د. إبراهيم علوش ــ ما برح الغموض يكتنف الجذور المتشابكة للأزمة المالية الدولية، بالرغم من فيض المقالات والاجتهادات التي أثارتها. وهو ليس ذنب من تناولوها بالضرورة، بل هي ظاهرة معقدة يصعب إجلاء كنهها. والمتخصصون عامةً لا يكتبون لغير المتخصصين، وغيرُ المتخصصين لا يسع حبر أقلامهم أن ينساب تحت سطح الظاهرة الصلب والمتداخل في آنٍ معاً.
فما يلي قراءة منهجية مبسطة للعناصر الأساسية للأزمة المالية الدولية لا تزعم الإحاطة بكل جوانبها:
أولاً - في تعريف الأزمة المالية وأسبابها:
- الأزمة المالية بالتعريف هي الانخفاض المفاجئ بأسعار نوع أو أكثر من الأصول. والأصول إما رأس مال مادي يستخدم في العملية الإنتاجية مثل الآلات والمعدات والأبنية، وإما أصول مالية، هي حقوق ملكية لرأس المال المادي أو للمخزون السلعي، مثل الأسهم وحسابات الادخار مثلاً، أو أنها حقوق ملكية للأصول المالية، وهذه تسمى مشتقات مالية، ومنها العقود المستقبلية (للنفط أو للعملات الأجنبية مثلاً). فإذا انهارت قيمة أصول ما فجأةً، فإن ذلك قد يعني إفلاس أو انهيار قيمة المؤسسات التي تملكها. وقد تأخذ الأزمة المالية شكل انهيار مفاجئ في سوق الأسهم، أو في عملة دولة ما، أو في سوق العقارات، أو مجموعة من المؤسسات المالية، لتمتد بعد ذلك إلى باقي الاقتصاد.
- قد يحدث مثل هذا الانهيار المفاجئ في أسعار الأصول نتيجة انفجار"فقاعة سعرية" مثلاً. والفقاعة المالية أو السعرية، أو فقاعة المضاربة كما تسمى أحياناً، هي بيع وشراء كميات ضخمة من نوع أو أكثر من الأصول المالية أو المادية، الأسهم أو المنازل مثلاً، بأسعار تفوق أسعارها الطبيعية أو الحقيقية. السعر "الحقيقي" طبعاً هو مجموع القيم الحالية للعائد المستقبلي المتوقع للأصل، لعوائد السهم أو السند أو العقار في المستقبل مثلاً. فلنأخذ منزلاً إيجاره الشهري مئة دينار مثلاً لكن قيمته في السوق مليون دينار... غير معقول! لكن هذا هو بالضبط ما تسببه الفقاعة. فمن علامات الفقاعة إذن بيع وشراء الأصول بحثاً عن الربح الرأسمالي المتوقع (التصاعد في قيمة المنزل)، وليس بناء على العائد المنتظم أو غير المنتظم لتلك الأصول (إيجاره الشهري).
- والفقاعة تنشأ عندما تُصب أموال على أصول أكثر مما تبرره عوائدها، كما يحدث في عملية المضاربة. المضاربة بالطبع هي عملية بيع وشراء الأصول بأنواعها لذاتها، للاستفادة من تقلبات سعرها، وليس لاستخدامها في الأغراض التي وجدت من أجلها أو للاستفادة من عوائدها. مثلاً، بيع وشراء المنزل بدون استخدامه، أو بيع وشراء العملة الأجنبية ليس بغرض التجارة أو الاستثمار.
-لا يوجد إجماع في علم الاقتصاد الغربي على أسباب الفقاعات أو طريقة نشوئها، وهناك من ينكر وجودها أصلاً، معتبراً ارتفاع وانخفاض أسعار الأصول عمليات تصحيح ذاتي طبيعية بالنسبة للسوق. أما من يقر بوجودها، فيعزوها لعوامل عرضية لا يمكن التنبوء بها، وهناك نماذج أكاديمية تحاول إثبات إمكانية حدوث الأزمات المالية حتى بدون وجود مضاربة أو عدم يقين أو نقص في المعلومات.
-الموقف السابق الذكر من الفقاعات يعكس في جوهره تحيزاً عقيدياً مع حرية السوق: فالسوق لا تخطئ أبداً! أو أن أخطاءها (الفقاعات) حدث طبيعي كالزلازل والبراكين لا يمكن تجنبه! وبالتالي يمثل هذا الموقف دفاعاً عن المضاربة المالية، ورفضاً لأي قيود اجتماعية أو حكومية عليها بالرغم من قدرتها على إطلاق الأزمات المالية وزعزعة استقرار الاقتصاد. وينسب بعض الأكاديميين الغربيين الفقاعات أحياناً لخطأ في السياسة النقدية، لا في حرية السوق، عندما يقوم البنك المركزي بإبقاء معدل الفائدة أقل من اللازم، مما يطلق سيولة مالية كبيرة لشراء كمية محدودة من الأصول، فيؤدي لارتفاع سعرها بشكل مصطنع حسب قانون العرض والطلب.
ثانياً – أزمة الرهونات العقارية الأمريكية كسبب مباشر للأزمة المالية الدولية:
- ومن نفس المدرسة الفكرية الداعية لتخفيف تدخل الدولة في الاقتصاد، هناك من اعتبر مثلاً أن "الفقاعة العقارية" في الولايات المتحدة، التي انفجرت في شهر آب 2008، كانت نتاج قوانين تنظيم المدن، مدللاً على ذلك بأن ارتفاع أسعار العقارات جاء بشكل أعلى بكثير في المدن الأكثر تنظيماً منه في المدن الأقل تنظيماً، وبالتالي لا بد من تخفيف قوانين البناء وتنظيم المدن (أنظر مثلاً مقالة البرفسور وندل كوكس في 28/10/2008 على الإنترنت: "جذور أسباب الأزمة المالية" Root Causes of the Financial Crisis ).
- في الواقع كان حوالي 40 بالمئة من المنازل المباعة في عامي 2005 و2006 إما للاستثمار وإما للإجازة، حسب موقع CNN على الإنترنت في 30/4/2007، وعندما ألقى المضاربون المنازل في السوق لتحقيق ربح بأعداد كبيرة انخفض سعرها. فهذه لم تكن أزمة سكن مثلاً! لا بل تم بناء عدد كبير من المنازل خلال فترة ارتفاع سعرها، وفي عام 2008 كان أربعة ملايين منزل معروضاً للبيع، منها حوالي ثلاثة ملايين منزل فارغ، مما أسهم بانهيار الأسعار.
- انفجار الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة بدأ عامي 2006 و2007 بتزايد مهول في عدد العاجزين عن المثابرة على تسديد أقساط قروضهم العقارية، وازداد بالتالي عدد الذين صودرت منازلهم بشكل حاد، وهكذا بدأت الأزمة المالية في الولايات المتحدة فعلياً. فخلال عام 2007 وحده تعرض أكثر من 1،3 مليون منزل لمطالبات قانونية بالمصادرة. ويقدر مجموع قيم القروض العقارية في الولايات المتحدة عام 2008 باثني عشر ترليون (12 الف مليار) دولار، كان أكثر من 9،2 بالمئة منها مع مجيء شهر آب 2008 إما تحت المصادرة أو قد دخلت في حالة تعثر. وكان 43 بالمئة من حالات المصادرة لقروض عقارية ذات معدل فائدة متغير، لمقترضين "أقل جودة" subprime borrowers، أي لمقترضين كان ثمة مشكلة في تقييم قدرتهم على السداد أصلاً ممن ترتبط قروضهم بفوائد متغيرة مع السوق، لا ثابتة، فباتوا يعجزون عن دفع أقساط قرضهم العقاري المتصاعدة مع مرور الزمن.
- وعندما يعجز مقترض عن تسديد الأقساط في حالات فردية أو محدودة، فإن البنك الذي قدم له القرض يستطيع أن يستملك سيارته أو بيته أو مشروعه الاقتصادي، أما حين يكون التعثر ظاهرة عامة تصيب مئات آلاف أو ملايين الناس، فإن إلقاء الأصول المصادَرة بالجملة في السوق سيؤدي بالضرورة لانهيار سعرها حسب قانون العرض والطلب، وهذا ما حدث.
ثالثاً – انتقال الأزمة إلى المؤسسات المالية والأسهم غير العقارية:
- ومن السوق العقارية انتقلت الأزمة إلى المؤسسات المالية بسبب ما يسمى "توريق الرهونات العقارية"، وهذا يعني إصدار البنوك أوراقاً مالية أو أسهماً في ملكية عائد مجموعات متماثلة من القروض العقارية، تتيح لمن يشتريها أن ينال حصة منها، وان يتحمل بالتالي جزءاً من مخاطرها (التعثر مثلاً). ولننتبه هنا أن القروض العقارية أصل مالي يدر عائداً (أقساط القروض) للبنك أو الصندوق الاستثماري الذي يملكها، وأن أوراق الرهونات العقارية هي بالتالي أصول مشتقة، أي شكل من أشكال المشتقات المالية.
- وكانت بعض المؤسسات المالية العملاقة مثل "فاني ماي" Fannie Mae و"فردي ماك" Freddy Mac، و"جيني ماي" Ginnie Mae، تضمن حقوق مشتري أوراق الرهونات العقارية من خطر تعثر دفع الأقساط. فاني ماي وفردي ماك وحدهما كانتا تملكان أو تضمنان معاً نصف الرهونات العقارية في الولايات المتحدة عام 2008، الذي سبق الذكر أعلاه أن حجمه يبلغ 12 ترليون دولار. وبالتالي أدى انفجار الفقاعة العقارية إلى تدهور قيمة أسهمهما بشكل جنوني. وفي 8/9/2008 أعلنت الحكومة الأمريكية وضع اليد على الشركتين لحماية قيمة العقارات ككل، ووضعت مئتي مليار دولار كضمانة لهما. أما "جيني ماي" فهي حكومية أصلاً، ولننتبه أن كل هذه مجرد شركات وساطة مالية لا تقدم قروضاً عقارية للزبائن، بل تشتري القروض العقارية من البنوك وتورقها. فالحكومة كانت أصلاً جزءاً من عملية التوريق، و"فردي ماك" كانت تحت رقابة حكومية، فدخول الدولة على الخط هنا ليس جديداً، لكن انهيار العملاقين "فاني ماي" و"فردي ماك" يمثل بالضرورة فشلاً للرأسمالية غير المقيدة بالنسبة لكثيرين.
- وقد مر سوق الأسهم بانفجار فقاعات ضخمة من قبل، منها تضخم أسعار أسهم الشركات العاملة في قطاع الإنترنت (فقاعة "دوت كوم" كما تُعرف) بين عامي 1995 و2001، وصولاً لانهيارها بشكل مريع، ولم يؤدِ ذلك لانهيار اقتصادي، مع أن روبرت شيللر، أحد علماء الاقتصاد الأمريكيين، أفتى عام 2005 بأن انهيار فقاعة أسهم شركات الإنترنت لعب دوراً بانتقال رؤوس الأموال المضارِبة إلى سوق العقارات.
- كما أن بنك الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأمريكي) قام بين عامي 2001 و2003 بتخفيض معدلات الفائدة الأساسية من 6،5% إلى 1 %، جزئياً لإبقاء الاقتصاد الأمريكي بعيداً عن الركود بعد انفجار فقاعة "دوت كوم"، مما أطلق العنان لعمليات اقتراض ضخمة لغرض المضاربة والاستهلاك، لا الاستثمار المنتج.
رابعاً – حصاد الأزمة ونهاية ظاهرة البنك الاستثماري المتخصص، وازدياد تمركز الأصول:
-البنك الاستثماري المتخصص Investment Bank هو ذاك الذي يتخصص فقط بإصدار وبيع الأسهم والسندات لمصلحة الشركات والحكومات، وبالإشراف على عمليات الاندماج والاستيلاء بين الشركات.
-المهم بات لدينا الآن موصل جيد للحرارة والكهرباء ما بين سوق العقارات والمؤسسات المالية. وقبل "فردي ماك" و"فاني ماي"، كان أحد أكبر البنوك الاستثمارية في العالم، واسمه "بير ستيرنز" Bear Stearns، قد تضرر بشدة عام 2007 بسبب انهيار المشتقات المالية المرتبطة بقروض عقارية "أقل جودة" في صندوقي تحوط Hedge funds كان يديرهما. وقاد هذا في النهاية إلى استيلاء أكبر بنك أمريكي هو "جي بي مورغان تشيس" JP Morgan Chase على "بير ستيرنز"، الذي كانت تبلغ قيمة أصوله في نهاية عام 2007 أكثر من 395 مليار دولار، مقابل فتات هو 1،2 مليار دولار في 30/5/2008، وحتى هذا المبلغ تم دفعه بتبادل أسهم وليس نقداً، وكفل فرع البنك المركزي في نيويورك بقية أصول "بير ستيرنز" بقرض مضمون من الخسارة مقداره 29 مليار دولار لبنك "جي بي مورغان تشيس"!
-هنا يظهر بعد أخر في الأزمة، وكل أزمة في الرأسمالية، هي استيلاء الكبير على الصغير، والقوي على الضعيف، وهو ما يعتبره عتاة الرأسمالية أمراً طبيعياً وتطبيقاً لقانون بقاء الأقوى، مما جعل صقور الحزب الجمهوري كارهين لتدخل الدولة في الأزمة... مع العلم أن بنك بير ستيرنز الاستثماري لم يكن صغيراً ولا ضعيفاً، ولم يكن متخصصاً بالرهونات العقارية فحسب مثل فردي ماك أو فاني ماي مثلاً، بل كانت له عشرات الفروع حول العالم من سنغافورة إلى ساو باولو في البرازيل... فالمشهد كان أقرب لرأسمالية تأكل نفسها.
- والدليل على ذلك هو انتهاء ظاهرة البنك الاستثماري المتخصص في الولايات المتحدة في 22/9/2008 مع التحول الطوعي لأخِر بنكين استثماريين متخصصين هما "غولدمان ساكس" و"مورغان ستانلي" إلى مؤسسات تملك وتدير بنوكاً عادية تقبل الإيداعات وتقدم القروض.
-وبعد أن خسر عشرات المليارات من الدولارات خلال عام 2008 متأثراً بجراحه من جراء انفجار الفقاعة العقارية، قدم بنك استثماري عملاق أخر، هو ليمان براذرز Lehman Bros طلباً للمحاكم في 15/9/2008 لحمايته وحماية أصوله عملاً بقانون إشهار الإفلاس، فسجل بذلك أكبر قضية إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة، وسيطر بنك باركليز البريطاني على عمليات ليمان براذرز الاستثمارية في أمريكا الشمالية، وتولى بنك نومورا الياباني عمليات ليمان براذرز الآسيوية والأوروبية وفي "الشرق الأوسط".
-وفي 14/9/2008 تم الإعلان عن قيام "بنك أمريكا"، منافس "جي بي مورغان تشيس" على عرش أكبر بنك أمريكي، بالتهام بنك استثماري عملاق ودولي أخر، بسبب خسائره عام 2008، هو مؤسسة "ميريل لينش" Merrill Lynch مقابل خمسين مليار دولار، مع العلم أن أصول "ميريل لينش" في نهاية عام 2007 بلغت أكثر من ترليون أي أكثر من ألف مليار دولار!
- وفي 26/9/2008 أعلن سادس أكبر مصرف في الولايات المتحدة هو "واشنطن ميوتشول" Washington Mutual إفلاسه. وهذا البنك من فئة البنوك المتخصصة بحسابات الادخار فقط وتقديم القروض العقارية. وكانت الدولة قد وضعت يدها عليه في اليوم السابق وسلمته ل"مؤسسة التأمين على الودائع"، بسبب تعرضه لعمليات سحب إيداعات وصلت إلى 16،4 مليار دولار خلال عشرة أيام، وفي اليوم التالي قامت مؤسسة التأمين على الودائع ببيعه لبنك "جي بي مورغان تشيس" بمبلغ تافه هو 1،9 مليار دولار، تافه طبعاً بالقياس لأصوله البالغة 33 مليار دولار، وديونه البالغة 8 مليار دولار. أي أن الدولة قدمت صندوق الادخار والقروض العقارية هذا بسعر رمزي لبنك "جي بي مورغان تشيس".
- إذن نتج عن الأزمة توسع أكبر بنكين أمريكيين، وازدياد تمركز الأصول المالية بأيديهما، كما نتج عنها توسع بنوك دولية مثل "باركليز" و"نومورا"، على حساب بنوك ومؤسسات مالية أخرى، وتمت تصفية ظاهرة البنك الاستثماري المتخصص بالكامل. وكان مجموع البنوك الأمريكية في الربع الرابع من عام 2007 قد انخفضت أرباحها من أكثر من 35 مليار إلى أقل من مليار دولار. أما في الربع الأول من عام 2008 فقد انخفضت أرباح البنوك الأمريكية من أكثر من 35 مليار في العام السابق إلى أقل من عشرين مليار دولار. وقد توقع موقع شبكة CNN على الإنترنت في 6/10/2008 إفلاس أكثر من مئة بنك أمريكي خلال عام 2009.
- وتوسع البنوك الكبيرة من بديهيات الأزمة في الاقتصاد السياسي، لكن تصفية البنوك الاستثمارية المتخصصة، ووضع الدولة يدها على شركات الوساطة العقارية، يمثل اعترافاً عملياً بخطورة ترك الحبل على الغارب للرأسمالية المضارِبة غير المنتجة، ولو أن قسماً من الشريحة الحاكمة الأمريكية يريد أن ترفع الدولة يدها كي تتمكن الكتل المالية الكبرى من جني حصاد الأزمة بالتهام الآخرين بأبخس الأثمان، سوى أن أطرافاً أخرى أكثر تعقلاً في الشريحة الحاكمة ترى في ذلك خطراً على استقرار النظام ككل. فالخلاف هنا بين الرأسمالية المتدخلة والرأسمالية الحرة أو المتوحشة، لا بين الرأسمالية ونظام اقتصادي أخر مثلاً.
- وهكذا امتدت آثار الأزمة من السوق العقارية إلى الشركات المالية إلى سوق الأسهم إلى بقية الاقتصاد. وفي 16/9/2008 كادت تتدهور إحدى أكبر الشركات العالمية، وهي مجموعة التأمين الأمريكية الدولية American International Group (AIG)، ولها عمليات تأمينية متعددة على الحياة والسيارات وغيرها، وعمليات مالية وخدمات مختلفة، لكن فرعها في لندن كان في نفس الوقت البائع الأول لبوليصات التأمين على المشتقات المالية المرتبطة بالرهون العقارية، مما أثار لغطاً حول سيولة الشركة عندما انفجرت الفقاعة العقارية، وهددها بالإفلاس بعد انهيار سهمها 95 بالمئة. وفي 16/8/2008 قدم البنك المركزي الأمريكي (الاحتياطي الفيدرالي) قرضاً ب85 مليار دولار لشركة AIG، مقابل 80% من أسهم الشركة، ولم يكفها ذلك لدرء شبح الانهيار، فسحبت قرضاً إضافياً من البنك في 9/10/2008 بحوالي 38 مليار دولار إضافية في شهر تشرين الأول.
خامساً – الآثار العامة للأزمة المالية على النفط وسوق الأسهم وعالمياً:
- بين أول سنة 2008 وشهر تشرين أول من نفس العام، انخفض مجموع قيمة الأسهم الأمريكية من عشرين ترليون دولار إلى اثني عشر ترليون، أي خسر مالكو الأسهم أربعين بالمئة من ثرواتهم، وقاربت الخسارة في دول العالم الأخرى نفس المعدل تقريباً. وفي أواسط شهر أيلول 2008 كانت الأزمة قد انتقلت بكل عنفوانها خارج الولايات المتحدة. وبدأت تنتشر نفس الظواهر في أوروبا واليابان التي ظهرت في الاقتصاد الأمريكي، وفي بقية دول العالم، بمقدار الترابط في حلقات الاقتصاد العالمي.
- وأود بشكل خاص أن أسجل نقطة تتعلق بأسعار النفط هنا. فكما أشرت في مقالة "ارتفاع أسعار النفط" في "الجزيرة نت" في 23/10/2007 فإن الغرب ما برح يلوم أوبك على ارتفاع أسعار النفط، معتبراً أن المشكلة في نقص العرض، بينما تشير المقالات العربية إلى فائض الطلب على النفط وعقوده الآجلة. وقد تبين الآن بوضوح قاطع أن ارتفاع أسعار النفط عام 2008 كان سببه انتقال رؤوس الأموال المضارِبة من العقارات إلى النفط، وان انهيار رأس المال المضارِب ونظام المضاربة نفسه، ولو مؤقتاً، أدى إلى انخفاض أسعار النفط فوراً! وأن انخفاض النفط أسهم بارتفاع سعر الدولار، من بين عوامل أخرى، لأن النفط يُستورد بالدولار، وبالتالي قل عرض الدولار لشراء النفط، فارتفع سعره، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة.
- لكن ارتفاع أسعار النفط ومشتقاته، والغذاء، وكل ما يرتبط به، كان أحد أسباب تزايد تعثر القروض العقارية عندما وجد المقترضون أنفسهم مضطرين للاختيار ما بين الجوع ودفع أقساط قروضهم. وكان من الآثار العامة للأزمة انخفاض مبيعات السيارات بمقدار الثلث تقريباً لبعض الشركات الأمريكية، وهو ما يعبر عن دخول الاقتصاد حالة من الكساد.
- وبعد أن عاد معدل الفائدة للارتفاع، قام الاحتياطي الفدرالي بتخفيض معدل الفائدة الأساسي من 5،25 % في أول صيف 2006 إلى 1 % في نهاية شهر تشرين أول 2008. وقد ترافق ذلك مع ضخ 900 مليار دولار لحل أزمة السيولة واستعادة الثقة في النظام المصرفي، ويقدر أن تزيد، وقد جاء الاعتراض على خطة الإنقاذ من طرفين رئيسيين: صقور حرية السوق الذين رأوا فيها تدخلاً غير ضروري من الدولة في الاقتصاد، ويسار الحزب الديموقراطي الذي رأى فيها إنقاذاً لمن سببوا الأزمة على حساب دافع الضرائب الأمريكي. وأغلبية المعارضين في مجلس النواب والشيوخ كانت من الفئة الأولى.
سادساً – العراق والعجز الحكومي الأمريكي والعجز في الحساب الجاري:
- لكن كل ما سبق يفسر الآلية الداخلية للرأسمالية الأمريكية التي أنتجت الأزمة. لكنه لا يفسر توقيت الأزمة، ومدى حدتها. فعوامل الأزمة موجودة في بنية النظام الرأسمالي نفسه، وسبق أن انفجرت فقاعات مضاربة من قبل دون أن تؤدي للانهيار أو الذوبان، لأن الرأسمالية الأمريكية كانت قادرة أن تحل أزمتها تاريخياً على حساب غيرها. وتفسير الأزمة الأخيرة بأن سببها أساساً أعطاء القروض لمجموعة أشخاص غير مؤهلين لحملها فيه تسخيف للعقول، وفيه شيء من العنصرية البغيضة، لأن قسماً لا بأس به ممن تم التساهل في منحهم القروض جاءوا من صفوف الأقليات العرقية في الولايات المتحدة.
- فهناك أولاً العجز السنوي في الموازنة الحكومية الأمريكية الذي بلغ في السنة المالية 2007-2008 حوالي 455 مليار دولار، بدون المبالغ المخصصة لإنقاذ الاقتصاد، ويتوقع أن يبلغ العجز السنوي ضعف ذلك الرقم في السنة المالية القادمة. ويشكل تراكم هذه العجوزات السنوية الدين العام الأمريكي، وقد تخطى عتبة العشرة ترليون دولار مع نهاية السنة المالية في 30/9/2008. وفي 4/10/2008 تم رفع سقف الدين العام المسموح به إلى 11،3 ترليون دولار. ويشار إلى أن أكثر من أربعين بالمئة بقليل من الدين العام تدين به مؤسسات حكومية أمريكية لمؤسسات حكومية أخرى. أما الباقي فيملكه أثرياء الأمريكان والأجانب. الدين العام الأمريكي للأجانب يبلغ أكثر من الربع، وتأتي اليابان على رأس قائمة مالكي السندات والأذونات الحكومية الأمريكية، تليها الصين الشعبية، تليها بريطانيا.
- ويلاحظ النمو الانفجاري في العجز الحكومي الأمريكي منذ مجيء بوش الصغير للحكم، وكان قد وعد بفائض سنوي قدره ترليون وربع بين عامي 2001 و2004، لكن ذلك انقلب إلى عجز مقداره 850 مليار لعام 2005 فسره بوش آنذاك هكذا: "49% إعادة تقدير اقتصادية وتقنية، 29% إعفاءات ضريبية، و22% للحروب على الإرهاب وفي العراق ولتعزيز الأمن الداخلي"!!
- لكن هيهات! فالحرب في العراق حتى بدايات عام 2008 كلفت الخزينة الأمريكية 845 مليار دولار بشكل مباشر. وكتب البرفسور جوزيف ستيغلتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، كتاباً مع مؤلفة أخرى هي ليندا بيلمز صدر في 3/3/2008، ويحمل عنوان "حرب الثلاثة ترليونات دولار"، يقولان فيه أن الكلفة المباشرة وغير المباشرة لحرب العراق على الاقتصاد الأمريكي بلغت على الأقل، وبحسابات صارمة للغاية، أكثر من ثلاثة ترليونات من الدولارات. وأن ذلك كان سيُحدث كساداً كبيراً في الاقتصاد الأمريكي لو لم تتساهل البنوك بالإقراض، ولو لم يخفض البنك المركزي (الاحتياطي الفدرالي) معدلات الفائدة بشكل كبير. لذلك اعتبر المؤلفان أن العراق لعب دوراً رئيسياً في حدوث الأزمة المالية الأمريكية.
- ويضيف ستيغلتز وبيلمز بالمناسبة أن حل الحكومة الأمريكية للمشكلة يكمن في الاستيلاء على الصناديق السيادية العربية، وهي الصناديق الاستثمارية العربية المملوكة حكومياً التي تحتوي أصولها المالية من الأسهم للسندات للعقارات للمعادن الثمينة لغيرها.
- المهم، لولا المقاومة العراقية لما تكلفت أمريكا ثلاثة ترليونات دولار في العراق حتى الآن. هذا هو فضل العراق على العالم.
- من ناحية أخرى، تعاني الولايات المتحدة من عجز مزمن في حسابها الجاري منذ بداية الثمانينات، وقد تفاقم هذا العجز بشكل جنوني منذ مجيء بوش للحكم، وبلغ 758 مليار دولار مثلاً عام 2006، وانخفض إلى حوالي 739 مليار دولار عام 2007، ليعاود الارتفاع إلى كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من عام 2008، ليصل إلى 359 مليار فقط خلال الأشهر الستة الأولى.
- العجز في الحساب الجاري يعني أن أمريكا تستورد أكثر مما تصدر، أو أن عائدات أصولها في الخارج أقل من عائدات الأصول الأجنبية في أمريكا، أو أن حكومتها تنفق في الخارج أكثر مما تنفق الحكومات الأجنبية في أمريكا، أو كل هذا أو بعضه معاً. ومن المعروف في المالية الدولية أن العجز في الحساب الجاري يجب أن يوازيه فائض في الحساب الرأسمالي. وهذا يعني أن من يستورد أكثر مما يصدر إما أن يقترض من الخارج، وإما أن يبيع أصوله المحلية للأجانب. وأمريكا تفعل الأمرين معاً.
- التدفق المالي الآتي من الخارج إذن على شكل قروض لأمريكا أو على شكل استثمارات يجب أن يجد منافذ استثمارية مربحة بالنسبة له، ومن هنا نفهم التساهل في الإقراض، وانفلات عمليات المضاربة من عقالها لتحقيق عائد سريع، حتى باتت الرأسمالية الأمريكية تقتات على لحمها.
- وطالما كانت أمريكا قادرة أن تطبع الدولار بلا حسيب ولا رقيب، والعالم يطلب الدولار كعملة عالمية، فإن العجز المتفاقم في الحساب الجاري كان يشكل عاملاً كامناً للأزمة، ولكنه ما كان ليتحول إلى أزمة إلا إذا قلّ الطلب العالمي على الدولار، أو قلت رغبة العالم بشرائه، وهو ما حدث مع دخول اليورو على الخط، وخوف الصين واليابان وغيرها على قيمة احتياطاتها من الدولار بسبب التوجس من حالة الاقتصاد الأمريكي وانخفاض الدولار مع ارتفاع سعر النفط.
- والخلاصة أن سبب الأزمة الداخلي والبنيوي هو لاعقلانية رأسمالية المضاربة، والترابط الوثيق بين الأجزاء المكونة للاقتصاد الرأسمالي ضمن أمريكا وخارجها. لكن عوامل الأزمة البنيوية ما كانت لتنفجر، وفي هذا الوقت وبهذه الحدة، لولا تمتع أمريكا بموقع إمبراطوري في العالم أتاح لها على مدى عقود أن تستهلك من خلال طباعة الدولار فقط، والأهم، لولا تفاقم العجز الحكومي الأمريكي الذي تصاعد بشكل أسِّياً في ظل بوش بسبب حروب أمريكا في الخارج، خاصة في العراق. وتورط أمريكا في العراق أتاح بدوره لقوى جديدة في العالم أن ترفع رأسها وأن تأخذ مكانها في حلبة السياسة والاقتصاد العالميين، مما أضعف حيز المناورة المتاح لأمريكا في التعامل مع الأزمة.
- لكن هذا ليس بالضرورة نهاية المطاف بعد، بل يعتمد على: أ – قدرة الولايات المتحدة على تصدير أزمتها للعالم، خاصة للعرب، وما زالت هذه الإمكانية قائمة، ب – استعداد القوى الصاعدة، مثل الصين، لاتخاذ إجراءات عملية لتحجيم أمريكا مثل إلقاء حمولتها الضخمة من الدولار في السوق وتحمل الخسائر مما يمكن أن يدمر الدولار تدميراً، ج - تصاعد المقاومة للهيمنة الأمريكية-الصهيونية على العالم مما يفاقم العجز الحكومي الأمريكي بالضرورة.
فما يلي قراءة منهجية مبسطة للعناصر الأساسية للأزمة المالية الدولية لا تزعم الإحاطة بكل جوانبها:
أولاً - في تعريف الأزمة المالية وأسبابها:
- الأزمة المالية بالتعريف هي الانخفاض المفاجئ بأسعار نوع أو أكثر من الأصول. والأصول إما رأس مال مادي يستخدم في العملية الإنتاجية مثل الآلات والمعدات والأبنية، وإما أصول مالية، هي حقوق ملكية لرأس المال المادي أو للمخزون السلعي، مثل الأسهم وحسابات الادخار مثلاً، أو أنها حقوق ملكية للأصول المالية، وهذه تسمى مشتقات مالية، ومنها العقود المستقبلية (للنفط أو للعملات الأجنبية مثلاً). فإذا انهارت قيمة أصول ما فجأةً، فإن ذلك قد يعني إفلاس أو انهيار قيمة المؤسسات التي تملكها. وقد تأخذ الأزمة المالية شكل انهيار مفاجئ في سوق الأسهم، أو في عملة دولة ما، أو في سوق العقارات، أو مجموعة من المؤسسات المالية، لتمتد بعد ذلك إلى باقي الاقتصاد.
- قد يحدث مثل هذا الانهيار المفاجئ في أسعار الأصول نتيجة انفجار"فقاعة سعرية" مثلاً. والفقاعة المالية أو السعرية، أو فقاعة المضاربة كما تسمى أحياناً، هي بيع وشراء كميات ضخمة من نوع أو أكثر من الأصول المالية أو المادية، الأسهم أو المنازل مثلاً، بأسعار تفوق أسعارها الطبيعية أو الحقيقية. السعر "الحقيقي" طبعاً هو مجموع القيم الحالية للعائد المستقبلي المتوقع للأصل، لعوائد السهم أو السند أو العقار في المستقبل مثلاً. فلنأخذ منزلاً إيجاره الشهري مئة دينار مثلاً لكن قيمته في السوق مليون دينار... غير معقول! لكن هذا هو بالضبط ما تسببه الفقاعة. فمن علامات الفقاعة إذن بيع وشراء الأصول بحثاً عن الربح الرأسمالي المتوقع (التصاعد في قيمة المنزل)، وليس بناء على العائد المنتظم أو غير المنتظم لتلك الأصول (إيجاره الشهري).
- والفقاعة تنشأ عندما تُصب أموال على أصول أكثر مما تبرره عوائدها، كما يحدث في عملية المضاربة. المضاربة بالطبع هي عملية بيع وشراء الأصول بأنواعها لذاتها، للاستفادة من تقلبات سعرها، وليس لاستخدامها في الأغراض التي وجدت من أجلها أو للاستفادة من عوائدها. مثلاً، بيع وشراء المنزل بدون استخدامه، أو بيع وشراء العملة الأجنبية ليس بغرض التجارة أو الاستثمار.
-لا يوجد إجماع في علم الاقتصاد الغربي على أسباب الفقاعات أو طريقة نشوئها، وهناك من ينكر وجودها أصلاً، معتبراً ارتفاع وانخفاض أسعار الأصول عمليات تصحيح ذاتي طبيعية بالنسبة للسوق. أما من يقر بوجودها، فيعزوها لعوامل عرضية لا يمكن التنبوء بها، وهناك نماذج أكاديمية تحاول إثبات إمكانية حدوث الأزمات المالية حتى بدون وجود مضاربة أو عدم يقين أو نقص في المعلومات.
-الموقف السابق الذكر من الفقاعات يعكس في جوهره تحيزاً عقيدياً مع حرية السوق: فالسوق لا تخطئ أبداً! أو أن أخطاءها (الفقاعات) حدث طبيعي كالزلازل والبراكين لا يمكن تجنبه! وبالتالي يمثل هذا الموقف دفاعاً عن المضاربة المالية، ورفضاً لأي قيود اجتماعية أو حكومية عليها بالرغم من قدرتها على إطلاق الأزمات المالية وزعزعة استقرار الاقتصاد. وينسب بعض الأكاديميين الغربيين الفقاعات أحياناً لخطأ في السياسة النقدية، لا في حرية السوق، عندما يقوم البنك المركزي بإبقاء معدل الفائدة أقل من اللازم، مما يطلق سيولة مالية كبيرة لشراء كمية محدودة من الأصول، فيؤدي لارتفاع سعرها بشكل مصطنع حسب قانون العرض والطلب.
ثانياً – أزمة الرهونات العقارية الأمريكية كسبب مباشر للأزمة المالية الدولية:
- ومن نفس المدرسة الفكرية الداعية لتخفيف تدخل الدولة في الاقتصاد، هناك من اعتبر مثلاً أن "الفقاعة العقارية" في الولايات المتحدة، التي انفجرت في شهر آب 2008، كانت نتاج قوانين تنظيم المدن، مدللاً على ذلك بأن ارتفاع أسعار العقارات جاء بشكل أعلى بكثير في المدن الأكثر تنظيماً منه في المدن الأقل تنظيماً، وبالتالي لا بد من تخفيف قوانين البناء وتنظيم المدن (أنظر مثلاً مقالة البرفسور وندل كوكس في 28/10/2008 على الإنترنت: "جذور أسباب الأزمة المالية" Root Causes of the Financial Crisis ).
- في الواقع كان حوالي 40 بالمئة من المنازل المباعة في عامي 2005 و2006 إما للاستثمار وإما للإجازة، حسب موقع CNN على الإنترنت في 30/4/2007، وعندما ألقى المضاربون المنازل في السوق لتحقيق ربح بأعداد كبيرة انخفض سعرها. فهذه لم تكن أزمة سكن مثلاً! لا بل تم بناء عدد كبير من المنازل خلال فترة ارتفاع سعرها، وفي عام 2008 كان أربعة ملايين منزل معروضاً للبيع، منها حوالي ثلاثة ملايين منزل فارغ، مما أسهم بانهيار الأسعار.
- انفجار الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة بدأ عامي 2006 و2007 بتزايد مهول في عدد العاجزين عن المثابرة على تسديد أقساط قروضهم العقارية، وازداد بالتالي عدد الذين صودرت منازلهم بشكل حاد، وهكذا بدأت الأزمة المالية في الولايات المتحدة فعلياً. فخلال عام 2007 وحده تعرض أكثر من 1،3 مليون منزل لمطالبات قانونية بالمصادرة. ويقدر مجموع قيم القروض العقارية في الولايات المتحدة عام 2008 باثني عشر ترليون (12 الف مليار) دولار، كان أكثر من 9،2 بالمئة منها مع مجيء شهر آب 2008 إما تحت المصادرة أو قد دخلت في حالة تعثر. وكان 43 بالمئة من حالات المصادرة لقروض عقارية ذات معدل فائدة متغير، لمقترضين "أقل جودة" subprime borrowers، أي لمقترضين كان ثمة مشكلة في تقييم قدرتهم على السداد أصلاً ممن ترتبط قروضهم بفوائد متغيرة مع السوق، لا ثابتة، فباتوا يعجزون عن دفع أقساط قرضهم العقاري المتصاعدة مع مرور الزمن.
- وعندما يعجز مقترض عن تسديد الأقساط في حالات فردية أو محدودة، فإن البنك الذي قدم له القرض يستطيع أن يستملك سيارته أو بيته أو مشروعه الاقتصادي، أما حين يكون التعثر ظاهرة عامة تصيب مئات آلاف أو ملايين الناس، فإن إلقاء الأصول المصادَرة بالجملة في السوق سيؤدي بالضرورة لانهيار سعرها حسب قانون العرض والطلب، وهذا ما حدث.
ثالثاً – انتقال الأزمة إلى المؤسسات المالية والأسهم غير العقارية:
- ومن السوق العقارية انتقلت الأزمة إلى المؤسسات المالية بسبب ما يسمى "توريق الرهونات العقارية"، وهذا يعني إصدار البنوك أوراقاً مالية أو أسهماً في ملكية عائد مجموعات متماثلة من القروض العقارية، تتيح لمن يشتريها أن ينال حصة منها، وان يتحمل بالتالي جزءاً من مخاطرها (التعثر مثلاً). ولننتبه هنا أن القروض العقارية أصل مالي يدر عائداً (أقساط القروض) للبنك أو الصندوق الاستثماري الذي يملكها، وأن أوراق الرهونات العقارية هي بالتالي أصول مشتقة، أي شكل من أشكال المشتقات المالية.
- وكانت بعض المؤسسات المالية العملاقة مثل "فاني ماي" Fannie Mae و"فردي ماك" Freddy Mac، و"جيني ماي" Ginnie Mae، تضمن حقوق مشتري أوراق الرهونات العقارية من خطر تعثر دفع الأقساط. فاني ماي وفردي ماك وحدهما كانتا تملكان أو تضمنان معاً نصف الرهونات العقارية في الولايات المتحدة عام 2008، الذي سبق الذكر أعلاه أن حجمه يبلغ 12 ترليون دولار. وبالتالي أدى انفجار الفقاعة العقارية إلى تدهور قيمة أسهمهما بشكل جنوني. وفي 8/9/2008 أعلنت الحكومة الأمريكية وضع اليد على الشركتين لحماية قيمة العقارات ككل، ووضعت مئتي مليار دولار كضمانة لهما. أما "جيني ماي" فهي حكومية أصلاً، ولننتبه أن كل هذه مجرد شركات وساطة مالية لا تقدم قروضاً عقارية للزبائن، بل تشتري القروض العقارية من البنوك وتورقها. فالحكومة كانت أصلاً جزءاً من عملية التوريق، و"فردي ماك" كانت تحت رقابة حكومية، فدخول الدولة على الخط هنا ليس جديداً، لكن انهيار العملاقين "فاني ماي" و"فردي ماك" يمثل بالضرورة فشلاً للرأسمالية غير المقيدة بالنسبة لكثيرين.
- وقد مر سوق الأسهم بانفجار فقاعات ضخمة من قبل، منها تضخم أسعار أسهم الشركات العاملة في قطاع الإنترنت (فقاعة "دوت كوم" كما تُعرف) بين عامي 1995 و2001، وصولاً لانهيارها بشكل مريع، ولم يؤدِ ذلك لانهيار اقتصادي، مع أن روبرت شيللر، أحد علماء الاقتصاد الأمريكيين، أفتى عام 2005 بأن انهيار فقاعة أسهم شركات الإنترنت لعب دوراً بانتقال رؤوس الأموال المضارِبة إلى سوق العقارات.
- كما أن بنك الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأمريكي) قام بين عامي 2001 و2003 بتخفيض معدلات الفائدة الأساسية من 6،5% إلى 1 %، جزئياً لإبقاء الاقتصاد الأمريكي بعيداً عن الركود بعد انفجار فقاعة "دوت كوم"، مما أطلق العنان لعمليات اقتراض ضخمة لغرض المضاربة والاستهلاك، لا الاستثمار المنتج.
رابعاً – حصاد الأزمة ونهاية ظاهرة البنك الاستثماري المتخصص، وازدياد تمركز الأصول:
-البنك الاستثماري المتخصص Investment Bank هو ذاك الذي يتخصص فقط بإصدار وبيع الأسهم والسندات لمصلحة الشركات والحكومات، وبالإشراف على عمليات الاندماج والاستيلاء بين الشركات.
-المهم بات لدينا الآن موصل جيد للحرارة والكهرباء ما بين سوق العقارات والمؤسسات المالية. وقبل "فردي ماك" و"فاني ماي"، كان أحد أكبر البنوك الاستثمارية في العالم، واسمه "بير ستيرنز" Bear Stearns، قد تضرر بشدة عام 2007 بسبب انهيار المشتقات المالية المرتبطة بقروض عقارية "أقل جودة" في صندوقي تحوط Hedge funds كان يديرهما. وقاد هذا في النهاية إلى استيلاء أكبر بنك أمريكي هو "جي بي مورغان تشيس" JP Morgan Chase على "بير ستيرنز"، الذي كانت تبلغ قيمة أصوله في نهاية عام 2007 أكثر من 395 مليار دولار، مقابل فتات هو 1،2 مليار دولار في 30/5/2008، وحتى هذا المبلغ تم دفعه بتبادل أسهم وليس نقداً، وكفل فرع البنك المركزي في نيويورك بقية أصول "بير ستيرنز" بقرض مضمون من الخسارة مقداره 29 مليار دولار لبنك "جي بي مورغان تشيس"!
-هنا يظهر بعد أخر في الأزمة، وكل أزمة في الرأسمالية، هي استيلاء الكبير على الصغير، والقوي على الضعيف، وهو ما يعتبره عتاة الرأسمالية أمراً طبيعياً وتطبيقاً لقانون بقاء الأقوى، مما جعل صقور الحزب الجمهوري كارهين لتدخل الدولة في الأزمة... مع العلم أن بنك بير ستيرنز الاستثماري لم يكن صغيراً ولا ضعيفاً، ولم يكن متخصصاً بالرهونات العقارية فحسب مثل فردي ماك أو فاني ماي مثلاً، بل كانت له عشرات الفروع حول العالم من سنغافورة إلى ساو باولو في البرازيل... فالمشهد كان أقرب لرأسمالية تأكل نفسها.
- والدليل على ذلك هو انتهاء ظاهرة البنك الاستثماري المتخصص في الولايات المتحدة في 22/9/2008 مع التحول الطوعي لأخِر بنكين استثماريين متخصصين هما "غولدمان ساكس" و"مورغان ستانلي" إلى مؤسسات تملك وتدير بنوكاً عادية تقبل الإيداعات وتقدم القروض.
-وبعد أن خسر عشرات المليارات من الدولارات خلال عام 2008 متأثراً بجراحه من جراء انفجار الفقاعة العقارية، قدم بنك استثماري عملاق أخر، هو ليمان براذرز Lehman Bros طلباً للمحاكم في 15/9/2008 لحمايته وحماية أصوله عملاً بقانون إشهار الإفلاس، فسجل بذلك أكبر قضية إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة، وسيطر بنك باركليز البريطاني على عمليات ليمان براذرز الاستثمارية في أمريكا الشمالية، وتولى بنك نومورا الياباني عمليات ليمان براذرز الآسيوية والأوروبية وفي "الشرق الأوسط".
-وفي 14/9/2008 تم الإعلان عن قيام "بنك أمريكا"، منافس "جي بي مورغان تشيس" على عرش أكبر بنك أمريكي، بالتهام بنك استثماري عملاق ودولي أخر، بسبب خسائره عام 2008، هو مؤسسة "ميريل لينش" Merrill Lynch مقابل خمسين مليار دولار، مع العلم أن أصول "ميريل لينش" في نهاية عام 2007 بلغت أكثر من ترليون أي أكثر من ألف مليار دولار!
- وفي 26/9/2008 أعلن سادس أكبر مصرف في الولايات المتحدة هو "واشنطن ميوتشول" Washington Mutual إفلاسه. وهذا البنك من فئة البنوك المتخصصة بحسابات الادخار فقط وتقديم القروض العقارية. وكانت الدولة قد وضعت يدها عليه في اليوم السابق وسلمته ل"مؤسسة التأمين على الودائع"، بسبب تعرضه لعمليات سحب إيداعات وصلت إلى 16،4 مليار دولار خلال عشرة أيام، وفي اليوم التالي قامت مؤسسة التأمين على الودائع ببيعه لبنك "جي بي مورغان تشيس" بمبلغ تافه هو 1،9 مليار دولار، تافه طبعاً بالقياس لأصوله البالغة 33 مليار دولار، وديونه البالغة 8 مليار دولار. أي أن الدولة قدمت صندوق الادخار والقروض العقارية هذا بسعر رمزي لبنك "جي بي مورغان تشيس".
- إذن نتج عن الأزمة توسع أكبر بنكين أمريكيين، وازدياد تمركز الأصول المالية بأيديهما، كما نتج عنها توسع بنوك دولية مثل "باركليز" و"نومورا"، على حساب بنوك ومؤسسات مالية أخرى، وتمت تصفية ظاهرة البنك الاستثماري المتخصص بالكامل. وكان مجموع البنوك الأمريكية في الربع الرابع من عام 2007 قد انخفضت أرباحها من أكثر من 35 مليار إلى أقل من مليار دولار. أما في الربع الأول من عام 2008 فقد انخفضت أرباح البنوك الأمريكية من أكثر من 35 مليار في العام السابق إلى أقل من عشرين مليار دولار. وقد توقع موقع شبكة CNN على الإنترنت في 6/10/2008 إفلاس أكثر من مئة بنك أمريكي خلال عام 2009.
- وتوسع البنوك الكبيرة من بديهيات الأزمة في الاقتصاد السياسي، لكن تصفية البنوك الاستثمارية المتخصصة، ووضع الدولة يدها على شركات الوساطة العقارية، يمثل اعترافاً عملياً بخطورة ترك الحبل على الغارب للرأسمالية المضارِبة غير المنتجة، ولو أن قسماً من الشريحة الحاكمة الأمريكية يريد أن ترفع الدولة يدها كي تتمكن الكتل المالية الكبرى من جني حصاد الأزمة بالتهام الآخرين بأبخس الأثمان، سوى أن أطرافاً أخرى أكثر تعقلاً في الشريحة الحاكمة ترى في ذلك خطراً على استقرار النظام ككل. فالخلاف هنا بين الرأسمالية المتدخلة والرأسمالية الحرة أو المتوحشة، لا بين الرأسمالية ونظام اقتصادي أخر مثلاً.
- وهكذا امتدت آثار الأزمة من السوق العقارية إلى الشركات المالية إلى سوق الأسهم إلى بقية الاقتصاد. وفي 16/9/2008 كادت تتدهور إحدى أكبر الشركات العالمية، وهي مجموعة التأمين الأمريكية الدولية American International Group (AIG)، ولها عمليات تأمينية متعددة على الحياة والسيارات وغيرها، وعمليات مالية وخدمات مختلفة، لكن فرعها في لندن كان في نفس الوقت البائع الأول لبوليصات التأمين على المشتقات المالية المرتبطة بالرهون العقارية، مما أثار لغطاً حول سيولة الشركة عندما انفجرت الفقاعة العقارية، وهددها بالإفلاس بعد انهيار سهمها 95 بالمئة. وفي 16/8/2008 قدم البنك المركزي الأمريكي (الاحتياطي الفيدرالي) قرضاً ب85 مليار دولار لشركة AIG، مقابل 80% من أسهم الشركة، ولم يكفها ذلك لدرء شبح الانهيار، فسحبت قرضاً إضافياً من البنك في 9/10/2008 بحوالي 38 مليار دولار إضافية في شهر تشرين الأول.
خامساً – الآثار العامة للأزمة المالية على النفط وسوق الأسهم وعالمياً:
- بين أول سنة 2008 وشهر تشرين أول من نفس العام، انخفض مجموع قيمة الأسهم الأمريكية من عشرين ترليون دولار إلى اثني عشر ترليون، أي خسر مالكو الأسهم أربعين بالمئة من ثرواتهم، وقاربت الخسارة في دول العالم الأخرى نفس المعدل تقريباً. وفي أواسط شهر أيلول 2008 كانت الأزمة قد انتقلت بكل عنفوانها خارج الولايات المتحدة. وبدأت تنتشر نفس الظواهر في أوروبا واليابان التي ظهرت في الاقتصاد الأمريكي، وفي بقية دول العالم، بمقدار الترابط في حلقات الاقتصاد العالمي.
- وأود بشكل خاص أن أسجل نقطة تتعلق بأسعار النفط هنا. فكما أشرت في مقالة "ارتفاع أسعار النفط" في "الجزيرة نت" في 23/10/2007 فإن الغرب ما برح يلوم أوبك على ارتفاع أسعار النفط، معتبراً أن المشكلة في نقص العرض، بينما تشير المقالات العربية إلى فائض الطلب على النفط وعقوده الآجلة. وقد تبين الآن بوضوح قاطع أن ارتفاع أسعار النفط عام 2008 كان سببه انتقال رؤوس الأموال المضارِبة من العقارات إلى النفط، وان انهيار رأس المال المضارِب ونظام المضاربة نفسه، ولو مؤقتاً، أدى إلى انخفاض أسعار النفط فوراً! وأن انخفاض النفط أسهم بارتفاع سعر الدولار، من بين عوامل أخرى، لأن النفط يُستورد بالدولار، وبالتالي قل عرض الدولار لشراء النفط، فارتفع سعره، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة.
- لكن ارتفاع أسعار النفط ومشتقاته، والغذاء، وكل ما يرتبط به، كان أحد أسباب تزايد تعثر القروض العقارية عندما وجد المقترضون أنفسهم مضطرين للاختيار ما بين الجوع ودفع أقساط قروضهم. وكان من الآثار العامة للأزمة انخفاض مبيعات السيارات بمقدار الثلث تقريباً لبعض الشركات الأمريكية، وهو ما يعبر عن دخول الاقتصاد حالة من الكساد.
- وبعد أن عاد معدل الفائدة للارتفاع، قام الاحتياطي الفدرالي بتخفيض معدل الفائدة الأساسي من 5،25 % في أول صيف 2006 إلى 1 % في نهاية شهر تشرين أول 2008. وقد ترافق ذلك مع ضخ 900 مليار دولار لحل أزمة السيولة واستعادة الثقة في النظام المصرفي، ويقدر أن تزيد، وقد جاء الاعتراض على خطة الإنقاذ من طرفين رئيسيين: صقور حرية السوق الذين رأوا فيها تدخلاً غير ضروري من الدولة في الاقتصاد، ويسار الحزب الديموقراطي الذي رأى فيها إنقاذاً لمن سببوا الأزمة على حساب دافع الضرائب الأمريكي. وأغلبية المعارضين في مجلس النواب والشيوخ كانت من الفئة الأولى.
سادساً – العراق والعجز الحكومي الأمريكي والعجز في الحساب الجاري:
- لكن كل ما سبق يفسر الآلية الداخلية للرأسمالية الأمريكية التي أنتجت الأزمة. لكنه لا يفسر توقيت الأزمة، ومدى حدتها. فعوامل الأزمة موجودة في بنية النظام الرأسمالي نفسه، وسبق أن انفجرت فقاعات مضاربة من قبل دون أن تؤدي للانهيار أو الذوبان، لأن الرأسمالية الأمريكية كانت قادرة أن تحل أزمتها تاريخياً على حساب غيرها. وتفسير الأزمة الأخيرة بأن سببها أساساً أعطاء القروض لمجموعة أشخاص غير مؤهلين لحملها فيه تسخيف للعقول، وفيه شيء من العنصرية البغيضة، لأن قسماً لا بأس به ممن تم التساهل في منحهم القروض جاءوا من صفوف الأقليات العرقية في الولايات المتحدة.
- فهناك أولاً العجز السنوي في الموازنة الحكومية الأمريكية الذي بلغ في السنة المالية 2007-2008 حوالي 455 مليار دولار، بدون المبالغ المخصصة لإنقاذ الاقتصاد، ويتوقع أن يبلغ العجز السنوي ضعف ذلك الرقم في السنة المالية القادمة. ويشكل تراكم هذه العجوزات السنوية الدين العام الأمريكي، وقد تخطى عتبة العشرة ترليون دولار مع نهاية السنة المالية في 30/9/2008. وفي 4/10/2008 تم رفع سقف الدين العام المسموح به إلى 11،3 ترليون دولار. ويشار إلى أن أكثر من أربعين بالمئة بقليل من الدين العام تدين به مؤسسات حكومية أمريكية لمؤسسات حكومية أخرى. أما الباقي فيملكه أثرياء الأمريكان والأجانب. الدين العام الأمريكي للأجانب يبلغ أكثر من الربع، وتأتي اليابان على رأس قائمة مالكي السندات والأذونات الحكومية الأمريكية، تليها الصين الشعبية، تليها بريطانيا.
- ويلاحظ النمو الانفجاري في العجز الحكومي الأمريكي منذ مجيء بوش الصغير للحكم، وكان قد وعد بفائض سنوي قدره ترليون وربع بين عامي 2001 و2004، لكن ذلك انقلب إلى عجز مقداره 850 مليار لعام 2005 فسره بوش آنذاك هكذا: "49% إعادة تقدير اقتصادية وتقنية، 29% إعفاءات ضريبية، و22% للحروب على الإرهاب وفي العراق ولتعزيز الأمن الداخلي"!!
- لكن هيهات! فالحرب في العراق حتى بدايات عام 2008 كلفت الخزينة الأمريكية 845 مليار دولار بشكل مباشر. وكتب البرفسور جوزيف ستيغلتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، كتاباً مع مؤلفة أخرى هي ليندا بيلمز صدر في 3/3/2008، ويحمل عنوان "حرب الثلاثة ترليونات دولار"، يقولان فيه أن الكلفة المباشرة وغير المباشرة لحرب العراق على الاقتصاد الأمريكي بلغت على الأقل، وبحسابات صارمة للغاية، أكثر من ثلاثة ترليونات من الدولارات. وأن ذلك كان سيُحدث كساداً كبيراً في الاقتصاد الأمريكي لو لم تتساهل البنوك بالإقراض، ولو لم يخفض البنك المركزي (الاحتياطي الفدرالي) معدلات الفائدة بشكل كبير. لذلك اعتبر المؤلفان أن العراق لعب دوراً رئيسياً في حدوث الأزمة المالية الأمريكية.
- ويضيف ستيغلتز وبيلمز بالمناسبة أن حل الحكومة الأمريكية للمشكلة يكمن في الاستيلاء على الصناديق السيادية العربية، وهي الصناديق الاستثمارية العربية المملوكة حكومياً التي تحتوي أصولها المالية من الأسهم للسندات للعقارات للمعادن الثمينة لغيرها.
- المهم، لولا المقاومة العراقية لما تكلفت أمريكا ثلاثة ترليونات دولار في العراق حتى الآن. هذا هو فضل العراق على العالم.
- من ناحية أخرى، تعاني الولايات المتحدة من عجز مزمن في حسابها الجاري منذ بداية الثمانينات، وقد تفاقم هذا العجز بشكل جنوني منذ مجيء بوش للحكم، وبلغ 758 مليار دولار مثلاً عام 2006، وانخفض إلى حوالي 739 مليار دولار عام 2007، ليعاود الارتفاع إلى كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من عام 2008، ليصل إلى 359 مليار فقط خلال الأشهر الستة الأولى.
- العجز في الحساب الجاري يعني أن أمريكا تستورد أكثر مما تصدر، أو أن عائدات أصولها في الخارج أقل من عائدات الأصول الأجنبية في أمريكا، أو أن حكومتها تنفق في الخارج أكثر مما تنفق الحكومات الأجنبية في أمريكا، أو كل هذا أو بعضه معاً. ومن المعروف في المالية الدولية أن العجز في الحساب الجاري يجب أن يوازيه فائض في الحساب الرأسمالي. وهذا يعني أن من يستورد أكثر مما يصدر إما أن يقترض من الخارج، وإما أن يبيع أصوله المحلية للأجانب. وأمريكا تفعل الأمرين معاً.
- التدفق المالي الآتي من الخارج إذن على شكل قروض لأمريكا أو على شكل استثمارات يجب أن يجد منافذ استثمارية مربحة بالنسبة له، ومن هنا نفهم التساهل في الإقراض، وانفلات عمليات المضاربة من عقالها لتحقيق عائد سريع، حتى باتت الرأسمالية الأمريكية تقتات على لحمها.
- وطالما كانت أمريكا قادرة أن تطبع الدولار بلا حسيب ولا رقيب، والعالم يطلب الدولار كعملة عالمية، فإن العجز المتفاقم في الحساب الجاري كان يشكل عاملاً كامناً للأزمة، ولكنه ما كان ليتحول إلى أزمة إلا إذا قلّ الطلب العالمي على الدولار، أو قلت رغبة العالم بشرائه، وهو ما حدث مع دخول اليورو على الخط، وخوف الصين واليابان وغيرها على قيمة احتياطاتها من الدولار بسبب التوجس من حالة الاقتصاد الأمريكي وانخفاض الدولار مع ارتفاع سعر النفط.
- والخلاصة أن سبب الأزمة الداخلي والبنيوي هو لاعقلانية رأسمالية المضاربة، والترابط الوثيق بين الأجزاء المكونة للاقتصاد الرأسمالي ضمن أمريكا وخارجها. لكن عوامل الأزمة البنيوية ما كانت لتنفجر، وفي هذا الوقت وبهذه الحدة، لولا تمتع أمريكا بموقع إمبراطوري في العالم أتاح لها على مدى عقود أن تستهلك من خلال طباعة الدولار فقط، والأهم، لولا تفاقم العجز الحكومي الأمريكي الذي تصاعد بشكل أسِّياً في ظل بوش بسبب حروب أمريكا في الخارج، خاصة في العراق. وتورط أمريكا في العراق أتاح بدوره لقوى جديدة في العالم أن ترفع رأسها وأن تأخذ مكانها في حلبة السياسة والاقتصاد العالميين، مما أضعف حيز المناورة المتاح لأمريكا في التعامل مع الأزمة.
- لكن هذا ليس بالضرورة نهاية المطاف بعد، بل يعتمد على: أ – قدرة الولايات المتحدة على تصدير أزمتها للعالم، خاصة للعرب، وما زالت هذه الإمكانية قائمة، ب – استعداد القوى الصاعدة، مثل الصين، لاتخاذ إجراءات عملية لتحجيم أمريكا مثل إلقاء حمولتها الضخمة من الدولار في السوق وتحمل الخسائر مما يمكن أن يدمر الدولار تدميراً، ج - تصاعد المقاومة للهيمنة الأمريكية-الصهيونية على العالم مما يفاقم العجز الحكومي الأمريكي بالضرورة.
الجزيرة نت
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire