إسحاق جوشوا
الحوار المتمدن - العدد: 2461 - 2008 / 11 / 10
تعيد ازمة البورصات والبنوك التي تهز العالم إلى الأذهان أزمة 1929 الكبرى. لكن المقارنة غير ممكنة إلا جزئيا.
إن سنة 1929 ترعب الذاكرات. يجري بوجه خاص تذكر الأزمة الأمريكية، التي فاقت غيرها من الأزمات، حدة ومدة. سقط النتاج الداخلي الإجمالي الأمريكي، بين 1929 و1933، بزهاء 30 % ، وانهارت أسعار الأسهم. وقفز معدل البطالة من 03% سنة 1929 إلى 25% بعد أربع سنوات من ذلك! إنها أزمة نموذجية لأنها، بوجه الدقة، استثنائية، لأن سمات الأزمات الكبرى تركزت بها. هل نحن عشية أزمة مماثلة؟ انه سؤال يطرح على نحو منهجي، ليتم استبعادها فورا. ومع ذلك يبدو القرب بين 1929 واليوم لافتا. ففي كل مرة كانت فقاعة ( بورصية آنذاك وعقارية اليوم) نقطة انطلاق الأحداث. وفي كل مرة تقود الأزمة البنكية الدوامة. وبوجه خاص يكون كل مرة( وهذا أمر مذهل) فرط استدانة الأسر هو من يغذي الانحسار الاقتصادي. وفي 1931 أدى سقوط الليرة الانجليزية إلى مفاقمة شديدة لوضع كان يبدو سائرا إلى تحسن. واليوم تؤدي التقلبات العنيفة للزوج الدولار- اليورو إلى زعزعة البناء برته.
تشابك مرعب
صحيح أن كلا الأزمتين تبقى، فيما يخص نقطا أخرى، بعيدة عن الأخرى. إذ لم نعد إزاء إكراهات نظام نقدي عالمي قائم على الذهب، كما كان الأمر في 1929. ومن جهة أخرى يبلغ وزن التعويضات في مداخيل الأسر أو وزن الميزانية العامة في النتاج الداخلي الإجمالي، مستويات غير مسبوقة. وقد تقوم بدور متبث للنشاط، وهو ما لم يكن متاحا في 1929. وأخيرا، كانت الأزمة الكبرى اهليلجا بمركزين ، أمريكي وأوربي، بينما لأزمة اليوم مركز ثقل وحيد، الولايات المتحدة الأمريكية.
يمكن على هذا النحو الاطمئنان، لكن التخوف وارد أيضا. ليست العولمة الراهنة مالية وحسب، إنها أيضا عولمة للرأسمال المنتج. وقد وسعت حدود العالم الرأسمالي، وفي هذه المساحة الموسعة قد تتضخم العواصف كما تفعل الأعاصير ذات الشعاع الواسع. أما الترابط المميز للكوكب فيؤثر في كلا الاتجاهين، إذ يرافق التوسع لكنه يضخم الانحسار. وهو على هذا النحو يفتح طريق الاضطرابات متيحا لها الانتشار كالنار في الهشيم.
أليست اللوحة ذاتها ما نحصل عليه إذا ولينا جهة الأزمة المالية حصرا؟ إن مفعول "الدومينو" الشهير الفاعل أمام أنظارنا كان واضحا على الوجه الأكمل خلال الأزمة الكبرى. كان كذلك على الصعيد البنكي، حيث أفضى سقوط بنك Creditanstalt النمساوي ، يوم 8 مايو 1931، إلى سقوط بنك Danat الألماني يوم 31 يوليو 1931، وأخيرا إلى موجة هائلة من إفلاس البنوك بالولايات المتحدة الأمريكية. كما تجلى مفعول الدومينو هذا في مجال النقد، حيث افضى سقوط عملة schilling النمساوية في مايو 1931 إلى سقوط Reischsmark الالماني يوم 14 يوليو 1931 ، وأخيرا سقوط الليرة الانجليزية يوم 21 سبتمبر 1931. كما لوحظت خلال الأزمة الكبرى تلك اللعبة الصغيرة التي تتماسك من خلالها ازمة البورصات و أزمة البنوك. و قد بدأ يُلاحظ اليوم العنف المذهل لأثر الازمات المالية على الاقتصاد الحقيقي، لكن سبق أن لوحظ ذلك - وبأي كيفية !- بدءا من أكتوبر 1929، سواء في الأزمة البورصية الأمريكية أو الأزمة البنكية الألمانية أو أزمة النقد الانجليزية.
وكما لو انه لا يكفي نسخ الأزمة الكبرى، فقد جاءت تجديدات اليوم لإثقال المركب: تلك حال تحويل الديون إلى "سندات" أو "أصول"، الذي يجري الحديث عنه كثيرا، وكذا تجميع الادخار ( صناديق الاستثمار، والمعاشات، الخ). ومع هيئات التوظيف الجماعي هذه تكاثرت الأهرام المقلوبة، الموضوعة فوق بعضها البعض والمستندة إلى بعضها البعض، في توازن غير مستقر وهش. و يتعين اليوم ان نواجه بشكل ابداعا خاصا جدا، إنه تمييل financiarisation الاستهلاك، الذي جعل هذا الاستهلاك متوقفا ليس فقط على تطور الاقتصاد الحقيقي ( مبلغ الدخل، خطر البطالة ، الخ) بل أيضا على الأزمة المالية ذاتها (سقوط قيمة المنزل الذي يملك المستهلك، سقوط البورصة، الخ)، مما يشكل تشابكا مرعبا على نحو خاص.
"ضبط" بشتى الطرق
إذن هل يعود الشبح عما قريب؟ ثمة حجج في هذا الاتجاه وفي الاتجاه الآخر، لكن هل وجهنا إلى الأزمة الكبرى السؤال الوجيه؟ ان كان السؤال :"هل بإمكانك ان تعيد الكرة؟" فالجواب بالنفي، لأن كل حدث تاريخي فريد. وإن كان السؤال:" هل سنصادف إحدى أخواتك التوائم؟ "، فالجواب: لا يمكن استبعاد فرضية أزمة كبرى جديدة. ان ما بينته الأزمة الكبرى، قبل كل شيء،هو ما بوسع النظام الرأسمالي فعله إذا ترك لحاله. وقد أُعطيت لنا الحجة من جديد، إن كانت ثمة حاجة إليها.
أليست اللحظة لحظة تذكير بصيغة "إن عالما مغايرا ممكن"؟ عالما نريده بلا استغلال، وبلا اضطهاد، وبمطلق الأحوال عالما بدون تكرار مأساة 1929. ما أكثر ما جرى من تحولات بوجه عنف الأحداث في ظرف أسبوعين! إن من كانوا يركعون إمام فضائل الأسواق يحرقون اليوم بهدوء ما كانوا يتولعون به. لقد تحول من كانوا لا يقسمون سوى بالكلام الليبرالي إلى "الضبط" الممكن بشتى الطرق. و يشعر الجميع بأن تجاوز أزمة من هذا الحجم، وتفادي تكرارها، يتطلبان الكلام عن تغيير النظام. نعم، "يجب تغيير قاعدة العالم"
أسبوعية Rouge عدد 2269 9 اكتوبر208
تعريب : جريدة المناضل-ة
إن سنة 1929 ترعب الذاكرات. يجري بوجه خاص تذكر الأزمة الأمريكية، التي فاقت غيرها من الأزمات، حدة ومدة. سقط النتاج الداخلي الإجمالي الأمريكي، بين 1929 و1933، بزهاء 30 % ، وانهارت أسعار الأسهم. وقفز معدل البطالة من 03% سنة 1929 إلى 25% بعد أربع سنوات من ذلك! إنها أزمة نموذجية لأنها، بوجه الدقة، استثنائية، لأن سمات الأزمات الكبرى تركزت بها. هل نحن عشية أزمة مماثلة؟ انه سؤال يطرح على نحو منهجي، ليتم استبعادها فورا. ومع ذلك يبدو القرب بين 1929 واليوم لافتا. ففي كل مرة كانت فقاعة ( بورصية آنذاك وعقارية اليوم) نقطة انطلاق الأحداث. وفي كل مرة تقود الأزمة البنكية الدوامة. وبوجه خاص يكون كل مرة( وهذا أمر مذهل) فرط استدانة الأسر هو من يغذي الانحسار الاقتصادي. وفي 1931 أدى سقوط الليرة الانجليزية إلى مفاقمة شديدة لوضع كان يبدو سائرا إلى تحسن. واليوم تؤدي التقلبات العنيفة للزوج الدولار- اليورو إلى زعزعة البناء برته.
تشابك مرعب
صحيح أن كلا الأزمتين تبقى، فيما يخص نقطا أخرى، بعيدة عن الأخرى. إذ لم نعد إزاء إكراهات نظام نقدي عالمي قائم على الذهب، كما كان الأمر في 1929. ومن جهة أخرى يبلغ وزن التعويضات في مداخيل الأسر أو وزن الميزانية العامة في النتاج الداخلي الإجمالي، مستويات غير مسبوقة. وقد تقوم بدور متبث للنشاط، وهو ما لم يكن متاحا في 1929. وأخيرا، كانت الأزمة الكبرى اهليلجا بمركزين ، أمريكي وأوربي، بينما لأزمة اليوم مركز ثقل وحيد، الولايات المتحدة الأمريكية.
يمكن على هذا النحو الاطمئنان، لكن التخوف وارد أيضا. ليست العولمة الراهنة مالية وحسب، إنها أيضا عولمة للرأسمال المنتج. وقد وسعت حدود العالم الرأسمالي، وفي هذه المساحة الموسعة قد تتضخم العواصف كما تفعل الأعاصير ذات الشعاع الواسع. أما الترابط المميز للكوكب فيؤثر في كلا الاتجاهين، إذ يرافق التوسع لكنه يضخم الانحسار. وهو على هذا النحو يفتح طريق الاضطرابات متيحا لها الانتشار كالنار في الهشيم.
أليست اللوحة ذاتها ما نحصل عليه إذا ولينا جهة الأزمة المالية حصرا؟ إن مفعول "الدومينو" الشهير الفاعل أمام أنظارنا كان واضحا على الوجه الأكمل خلال الأزمة الكبرى. كان كذلك على الصعيد البنكي، حيث أفضى سقوط بنك Creditanstalt النمساوي ، يوم 8 مايو 1931، إلى سقوط بنك Danat الألماني يوم 31 يوليو 1931، وأخيرا إلى موجة هائلة من إفلاس البنوك بالولايات المتحدة الأمريكية. كما تجلى مفعول الدومينو هذا في مجال النقد، حيث افضى سقوط عملة schilling النمساوية في مايو 1931 إلى سقوط Reischsmark الالماني يوم 14 يوليو 1931 ، وأخيرا سقوط الليرة الانجليزية يوم 21 سبتمبر 1931. كما لوحظت خلال الأزمة الكبرى تلك اللعبة الصغيرة التي تتماسك من خلالها ازمة البورصات و أزمة البنوك. و قد بدأ يُلاحظ اليوم العنف المذهل لأثر الازمات المالية على الاقتصاد الحقيقي، لكن سبق أن لوحظ ذلك - وبأي كيفية !- بدءا من أكتوبر 1929، سواء في الأزمة البورصية الأمريكية أو الأزمة البنكية الألمانية أو أزمة النقد الانجليزية.
وكما لو انه لا يكفي نسخ الأزمة الكبرى، فقد جاءت تجديدات اليوم لإثقال المركب: تلك حال تحويل الديون إلى "سندات" أو "أصول"، الذي يجري الحديث عنه كثيرا، وكذا تجميع الادخار ( صناديق الاستثمار، والمعاشات، الخ). ومع هيئات التوظيف الجماعي هذه تكاثرت الأهرام المقلوبة، الموضوعة فوق بعضها البعض والمستندة إلى بعضها البعض، في توازن غير مستقر وهش. و يتعين اليوم ان نواجه بشكل ابداعا خاصا جدا، إنه تمييل financiarisation الاستهلاك، الذي جعل هذا الاستهلاك متوقفا ليس فقط على تطور الاقتصاد الحقيقي ( مبلغ الدخل، خطر البطالة ، الخ) بل أيضا على الأزمة المالية ذاتها (سقوط قيمة المنزل الذي يملك المستهلك، سقوط البورصة، الخ)، مما يشكل تشابكا مرعبا على نحو خاص.
"ضبط" بشتى الطرق
إذن هل يعود الشبح عما قريب؟ ثمة حجج في هذا الاتجاه وفي الاتجاه الآخر، لكن هل وجهنا إلى الأزمة الكبرى السؤال الوجيه؟ ان كان السؤال :"هل بإمكانك ان تعيد الكرة؟" فالجواب بالنفي، لأن كل حدث تاريخي فريد. وإن كان السؤال:" هل سنصادف إحدى أخواتك التوائم؟ "، فالجواب: لا يمكن استبعاد فرضية أزمة كبرى جديدة. ان ما بينته الأزمة الكبرى، قبل كل شيء،هو ما بوسع النظام الرأسمالي فعله إذا ترك لحاله. وقد أُعطيت لنا الحجة من جديد، إن كانت ثمة حاجة إليها.
أليست اللحظة لحظة تذكير بصيغة "إن عالما مغايرا ممكن"؟ عالما نريده بلا استغلال، وبلا اضطهاد، وبمطلق الأحوال عالما بدون تكرار مأساة 1929. ما أكثر ما جرى من تحولات بوجه عنف الأحداث في ظرف أسبوعين! إن من كانوا يركعون إمام فضائل الأسواق يحرقون اليوم بهدوء ما كانوا يتولعون به. لقد تحول من كانوا لا يقسمون سوى بالكلام الليبرالي إلى "الضبط" الممكن بشتى الطرق. و يشعر الجميع بأن تجاوز أزمة من هذا الحجم، وتفادي تكرارها، يتطلبان الكلام عن تغيير النظام. نعم، "يجب تغيير قاعدة العالم"
أسبوعية Rouge عدد 2269 9 اكتوبر208
تعريب : جريدة المناضل-ة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire