بقلم : نصر شمالي
الظاهرة الأميركية التاريخية الجديدة المدهشة، المتمثّلة بإدارة الرئيس الأفريقي الأصل المنتخب باراك أوباما، لن يكون سهلاً عليها الاستمرار في السياسة الدولية الفظيعة التي انتهجتها الحكومات المتوالية ذات الأصول الأوروبية، تحديداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وآخرها حكومة جورج بوش الابن العنصرية الإجرامية السافرة، ولكن لن يكون سهلاً عليها أيضاً تعطيل العمل بالقواعد الأساسية لهذه السياسة، وهي القواعد التي تنهض عليها قوة الاحتكار الأميركي بوجهيها الاقتصادي والعسكري، داخل الولايات المتحدة وخارجها، فالسوق المالية الأميركية تشكّل اليوم حوالي نصف السوق المالية الدولية ( تشكّل اليابان 20 بالمائة وأوروبا 18 بالمائة) وتكاد القوة العسكرية لحلف شمال الأطلسي تتكوّن في معظمها من القوات الأميركية الساهرة على أمن النظام الدولي الرأسمالي الاحتكاري!
رأس المال الأميركي في مأزق صعب!
ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ حلفاء واشنطن لا يقلّون عنها حرصاً على موقعها الدولي الإمبراطوري إن لم يكونوا أكثر حرصاً، ليس الدول الصناعية الثريّة فحسب، بل خاصة حقول النفط/الدول، أي أولئك الذين تقتصر قوّتهم الاقتصادية على العائدات النقدية النفطية المنصهرة في السوق المالية الأميركية، ويعتمد أمن أنظمتهم على القوات المسلحة الأميركية، أولئك الذين أداروا ظهورهم تماماً لأمّتهم العريقة الكبرى ولأوطانهم الخصبة الشاسعة، فصاروا لا خيار أمامهم للاستمرار في ما هم عليه سوى الاعتماد على حماية الأميركيين، ولا مجال يتّسع لتوظيف أموالهم الطائلة سوى السوق الأميركية التي ارتبط مصيرهم بها عضوياً!
إنّ استمرار الإدارة الأميركية الجديدة في انتهاج السياسة الدولية التقليدية ذاتها سوف يؤدي غالباً إلى المزيد من الأزمات الداخلية القويّة، وإلى المزيد من الضعف في القدرة التنافسية لرأس المال الأميركي في مواجهة رؤوس الأموال الدولية الأخرى، خاصة الجديدة الصاعدة التي تمتلك قدراً كبيراً من الاستقرار والاستقلالية، غير أنّ الخروج على القواعد الأساسية للسياسة الإمبراطورية التقليدية سوف يعني الانكفاء والانطواء، والاستغراق في محاولات إعادة النظر في الوضع الاقتصادي الداخلي، وسوف يستدعي اتخاذ الإجراءات التي تختصر الالتزامات الخارجية وخاصة العسكرية، أي الاستغراق في محاولة تمكين رأس المال الأميركي من امتلاك القدرة الذاتية المستقلة على المنافسة الحرّة، كما كان حاله قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها حتى نهاية الستينات من القرن الماضي، وفي هذه الحالة من يضمن أن لا يفسح ذلك المجال لنهوض حركات التحرّر العالمية ونجاحها في إلحاق الهزيمة برأس المالي الدولي الاحتكاري الربوي بمجموعه وبجميع أطرافه؟ وعلى فرض أنّ مثل هذا الخطر الأممي لم يظهر، فمن يضمن أن لا ينحدر مركز الولايات المتحدة إلى درجة أدنى بين حلفائها التاريخيين ومنافسيها الجدد؟ وكيف سيكون وضعها الداخلي حينئذ، وهو الوضع الذي يستمد امتيازاته ونمط حياته الباذخ الفريد من هيمنتها على الحلفاء قبل غيرهم؟
تمركز رأس المال الاحتكاري أساس العلّة!
حتى الأمس القريب كان الاعتقاد السائد أنّ قدرة الاقتصاد الأميركي والقوات المسلّحة الأميركية غير محدودة، إلى درجة تمكّن الإدارات الأميركية من فعل ما تشاء أين ما تشاء، غير أنّ الالتزامات الدولية العسكرية والأمنية أصبحت فعلاً فوق طاقتها، مضافاً إليها التقهقر في ميدان التنافس مع أطراف رأس المال الدولي الأخرى، وقد ساعد انتصار الشعب الفيتنامي في جعل القادة الأميركيين يتنبّهون بأنّ لقوّتهم وجبروتهم حدوداً، لكنّهم وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة، ولم يستطيعوا حسم موقفهم، فواصلوا سياساتهم الدولية رغم ما طرأ عليها من عوامل الخلل والتناقض بعد هزيمتهم في فيتنام، ثمّ جاء المحافظون الجدد الذين اعتقدوا أنّ بإمكانهم إعادة صياغة العلاقات الدولية بالصورة التي تتفق تماماً مع السياسة الأميركية، فكان فشلهم الذريع في العراق وانهيار إستراتيجيتهم الدولية انهياراً مجلجلاً في جميع الميادين، الأمر الذي جعل التغيير في قواعد الاستراتيجية أمراً لا مناص منه، وفي الوقت نفسه أمراً ليس من السهل الإقدام عليه حتى من قبل إدارة جديدة معارضة مثل إدارة أوباما، فالأزمة في بعديها الأميركي والدولي لا يقتصر تفسيرها على دور السياسة الأميركية فيها، بل هناك تلك الزيادة الهائلة في معدّل تمركز رأس المال في المجتمعات الرأسمالية المتقدّمة عموماً، وخاصة قطاع رأس المال المالي، فقد ترتّب على هذا التمركز الاحتكاري ظهور أرضية ملائمة لنموّ الاتجاه التضخّمي، حيث برزت وطغت الظاهرة العجيبة، ظاهرة التضخّم في ثنايا الركود!
التضخّم فعل إرادي وليس مصادفة!
لقد خلق الاحتكار المالي العالمي الشروط المناسبة للمزيد من السيطرة على الأسواق وللمزيد من التحكّم بالأسعار، فالاحتكار وهو يرى تعاظم القوى الاجتماعية النقابية والسياسية المعارضة في بلدانه، ويرى توسّع رأس المال وتغطيته جميع القارات، يندفع مستخدماً سلاح التضخّم، فيرفع الأسعار في وجه مجتمعاته الخاصة وفي وجه المجتمعات الأخرى مستفيداً من سيطرته على رأس المال المصرفي وعلى صناعة النقود، ويعمل على زيادة أرباحه قسراً، غير آبه للكساد المقابل، حيث يظهر الاتجاه التضخّمي للأسعار كفعل إرادي وليس كمصادفة، فالتضخّم هو السبيل لإعادة توزيع الدخول لمصلحة رأس المال، أي لمصلحة الأغنياء على حساب الأجور والدخول المحدودة لمليارات البشر، وهو يزوّد رأس المال بالسلاح الذي يمكّنه من تحييد الصراع الاجتماعي المباشر ضدّه، وهكذا رأينا العجب في بروز ظاهرة التضخّم في ثنايا الركود، ورأينا الاحتكار وقد أصبح قادراً على فلّ أسلحة الحكومات الرأسمالية، مثل سلاح التغيير في أسعار الفائدة، وفي السياسة الضريبية، وفي السياسة الإنفاقية..الخ، فقد صار سهلاً على الاحتكار تفادي ضربات الحكومات من دون كبير عناء، ووجدت الدولة الرأسمالية نفسها في حالة أقرب إلى الضياع: بين وحشية الاحتكارات في صراعها الذي يجعل من الصعب على الحكومات الحفاظ على التوازن السياسي الذي يضمن استمرار سيطرة رأس المال، وبين عجز أدواتها الحكومية في الحيلولة دون تفاقم الأزمة!
أمام هذا الوضع البالغ التعقيد، ما الذي تستطيعه إدارة أوباما الجديدة ومثيلاتها لمعالجة الاستعصاء التاريخي النوعي القاتل، القابض على خناق النظام الرأسمالي العالمي بطريقة لا فكاك منها؟ قطعاً إنّ الحلّ سوف يتبلور ويتحقّق، إنّما في مكان آخر ملائم، وبقوى أخرى تنهض خارج نطاق الاحتكارات والاحتكاريين!
ns_shamali@yahoo.com
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire