عمر أبو رصاع
omar_jo_1@hotmail.com
الحوار المتمدن - العدد: 2477 - 2008 / 11 / 26
قبيل هذا الانهيار بثلاثة اسابيع فقط كما اشار تقرير The Financial Times كان المصرف قد عين مديراً جديداً و نشر بيانات مالية تعكس اداءً ضعيفاً و لكن ليس كارثي للربع الاخير ، إلا ان انهيار هذا البنك الضخم جداً و إن كان بطيء بمقاييس هذه الازمة البنكية فقد جاء كارثياًُ ذلك انه جاء وفق مبدأ سقوط حجارة الدومينو ؛ يكفي ان نعلم ان المودعين سحبوا من البنك 16.7 مليار دولار خلال آخر عشرة ايام فقط! و ماذا يمكن أن يؤدي لانهيار اي بنك في العالم اكثر من ذلك؟
فجأة خسر المستثمرون و حملة الاسهم معاً أسهماً سوقية بلغت قيمتها الاسمية 46.6 مليار دولار! اما في حالات الافلاس السابقة فقد تركت بعض القيم لحملة الاسهم الآن فقد طالت الخسائر الجميع ، فشركة Capital Group لوحدها خسرت 15% من هذه القيمة التي كانت تملكها ، ان ما يجب ان ننتبه إليه هنا أن حملة الاسهم لهذه البنوك يتوزعون على مختلف القطاعات الاقتصادية العالمية فليس هناك قطاع اقتصادي او بنك عالمي غير مستثمر مباشرة او بشكل غير مباشر في البنوك و القطاعات التي ستطالها الازمة مما يعني ان استمرار الازمة سيفضي إلى ان تطال الخسائر كل الفعاليات الاقتصادية في العالم و تضرب اقتصاد العالم كله و تصيبه بخسائر هائلة.
ان ازمة الرهن العقاري هذه التي تعصف بالمصارف الامريكية و تفلسها انعكست ايضاً و بقوة على كبريات شركات التأمين التي تقدم ايضاً خدمات تأمين الودائع للبنوك مثل شركة تأمين الودائع الاتحادية JP-Morgan و التي دفعت 1.9 مليار دولار لتغطية الودائع في هذا البنك لتصبح حاملة لاكبر حزمة قروض يتولاها التأمين و يعدها للبيع ، و استمرار الازمة سيضاعف العبء ليس فقط على البنوك بل وعلى شركات التأمين كذلك ؛ لانها هي الاخرى لن تجد من يشتري هذه القروض المتعثرة التي كان عليها ان تعوضها و بالتالي ستدخل بدورها دائرة مصير الافلاس هي و حملة سندات هذه القروض و الذين ليس لهم في هذه الحالة ان يتوقعوا عودة حصة جيدة من استثماراتهم هذه!
أين يمكن ان تتوقف هذه الكارثة ؟ ان الحديث عن اقتصاد مالي متداخل بهذا المستوى يجعلنا لا نشك لحظة واحدة انها تماماً مثل كرة الثلج التي يزداد حجمها كلما تدحرجت بحيث تبتلع كل ما يمكن ان يواجهها اننا هنا بصدد الحديث عن ازمة تعصف بعصب الحياة الاقتصادية انه الجهاز المصرفي و لذا نحن لسنا ازاء ازمة قطاع بل ازمة الجهاز المالي للولايات المتحدة و بالتالي العالم اننا نتكلم عن القطاع المصرفي و المسؤول عن خلق اكثر من 80% من عرض النقد ، لهذا ليس السؤال الاستنكاري الذي يجب ان يطرح لماذا قدم الرئيس بوش خطته الانقاذية الضخمة هذه بل السؤال لماذا تأخر كل هذا الوقت رغم ان مؤشرات هذه الكارثة بدأت منذ شهور سابقة؟!!!!!
ان انهيار WAMU اسهم به و بدرجة كبيرة تغاضي الخزينة الامريكية عن دعم بنك Lehman Brothers الضخم الذي سبقه بالسقوط ، فليس من المنطق ان يقف عامل الانقاذ منتظراً المزيد من الانهيار قبل ان يتدخل لانقاذ ما يمكن انقاذه ، فإذا كانت هذه الاستراتيجية تقوم على الانتظار لتغطية الوارث بمعنى حصاد الاصول لهذه البنوك بقيمة الاصول بعد افلاسها فهو ليس فقط سيهدر بقية مطلوبات هذه البنوك بل و سيسهم في انهيار البناء الاقتصادي بالكامل و حدوث ضمور هائل في القيم السوقية لمختلف الفعاليات المالية و الاقتصادية.
إلتقط المستثمرون في ول ستريت انفاسهم بعد اعلان الرئيس جورج دبليو بوش عن خطة الانقاذ التي وصلت تكلفتها إلى اكثر من 700 مليار دولار و التي اعادت المعنويات إلى حملة الاسهم المرعوبين حول العالم ، خصوصاً بعد الانهيارات الانسحابية التي بدأت تشهدها الاسواق المالية في آسيا و اوربا كانعكاس للازمة في الولايات المتحدة في وقت سابق ، لا توجد مؤسسة مالية حول العالم لا تملك سندات و اسهم متعلقة بدرجة ما بالشركات المعنية بالازمة و بالتالي فانها عرضة لمواجهة الازمة و لتحمل خسائر تنعكس على ادائها في اوطانها ، اول بوادر التأزم في مالية هؤلاء هو تجميد استعمال تلك الاسهم كضمانات مالية ؛ إن سهم شركة ما تواجه افلاساً محتملاً بالتأكيد لا يصلح كضمان مالي في اي من المعاملات!
ربما ليس مستغرباً ان يحاول رئيس اتحاد البنوك العربية التطمين بالزعم بأن الازمة لن تؤثر على بنوكنا و ان معظم استثماراتها تتجه للداخل، لكنه لا يستطيع ان ينكر انه لا يكاد يوجد بنك واحد في عالمنا العربي لا يدير محفظة اوراق مالية في الاسواق الامريكية او ليس لديه ودائع في النظام المصرفي الامريكي تقتضيها طبيعة النشاط المصرفي العالمي لتسيير معاملاته ، إلى اي مدى بنوكنا خارج الازمة ؟ ربما يجيبنا على ذلك اتجاه اسعار اسهم البنوك العربية كلها إلى التراجع ساحبة معها اسواقنا المالية كما اشارت CNN "تراجعت أسواق المال العربية إلى قيعان جديدة ، وخاصة في الخليج، الذي شهدت مؤشراته سيطرة كاملة للون الأحمر، وسط خسائر قاسية سيطرت على قطاعي "العقارات" و"البنوك" في مختلف الأسواق، وذلك مع استمرار القلق حول مصير بعض النشاطات الاستثمارية التي تجمع هذين القطاعين في عدة دول بالمنطقة"، و يجيبنا عليه ايضاً كنتاج للازمة سحب الكثير من الصناديق الاستثمارية الاجنبية اموالها من اسواقنا المالية اما لمواجهة الازمة هناك او تحسبنا لما هو اسوء ربما بدأ هذا السحب لكن لو توسع بتوسع الازمة سيسبب كارثة لاسواقنا المالية التي تحاول المستحيل لتتوازن، اذن الاقتصاد العالمي يعمل وفق نظرية الاواني المستطرقة و لا يوجد اقتصاد خارج العالم.
بطبيعة الحال انعكست هذه الانهيارات البنكية بقوة على ول ستريت اننا هنا نتكلم عن خسائر في السوق قد تصل إلى ألف مليار دولار و تتجاوز ذلك ايضاً ، ان بعض المحللين في الولايات المتحدة مثل جيمس بوليتي يعتبرون الحكومة الامريكية مطالبة ببذل الطاقة القصوى لانقاذ الرأسمالية العالمية ، انه يذكرني هنا بما سبق و روج له الشيوعيون السوفيت عندما اعتبروا ان ازمة الكساد العظيم مطلع الربع الثاني من القرن العشرين سقوط نهائي للرأسمالية ، و بغض النظر عن مدى فعالية الرؤية الكنزية في تخليص اقتصاد السوق من تلك الازمة او ما احدثته هذه الرؤية الجديدة من تغير هائل في طبيعة النظام و آليات عمله إلا ان ما يهمنا هو ان هذا النظام امتلك من المرونة في الرؤية و آلية العمل ما اهله في حينها لادارة الازمة بفعالية كبيرة و تجاوزها نحو ميلاد نظام نسميه مختلطاً في علم الاقتصاد اكثر ملاءمة و تطوراً و مرونة ، على العكس تماماً من الرؤية المنطلقة من تابوهات و مسلمات عقائدية ادت بالنظام الشيوعي الذي يفترض انه نتاج رؤية ديناميكية ترى ان الثابت هو التغيير إلى الانهيار التام و المفاجئ على طريقة الجلطة الدماغية القاتلة!
إذن فإن الخروج من الازمة الحالية ربما تتيحه مرة اخرى المرونة العالية للنظام الاقتصادي الامريكي بل و تدفعه نحو هيكلة تجعله اكثر ملاءمة و فعالية ، مرة اخرى بعيداً عن الرؤية النمطية الكلاسيكية للرأسمالية السمثية (نسبة لآدم سميث الأب الروحي للاقتصاد الرأسمالي) و أكثر قرباً تعظيم دور الدولة و اجهزتها.
لكن قبل ان ننتقل إلى آثار الازمة على عالمنا العربي و الدروس الناجمة عن هذه الازمة لا بد اولاً ان نقف على حقيقة ازمة الرهن العقاري هذه و كيف تسببت بهذه الكارثة؟ و نفهم المزيد حول ما المحتمل حدوثه لو ان الحكومة الامريكية قررت ان تقف موقف المتفرج و تترك الاقتصاد يعمل لوحده وفق مبدأ الرأسمالية الكلاسيكية "دعه يعمل دعه يمر ، و السوق يصحح نفسه بنفسه" هذا ما سنبدأ بمناقشته في الجزء القادم من هذا التقرير.
هل يمكن ان احصل على المال اللازم لشراء بيت بضمان هذا البيت فقط؟
نعم ، ممكن لان من سيأتيك بهذا المال سيبيع قرضك بربح ل "فريدي ماك" و"فاني ماي" شبه الحكوميتين بدون مخاطر!!!!
هكذا خلقت الازمة ؛ لدينا ما يسمى بالاوراق المالية المدعومة بالأصول ، حيث بامكان اي بنك ان يقوم بطرح اوراق مالية مضمونة بأصول ، و هذه الاصول انواع لكن اهم هذه الاصول اطلاقاً هو العقار ، اي انه يبيع ورقة مالية مضمونة بعقار ما ، يقوم مثلا بجمع قروض قام بمنحها لمن يرغب بشراء منازل لنفرض ان هذه القروض مجموعها 1 مليار ، ما يفعله البنك انه ينتج اوراق مالية بهذه المبالغ بضمان العقارات المرهونة و يبيعها بسعر فائدة اقل من سعر الفائدة على القرض بهذه الطريقة يقوم البنك باستعادة المال الذي قام من خلاله بتمويل تلك القروض مضاف لها فرق الفائدة بين سعر الفائدة على القرض الذي منحه لمشتري البيت و سعر الفائدة الذي سيدفعه لمشتري الاوراق المالية المضمونة بذلك العقار ؛ اي يمنح البنك قروض اسكان بضمان هذا الاسكان بسعر فائدة لنقل مثلا 10% ثم يقوم باصدار اوراق مالية بقيمة هذه القروض و يبيعها بدوره و يمنح عليها فائدة مثلاً 8% هكذا يكون استرد المال الذي منحه للمقترض و حصل على 2% ربح مع احتفاظه بسيولته ، لعبة سهلة تغري البنك طالما ان الاقتصاد يسير بشكل حسن و طالما ان اسعار العقار في ارتفاع و طالما ان ادارة الرئيس بوش سهلت الاجراءات على البنوك لتتمكن من التوسع في الاقراض و طالما ان هناك مؤسستين مثل فاني ماي و فريدي ماك تشتري هذه الاوراق المالية و تقبل عليها اقل فوائد ممكنة لتسهيل هذا النوع من التمويل العقاري ، لنا ان نتخيل حجم الازمة لو علمنا ان هاتان الشركتان المذكورتان تعملان برأس مال يقدر بحوالي ستة ترليون دولار اي ما يعادل ستة اضعاف حجم الاقتصاد العربي من المحيط إلى الخليج!
عودة تاريخية نعلم من خلالها ان المؤسستين المذكورتين تعود جذورهما إلى ازمة الكساد العظيم مطلع القرن عندما شرعت الحكومة الامريكية بانشاء هذا النوع شبه الاحتكاري من الشركات بهدف شراء الاوراق المالية المدعومة بالاصول العقارية و هذا لتنشيط الاقتصاد و تشجيع الانفاق على الاسكان في وقته لكسر حدة الكساد و تشجيع قطاع الاعمال لكن هذا النشاط ما لبث ان تضخم كما رأينا و لان الشركتان حكوميتان فإن الاوراق المالية التي تعيد بيعها بدورها في الاسواق المالية تصنف ذهبية كونها صادرة عن مؤسسة شبه حكومية و مدعومة بعقار يتجه سعره دوماً للارتفاع.
بما ان البنوك تقدم هذه الاغراءات او لنقل بوضوح اكبر تملك المقدرة على مثل هذا العمل التمويلي المضمون فأهم من يغريهم ذلك هم السماسرة و شركات العقار التي تريد ان تبيع ، إذن ايضاً توفر التسويق و لم تعد المسألة ان مشترٍ لبيت يبحث عن تمويل مصرفي بل تمويل مصرفي يبحث عمن يشتري بيتاً! و اللعبة ان يقبل المشتري بشراء البيت بقرض قصير المدى باقساط شهرية عالية حيث انه لن يقدم ضمانات غير العقار نفسه و يتم اقناع المشتري على اساس ان البيت و خلال فترة قصيرة جدا في الاغلب بضع شهور سيرتفع سعره و بالتالي يلجأ المشتري إلى الجدولة بحيث يجعل قرضه اطول زمناً بدفعات شهريه اقل .
لكن ايضاً ما سبب الانهيار ليس هذا فقط انما ايضاً المضاربة على السندات المشتقة ، فما هي السندات المشتقة بالضبط؟
تماماً كما يتم المراهنة على ارتفاع و انخفاض النفط و الذهب و الفضة .......الخ
اخترعت المضاربة على اتجاه اسعار العقار عن طريق محافظ تفادي المخاطر hedge funds ، وهذه المحافظ تقوم بشراء السندات المشتقة وليس الاصلية للرهن العقاري اي انها ببساطة مضاربة على اتجاه سعر العقارات ، هذه المحافظ قامت بمضاربات هائلة الضخامة في هذا المضمار مستندة إلى الاتجاه الايجابي شبه الثابت لاسعار العقار ، و هنا يكون حجم الخسائر فادحاً اذا اختلفت التوقعات عن التوجهات الحقيقية للسعر ، ذلك ان هذه المحافظ تضارب باقل من عشر القيمة الحقيقية على سبيل التأمين لكنها ان خسرت فستدفع القيمة كاملة و بالتالي المضاربة بمئة مليون معناها ان تواجه خسارة بمليار عندما يحدث العكس! بالتالي فإن هذه المحافظ التي تمولها البنوك عندما تتعرض لمثل هذه الموجة المعاكسة للتوقعات ستتسبب بخسائر فادحة للبنوك و يصبح جزء اساسي كان يظهر ضمن حقوق البنوك بالمليارات صفراً ، كما حدث مع البنوك و رأينا كيف تقوم باطفاء اصول بالمليارات !
لكن لماذا تغيرت اتجاهات اسعار العقار؟
معلوم ان السعر يتبع التوازن السوقي ، قانون العرض و الطلب ، و طالما ان تمويل الشراء اخذ الشكل الذي بيناه آنفاً فقد نجح في خلق طلب متنامي باستمرار على العقارات فاخذت الاسعار اتجاه ارتفاع شبه ثابت ، إلا ان هذا السبب نفسه هو الذي ادى لنمو هائل في العرض لان الاجراءات المصرفية لتمويل شراء العقارات منحت القروض لمشترين لا يملكون الملاءة البنكية ، اي انهم غير قادرين فعلاً على الالتزام بدفع الاقساط اذن وصلنا إلى انفجار فقاعة التمويل العقاري المتوسع بمعدلات فلكية و ما ان تراجع مستوى السيولة في الاقتصاد الامريكي حتى عجز هؤلاء عن سداد اقساط بيوتهم و قفز عرض العقار بسرعة ، لان العجز عن الدفع معناه الحجز على الاصل و اعادة بيعه اي اعادة العقار نفسه معروضاً مرة اخرى ، و لما كانت الشرائح التي عجزت كبيرة قفز عرض العقار بمعدل هائل و تراجعت اسعار العقار لان العرض اصبح اكثر من الطلب فلا بد ان ينخفض السعر ، الخسائر الهائلة اتت فعلاً من المحافظ التي تضارب على السندات المشتقة بعد ان اخذت اسعار العقار الاتجاه المعاكس و تكبدت المحافظ المضاربة تلك خسائرها مضاعفة اضعافاً ، إلى حد كبير نلاحظ ان خسائر المضاربة على اسعار العقار في الولايات المتحدة تزامن مع توجه المضاربات إلى البترول و قد رأينا كيف قفزت هذه المراهنات باسعار النفط إلى مستويات فلكية.
لقد اسهم اصرار وزير الخزانة الامريكي هنري بولسون على عدم التدخل بالمال العام في تفاقم الازمة ، فالازمة كلها تدور حول المضاربة و ما تنبني عليها من توقعات فإذا اخذت اسعار سندات ليمن براذرز مثلاً اتجاه الانهيار مع مثل هذا التوجه الحكومي سيجعل الاتجاه يتعزز و هكذا اصبحت محاولة انقاذ البنك مهمة مستحيلة!
اذن ان التوسع غير المدروس في الرهن العقاري و الذي لا يراعي اصول العمل المصرفي و اتخاذ البنوك لمختلف الادوات الاحتياطية لمواجهة خطر عدم السداد ، و اهمها و على رأسها تنويع المحافظ الاستثمارية و القروض كان مصدر الشرر في احداث هذه الكارثة المالية العالمية ، انها ظاهرة تدعو لاعادة النظر في هيكلة النظام المصرفي الامريكي ، خصوصاً مسألة البنوك التمويلية المتخصصة في قطاع ما ، نعتقد ان البنك لا ينبغي له ان يرتبط بتمويل قطاع واحد فقط ، اي ليس عليه ان يضع البيض كله في سلة واحدة كما ان عليه ان يؤمن بيضه هذا ، فملاءة العميل و اهمية دراسة المخاطر التمويلية يجب ان تأخذ بالحسبان و ليس من المنطق الاعتماد على توجهات السوق فقط لان هذا معناه ان تحقق المؤسسات المالية ارباحاً عندما يتخذ السوق توجهات موجبة لكنها ستنهار تماماً اذا اخذ السوق توجه سالب في ضوء المضاربة و هذا غير منطقي و لا مقبول.
إن الجهاز المالي بعامته عبر الاسواق المالية و المؤسسات المصرفية و التأمينية و ادواتها........الخ يشبه في دوره الاقتصادي دور الجهاز الوعائي الدموي في جسم الانسان ، اي كما لو كان مجموعة الاوردة و الشرايين التي تنقل الدم بين اجزاء جسم الانسان حيث ان الدم في النظام هنا هو النقود ، و عندما نكون امام ازمة افلاسات ائتمانية فنحن تماماً امام حالة قطع في احد الأوردة الرئيسة يؤدي إلى تدفق الدم بغزارة خارج الجسم اي خارج الدورة الدموية كلياً ، اي نحن امام تدفق هائل للسيولة إلى خارج الدورة الاقتصادية يحرم مختلف القطاعات منه.
يخطئ من يعتقد ان الاقتصاد الحقيقي لم يخسر شيء ، فالبعض لا زال يعتقد ان الخسائر المالية في اسواق المال مثلاً لا تعني اكثر من كونها تغيير في اسعار رؤوس الاموال الحقيقية ؛ تغيير في القيمة الاسمية للاقتصاد بل ربما ذهب البعض إلى ان هبوط القيمة الاسمية هذه ليس اكثر من نتيجة لتضخم هذه القيمة ، إلا ان عطب النظام المالي و حدوث خسائر ضخمة معناه افتقار المؤسسات المنتجة بمختلف اشكالها للتمويل و تراجع الطلب و ارتفاع البطالة و تعثر التسهيلات المالية و بالتالي فإن انعكاس هذه الازمة المالية على القطاعات المنتجة المختلفة حاد للغاية و لا يمكن تخيل قطاعات الاقتصاد المختلفة تعمل بشكل طبيعي دون ان نتخيل الجهاز المالي يؤمن التدفق النقدي بشكل سليم ، اننا تماماً امام حالة قطع وريدي اذا ترك لوحده سيؤدي إلى عجز التروية الدموية لاعضاء الجسم التي هي هنا القطاعات الاقتصادية المختلفة و من ثم إلى عطبها.
إلا ان هذا الجهاز المالي لم يكن يعمل اصلا بشكل سليم لانه راح يؤمن تدفقات مبالغ فيها تفوق حاجات الاقتصاد الحقيقي لعبت دوراً محورياً في النهاية في خلق الخلل الذي حصل او الانفجار الشرياني الذي رأيناه ، هذه التدفقات خلقت طلباً وهمياً بالتالي حالات من التضخم السعري التي رحنا نراها حتى على السلع الاساسية بشكل مبالغ فيه ، ادى مثلاً إلى الارتفاعات في في سعر النفط رغم ان العرض نما و كان كافياً لتغطية احتياجات السوق إلا ان ارتفاع سعر النفط لم يكن ليتوقف عبر العام المنصرم فوجدنا سعر البرميل يقفز بدون اي داعي اكثر من مئة دولار مسجلاً نسب ارتفاع لم يكن يحققها في سنوات طويلة فيما مضى ، انسحب هذا على مختلف الاسواق بدون استثناء ، لا نستطيع ان نتجاهل اصابع الاتهام الموجهة إلى الاسواق الثانوية و ادواتها و التضخم الذي لعبت دوراً محورياً في خلقه ، هذا السوق الثانوي عبر ادوات البيع قصير الاجل و التي ليست إلا مراهنات على الاتجاهات السعرية لتحقيق الارباح ما هي إلا مقامرات بحتة اصبح لا بد من وقفها تماماً لانها تعبث بشكل تخريبي في آلية السوق او تنظيمها و الحد من اثرها على اقل تقدير، و العجيب ان بعض الجمهوريين الذين يدافعون عن حرية السوق و يطالبون بعدم التدخل لا ينتبهون لكون هذه الآليات المالية هي التي عبثت بآليات السوق الحر و اصبحت تسير بالعرض و الطلب السعري خارج السوق الحقيقي ، فعندما ينمو الانتاج العالمي من النفط اكثر من نمو الاستهلاك العالمي و يستمر السعر في الارتفاع لا يملك احد ان يزعم ان آلية السوق تعمل بشكل سليم.
لا شك و باعتراف الولايات المتحدة مؤخراً مارست ماليتها العامة سياسات كان لها دور سلبي محوري و اساسي في العطب الذي حصل ، ليس اقلها تغيير هيكلة الاقتصاد الامريكي عبر زيادة الانفاق العسكري او الوزن النسبي لهذا الانفاق على حساب الوزن النسبي للانفاق في القطاعات المدنية للدولة ، البعض يعتقد ان الانفاق العسكري هو خسارة للاقتصاد إلا انه من ناحية اقتصادية هذا اعتقاد خاطئ لأن معظم الانفاق العسكري الامريكي يذهب لحسابات امريكية سواء افراد او مؤسسات لكنه و هنا القضية نما على حساب غيره من اوجه الانفاق العام مما احدث خلل في تركيب النفقات العامة للدولة الامريكية و بالتالي هيكل الاقتصاد الامريكي كان من شأنه زعزعة هذا الاقتصاد و حرمان قطاعات معينة من نموها الطبيعي لحساب قطاعات أخرى عسكرية بشكل اساسي بالتالي و في ظل نظام مالي حساس و عرضة للمراهنات و الانطبعات تراجع قطاع ما سيقود إلى الانهيار كما رأينا.
اذن متوقع لو فاز الديموقراطيين وقد فازوا فعلاً ان تتجه المالية العامة في السنة القادمة للحد من الوزن النسبي للانفاق العام العسكري كان هذا واضحاً في احاديث اوباما حول المالية العامة و السياسات الخارجية، فمن المتوقع اذن اعادة توزيع الانفاق العام بطريقة تخفض هذا الوزن النسبي للانفاق العسكري و تزيد الوزن النسبي للانفاق المدني خصوصاً في قطاعات خدمية كالصحة و التعليم ، كذلك لا شك ان النظام المالي الامريكي و العالمي ايضاً سيتم توجيهه ليصبح اكثر تحفظاً غالباً مع الغاء السوق الثانوي او اعادة تنظيمه بطريقة لا تمكنه من ان يحول السوق المالي العالمي إلى صالة قمار يسيطر عليها المقامرين المضاربين ، كذلك ستكون هناك اجراءات متحفظة جداً في مستوى اعادة تنظيم القطاع المصرفي بشكل خاص الرهن العقاري و بطاقات الإئتمان ، سيجعل هذا النظام اكثر تحوطاً و ربما في البداية بشكل مبالغ فيه مع نمو الملكية العامة لاجزاء مهمة من الجهاز المصرفي آنياً ليصبح اكثر استقراراً و أمناً و إن بحجوم اقل و عقبات في وجه تمويل الاستثمار و الاستهلاك على حد سواء ، لا نستطيع على نحو دقيق ان نتنبأ بشكل دقيق بمدى التشدد الذي سيصل له النظام المصرفي و شكله الجديد لكن المؤكد انه سيتجه نحو انظمة اكثر تحوطاً و ادوات مالية اكثر استقراراً و ضماناً و دور اكبر بكثير للدولة.
لماذا الازمة خطرة؟
مرة اخرى لان تلك الخسائر و انهيار الثقة بالنظام المصرفي الامريكي يقودنا إلى نزيف هائل يخرج السيولة من الدورة المالية و يحرم الجهاز المالي منها و بالتالي يقود لافلاسات تبدأ بالنظام المصرفي و لا تنتهي ما دامت كل المؤسسات الاقتصادية مرتبطة بالضرورة بالاسواق المالية و الازمة و توابعها ستحرم قطاعات واسعة و بشكل اساسي قطاعات الانتاج و على رأسها التكنولوجية من جزء مهم من التمويل، إن ما يركز عليه الآن ارساء الاستقرار في الاسواق المالية و ايقاف الهلع لدى المودعين لوقف النزيف الذي تكلمنا عنه ، لكن ماذا بعد ذلك ؟
رغم ان ازمات اخرى تتعلق بالنظام المصرفي متوقعة و خطرها قائم نتيجة سياسات مالية مثل اشكالية بطاقات الإئتمان و انفجارات سوقها لا زالت ازمة الرهن العقاري تضرب بكل ثقلها و كان من المفروض ان يكون التدخل مبكراً و ذلك عن طريق خلق حساب خاص لشراء رهونات العقار المتعثرة من قبل الدولة ثم اعادة بيعها تدريجياً مع معالجة الاسواق المالية الثانوية من ناحية و الانظمة البنكية من ناحية اخرى إن هذا هو الحل الذي لم يملك لا اوباما و لا ماكين الهروب منه عندما اعلن كليهما انهما سيفعلان ذلك في رئاستهما القادمة، و لو كانت الادارة قد لجأت مبكراً لهذا الحل لكانت الازمة اقل وطأة بما لا يقاس ، إلا ان الادارة تأخرت على اي حال و اثبتت أنها ليست فقط اسوء ادارة امريكية في السياسات الخارجية للولايات المتحدة بل و الاسوأ على المستوى الاقتصادي ايضاً ، لا اعتقد ان الامريكيين و العالم قادرين على نسيان جورج دبليو بوش باعتباره اسوء رئيس للولايات المتحدة في التاريخ ، عندما نجلس في قاعات الدرس مستقبلاً للحديث عن التاريخ الاقتصادي سنشير لهذه الازمة و نقول و من آثارها انها ادت لتراجع الوزن النسبي لحجم الاقتصاد الامريكي في العالم من ناحية و إلى تعدد مراكز النظام الاقتصادي العالمي بعد ان كان وحيد القطبية ، إن هذا سيكون بالضرورة المدخل الطبيعي للقول انتهى عصر العالم احادي القطبية و عدنا لتعدد الاقطاب اقتصادياً اولاً و من ثم سياسياً لم يعد بمقدور الولايات المتحدة و إن بقيت لاعباً مهماً ان تقود العالم لوحدها.
انكماش الاقتصاد الامريكي آنياً و تباطأ نموه في المرحلة القادمة يضاف له ان هناك مناطق اخرى من العالم ستحقق نمواً في المرحلة القادمة و إن بمعدلات اقل و كذلك تعدد مراكز المال العالمي في المرحلة القادمة فلن نعود إلى مقولة على كل دولار ان يمر عبر ول ستريت كل هذا سيهبط بالحجم الاقتصادي للولايات المتحدة بشكل اساسي لحساب دول اسيا و في المقدمة الصين و كذلك روسيا و دول اخرى مؤهلة و قادرة على النمو ، لم يعد ايضاً مقبولاً اوربياً و آسيوياً التبعية للسياسات المالية الامريكية لا بد ان دول العالم لن تقبل بعد إلا ان تكون شريكاً في سياسة العالم المالية و حريصة عليها ، و قد رأينا كيف تحركت اوربا لتفرض على الولايات المتحدة ان تتبعها هي و ليس العكس عندما اقدمت على ضمان ودائعها لطمأنة المودعين و منعهم من سحب اموالهم العمل الذي يؤدي حتماً إلى افلاس البنوك.
الاسواق المالية بالضرورة ستستقر في المدى المنظور بعد ان ضربت كل الاسواق المالية في العالم و هذا نتيجة طبيعية لعاملين اولهما سحب الكثير من الاستثمارات الاجنبية في الاسواق المالية المحلية و ثانيهما التوقعات و الميول و الآراء التي تتحكم بالمضاربين و المستثمرين حول الاتجاهات السعرية ، و لا تملك الدول الكثير لتفعله و قد رأينا ان بعض الدول الخليجية ارتكبت خطأ عندما ضخت الكثير لرفع مؤشرات السوق لأن تعديل المؤشر بسرعة معناه ان الاسعار تهوي و ترتفع بسرعة (ما يسمى بتقلبات السوق) و بالتالي ستظل موجات البيع لتحقيق ارباح سريعة تتلاعب بالمؤشر و يظل المضارب ينتظر السوق ليهوي فيشتري عندما تبدأ موجة الشراء لرفع المؤشر ثم لا يلبث متى ارتفع المؤشر ان يبيع ليجني ارباح وصلت في بعض الايام الماضية إلى اكثر من 10% فيعود المؤشر مرة أخرى ليهوي بفعل موجة البيع هذه ، إذن ربما كانت الكويت الاكثر حكمة بالنسبة لسوقها المالي عندما ادركت ان تحسين المؤشر لا يجب ان يكون فجائي منعاً لحدوث مثل هذه الموجات و التلاعب بالمؤشر بهذا الشكل ، فعودة صعود مؤشر السوق لا ينبغي حدوثها بسرعة او فجأة انما على فترة معقولة تحول دون اعطاء الفرصة للمضاربين لجني ارباح سهلة و سريعة على حساب الخزينة و الحسابات شبه العامة و الاقتصاد ككل.
لا احد يستطيع التكهن بحجم الخسائر الهائلة التي منيت بها الاستثمارات المالية في المحافظ و بشكل خاص المضاربة منها في الاسواق الثانوية على الادوات المشتقة و لكن المؤكد ان ترليونات الدولارات ضاعت!
إن المضاربة هناك اصبحت مهنة و عملاً عالمياً حتى لافراد يدر ارباح ضخمة حول العالم لكنه كذلك عندما يضرب يأتي على الأخضر و اليابس ، لنا ان نتخيل حجم الضرر الذي لحق بمدخرات العاملين المستثمرة هناك لتكون عوناً لهم بعد التقاعد ، خسر عمال الاونروا مثلا جزء مهم من مدخراتهم المستثمرة هناك 25% على الاقل ، و اما المضاربين المقترضين فلا شك واجهوا الافلاس!
دول نامية كثيرة ستواجه مأزقاً اقتصادياً حقيقياً ، إن الدول التي تعتمد على المساعدات و التدفقات النقدية للحد من عجز ميزان مدفوعاتها ستواجه بالضرورة ازمة ، عربياً مصر على رأس القائمة لان المدفوعات التحويلية لعامليها و سياحتها و الاستثمار الاجنبي تشكل الرافد الاساسي لميزان المدفوعات المصري اضافة للاحتمال الطبيعي لتراجع صادراتها المادية مما سيؤثر سلباً على الميزان التجاري لها ، إلا ان وجه آخر من اوجه نتائج هذا التحول العالمي قد يكون ايجابياً ذلك ان عدم استقرار النظام المالي العالمي و الخسائر الهائلة للخليج في اسواقها المالية المحلية و العالمية من المحتمل جداً ان يدفع السيولة الخليجية نحو استثمارات اكثر في الرأسمال الحقيقي في العالم العربي من خلال استثمارات اكثر استقراراً و حفظاً للقيمة و إن بعائد اقل خصوصاً اننا في المرحلة القادمة لا نتوقع ارباحاً عالية في البورصات المحلية و العالمية ، لذا فإن على المخططين لاقتصاديات عربية مثل مصر و الاردن و سوريا و السودان و اليمن و تونس ان يركزوا على الآليات العملية و التحولات المطلوبة لجذب هذه الاموال للاستثمار لديها ، ان هذا المدخل هو الاهم للحد من تدهور ميزان المدفوعات لها و ربما لنموه باتجاهات ايجابية ، فبالحديث عن دولة كالأردن مثلاً استثمارات عربية بحجم 5 مليار دولار تفوق عجز ميزانها التجاري علماً بأن تراجع سعر النفط سينعكس ايجاباً على الميزان التجاري لدول مثل لبنان و الاردن و تونس يكفي ان نشير إلى ان ارتفاع اسعر النفط كان أهم أسباب نمو عجز الميزان التجاري الاردني مثلا بنسبة وصلت إلى 50% !
بالتأكيد تراجع العائدات النفطية لدول الخليج العربي سيؤثر سلباً على مدى توفر السيولة خليجياً إلا انه من غير المتوقع ان يؤدي هذا التراجع إلى التأثير الداخلي الحاد في الاقتصاد الخليجي فقد صاغت دول الخليج ميزانياتها على اساس سعر لبرميل النفط لازال بعيداً، كما أن أغلب هذه الفوائض الناتجة عن ارتفاع الاسعار لم تدخل في القطاعات الاقتصادية الخليجية المحلية بل تم استثمارها عالمياً و غالباً في اصول مالية دولية و هي ان كانت في مراحل سابقة حققت ارباحاً ضخمة فقد تعرضت مؤخراً لخسائر ضخمة كذلك ، من المفروض ان يتوجه الخليج لاستثمارات اكثر حفظاً للقيمة و ثباتاً لموارده المالية ، لذا من المنطقي ان يترجم ذلك من خلال زيادة الاستثمار محلياً و عربياً في اصول اقتصادية عاملة و على الاغلب سيحصل القطاع العقاري على نصيب الاسد نظراً لما يتمتع به القطاع من قدرة عالية على حفظ و استقرار القيمة.
اما بالنسبة للاسواق و المؤسسات المالية العربية فليس من المرجح ان تواجه تغيرات جوهرية في انظمتها ذلك انها متحوطة اصلاً بنسبة اكثر بكثير مما هو الحال عليه في الولايات المتحدة لكن يتوقع ان تحد من محافظها المالية المستثمرة في البورصات العالمية ، و ستعود الاسواق المالية تدريجيا لتعكس مستوى اداء مؤسساتها المسجلة لكن التغيرات السعرية فيها ستكون بسيطة جداً فعهد التغيرات السعرية الكبيرة الآن توقف مع توقع خروج الكثير من المضاربين في ضوء تدني ارباح المضاربة كنتيجة و اتجاههم لاشكال اخرى من النشاطات الربحية.
ينهي جورج دبليو بوش عهد ادارته بواحدة من اسوأ الأزمات المالية و الاقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة و العالم ، و سيترك البيت الابيض مخلفاً وراءه تركة ثقيلة على باراك اوباما ان يمضي سنوات في معالجة نتائج سياساته في مختلف القطاعات من السياسة الخارجية و حتى المؤسسات المالية و الاقتصادية لكن المؤكد ان الولايات المتحدة خسرت الكثير من وزنها العالمي بسرعة قياسية في ظل ثمانية سنوات من حكم هذه الادارة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire