jeudi 6 novembre 2008

ألأزمة :مقاربة للفهم3


إن الجهاز المالي بعامته عبر الاسواق المالية و المؤسسات المصرفية و التأمينية و ادواتها........الخ يشبه في دوره الاقتصادي دور الجهاز الوعائي الدموي في جسم الانسان ، اي كما لو كان مجموعة الاوردة و الشرايين التي تنقل الدم بين اجزاء جسم الانسان حيث ان الدم في النظام هنا هو النقود ، و عندما نكون امام ازمة افلاسات ائتمانية فنحن تماماً امام حالة قطع في احد الأوردة الرئيسة يؤدي إلى تدفق الدم بغزارة خارج الجسم اي خارج الدورة الدموية كلياً ، اي نحن امام تدفق هائل للسيولة إلى خارج الدورة الاقتصادية يحرم مختلف القطاعات منه.

يخطئ من يعتقد ان الاقتصاد الحقيقي لم يخسر شيء ، فالبعض لا زال يعتقد ان الخسائر المالية في اسواق المال مثلاً لا تعني اكثر من كونها تغيير في اسعار رؤوس الاموال الحقيقية ؛ تغيير في القيمة الاسمية للاقتصاد بل ربما ذهب البعض إلى ان هبوط القيمة الاسمية هذه ليس اكثر من نتيجة لتضخم هذه القيمة ، إلا ان عطب النظام المالي و حدوث خسائر ضخمة معناه افتقار المؤسسات المنتجة بمختلف اشكالها للتمويل و تراجع الطلب و ارتفاع البطالة و تعثر التسهيلات المالية و بالتالي فإن انعكاس هذه الازمة المالية على القطاعات المنتجة المختلفة حاد للغاية و لا يمكن تخيل قطاعات الاقتصاد المختلفة تعمل بشكل طبيعي دون ان نتخيل الجهاز المالي يؤمن التدفق النقدي بشكل سليم ، اننا تماماً امام حالة قطع وريدي اذا ترك لوحده سيؤدي إلى عجز التروية الدموية لاعضاء الجسم التي هي هنا القطاعات الاقتصادية المختلفة و من ثم إلى عطبها.

إلا ان هذا الجهاز المالي لم يكن يعمل اصلا بشكل سليم لانه راح يؤمن تدفقات مبالغ فيها تفوق حاجات الاقتصاد الحقيقي لعبت دوراً محورياً في النهاية في خلق الخلل الذي حصل او الانفجار الشرياني الذي رأيناه ، هذه التدفقات خلقت طلباً وهمياً بالتالي حالات من التضخم السعري التي رحنا نراها حتى على السلع الاساسية بشكل مبالغ فيه ، ادى مثلاً إلى الارتفاعات في في سعر النفط رغم ان العرض نما و كان كافياً لتغطية احتياجات السوق إلا ان ارتفاع سعر النفط لم يكن ليتوقف عبر العام المنصرم فوجدنا سعر البرميل يقفز بدون اي داعي اكثر من مئة دولار مسجلاً نسب ارتفاع لم يكن يحققها في سنوات طويلة فيما مضى ، انسحب هذا على مختلف الاسواق بدون استثناء ، لا نستطيع ان نتجاهل اصابع الاتهام الموجهة إلى الاسواق الثانوية و ادواتها و التضخم الذي لعبت دوراً محورياً في خلقه ، هذا السوق الثانوي عبر ادوات البيع قصير الاجل و التي ليست إلا مراهنات على الاتجاهات السعرية لتحقيق الارباح ما هي إلا مقامرات بحتة اصبح لا بد من وقفها تماماً لانها تعبث بشكل تخريبي في آلية السوق او تنظيمها و الحد من اثرها على اقل تقدير، و العجيب ان بعض الجمهوريين الذين يدافعون عن حرية السوق و يطالبون بعدم التدخل لا ينتبهون لكون هذه الآليات المالية هي التي عبثت بآليات السوق الحر و اصبحت تسير بالعرض و الطلب السعري خارج السوق الحقيقي ، فعندما ينمو الانتاج العالمي من النفط اكثر من نمو الاستهلاك العالمي و يستمر السعر في الارتفاع لا يملك احد ان يزعم ان آلية السوق تعمل بشكل سليم.

لا شك و باعتراف الولايات المتحدة مؤخراً مارست ماليتها العامة سياسات كان لها دور سلبي محوري و اساسي في العطب الذي حصل ، ليس اقلها تغيير هيكلة الاقتصاد الامريكي عبر زيادة الانفاق العسكري او الوزن النسبي لهذا الانفاق على حساب الوزن النسبي للانفاق في القطاعات المدنية للدولة ، البعض يعتقد ان الانفاق العسكري هو خسارة للاقتصاد إلا انه من ناحية اقتصادية هذا اعتقاد خاطئ لأن معظم الانفاق العسكري الامريكي يذهب لحسابات امريكية سواء افراد او مؤسسات لكنه و هنا القضية نما على حساب غيره من اوجه الانفاق العام مما احدث خلل في تركيب النفقات العامة للدولة الامريكية و بالتالي هيكل الاقتصاد الامريكي كان من شأنه زعزعة هذا الاقتصاد و حرمان قطاعات معينة من نموها الطبيعي لحساب قطاعات أخرى عسكرية بشكل اساسي بالتالي و في ظل نظام مالي حساس و عرضة للمراهنات و الانطبعات تراجع قطاع ما سيقود إلى الانهيار كما رأينا.

اذن متوقع لو فاز الديموقراطيين وقد فازوا فعلاً ان تتجه المالية العامة في السنة القادمة للحد من الوزن النسبي للانفاق العام العسكري كان هذا واضحاً في احاديث اوباما حول المالية العامة و السياسات الخارجية، فمن المتوقع اذن اعادة توزيع الانفاق العام بطريقة تخفض هذا الوزن النسبي للانفاق العسكري و تزيد الوزن النسبي للانفاق المدني خصوصاً في قطاعات خدمية كالصحة و التعليم ، كذلك لا شك ان النظام المالي الامريكي و العالمي ايضاً سيتم توجيهه ليصبح اكثر تحفظاً غالباً مع الغاء السوق الثانوي او اعادة تنظيمه بطريقة لا تمكنه من ان يحول السوق المالي العالمي إلى صالة قمار يسيطر عليها المقامرين المضاربين ، كذلك ستكون هناك اجراءات متحفظة جداً في مستوى اعادة تنظيم القطاع المصرفي بشكل خاص الرهن العقاري و بطاقات الإئتمان ، سيجعل هذا النظام اكثر تحوطاً و ربما في البداية بشكل مبالغ فيه مع نمو الملكية العامة لاجزاء مهمة من الجهاز المصرفي آنياً ليصبح اكثر استقراراً و أمناً و إن بحجوم اقل و عقبات في وجه تمويل الاستثمار و الاستهلاك على حد سواء ، لا نستطيع على نحو دقيق ان نتنبأ بشكل دقيق بمدى التشدد الذي سيصل له النظام المصرفي و شكله الجديد لكن المؤكد انه سيتجه نحو انظمة اكثر تحوطاً و ادوات مالية اكثر استقراراً و ضماناً و دور اكبر بكثير للدولة.

لماذا الازمة خطرة؟

مرة اخرى لان تلك الخسائر و انهيار الثقة بالنظام المصرفي الامريكي يقودنا إلى نزيف هائل يخرج السيولة من الدورة المالية و يحرم الجهاز المالي منها و بالتالي يقود لافلاسات تبدأ بالنظام المصرفي و لا تنتهي ما دامت كل المؤسسات الاقتصادية مرتبطة بالضرورة بالاسواق المالية و الازمة و توابعها ستحرم قطاعات واسعة و بشكل اساسي قطاعات الانتاج و على رأسها التكنولوجية من جزء مهم من التمويل، إن ما يركز عليه الآن ارساء الاستقرار في الاسواق المالية و ايقاف الهلع لدى المودعين لوقف النزيف الذي تكلمنا عنه ، لكن ماذا بعد ذلك ؟

رغم ان ازمات اخرى تتعلق بالنظام المصرفي متوقعة و خطرها قائم نتيجة سياسات مالية مثل اشكالية بطاقات الإئتمان و انفجارات سوقها لا زالت ازمة الرهن العقاري تضرب بكل ثقلها و كان من المفروض ان يكون التدخل مبكراً و ذلك عن طريق خلق حساب خاص لشراء رهونات العقار المتعثرة من قبل الدولة ثم اعادة بيعها تدريجياً مع معالجة الاسواق المالية الثانوية من ناحية و الانظمة البنكية من ناحية اخرى إن هذا هو الحل الذي لم يملك لا اوباما و لا ماكين الهروب منه عندما اعلن كليهما انهما سيفعلان ذلك في رئاستهما القادمة، و لو كانت الادارة قد لجأت مبكراً لهذا الحل لكانت الازمة اقل وطأة بما لا يقاس ، إلا ان الادارة تأخرت على اي حال و اثبتت أنها ليست فقط اسوء ادارة امريكية في السياسات الخارجية للولايات المتحدة بل و الاسوأ على المستوى الاقتصادي ايضاً ، لا اعتقد ان الامريكيين و العالم قادرين على نسيان جورج دبليو بوش باعتباره اسوء رئيس للولايات المتحدة في التاريخ ، عندما نجلس في قاعات الدرس مستقبلاً للحديث عن التاريخ الاقتصادي سنشير لهذه الازمة و نقول و من آثارها انها ادت لتراجع الوزن النسبي لحجم الاقتصاد الامريكي في العالم من ناحية و إلى تعدد مراكز النظام الاقتصادي العالمي بعد ان كان وحيد القطبية ، إن هذا سيكون بالضرورة المدخل الطبيعي للقول انتهى عصر العالم احادي القطبية و عدنا لتعدد الاقطاب اقتصادياً اولاً و من ثم سياسياً لم يعد بمقدور الولايات المتحدة و إن بقيت لاعباً مهماً ان تقود العالم لوحدها.

انكماش الاقتصاد الامريكي آنياً و تباطأ نموه في المرحلة القادمة يضاف له ان هناك مناطق اخرى من العالم ستحقق نمواً في المرحلة القادمة و إن بمعدلات اقل و كذلك تعدد مراكز المال العالمي في المرحلة القادمة فلن نعود إلى مقولة على كل دولار ان يمر عبر ول ستريت كل هذا سيهبط بالحجم الاقتصادي للولايات المتحدة بشكل اساسي لحساب دول اسيا و في المقدمة الصين و كذلك روسيا و دول اخرى مؤهلة و قادرة على النمو ، لم يعد ايضاً مقبولاً اوربياً و آسيوياً التبعية للسياسات المالية الامريكية لا بد ان دول العالم لن تقبل بعد إلا ان تكون شريكاً في سياسة العالم المالية و حريصة عليها ، و قد رأينا كيف تحركت اوربا لتفرض على الولايات المتحدة ان تتبعها هي و ليس العكس عندما اقدمت على ضمان ودائعها لطمأنة المودعين و منعهم من سحب اموالهم العمل الذي يؤدي حتماً إلى افلاس البنوك.

الاسواق المالية بالضرورة ستستقر في المدى المنظور بعد ان ضربت كل الاسواق المالية في العالم و هذا نتيجة طبيعية لعاملين اولهما سحب الكثير من الاستثمارات الاجنبية في الاسواق المالية المحلية و ثانيهما التوقعات و الميول و الآراء التي تتحكم بالمضاربين و المستثمرين حول الاتجاهات السعرية ، و لا تملك الدول الكثير لتفعله و قد رأينا ان بعض الدول الخليجية ارتكبت خطأ عندما ضخت الكثير لرفع مؤشرات السوق لأن تعديل المؤشر بسرعة معناه ان الاسعار تهوي و ترتفع بسرعة (ما يسمى بتقلبات السوق) و بالتالي ستظل موجات البيع لتحقيق ارباح سريعة تتلاعب بالمؤشر و يظل المضارب ينتظر السوق ليهوي فيشتري عندما تبدأ موجة الشراء لرفع المؤشر ثم لا يلبث متى ارتفع المؤشر ان يبيع ليجني ارباح وصلت في بعض الايام الماضية إلى اكثر من 10% فيعود المؤشر مرة أخرى ليهوي بفعل موجة البيع هذه ، إذن ربما كانت الكويت الاكثر حكمة بالنسبة لسوقها المالي عندما ادركت ان تحسين المؤشر لا يجب ان يكون فجائي منعاً لحدوث مثل هذه الموجات و التلاعب بالمؤشر بهذا الشكل ، فعودة صعود مؤشر السوق لا ينبغي حدوثها بسرعة او فجأة انما على فترة معقولة تحول دون اعطاء الفرصة للمضاربين لجني ارباح سهلة و سريعة على حساب الخزينة و الحسابات شبه العامة و الاقتصاد ككل.

لا احد يستطيع التكهن بحجم الخسائر الهائلة التي منيت بها الاستثمارات المالية في المحافظ و بشكل خاص المضاربة منها في الاسواق الثانوية على الادوات المشتقة و لكن المؤكد ان ترليونات الدولارات ضاعت!

إن المضاربة هناك اصبحت مهنة و عملاً عالمياً حتى لافراد يدر ارباح ضخمة حول العالم لكنه كذلك عندما يضرب يأتي على الأخضر و اليابس ، لنا ان نتخيل حجم الضرر الذي لحق بمدخرات العاملين المستثمرة هناك لتكون عوناً لهم بعد التقاعد ، خسر عمال الاونروا مثلا جزء مهم من مدخراتهم المستثمرة هناك 25% على الاقل ، و اما المضاربين المقترضين فلا شك واجهوا الافلاس!

دول نامية كثيرة ستواجه مأزقاً اقتصادياً حقيقياً ، إن الدول التي تعتمد على المساعدات و التدفقات النقدية للحد من عجز ميزان مدفوعاتها ستواجه بالضرورة ازمة ، عربياً مصر على رأس القائمة لان المدفوعات التحويلية لعامليها و سياحتها و الاستثمار الاجنبي تشكل الرافد الاساسي لميزان المدفوعات المصري اضافة للاحتمال الطبيعي لتراجع صادراتها المادية مما سيؤثر سلباً على الميزان التجاري لها ، إلا ان وجه آخر من اوجه نتائج هذا التحول العالمي قد يكون ايجابياً ذلك ان عدم استقرار النظام المالي العالمي و الخسائر الهائلة للخليج في اسواقها المالية المحلية و العالمية من المحتمل جداً ان يدفع السيولة الخليجية نحو استثمارات اكثر في الرأسمال الحقيقي في العالم العربي من خلال استثمارات اكثر استقراراً و حفظاً للقيمة و إن بعائد اقل خصوصاً اننا في المرحلة القادمة لا نتوقع ارباحاً عالية في البورصات المحلية و العالمية ، لذا فإن على المخططين لاقتصاديات عربية مثل مصر و الاردن و سوريا و السودان و اليمن و تونس ان يركزوا على الآليات العملية و التحولات المطلوبة لجذب هذه الاموال للاستثمار لديها ، ان هذا المدخل هو الاهم للحد من تدهور ميزان المدفوعات لها و ربما لنموه باتجاهات ايجابية ، فبالحديث عن دولة كالأردن مثلاً استثمارات عربية بحجم 5 مليار دولار تفوق عجز ميزانها التجاري علماً بأن تراجع سعر النفط سينعكس ايجاباً على الميزان التجاري لدول مثل لبنان و الاردن و تونس يكفي ان نشير إلى ان ارتفاع اسعر النفط كان أهم أسباب نمو عجز الميزان التجاري الاردني مثلا بنسبة وصلت إلى 50% !
بالتأكيد تراجع العائدات النفطية لدول الخليج العربي سيؤثر سلباً على مدى توفر السيولة خليجياً إلا انه من غير المتوقع ان يؤدي هذا التراجع إلى التأثير الداخلي الحاد في الاقتصاد الخليجي فقد صاغت دول الخليج ميزانياتها على اساس سعر لبرميل النفط لازال بعيداً، كما أن أغلب هذه الفوائض الناتجة عن ارتفاع الاسعار لم تدخل في القطاعات الاقتصادية الخليجية المحلية بل تم استثمارها عالمياً و غالباً في اصول مالية دولية و هي ان كانت في مراحل سابقة حققت ارباحاً ضخمة فقد تعرضت مؤخراً لخسائر ضخمة كذلك ، من المفروض ان يتوجه الخليج لاستثمارات اكثر حفظاً للقيمة و ثباتاً لموارده المالية ، لذا من المنطقي ان يترجم ذلك من خلال زيادة الاستثمار محلياً و عربياً في اصول اقتصادية عاملة و على الاغلب سيحصل القطاع العقاري على نصيب الاسد نظراً لما يتمتع به القطاع من قدرة عالية على حفظ و استقرار القيمة.

اما بالنسبة للاسواق و المؤسسات المالية العربية فليس من المرجح ان تواجه تغيرات جوهرية في انظمتها ذلك انها متحوطة اصلاً بنسبة اكثر بكثير مما هو الحال عليه في الولايات المتحدة لكن يتوقع ان تحد من محافظها المالية المستثمرة في البورصات العالمية ، و ستعود الاسواق المالية تدريجيا لتعكس مستوى اداء مؤسساتها المسجلة لكن التغيرات السعرية فيها ستكون بسيطة جداً فعهد التغيرات السعرية الكبيرة الآن توقف مع توقع خروج الكثير من المضاربين في ضوء تدني ارباح المضاربة كنتيجة و اتجاههم لاشكال اخرى من النشاطات الربحية.

ينهي جورج دبليو بوش عهد ادارته بواحدة من اسوأ الأزمات المالية و الاقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة و العالم ، و سيترك البيت الابيض مخلفاً وراءه تركة ثقيلة على باراك اوباما ان يمضي سنوات في معالجة نتائج سياساته في مختلف القطاعات من السياسة الخارجية و حتى المؤسسات المالية و الاقتصادية لكن المؤكد ان الولايات المتحدة خسرت الكثير من وزنها العالمي بسرعة قياسية في ظل ثمانية سنوات من حكم هذه الادارة.



انتهى

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire