بقلم : توفيق المديني
الأزمة المالية التي تهز الأسواق العالمية منذ أكثر من سنة تدور حول أزمة الهوية لرأسمالية غربية فقدت بوصلتها. فالعاصفة التي تجتازها حالياً أسواق المال بدأت من قطاع القروض العقارية الأكثر خطورة المدعو "السوبريم"، لأن مؤسسات التسليف منحت قروضاً عقارية للأسر ذات الدخل المحدود، وهي تجهل أوضاع المستفيدين منها، والمشكوك في قدرتهم على تأدية استحقاقاتها.. وقد نجم عن هذا الوضع الفقاعة العقارية التي تسببت بإشعال الشرارات الأولى التي ضربت الاقتصاد الأمريكي،منذ سنة 2007، على غرار «صناديق الاستثمار المضاربة» المشبعة بمنتجاتها المشتقة.
يقول المحلل الاقتصادي جون غابر: أشعر أحياناً وكأن العقدين اللذين قضيتهما في الصحافة المالية أمضيتهما، أولاً في لندن ومن ثم في نيويورك، في مشاهدة مصارف استثمارية إما تنهار وإما يتم شراؤها: "يرينغز، إس جي، وربورغ، جي بي مورغان، بير ستيرنز، آلان ليمان بروذرز، ميريل لينش(...).."، لقد قضي على المصارف الاستثمارية التي توفر خدمات كاملة، فتشتري حصصاً وسندات وتبيعها للزبائن، وتقدم المشورة للشركات وتتاجر برأسمالها. ومن أجل توليد العائدات الضرورية لمضاهاة المؤسسات الأكبر، تهافتت مصارف مثل «ليمان بروذرز» على المجازفة التي أدت في نهاية المطاف إلى إغراقها»(1).
1- المضاربون يدفعون الاقتصاد العالمي إلى الانهيار
هناك شبه إجماع على أن أحد الأسباب الرئيسة لهذه الأزمة يعود إلى المضاربة، الأمر الذي يتطلب من السياسيين والمضاربين أن يعملوا على كبح هذا السلوك الذي فرض تكاليف ضخمة وغير ضرورية على الاقتصاد العالمي. والحقيقة أن أصابع الاتهام تشير إلى المضاربة.
ففي حوار حديث مع «عمدة» البورصات وعالم المال «جورج سوروس» "G.Soros"(2)، الذي كان مصدر انهيار الجنيه الإسترليني عام 1992، لم يتردد في التنبيه إلى خطورة ما آلت إليه الأوضاع المالية العالمية، واحتمالات تطورها في المستقبل القريب جداً، مشدداً على أزمة «النظام النقدي العالمي»، الذي استبعد حتمية انهياره في المدى المنظور. فللرجل سلطة معرفية، وتجربة غنية في عالم المال والبورصات وتداول القيم، ويدرك بحِنكته أبعاد المشكلة ودرجات تطورها.
فحين سُئل عن مصدر الأزمة التي عمَّت بورصات العالم، كان جوابُه واضحاً في إرجاع الأسباب إلى النظام النقدي نفسه، وطبيعة عمله، فالأزمة في تقديره نتيجة طبيعية لسيادة وهيمنة ما نعته بـ«أصولية السوق» التي تترك الحرية لكل شيء، وتعتمد على الرقابة أو الضبط الذاتي. وحول ما إذا كنا نعيش ظروفاً مماثلةً لمناخ أزمة 1929، حدد سوروس الفرق الجوهري في كون السلطات العامة واعية اليوم أهميةَ التدخل لدعم النظام النقدي، خلافاً لما كان عليه الأمر في السابق، ولعل ذلك ما نلاحظه فعلاً في المحاولات المتكررة والمنتظمة للاحتياط الفيدرالي الأمريكي، أو نظيره البنك المركزي الأوروبي، أو حتى الخزينة في الصين واليابان وغيرهما، بل إن الرئيس «بوش»، وهو يعيش الشهور الأخيرة من ولايته، اقترح خطة للتدخل من أجل الإنقاذ بكلفة وصلت سبعمائة مليار دولار.
بيد أن سوروس وإن أقرّ بعالمية الأزمة المالية الحالية، فقد حدد منطلق تجاوزها في إصلاح النظام النقدي الأمريكي، بمراجعة المنظومة المصرفية، وبنوك الاستثمار على وجه الخصوص، ووضع آليات جديدة للضبط، مشدداً، في الوقت ذاته، على دور السلطات العامة في السهر على المحافظة على التوازنات المالية والاقتصادية العامة.
الأزمة بصورة عامة، هي نتيجة التجاوزات التي يلحظها الخبراء في الاقتصاد الأمريكي، والتي أدت إلى تفشي المخاطر على مجمل الاقتصاد العالمي، جراء التداعيات القاتلة التي تسببها المضاربات المتحررة.
الأزمة تدوم لأنها تتعلق من الآن فصاعداً بمجمل القروض وليس بالإطار الضيق للقروض العقارية الأمريكية الأكثر مخاطرة فحسب. كل أنواع القروض(السيارات، الاستهلاك الخ) التي تم تسنيدها أصبحت متضررة من الآن فصاعداً، أي ما يعادل سوق لعدة عشرات من ألاف المليارات من الدولارات يفوق بكثير سوق حجم القروض العقارية المتداولة 1300 مليار دولار أمريكي. وفي الوقت عينه، إنها لا تمس المؤسسات المالية(المصارف) التي منحت قروضاً عقارية أكثر مخاطرة في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل إنها تمس المؤسسات المالية كلها (بنوك، صناديق الاستثمار المُضارِبة" أو الـ Hedge Funds، شركات التأمين، صناديق التعويضات الخ) والتي استثمرت عن طريق شراء السندات والأصول.
يقول الباحث الفرنسي في المركز الوطني للأبحاث العلمية فريديريك لوردونفي تقييمه للتراخي في الأخطار: إن الميّزة الكبيرة لهذه العملية، المسماة "تسنيداً"، هي في إمكانية بيع هذه السندات "المصنّعة" بتلك الطريقة في الأسواق، على شكل رزمٍ صغيرة لمختلف المستثمرين (المؤسساتيين) الراغبين في شرائها. ها هي إذاً قروض مشكوك في استيفائها تخرج من حسابات المصرف الذي ما إن يحوّلها إلى سندات حتى يسارع إلى التخلّص منها بخفّة. لكن ما الذي يدفع المستثمرين إلى شراء ما يرغب المصرف التخلّص منه؟ أولاً، لأنّهم يحصَلون عليها بكمياتٍ أصغر، ثم لأنّ هذه السندات "قابلة للتفاوض"، أي يمكن للمستثمرين بدورهم التخلّي عنها. وثانياً، لأن خطّ السندات المشتقّة من المجموعة الأساسية للتسليفات مقسّمٌ في الواقع إلى فئاتٍ مختلفة تبعاً لنسبة المخاطر؛ ويقوم كل مستثمر مؤسّساتي، وبحسب استعداده لتحمّل المخاطر، باختيار الفئة التي تناسبه(3).
النظام المالي العالمي منذ عدة أسابيع أشبه بوضعية السفينة التي تتلاطم بها الأمواج العاتية في المحيط، ولكن من دون ربان. فخلال أسبوع واحد اتخذت الحكومة الأمريكية قرارين مذهلين، الأول: تأميم العملاقين ضامني الرهون العقارية الأمريكيين «فاني ماي» و«فريدي ماك» بقيمة 200 مليار دولار، حيث اعتُبِرت سيطرة الحكومة الأمريكية هذه بأنها تدخل في سياق دعم الدولار، بعد أن تحولت الحكومة الأمريكية بعيداً من الخفوضات في معدلات الفوائد والسياسة النقدية إلى إتباع سياسة مالية أكثر فاعلية لمعالجة أزمة القروض. والثاني: التخلي عن رابع أكبر مصرف أمريكي «ليمان بروذرز» البنك الذي مضى عليه 158 عاماً في وول ستريت، وتـأميم كبرى شركات التأمين في العالم«أمريكان إنترناشيونال غروب: A.A.G». إنها عملية تخصيص الأرباح وتأميم الخسائر.
قبل شهرين من الانتخابات الرئاسية الأمريكية كان يعتبر تأميم فاني ماي وفريدي ماك ضرباً من الخيال. لكن هذا التأميم اليوم هو أيضاً متناقض مع منطق الليبرالية الجديدة في أحد أهم أسسها الفكرية والاقتصادية: ألا وهي السوق الحرة. أو بعبارة أخرى تحرير الأسواق من تدخل الدولة، وتركها تنتظم وفق قانون العرض والطلب في علم الاقتصاد.
الدولة تتدخل اليوم.. إنها في مملكة السوق الحرة، وخلافاً لما كان متوقعاً، هي الضامن في المحصلة النهائية للقروض العقارية.
2- هل من تماثل بين الأزمة المالية العالمية الحالية وأزمة 1929؟
في الواقع الأوروبي، كانت دولة الرفاهة هي الجواب التاريخي لتداعيات الأزمة العامة للرأسمالية 1929 – 1933، ونهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أخذت الدولة الحامية بالمذهب الذي يدعو إلى التدخل الرسمي في سبيل إنماء الإنتاج، والعمل على دعم الاستثمار والطلب، والمناقشات المستمرة بين النقابات العمالية ومنظمات أرباب العمل. هذا الجواب الذي كان له تأثير بالغ في أوروبا خلال نصف قرن اصطدم بالثورة المحافظة أو الليبرالية الجديدة التي ترتكز على المقولة الأساسية التالية: «ما يفرزه السوق صالح، أما تدخل الدولة فهو طالح».
وقد اعتنقت معظم الحكومات الغربية هذه الليبرالية الجديدة مع نهاية العقد السابع وبداية العقد الثامن من القرن العشرين، التي تقوم على فكرة أساسية تزعم أن الأسواق قادرة على تصحيح ذاتها، وتخصيص الموارد بكفاءة، وخدمة مصالح عامة الناس.
وكانت أصولية السوق هذه بمنزلة الأساس لأفكار ونظريات رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة مارغريت تاتشر ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية الراحل رونالد ريغان الذي اشتهر بمقولته المأثورة: «الدولة ليست الحل وإنما هي المشكل»، وما أطلق عليه «إجماع واشنطن»، لصالح الخصخصة، والتحرير، والبنوك المركزية المستقلة التي تركز على التضخم ولا شيء غير التضخم.
أول دروس الأزمة المالية العالمية هو العودة إلى فكرة الدولة التدخلية لإعادة الاستقرار إلى الأسواق المالية، والأسواق التجارية، يشهد على ذلك، توقيع الرئيس الأمريكي جورج بوش، يوم الجمعة 3 أكتوبر الجاري، خطة إنقاذ القطاع المصرفي بعيد ساعات من إقرارها في مجلس النواب الذي تبع خطوة سابقة لمجلس الشيوخ، وأصبحت هذه الخطة قانوناً يسمح للدولة بشراء أصول هالكة مرتبطة بالرهن العقاري بقيمة 700 مليار دولار، في وقت واصلت الدول حول العالم اتخاذ تدابير احترازية للحؤول دون تكرار سيناريو الأزمة الأمريكية في أسواقها.
ثاني دروس الأزمة المالية العالمية، أن النزعة التدخلية للدولة تتناقض مع الاختيارات الأيديولوجية للمدافعين عن الرأسمالية الجديدة وعن مشروع العولمة السائر معها، باعتبارها تعبيراً عن ضرورة تاريخية، متجذرة في الإقتصاديات الكلاسيكية، وتقتضيها قوانين التطور التي لا ترد.
إن نموذج الاقتصاد البريطاني/الأمريكي سوق الرأسمالية، هو نتاج انتصار إيديولوجية الليبرالية الجديدة (Neoliberalismus) التي باتت أمراً حتمياً لمصلحة الرأسمالية النفاثة المنطلقة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي عمت القارة الأوروبية، وأسقطت الاشتراكية الديمقراطية التي كانت حاكمة في عدة بلدان. وصار عدم تدخل الدولة، إلى جانب تحرير التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال، وخصخصة المشروعات والشركات الحكومية، أسلحة إستراتيجية في ترسانات الحكومات الغربية المعتنقة إيديولوجية السوق.
وجاءت نهاية الحرب الباردة، وانهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، ليعطيا إيديولوجية الليبرالية الجديدة دفعة عالمية قوية، حين زعمت أن الرأسمالية قد انتصرت إلى الأبد، وأبرزها نظرية المفكر الأمريكي الياباني الأصل فوكوياما حول «نهاية التاريخ».
هناك عاملان اثنان مهمان من عوامل الرأسمالية الجديدة، وهما أكاديميان في الأساس. حسب قول وليام فاف: أول التأثيرات الأكثر أهمية تأثير النظرية النقدية الرأسمالية. وهذه النظرية تجرد العوامل الاجتماعية أو تفصلها عن القرارات الاقتصادية السياسية. فكل مهمة السياسة الاقتصادية تشكيل إجابة على العامل التأسيسي: إنتاج النقود أو توفيرها. والأثر المباشر لهذه النظرية الجديدة نزع ألسنة السياسة الاقتصادية، في حين كانت في ما سبق في عصر أطروحة كينز مترابطتين، في تحد للنظرية النقودية أو المالية.
أما التأثير الثاني فقد كان بالدرجة الأولى سياسياً، في رد فعل على فاشيات القرن العشرين. كان المنظِّر السياسي والاقتصادي فريدريك فون هايك يعمل في لندن في الثلاثينات، وقد بدأ كتابه باعتباره نقداً لنظرية كينز، لكنه مدّ ذلك كثيراً بحيث اعتبر أن تدخل الدولة في المجتمع ينخفض إلى حدود تسمية «الطريق إلى العبودية». (وهو عنوان كتاب له نشر عام 1944). فالتدخل في الاقتصاد والمجتمع، يهدد الحرية الإنسانية. في حين أن اقتصاد السوق ينتج حركية اقتصادية، وحرية إنسانية. وقد كانت لأفكار هايك تأثيرات كبرى على أفكار مارغريت تاتشر(4).
على الرغم من حرص الخبراء على التأكيد بأن رأسمالية السوق ما زالت الأداة الأكثر فاعلية لتحقيق النمو الاقتصادي ولرفع مستوى المعيشة، إلا أنهم أصبحوا يدعون إلى إجراء تحديث اجتماعي لدعوة الرأسمالية المعولمة، ولدور المؤسسات المالية الدولية وبخاصة صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي لإنقاذ العالم، وإنقاذ العولمة من مخاطر سياسة تهدد الاستقرار العالمي. فقد بدا كبار الاقتصاديين في العالم يتحدثون عن ضرورة إجراء إصلاحات حقيقية في دور المؤسسات المالية الأمريكية والأوروبية لجهة حثِّها على عدم التعامل بشكل تقليدي مع الأزمة المالية العالمية التي أفرزتها الليبرالية الجديدة...
ومن الجدير بالذكر أنه منذ أن هيمنت الليبرالية المالية هذه، لم يحدث أن مرّت ثلاث سنوات متتالية دون وقوع حوادثٍ كبيرة يمكن حصرها على النحو التالي:
- عام 1987: انهيار مشهود في أسواق الأسهم..
- عام 1990: انهيار «السندات الفاسدة» وأزمة صناديق التوفير الأمريكية
- عام 1994: انهيار سوق السندات الأمريكية.
- عام 1997: الفصل الأوّل من الأزمة المالية الدولية (تايلاند، كوريا، هونغ كونغ).
- عام 1998: الفصل الثاني (روسيا، البرازيل).
- عام (2001- 2003): انفجار فقاعة الإنترنت.
- عام 2007 انفجار أزمة الرهن العقاري..
السؤال المطروح عالمياً في الوقت الحاضر، هل تستطيع فلسفة الليبرالية الجديدة إيجاد حلول للأزمات المتعاقبة والمتداخلة، أم أن العالم سيشهد عودة للدولة الكينزية الجديدة التي بدأت نُذرها في الولايات المتحدة نفسها، وعدد من الدول الأوروبية، ولاسيما إذا ما تحولت إلى أداة في ترشيد العولمة، لكي تصبح أحد الحلول الرائدة لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وضمان الاستقرار السياسي في عالم القرن الحادي والعشرين؟!
3- الأزمة المالية العالمية من المنظور الأوروبي
منذ اندلاع أزمة القروض العقارية في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي باتت تعرف بأزمة «السوبريم» في صيف العام 2007، يكاد لا يمر شهر واحد ـ بل ومن الآن فصاعداً يكاد لا يمر يوم واحد ـ من دون أن يتعرض الاقتصاد العالمي لهزات عنيفة جراء تداعيات هذه الأزمة المالية الكونية، التي لم يقدِّر أي إنسان حجمها وتأثيرها.
فالأزمة المالية التي تضرب الأسواق المالية العالمية منذ أكثر من سنة تدور حول أزمة الهوية للرأسمالية الغربية التي فقدت بوصلتها. فكل إفلاس يصيب بنكاً جديداً، وكل تأميم، وكل إعلان لمخطط إنقاذ تقدّمه الخزانة الفيدرالية الأمريكية، يقود إلى واقع الهواجس السوداء التي تقضّ مضاجع الأوروبيين الذين يحاولون دائماً تجاهلها: فالرأسمالية الغربية مريضة.
يقول المحلل الفرنسي نيكولا بافيريز «على الرغم من أن الأزمة اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية، فالاقتصاد الأوروبي هو الذي أصيب بالتباطؤ، فجفت مصادر التمويل إثر انفجار فقاعة الديون العقارية الأمريكية، وتراجعت معدلات الاستهلاك في المملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا.. وانخفضت نسبة الصادرات الألمانية جراء تباطؤ عجلة النمو العالمي، من 5،2% إلى 3%. وتعهد الإفراط في تقدير سعر صرف اليورو ـ40% فوق قيمته الفعلية ـ استقرار الميزان التجاري الأمريكي. فالسياسة المالية الأوروبية تحابي الانزلاق وراء الأزمة، وتعبّد الطريق أمام تقهقر قيمة الأسهم، والمداخيل، وتقلص العمالة»(5).
وفي الواقع، كيف يمكن تفسير توزيع هذه القروض العقارية مع بداية سنة 2000 من قبل شركات قروض غير خاضعة لرقابة السلطات المالية؟!، فهذه القروض المقسمة والتي أدخلت في المنتوجات المالية المعقدة التي ضاعفت المخاطر، تمت إعادة بيعها إلى بنوك واستثمارات في العالم كله. ولم يمر سوى بضعة أشهر حتى ظهرت مساوئ الدفع المتعلقة بهذه السوبريم التي نقلت عدواها إلى الكرة الأرضية.. واليوم تهدد هذه الأزمة بإحداث عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي.
في الولايات المتحدة الأمريكية، تعاني قطاعات من الصناعة ـ مثل البنوك التي تصرفت بطريقة غير مدروسة، والعقارات، والبناء ـ من تباطؤ النمو، وزيادة البطالة، وتطور مستمر في التضخم.. والاقتصاد الأول في العالم مهدد بالدخول في مرحلة من الكساد وهو جرّ ـ من خلال سقوطه ـ شركاءه التجاريين، في كل من أوروبا وآسيا. ويعتقد الخبراء الأوروبيون أن هناك أخطاء ثلاثة ارتكبتها الرأسمالية الغربية..
الأول: ويتمثل في الضعف في مراقبة الأخطار، والاطلاع على المعلومات الدقيقة التي تخولها تقويم المخاطر التي تغامر بها الشركات المالية، في ظل وجود فاعليات مالية لا تسيطر على الابتكارات المُدخلة بوتيرة متسارعة من قِبَلِ الصناعة المالية..
الثاني: ضعف الحاكمية لنظام مالي غير شفاف زعم أنه يضبط نفسه ذاتياً، وأن بعض الضابطين أو المنظمين، ولاسيما الإنكلوسكسونيين لم يعرفوا كيف يلجمون تجاوزاته..
الثالث: الضعف الأخلاقي لنموذج مالي مُتهم بإغماض عينيه حول لا مسؤولية معممة وممارسات قادت إلى ارتكاب جريمة مالية حقيقية.
ويقدم خبراء الاقتصاد سيناريوهات قاتمة.. ففي فرنسا، يذهب المستشار السابق في قصر الإليزيه جاك أتالي للرئيس الراحل فرانسوا ميتران، إلى حد القيام بنوع من التماثلية بين هذه الأزمة العالمية الراهنة وأزمة 1929، وبالمناسبة ليس هو الوحيد هنا، إذ يؤكد الأستاذ في جامعة باريس 10 فيليب ديسيرتين «أن الولايات المتحدة الأمريكية تعيد إحياء أسباب الغضب، ولا يوجد أي سبب لكي لا تكون أوروبا متضررة».
ويتساءل العديد من الخبراء: كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ والجواب يجب البحث عنه في أزمة الأنموذج الاقتصادي الأمريكي. هذا الذي «عمل» بشكل عام بالاعتماد على القروض. فمن أجل معالجة الأزمة التي نشأت عقب أحداث 11سبتمبر العام 2001، خفضت الخزانة الفيدرالية الأمريكية بشكل كبير معدلاتها ـ التي تحدد تكلفة القرض ـ من 6% في العام 2001 إلى 1% في العام 2003 الطريقة فعالة، وسمحت للشركات بالاستثمار وللعائلات الأمريكية بالاستهلاك.
الأزمة ليست، على الأرجح، سوى في بداياتها، ذلك أن العولمة التي تعولم الرأسمال المالي، ومعه البلاهة المالية، تعولم في الوقت عينه الأزمة المالية الأمريكية.. فلا شيء من ذلك كله سيتوقف عند الحدود الأمريكية، بل إن العدوى ستنتشر في أصقاع الأرض كلها.
ما الجواب الأوروبي عن هذه الأزمة؟
البنك المركزي الأوروبي تصرف منذ سنة من خلال ضخ سيولة نقدية في سوق ما بين البنوك. لكن الوقت حان للتصرف بسرعة.. فأمام انهيار النظام المالي العالمي، على أوروبا أن تعيد النظر في أنموذجها الاقتصادي والمكانة التي تريد منحها للدوائر المالية. فالأوروبيون مطالبون بإيجاد المبادئ التي هي في قلب مقاربتهم التاريخية للتنمية الاقتصادية والمالية. ذلك أن معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تشترك في هذه المبادئ، التي تحدد الهوية الاقتصادية الأوروبية الحقيقية. إنها الشفافية، والمسؤولية، والأخلاق، وإقامة علاقة ثقة بعيدة المدى بين المؤسسات المالية والمقاولين، والدور المركزي للسلطات العامة، سواء على المستوى الأوروبي أو على المستوى الوطني.. وبصورة أوضح، النظام المالي يجب أن يكون في خدمة التنمية الاقتصادية، والاقتصاد لا يجوز أن يكون تابعاً لغش المنتجات والمضاربات المالية.
فضلاً عن ذلك، فإن أوروبا مطالبة بالانتقال إلى مرحلة جديدة من الاندماج الاقتصادي والمالي، الذي من دونه لا يمكن أن ينبثق نظام مالي خاص في أوروبا قادر على تثبيت نفسه عالمياً. وفي الواقع كان لغياب هذا الاندماج للأسواق البنكية والمالية تأثيره السلبي على وضع أوروبا التي ظلت عاجزة عن منافسة الولايات المتحدة الأمريكية على جلب كميات كبيرة من الأموال المتدفقة من البلدان الناشئة.
تمتلك أوروبا أسلحة قوية، ولاسيما اليورو، الذي يحتل المرتبة الثانية كعملة احتياط، الأمر الذي يدفع الأوروبيين إلى تحرير عقودهم باليورو. فمن دون حاكمية اقتصادية ومالية قوية يصعب على الأوروبيين إدارة الأزمات.. أما الأمريكيون فيمتلكون الشجاعة للقيام بعملية تطهير إنقاذية، عبر القيام بعملية «تأميم» حين يقتضي الأمر ذلك، تحت السيطرة الفعالة للسلطات الفيدرالية والبنك المركزي. وهذا ما بات يظهر الحدود الإيديولوجية والمالية لليبرالية الجديدة وضرورة تدخل الدولة البراغماتي.
فها هو الرئيس نيكولا ساركوزي يدعو في خطاب ألقاه في مدينة طولون جنوب فرنسا يوم 25 سبتمبر الماضي إلى تجميع الأمة حول الدولة، وإلى انتقاد الرأسمالية المالية.. ففي ظل الإفلاس الكبير للرأسمالية المالية، وجد الرئيس ساركوزي بواسطة مستشاره هنري غويانو الكلمات المعبرة التي تسمح باستمالة الطبقات الشعبية في فرنسا، حين قال:«إن الفكرة التي تقول دائماً إن الأسواق لديها الحق هي فكرة مجنونة»، مندداً بفساد هذه الرأسمالية التي تنسى المقاول الشجاع لمصلحة المضارب غير المسؤول. ودافع ساركوزي عن ضرورة إقامة «توازن جديد» بين الدولة والسوق.
أوروبا باتت تنادي بضرورات تدخل الدولة، والمنظمات الدولية والإقليمية، إنها دعوة لـ(كينزية) جديدة تجسد القطيعة مع الإيديولوجية الليبرالية الجديدة التي هيمنت على العالم منذ مجيء تاتشر وريغان إلى السلطة مع مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. وقد نجم عن تعميم هذه الليبرالية الجديدة ـ على مستوى كوني بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي ـ إسقاطات مدمرة تمثلت في تحطيم الجمعي، وتخصيص الخاص والفضاءات العامة والاجتماعية من قبل أصولية السوق. وتصرفت هذه الليبرالية الجديدة كآلية فرز دائمة تحت تأثير المنافسة المعممة: السوق ضد الدولة، الخاص ضد القطاع العام، والفرد ضد المجموعة، والأنانية ضد التضامن.. وبما أن رؤوس الأموال تتنقل بحرية، بينما الأشخاص هم أقل حرية في تنقلاتهم، فإن الرأسمال هو الذي يربح. ويمكن القول إن الرأسماليين أعلنوا الحرب الطبقية على العمال والموظفين والفئات الوسطى في ظل هذه النيوليبرالية المتطرفة، وأنهم قد فازوا بها أيضاً. فقد أدخلت معظم حكومات العالم، سواء في المراكز الرأسمالية المتقدمة أم في المحيطات، تغييرات على قوانين العمل، بما يخدم مصلحة الرأسماليين المستثمرين، الأمر الذي مكّن هؤلاء، إضافة إلى مديري الشركات، من أن يتبعوا سبلاً متطرفة في علاقاتهم مع العمال والموظفين على نحو لا مثيل له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
إن العلاج يقتضي التزام خطة دولية تنسق إجراءات معالجة الأزمة، وتوحدها، والإقلاع عن انتهاج خطط وطنية مستقلة، تؤدي إلى إجهاض دينامية دمج الاقتصادات. والسبيل إلى مثل هذه الخطة حوار متصل بين الاحتياط الفيدرالي الأمريكي ونظيره المصرف المركزي الأوروبي. ويفترض دعم النظام المالي الأوروبي خفض نسبة الفوائد، وتعليق العمل بمبدأ «قيمة السوق العادلة»، وحظر المساعدات الحكومية التشجيعية والتفضيلية. ويجب نقل صلاحية مراقبة المصارف وشركات التأمين إلى المصرف المركزي الأوروبي. وعلى الدول اتخاذ إجراءات محلية تلجم آثار الأزمات الدورية. فترفع بعض الدول التي تملك فائضاً عتبة الإنفاق، وتحظر غيرها زيادة الضرائب. وخلاف هذا ينجم عنه تفاقم التباطؤ.
والحق أن مخاطر تفشي الانكماش المالي كبيرةٌ وغير مسبوقة منذ أزمة الثلاثينات ولكن سبل الخروج من الأزمة واعدة. ومن المتوقع أن يتعاظم تباطؤ عجلة الاقتصاد، في 2009، على وقع انتقال عدوى الأزمة إلى البلدان النامية، وتقلص الأرباح، وزيادة البطالة. وقد تنخفض معدلات التضخم المالي، وتتراجع أسعار النفط والمواد الأولية، وتستقر كفة ميزان التجارة الأمريكية، وتقوم قيمة الدولار على معايير جديدة. ومن المتوقع أن ينبعث النمو الاقتصادي، في 2010، بعد تراجع خطر تفشي الأزمة في النظام المالي الشامل. وعلى الدول الأوروبية أن تحذو حذو الولايات المتحدة، وأن تبادر تالياً، إلى التحرر من قيد قواعد السوق لإنقاذ اقتصاد السوق(6).
الهوامش:
(1)- جون غابر، «المصارف الاستثمارية تلفظ أنفاسها الأخيرة»، «الفايننشال تايمز» تاريخ 20 سبتمبر 2008.
(2)- جورج سوروس (G.Soros)حديث لصحيفة لوموند الفرنسية تاريخ 20 سبتمبر 2008.
(3)- فريديريك لوردون:«عندما يأخذ القطاع المالي العالم كلّه رهينةً»، المنشورة بصحيفة لوموند ديبلوماتيك سبتمبر 2007.
(4)- وليام فاف في مقالته المنشورة في صحيفة (هيرالد تريبيون) تحت عنوان :لماذا ترفض أوروبا رأسمالية السوق الأمريكية؟! بتاريخ 4/5/2006.
(5)- نيكولا بافيريز في مقاله: «إنقاذ اقتصاد السوق يدعو إلى التحرر من قواعده المتزمتة»، المنشور في مجلة «لوبوان» الفرنسية بتاريخ 25 سبتمبر 2008:
(6)- المصدر السابق عينه.
(المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية ، السنة الثامنة – العدد الثالث و الثمانون-ذو القعدة-1429ه-نوفمبر 2008م)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire