سمير العيطة ـ كان ظنّنا أنّ العرب يأخذون مواقفاً سورياليّة هذه الأياّم فقط أمام المحن السياسيّة الكبرى، لحرجهم تجاه الضغوط التي تمارس عليهم من القوّة المهيمنة العظمى. فسورياليّةٌ كانت مواقفهم تجاه الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 2006، وكذلك تجاه أزمة دارفور، أو الاتفاقية الأمنية التي تزمع واشنطن توقيعها مع العراق لتبرير استمرار الاحتلال، أو خصوصاً تجاه تطاير الوعد الأمريكي بسلامٍ فلسطيني-إسرائيلي قبل نهاية ولاية جورج والكر بوش.
لكن يظهر أنّ السورياليّة هي منهاجٌ خاصٌّ بهم منتشِرٌ أيضاً إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية. وكان اجتماعٌ آخيرٌ بين دول مجلس التعاون الخليجي وفعاليّات فرنسيّة في باريس بهدف ترسيخ "شراكة استراتيجية دائمة" مناسبةً لقياس ألوانها وبهرجتها. ففي حين بدا همّ الأزمة الحالية على كلّ محاضرات الطرف الفرنسي، مسؤولين رسميين أم أصحاب أعمال، لم ترِد كلمة "أزمة" في أيٍّ من محاضرات أبناء الخليج، مسؤولين أم رجال أعمال، وكأنّها ليست موجودة، وكأنّها لم ولن تطالهم. وبقيت كلّ هذه المحاضرات نمطيّة: تعالوا واستثمروا في الخليج فلدينا أفضل مناخات الاستثمار في العالم.
ما هو الانطباع الذي ينتُج عن ذلك؟ ليس المطلوب التهويل بالأزمات، وإنّما فقط منح الثقة للطرف الآخر أنّ الوعي عن تأثيرات الأزمة موجود، وأنّ السلطات تقوم بكلّ ما تستطيع القيام به، وأنّ القطّاع الخاص لديه المتانة الكافية للتعامل مع وتخطّي الأزمة. وفي الحقيقة قامت الحكومات والسلطات النقديّة في دول الخليج بخطواتٍ تماثل نظيراتها في الولايات المتّحدة وأوروبا (ضمان الودائع، تأمين سيولة للمصارف، الوعد بالتدخّل لتأمين الرساميل لضمان ملاءة القطّاع المالي وإنقاذ المؤسّسات المتعثّرة)، وشهدت بورصات دول الخليج خسارات في مؤشّراتها تخطّت خسارات مثيلاتها الغربيّة. في حين يستمرّ التخوّف من اكتشاف "خسارات غير متوقّعة" أخرى (مع بعض التأخّر نتيجة ضعف الشفافيّة) ومن هبوط القطّاع العقاري. هذا في حين يشكّل القطّاع المالي (مصارف وشركات الاستثمار) 45% من رسملة الأسواق العربية، والقطّاع العقاري 8% والاتصالات 25% وكلّ الصناعة والتجارة والزراعة 22%. فلماذا يتمّ تجاهل الأزمة وكأنّ شيئاً لم يكن؟
السورياليّة لم تتوقّف عند هذا الحدّ. فقد طالب محاضرون بالإسراع بتوقيع اتفاقيّة التجارة الحرّة بين أوروبا ومجلس التعاون الخليجي، بل إلى تدخّل المفوضيّة الأوروبيّة والبنك وصندوق النقد الدوليين لتعميق "الإصلاحات الهيكليّة" في الاقتصادات الخليجيّة. مزيدٌ من تحرير الأسواق ومزيدٌ من الليبرالية المتطرّفة في السياسات الاقتصادية والمالية. هنا أيضاً بدت هذه الطروحات سورياليّة أمام فرنسيين، طردوا كلّ قناعاتهم السابقة وباتوا يستجدون الحكومات للتدخّل لإنقاذ القطّاع المالي ولإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية أمام هلعٍ حقيقيّ من تداعيات الأزمة على الاقتصاد الحقيقي (تسريح عاملين، إغلاق معامل كبيرة بانتظار تصريف المخازين). تبّاً لمعايير معاهدة ماستريخت وتبّاً لتوصيات مؤسسات "بريتون وودز" (التي لا ترغب حتّى إيسلاندا المفلسة أن تسمع نصائحها عارفةً بما فعلته في جنوب شرق آسيا والمكسيك والأرجنتين، وغيرهم). كذلك بدت الطروحات سورياليّة أمام العرب غير الخليجيين، من عدم الاكتراث إزاء فصل أوروبا بين الدول العربية "المتوسطيّة" وبين الخليج كمجموعتين مستقلّتين تماماً، ومن عدم الأخذ من تجربة "الشراكة الأورو-متوسطيّة" وتداعيّاتها على المجموعة "المتوسطيّة"، ومن رفض الخليجيين لمعايير حقوق العمالة في الاتّفاقات مع أوروبا (وهي معايير منظّمة العمل الدوليّة). سورياليّة وانفصام شخصيّة. فعمّاذا سيكون الحديث في القمّة العربيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة في الكويت في كانون الثاني/يناير القادم؟
وفي الوقت الذي تذهب فيه الاقتصادات المتطوّرة والاقتصادات الصاعدة لمؤتمراتٍ متتالية محاولةً صياغة "بريتون وودز" جديدة (خاصّة لناحية تعديل هيمنة العملة الخضراء وسيطرة واشنطن على مؤسّساته في ظلّ تضخّم العجز التجاري الأمريكي إلى مستويات غير معقولة)، لا مطالبة خليجيّة بالتواجد في هذه المؤتمرات لطرح وجهة نظرها وتثبيت ثقلها الدولي، المالي على الأقلّ. وفي الحقيقة، باسم من سيتحدّث الخليج، أبإسمه وحده أم باسم العالم العربي؟ وبأيّ منطق سيتحدّث الخليج، أبمنطق الليبراليّة و"الجنّات الضريبيّة"، في حين توجّه إلى هذه كلّ أصابع الاتّهام؟
منتهى السورياليّة كان الحديث المستفيض والمهوِّل عن "الأمن الغذائي" للخليج العربي. فقد اكتشف المستمعون متفاجئين أنّ الصحراء لا تنتج قمحاً وشعيراً، إلاّ قليلاً ومع استنفاذ الموارد المائية الضئيلة أصلاً (!). وقد تناسى المحاضرون أنّ القطّاع الزراعي لم يستجلِب سوى أقلّ من 1% من مجمل الاستثمارات الخارجيّة المباشرة إلى العالم العربي (الصناعة 17% فقط)، وأنّ هذه الاستثمارات ذهب معظمها لدول الخليج العربي، وللقطّاعات العقارية والخدميّة وللاتصالات بشكل رئيسي. ولو كان الاهتمام قد انصبّ على ريف البلاد العربية الزراعية في الماضي، وعلى تهيئة بنيته التحتيّة، لما وصل فلاّحو ورعاة السودان ومصر والمغرب، بل أيضاً اليمن والمغرب والعراق ولبنان وسورية إلى الحالة - غير السورياليّة - التي هم فيها اليوم. ولو كان الاهتمام قد انصبّ أيضاً على القطّاع الصناعي والخدمات العامّة لما وصل أهل المدن العربيّة إلى بطالتهم وفقرهم، أيضاً غير السورياليين.
في الحقيقة، الحقّ ليس على السورياليّة. فمع أنّنا ننعت بها من خرج عن المنطق، كانت هذه حركة فكريّة وفنيّة شكّلت ردّاً إنسانيّاً على آفات الحرب العالميّة وأسباب أزمة 1929 المالية والاقتصادية. الحق على من يبقي حالماً في قصره في زمن العواصف التي تهدّ الجدران.
افتتاحية لوموند دبلوماتيك – النشرة العربية
الكاتب اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum,
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire