بقلم : نصر شمالي
بغضّ النظر عن عدالة أو لا عدالة السياسة التي سوف تعتمدها الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة أوباما الأفريقي الأصل، الذي شكّل انتخابه حدثاً نوعياً تاريخياً حقاً، فإنّ الحدث الأهمّ ربّما هو سقوط عصابة المحافظين الجدد ، وانهيار استراتيجيتهم التي عرّضت العالم لأعظم الأخطار، وانفراط عقد شبكتهم الدولية، المتعدّدة الألسن، التي جعلت خطرهم يقتحم كلّ بيت ويصل إلى كلّ فرد في جميع البلدان وجميع القارات!
لقد نهضت استراتيجية المحافظين الجدد، أو الليبراليين الجدد، على فكرة إجرامية تقول بإمكانية إعادة تشكيل العالم بأرضه وبشره، بحيث يغدو مجموعة قليلة من المدن الإدارية الكبرى، مثل المدن المراكز في المحافظات، محاطة بأرياف شاسعة معدمة تشمل جميع القارات، أي تحويل العالم إلى ما يشبه دولة واحدة عاصمتها واشنطن! وقد رأوا أنّ ذلك يقتضي تجزئة أراضي ومجتمعات الدول الكبيرة، فقرّروا تعطيل العمل بالقوانين الدولية التي تنصّ على احترام وحدة أراضي ومجتمعات وحدود الدول، وإحياء القرارات المتعلقة بحقوق الإنسان وحقّ تقرير المصير، إنّما لتوظيفها في صالح مخططاتهم التي يعني تطبيقها تحويل العالم إلى آلاف الدول المجرّدة من إرادتها الوطنية المستقلة، والدائرة في فلك واشنطن!
لقد كان هدف أولئك الليبراليين، في المحصّلة، الإمساك بعنق كلّ إنسان فرد في هذا العالم وربطه بهم مباشرة، بعد إقناعه بليبراليتهم التي تلحّ على مصلحته الخاصة، واستقلاله الفردي، وعلى حقّه في النجاح والثراء الفردي، بغضّ النظر عن مصير محيطه، في أسواق عالمية "حرّة" منفلتة لا ضابط لها ولا قيود عليها! وإنّ هذا الهدف الاحتيالي الإجرامي الذي سعوا إليه على طريقة شركات توظيف الأموال البدائية المحتالة التي عرفتها بلادنا، والذي حقّقوا بعضه فعلاً كما ظهر في البعد الذي أخذته الأزمة الاقتصادية العالمية، هو تحديداً ما سوف نشير إليه هنا.
البسطاء الهواة في أسواق المراهنات!
منذ تسعينات القرن الماضي، ومع انطلاقة الليبراليين نحو تشكيل نظامهم الدولي الجديد الذي أعلن عنه الرئيس جورج بوش الأب، شهدت أسواق الأسهم والسندات إقبالاً شعبياً دولياً لم يشهده المستثمرون المحترفون في هذه السوق من قبل، حيث اندفع البسطاء في جميع أنحاء العالم، أصحاب المدّخرات والودائع الأسرية المتواضعة، يقتحمون هذه السوق باعتبارها مصدراً للأرباح السهلة، ويستميتون من أجل المشاركة في هذا النشاط، فضخّوا بجموعهم الغفيرة أموالاً طائلة قياسية في صناديق توظيف الأموال، ومنذ ذلك التاريخ حدث ارتفاع هائل في عمليات الإقراض الفردي لبلدان مثل الأرجنتين وتركيا والفلبين، وهي العمليات التي كانت حكراً للمحترفين وللمؤسسات والمصارف العملاقة، وفي مقدّمتها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي! لقد توقّف الكثيرون عن القيام بأعمال مهنهم البسيطة وانصرفوا إلى المراهنات في أسواق الأسهم والسندات الدولية، وبدا كأنّما "شفّاطات" عملاقة تمتصّ من جيوب البسطاء في جميع القارات مدّخراتهم وودائعهم التقاعدية التي بلغت عشرات ومئات المليارات، أمّا المستفيد الرئيسي فكان المصارف العملاقة التي ضمنت حصولها على الفوائد واسترداد ديونها المترتّبة على الدول المدينة، من أموال المراهنين الهواة!
صندوق النقد الدولي يستدرج البسطاء!
كمثال على عمليات الاحتيال العالمية نكتفي هنا بذكر المستثمرين الإيطاليين الذين كانوا صيداً سهلاً للبنوك التي تبيع السندات والأسهم الأرجنتينية، ثمّ كان إعلان العجز الأرجنتيني ليس عن دفع الفوائد فحسب بل عن سداد الدين، فوجد المستثمرون الإيطاليون أنفسهم وقد خسروا قيمة سنداتهم، حيث عرض المدين عليهم ثمانية سنتات بدلاً من الدولار الذي دفعوه! أمّا البنك الدولي وأمثاله فكانوا مطمئنّين على ديونهم للأرجنتين وعلى فوائدها اطمئناناً تاماً بفضل إيداعات واستثمارات الأعداد الغفيرة من المستثمرين الإيطاليين وغيرهم في أسواق الأسهم والسندات! لقد فقد مئات الآلاف من كبار السنّ الإيطاليين المتقاعدين مدّخرات العمر، حيث صبّ 450 ألف إيطالي مدّخراتهم في السندات الأرجنتينية أواخر عقد التسعينات، أمّا الذي شجّعهم على ذلك فهو صندوق النقد الدولي، الذي وصف الأرجنتين حينئذ بأنّها "مثال الإصلاح في السوق الحرة"! ثمّ أعلنت الأرجنتين عجزها عن الدفع لسندات بلغت قيمتها 88 مليار دولار! أمّا المستثمرون الإيطاليون المتقاعدون البسطاء فقد دخلوا نفقاً بدا بلا نهاية، وتفرّغوا للجهاد من أجل استرداد أموالهم إنّما دون أيّ بصيص أمل، وأمّا صندوق النقد الدولي فقد لاذ بالصمت المريب!
انهيار العصابة قبل فوات الأوان!
إنّ المستثمرين من الأفراد البسطاء في سوق السندات والأسهم الدولية هم غالباً من الأوروبيين والأميركيين، وهؤلاء أكثر من أية جنسيات أخرى تعرضّوا لمخاطر ونتائج الأزمة المالية العالمية، تمثّلهم الصناديق المشتركة أو صناديق التقاعد، وجدير بالذكر أنّ بعض الدول المدينة تتجه إلى المستثمرين الأفراد ممثلّين بصناديقهم الادخارية بعد أن تستنفد فرصها في أسواق المؤسسات المالية الدولية العملاقة، بل هي تستدرج مدّخرات مئات آلاف البسطاء في بعض البلدان والملايين في أنحاء العالم لتعالج مشاكلها مع العمالقة، وقد شمل هذا التوجّه شعوب ألمانيا ووسط أوروبا واليابان أيضاً، وثبت أنه غالباً ما تكون سيناريوهات إعلان العجز عن السداد لجماهير البسطاء جاهزة مسبقاً ومحسوبة بدقة، حيث يمكن أن يجري الإعلان عن عجز جزئي يحقق الاستيلاء على جزء من المدّخرات وليس كلّها، وإلاّ توقف تعامل البسطاء مع هذه الأسواق نهائياً، وهكذا فقد أعلنت أوكرانيا والباكستان، على سبيل المثال لا الحصر، عجزاً محدوداً وليس تاماً عن السداد، فدفعت للمستثمرين الصغار البسطاء 60 سنتاً مقابل دولارهم، أمّا الأرجنتين فذهبت بعيداً جدّاً حين دفعت ثمانية سنتات فقط للدولار، ومع ذلك لعلّها أفضل وأرحم من أولئك الذين لا يعيدون شيئاً على الإطلاق، ويعلنون القروض بمجملها ديوناً هالكة كما حدث في الولايات المتحدة مؤخّراً!
نعود إلى ما بدأنا به فنقول أنّ ما عمل له الليبراليون الجدد، بصدد تعميم سياسة اقتصاد السوق المنفلتة، المتخطّية للحدود والقيود الوطنية والحكومية، كان يهدف في جملة ما يهدف إلى شفط مدّخرات أيّ فرد في أيّ مكان وإلحاقها بالكتلة المركزية لرأس المال الدولي الاحتكاري الربوي، وإنّه لمن حسن الحظّ أنّ العصابة الليبرالية انهارت مع مخططاتها قبل فوات الأوان!
ns_shamali@yahoo.com
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire