الازمة بافقار شعوبهم داخل بلدانهم نفسها ، لكي يتواضع بوش مثلا فيتحدث عن ضرورة ان "يعمل المجتمع الدولي معا لاننا في هذه الازمة معا" بعد ان لوى الاتحاد الاوروبي ذراعه لكي يقبل باقتراحه عقد سلسلة من مؤتمرات القمة الدولية حول الازمة تقرر ان ينعقد اولها في الخامس عشر من تشرين الثاني / نوفمبر المقبل في الولايات المتحدة نفسها لتحضره اضافة الى مجموعة الثمانية الصناعية الكبرى الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية وربما المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول النامية التي لا مصلحة لها في نسخة ثانية من "بريتون وودز" لكن لها كل المصلحة في نظام بديل تماما ، لان "نادي بريتون وودز" لا يهمه من اشراكها سوى صرف انظارها بعيدا عن التصرف باستقلالية للبحث عن مصالحها في نظام بديل .
في السابع عشر من الشهر الماضي نشر غوردون براون مقالا في الواشنطن بوست كشف رؤيته وغيره من سدنة "بريتون وودز" للدول النامية ودورها عندما استهله بالقول: "اننا نعيش الازمة المالية الاولى لهذا العصر العالمي الجديد" ، دون ان تخطر على باله الازمات المصرفية والمالية العديدة في اميركا اللاتينية خلال العقود القليلة الماضية من الزمن او الازمة المالية الاسيوية اواخر عقد التسعينيات المنصرم او الازمة المالية الروسية عام 1998 وكانما كل تلك الازمات والبلدان التي نكبت بها تعيش خارج "العصر العالمي الجديد" بينما كان في الحقيقة يقصد انها كانت ازمات بعيدة عن "نادي بريتون وودز" وبالتالي فانها لم تعتبر ازمات لانها لم تصب اعضاء النادي نفسه !
وليعذرني القارئ اذ الجا اليوم الى ضمير المتكلم واخرج على قاعدة التزمت بها طويلا بالابتعاد تماما عن "الشخصنة" في التطرق الى اي شان عام ، والسبب في هذا "الانحراف" عن القاعدة كان الغضب "الشخصي" العارم الذي انتابني عندما قرات مقال براون ثم قرات تحذير رئيس البنك الدولي روبرت زوليك يوم الاحد قبل الماضي في واشنطن من ان الازمة الاقتصادية العالمية الراهنة "يمكنها ان تلحق ابلغ الضرر واقساه" بال"فقراء" في البلدان النامية (وبخاصة في 28 دولة منها) ، بينما كان يجلس الى جانبه العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي ، وكلتا المؤسستين تمثل الواجهة الدولية للمستفيدين من النظام الاقتصادي العالمي السائد المسؤولين عن مجاعة الملايين في العالم وافقارهم ، وعن تحكم الدول الغنية بالدول الفقيرة ، وسيادة قانون الغاب في العلاقات الدولية ، وانعدام السلم العالمي ، ولست ادري لم تذكرت فورا الزعيم السوفياتي الراحل نيكيتا خروشوف الذي سخر من امثال هؤلاء السياسيين الراسماليين بقوله انهم يعدون الناس ببناء الجسور فوق انهار لا وجود لها عندما قرات تصريحات زوليك وهو يحث على مساعدة الدول النامية مذكرا بصندوق راسماله (1.2) مليار دولار خصص لهذا الغرض ، ولا لم تذكرته وهو يبدي احترامه لهؤلاء السياسيين اثناء ازمة خليج الخنازير الكوبية بخلع حذائه ليدق به منصة الامم المتحدة التي اقاموها بعد الحرب العالمية الثانية لترسيخ هيمنتهم على العالم !
والغضب ناجم عن التناقض الفاضح في تصريحات زوليك الكامن في اهتمامه المفاجئ بفقراء العالم وانعكاس الازمة على البلدان النامية بينما كل الاضواء مسلطة على انهيار يكاد يطيح بالنظام الاقتصادي العالمي الذي يمثله والذي يهدد الملايين من "الناخبين" و"دافعي الضرائب" في عقر دور هذا النظام ، بل في قلعة قيادته الاميركية نفسها ، بمصير يماثل الواقع الذي تعيشه جيوش الجائعين والعاطلين عن العمل في "العالم الثالث" . وقد تفاقم الغضب لان "صوت اميركا" نقل "رسالة" زوليك في تقرير اخباري ابرز "الفقر" والبلدان "الفقيرة" في عنوانه ومقدمته ، وهذا "الصوت" هو احد ادوات وكالة اعلامية رسمية تابعة لوزارة الخارجية الاميركية ومحظور عليه البث داخل الولايات المتحدة ، مما دفعني الى التساؤل عن سر اهتمام زوليك وصوت اميركا بنقل هذه الرسالة في خضم حملة انتخابات الرئاسة الاميركية التي طغت فيها الازمة المالية كقضية داخلية على الحرب في العراق كقضية سياسة خارجية بالرغم من الترابط الوثيق بين الامرين ، دون ان اجد تفسيرا شافيا حتى قرات ما كتبه فيليب ستيفنس في فاينانشال تايمز البريطانية: "عندما يتحدث الدبلوماسيون الأوروبيون والأميركيون عن شراكة مسؤولة مع القوى الصاعدة فإن ما يعنوه حقا هو أنه لا يجب السماح للصين والهند وباقي الدول الأخرى بتحدي القواعد والمعايير الموجودة" ليفكروا بنظام بديل على نمط النظام الذي يطمح الى اقامته هوغو شافيز ورفاقه من قادة الاشتراكية الديموقراطية في القارة الاميركية اللاتينية .
ومثلي مثل الملايين من "اللامنتمين" للنظام الاقتصادي العالمي السائد ، ممن افقرهم هذا النظام وهمشهم ماليا واجتماعيا وسياسيا ، وممن قتل انهيار الاتحاد السوفياتي الامل لديهم في امكانية نشوء نظام جديد يكون الانسان هو القيمة الاساسية فيه وله ، لا الربح بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ، كنت غير معني بالازمة الاقتصادية الاميركية التي تعولمت الا بصفتي المهنية كاعلامي ثم بصفتي الانسانية التي عجزت عن "الشماتة" بالملايين الجدد من الناخبين "الغربيين" ممن القت بهم الازمة او تهدد بالقائهم بلا رحمة الى قارعة الطريق بين ليلة وضحاها وهم الذين طالما اوصلوا الى سدة الحكم في بلدانهم امثال اؤلئك الساسة والاقتصاديين ، حتى بدات المح في الازمة الراسمالية الراهنة بصيص امل في امكانية تغيير النظام العالمي بما قد يعيد التوازن الى العلاقات الدولية فيه ويدخل الى نسيجه بعض الانسانية .
*كاتب عربي من فلسطين
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire