الولايات المتحدة تدمر نفسها وتجر معها بقية العالم
تانيا كارينا هسو ــ ترجمة قاسيون ◄ "أعتقد أنّ المؤسسات المصرفية أكثر خطورةً على حرياتنا من الجيوش" (توماس جيفرسون، رئيس أمريكي، 1743-1826)....كثيراً ما يقال إنّ الأمر يتعلق بانهيار القروض العقارية ذات المخاطر، ما يخفي السبب الحقيقي للأزمة. وإذا جمعناها مع أزمة الرهون الفاسدة وغير الضرورية والملموسة، نستطيع على الأقل أن نلوم شيئاً "حقيقياً" على المجزرة. إنها أسطورة، وهنا تكمن المشكلة. يعود مدى هذا الانهيار المالي إلى أنّ كل شيء تأسس على الفراغ.
أعادت الصناعة المالية تسمية القروض المضمونة لتصبح "قروضاً تبادلية على العجز"، كما أعادت تسمية المراهنات ذات المخاطرة لتصبح "منتجات مشتقة". كان المديرون الماليون وكوادر الوسط المصرفي يبيعون أقصى خديعةٍ في العالم كله على شاكلة المشعوذين الذين كانوا يبيعون أدويتهم في القرن الثامن عشر، لكن هذه المرة ببذاتٍ وربطات عنق. في تشرين الأول 2008، بلغت هذه الصناعة، التي يتوصل عددٌ قليلٌ من الناس إلى فهمها، ألف مليار دولار.
الآن، تتهاوى الولايات المتحدة، التي تدعمها الآمال الكاذبة، مثلما يتهاوى قصرٌ من ورق اللعب.
بدأ كل شيء في مطلع القرن العشرين. في العام 1907، روّج ج. ب. مورغن، وهو مصرفي خاص من نيويورك، شائعةً تفيد بأنّ مصرفاً كبيراً منافساً ـ دون أن يقول اسمه ـ على وشك الغرق. كان ذلك اتهاماً كاذباً، لكنّ الناس سارعوا مع ذلك كلٌ إلى مصرفه ليسحبوا أموالهم، خشية أن يكون هذا المصرف هو المعني بالإشاعة. ومع سحبهم لأموالهم، خسرت المصارف إيداعاتها من المال واضطرت للتذكير بقروضها. توجب على الزبائن حينذاك دفع رهونهم كي تحصل المصارف على عوائد، وهي سيرورةٌ أدت بهم إلى الإفلاس. أثار ذعر العام 1907 انهياراً حثّ على إنشاء الاحتياطي الفيدرالي، وهو كارتل مصرفي خاص يتزين بزينة منظمة حكومية مستقلة. في الحقيقة، كانت تلك حيلةً من نخبة المصرفيين هدفت إلى التحكم بالصناعة.
سمح القانون الذي جرى توقيعه في العام 1913 للاحتياطي الفيدرالي بإقراض أموال الأمة وطباعتها، لكن بفائدة. وكلما كان يطبع مزيداً من المال، كلما كان يولّد عوائده الخاصة. كان الاحتياطي الفيدرالي، بحكم طبيعته ذاتها، مرهوناً لإنتاج ديونٍ إلى الأبد ليستمر في الوجود. وقد تمكّن من طباعة الاحتياطي النقدي على هواه، متحكماً بقيمته. لكن من أجل التحكم بتلك القيمة، كان لابد من مراقبة التضخم.
لذا، ضاعف الاحتياطي الفيدرالي الاحتياطي النقدي الأمريكي في غضون خمس سنواتٍ واستعاد نسبة فائدةٍ مرتفعة للقروض. انهار أكثر من خمسة آلاف مصرف بين ليلةٍ وضحاها. بعد سنة، رفع الاحتياطي الفيدرالي مجدداً الاحتياطي النقدي بنسبة 62 بالمائة، لكنه ذكّر مجدداً بكميةٍ كبيرة من القروض. هذه المرة، أدى انهيار العام 1929 إلى إفلاس أكثر من 16 ألف مصرف وأغرق البورصة بنسبة 89 بالمائة. تمكنت المصارف الخاصة والمحمية جيداً في نظام الاحتياطي الفيدرالي من نهب المصارف المفلسة مقابل حفنةٍ من المال.
دخلت البلاد طور الانكماش الكبير، وفي نيسان 1933، أصدر الرئيس روزفلت قراراً بمصادرة كل سبائك الذهب التي يمتلكها الجمهور. كان من يرفضون تسليم ذهبهم يسجنون لمدة عشرة أعوام، وفي نهاية السنة، جرى إلغاء معيار الذهب. حلت عملةٌ ورقيةٌ لها سعرٌ رسمي محل ما كان يمكن استبداله بالذهب في الماضي، ولم يعد ممكناً بيع الذهب مقابل المال.
بعد سنوات، في العام 1971، ألغى الرئيس نيكسون بالكامل معيار الذهب، فلم يعد سعر الدولار ثابتاً ويقدّر بخمسةٍ وثلاثين دولاراً مقابل أونصة الذهب على المستوى العالمي. كانت الولايات المتحدة تقرر حينذاك سعر الدولار لأنّ قيمته كانت تساوي قيمة الذهب. لم يكن له أي معيار قياسي وأصبح العملة العالمية. حلت سندات الخزينة (التزامات قصيرة الأجل) والالتزامات طويلة الأجل، أي سندات الحكومة الأمريكية التي يسددها دافعو الضرائب، محل الذهب من حيث القيمة. فضلاً عن ذلك، وباعتبار أنّ الذهب مستثنى من الالتزامات المرتبطة بالتصريحات، على عكس الأنظمة النقدية الائتمانية الغربية (المستندة إلى الائتمان)، لم يكن ممكنا إعادة عرضه. لم يقدم ذلك فائدةً كبيرة للولايات المتحدة.
بعد الانحسار الكبير، ظلت المصارف الخاصة تخشى تقديم قروض عقارية. فأسس روزفلت مصرف فاني ماي، وهو مصرفٌ للتمويل العقاري تدعمه الدولة ويقدم أموالاً فيدرالية لتمويل قروض ميسرة للمساكن. في العام 1968، خصخص الرئيس جونسون فاني ماي، وفي العام 1970، جرى تأسيس مصرف فريدي ماك لينافسه. كان المصرفان يشتريان رهون المصارف والمقرضين الآخرين ويبيعانها لمستثمرين جدد.
أدت الفورة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية إلى أن تفيض الأموال والموجودات في أمريكا. واستفادت الولايات المتحدة، بوصفها مجمعاً عسكرياً صناعياً، من الحرب استفادةً أسّية، وارتفع هذا البلد إلى مستوى القوى العظمى، على عكس كل إمبراطوريات التاريخ. لكنّه نسي أن صعود الإمبراطوريات يتناسب تاريخياً مع أفولها.
كان بوسع الأمريكيين اقتناء كل التسهيلات الحديثة، عبر تصدير سلعهم المصنّعة عبر العالم. بعد حرب فيتنام، شهدت الولايات المتحدة انحساراً اقتصادياً، لكنّ الناس رفضوا التخلي عن مستوى حياتهم المرتفع على الرغم من خسارة الوظائف، وأصبح الإنتاج يتم أكثر فأكثر في الخارج. ساد شعورٌ وهمي بوجود حقٍ مكتسب أبقى الأمريكيين على بساط الاستهلاك المتحرك.
في العام 1987، انخفضت البورصة الأمريكية بنسبة 22 بالمائة في يومٍ واحد بسبب صفقات عقود آجلة قياسية عالية المجازفة، تدعى "منتجاتٍ مشتقة"، وفي العام 1989، دفعت أزمة مصرف سيفينغ أند لونز الرئيس جورج بوش الأب إلى استخدم 142 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب لإنقاذ المصرف. ولتحقيق ذلك، كلف مصرف فريدي ماك بمهمة منح قروض عقارية ذات مخاطر بفوائد تفضيلية لأسرٍ منخفضة الدخل. في العام 2000، انفجرت "الوفرة غير العقلانية" للفقاعة التقنية وأفلس أكثر من 50 بالمائة من شركات التقنيات الرفيعة، ما أدى إلى حذف خمسة مليارات من الدولارات من القيمة السلعية المبالغ فيها.
بعد الأزمة، حافظ رئيس الاحتياطي الفدرالي آلان غرينسبان على انخفاض نسب الفائدة بحيث كانت أقل من التضخم. كان جميع المدّخرين يخسرون المال في الحقيقة، وسرعان ما أصبحت نسبة الفائدة سلبية.
في التسعينات، زاد المعلنون نشاطاتهم وروجوا لأسلوبٍ حياةٍ أكثر بذخاً، يمكن الوصول إليه بفضل القروض السهلة وقليلة الكلفة. أصبحت الرهون الثانية عملةً رائجة واستخدمت قروض الحصول على الملكية لتسديد حسابات بطاقات الاعتماد. كلما كان الأمريكيون يشترون، كلما كانوا يستدينون. لكن طالما أنهم كانوا يمتلكون منزلاً، كان شعورهم الزائف بالأمان يدوم: كان المنزل رأس مالهم الخاص، وقيمته تزداد باستمرار، وبوسعهم إعادة رهنه بنسبٍ أدنى عند الضرورة. كما كانت الصناعة المالية تعتقد أيضاً أنّ أسعار العقارات سترتفع باستمرار، وأنها في حال انخفضت، فسيخفض المصرف المركزي أسعار الفائدة لإعادة رفع الأسعار. اعتقد الجميع أنّ الأمر يتعلق بوضعٍ رابحٍ على الدوام.
سمح أكثر أسعار الفائدة انخفاضاً في عهد السيد غرينسبان للجميع بامتلاك منزل. كان بوسع العمال العاملين بالحد الأدنى للأجور الطامحين لشراء منزلٍ تبلغ قيمته نصف مليون دولار أن يضمنوا قروضاً تبلغ قيمتها 100 بالمائة كما كان المقرضون واعين تماماً بأنّ العمال لن يتمكنوا من الاستمرار في التسديد.
حصل أناسٌ عديدون على قروضٍ ذات مخاطر وجدت فيها شركات توظيف الأموال والمقرضون حيلةً جديدة: تجميع هذه القروض العقارية عديمة القيمة افتراضياً وإعادة بيعها على شكل استثماراتٍ لبلدانٍ غير مدركة لن ترى الفارق. لم يتأثر أسلوب الحياة المفرط لدى الأمريكيين ونزعتهم الاستهلاكية أبداً، وكانت أممٌ أجنبية ليست أكثر مهارةً هي التي تموّل كل شيء.
أقرضت المصارف على الدوام كمياتٍ من الأموال أكثر مما تملك، لأنّها تستقي دخلها من دفع الفوائد. كلما زاد مصرفٌ الأموال التي يقرضها، كلما تلقى فوائد، حتى دون أن يكون هنالك مالٌ في خزائنه الحديدية. إنها صناعةٌ مربحة أن تعطي المال الذي لا تملكه بدايةً. بل إنّ مصارف الإقراض العقاري وشركات توظيف الأموال اقترضت المال من الأسواق النقدية العالمية لتمويل هذه القروض العقارية بمجازفةٍ تبلغ 100 بالمائة وأكثر، وبدأت تقرض أكثر من عشرة أضعاف أصولها الكامنة.
بعد الحادي عشر من أيلول، طلب جورج بوش من الأمة أن تستهلك في خضمّ الحرب، وهذا ما فعلته الأمة. لقد اقترضت بمستوياتٍ غير مسبوقة لا لتدفع ثمن حربها على الإرهاب في الشرق الأوسط فحسب (تقدّر التكاليف بأربعة تريليون دولار)، بل كذلك لتدفع خفض ضرائبها في الوقت ذاته الذي كان يتوجب فيه زيادة هذه الضرائب. أنقص بوش الاحتياطيات الإلزامية في فاني ماي وفريدي ماك من 10 بالمائة إلى 2.5 بالمائة. كانا حرين ليس فقط في أن يقرضا أكثر، بأسعار فائدة في أدنى مستوياتها، بل لم يكن يتوجب عليهما كذلك أن يملكا إلا جزءً من الاحتياطيات. سرعان ما أقرضت المصارف مبالغ تقدّر بثلاثين ضعف قيمة أصولها. وصف أحد الباحثين الاقتصاديين هذا الوضع بأنه "تهتّكٌ في الإفراط".
كان ذلك إفراطاً في النفقات في زمن الحرب. لم يشهد التاريخ بلداً تورط في نزاعٍ دون تضحية، دون تخفيض الميزانية، دون زيادة الضرائب ودون سياسةٍ اقتصاديةٍ محافظة.
وكما حدث في العام 1929، كانت فرص أن يسارع جميع المستثمرين للمطالبة بأموالهم في الوقت نفسه تزداد.
إذن، لضمان هذه الرهون عالية المجازفة، ابتكرت شركات الاستثمار التي كانت تبيعها بوليصات تأمين على الاستثمارات في هذا النمط من الإقراض، تباع باسم "مقايضة العجز" (CDS). غير أنّه توجّب على الحكومة تنظيم هذه البوليصات قانونياً، فأطلقت عليها اسم CDS، وبقيت غير منظمة قانونياً. "غطت" المؤسسات المالية "مضارباتها" وباعت أقساطاً تأمينية لحماية أصولها المضاربية. بعباراتٍ أخرى، أصبح ممكناً لأصلٍ ينبغي أن تزداد قيمته أن يكون له رهانٌ خاص، في حال انخفض. في تشرين الأول 2008، بلغت صفقات بوليصات مقايضة العجز 62 مليار دولار، وهو مبلغٌ أعلى من كل بورصات العالم مجتمعةً.
لم تكن لهذه المضاربات أية قيمة إطلاقاً ولم تكن استثمارات. لم تكن سوى أدواتٍ مالية دعيت باسم المشتقات ـ مضاربات عالية المجازفة، "لاشيء أتى من لاشيء" ـ أو كما قال وارن بوفيه، "أسلحة دمار شامل مالية". بلغت "قيمة" صفقات المشتقات أكثر من مليار مليار دولار، أي أكثر من اقتصاد العالم أجمع. (في أيلول 2008، بلغ الناتج الإجمالي المحلي العالمي 60 تريليون دولار.)
بعد أن أدينت ممارسة المشتقات بوصفها غير شرعية في العام 1990، شرعنها آلان غرينسبان. سرعان ما أصبحت صناديق التحوط صناعةً بحد ذاتها، تضارب في المشتقات في السوق وتراهن بقدر الرغبة. كان ذلك سهلاً، إذ تعلّق الأمر بأموالٍ لم تكن لديها في البداية. كان للصناعة شكل مصرفٍ بالكامل، لكنّ صناديق التحوط، صناديق الأسهم ووسطاء المشتقات، لم يكن لديها منفذ للقروض الحكومية في حال الإفلاس. لدى عدم تسديد الملاكين لالتزامهم، لم يكن لدى صناديق التحوط مال للدفع "انطلاقاً من لاشيء". لم يكن بوسع أولئك الذين غطوا أصلاً تزداد قيمته أو ترتفع الاستفادة من الأرباح أو الخسائر.
أصبحت هذه السوق أكبر صناعة في العالم، وجمع كل العمالقة الماليين الأرباح: بير شتيرنز وليمان براذرز وسيتي غروب وAIG. لكنّ مالكي البيوت، الذين بلغوا قبل وقتٍ طويل حدود الإقراض، بدؤوا يعجزون عن تسديد أقساطهم. كانوا يدفعون المال ليس لتسديد قرض بيتهم فحسب، بل كذلك كل الديون المتجمعة على مدى الزمن للحصول على سيارة وبطاقة ائتمان وقرض طلابي ونفقاتٍ طبية وقروض نفاذ إلى الملكية. اقترضوا لدفع ثمن البقالة وأقساط التأمين الصحي التي ارتفعت كالسهم قبل الاحتفاظ ببيوتهم الأكبر وسياراتهم الأكبر. أعادوا تمويل ديونهم ذات أسعار الفائدة الأدنى، التي ارتفعت بسرعة. كان ربع دخل المواطن الأمريكي المتوسط السنوي يستخدم لتسديد ديون بطاقة الائتمان وحدها.
في العام 2008، بدأت أسعار البيوت تهبط فجأةً والرهونات تخسر قيمتها. انخفضت الطلبيات الصناعية بنسبة 4.5 بالمائة قبل أيلول، بدأت الموجودات تتكدس، ارتفع معدل البطالة بشدة، وازدادت الحجوزات بنسبة 121 بالمائة، وفي كاليفورنيا بنسبة 200 بالمائة.
توجب على عمالقة المال التوقف عن التعامل بهذه السندات التي جرى إسنادها إلى أقساطٍ رهنية (MBS)، إذ أصبح يتوجب تبرير خسائرهم. بدأ المستثمرون يسحبون أموالهم. كانت بير شترنز، المتخصصة في محافظ سندات الرهن، أول الراحلين في آذار.
ومثلما فعلت في القرن العشرين، أتت شركة جي بي مورغن لتلتهم بير شترنز مقابل حفنةٍ من المال. قبل عامٍ واحد، كان سعر سهم بير شتيرنز 159 دولار، لكن جي بي مورغن تمكنت من الشراء بدولارين للسهم. في أيلول، انهار مصرف واشنطن ميوتوال: كان ذلك أكبر إفلاسٍ مصرفي في التاريخ. ومرةً أخرى، تدخلت جي بي مورغن ودفعت 1.9 مليار دولار لأصولٍ كانت قد قيّمت بـ176 ملياراً.
خسر فاني ماي وفريدي ماك، المصرفان اللذان اشترتهما الدولة والمسؤولان عن 80 بالمائة من قروض الرهون، نحو 90 بالمائة من قيمتهما أثناء الصيف. كانا مسؤولين معاً عن نصف القروض غير المسددة، لكن مقابل كل دولار احتياطي، كانا مدينين بثمانين دولاراً.
كي يضمن الاحتياطي الفدرالي بقاء فاني ماي وفريدي ماك، تدخل وأصبح يتحكم بهما. في السابع من أيلول 2008، "وضعا تحت الوصاية"، وهو ما يدعى بالتأميم في أرجاء أخرى من العالم، لكنّ الأمريكيين يتبرّمون من كل مهارةٍ حكومية تتطلب زيادة الضرائب.
في الحقيقة، أعطت الحكومة هامش إقراضٍ غير محدود. وبما أنّ هذا الهامش أتى من الاحتياطي الفدرالي لا من الخزينة، تمكن من تجاوز الحصول على موافقة الكونغرس. ثم باعت وزارة الخزينة سندات الخزينة بالمزاد العلني لجمع أموالٍ مكرسة فقط للاحتياطي الفدرالي. لكنّ دافع الضرائب هو الذي موّل الإنقاذ. استنزف المصرفيون النظام بعشرة مليارات من الدولارات في عمليات التحوط والمضاربة على المشتقات، وأثاروا تجميد نظام القروض بين المصارف، الذي توقف عن العمل وانهار.
جرى تعريف الاستيلاء بأنه إنقاذٌ بقيمة 700 مليار دولار تعسفية، وهو أمرٌ لا يحل شيئاً من المشكلة. لم يطلب أحد من أي اقتصادي تقديم رأيه للكونغرس، وكل ما يفعله هذا القرض هو إدامة أسطورة أنّ النظام المصرفي لم يمت حقاً.
في الحقيقة، لن تكون قيمة الأضرار 700 مليار دولار، بل نحو خمسة تريليون دولار، أي قيمة رهون فاني ماي وفريدي ماك. لم يكن ذلك إلا إنقاذاً لصناعة المشتقات التي تبلغ مليار مليار دولار، والتي لولا ذلك لتوجب عليها مواجهة أرباح أسهم تتجاوز مليار دولار بالنسبة للـCDS والـMBS المباعة. كان ضرورياً، وفق وزير الخزينة هنري باولسون، إنقاذ البلاد من "هبوطٍ في سوق العقارات". لكن، أضاف، شراء 700 مليار دولار مولها دافعو الضرائب لن يمنع سقوط مصارف أخرى، ما سيؤدي بالتالي إلى انهيار البورصة.
بعباراتٍ أخرى، كان هنري باولسون يبتز الكونغرس بهدف إتاحة الفرصة للنخبة المالية كي تقوم بضربةٍ تحت ستار ضرورة سن تشريعٍ لدرء الضرر. لكنّ ذلك لم يؤدّ إلا إلى تحويل الثروات من طبقةٍ إلى أخرى، وهذا ما كانت عليه الحال منذ نحو قرن. ما إن خرجت الكلمات من فم باولسون حتى تفككت مؤسساتٌ ماليةٌ أخرى وتبع ذلك تفكك النظام المالي العالمي، المؤسس بصورةٍ كبيرة على نظامٍ مصرفي أمريكي مجيد.
في أيلول، وبعد أن ضمن الاحتياطي الفدرالي هامش إقراضه، اشترى 80 بالمائة من أسهم أكبر شركة تأمينٍ في العالم، AIG، بمبلغ 85 مليار دولار. كانت AIG أكبر بائعي الـCDS، لكنها ترنحت على حافة الإفلاس حين توجب عليها بيع ممتلكاتٍ قدمتها كضمانٍ لم تكن تملكه.
في تشرين الأول، أفلست أيسلندا بأكملها، فقد اشترت قروضاً عقارية ذات مخاطر كاستثمارات. بدأت المصارف الأوروبية تنفجر، إذ كانت كلها ترغب في شراء أسهمها المتضخمة لتسديد ديونها بأسعار فائدة منخفضة قبل أن ترتفع مجدداً. في العام السابق، كانت المؤشرات واضحةً حين انهار كاونتريوايد، أكبر مقرِض عقاري أمريكي. بعيد ذلك، غرق أكبر مقرِضٍ في المملكة المتحدة، ناذرن روك: كانت لندن تنسخ منذ زمنٍ طويل نظام وول ستريت المالي الخلاق. انخفضت قيمة أسهم شركات تصنيع السيارات اليابانية والكورية بنسبة 37 بالمائة، ما أدى إلى تقلص اقتصادات العالم بأكمله. كما أنّ باكستان هي أيضاً على حافة الإفلاس، باحتياطياتها الحقيقية البالغة ثلاثة مليارات دولار، وهو مبلغٌ يكفي لشراء احتياطيات غذائية ونفطية لمدة شهر ومحاولة تجميد تسديد مستحقاتها للمملكة العربية السعودية التي تزودها بمائة ألف برميل من النفط يومياً. في عهد الرئيس مشرّف، الذي ترك السلطة في الوقت المناسب تماماً، خسرت العملة الباكستانية 25 بالمائة من قيمتها، ووصل تضخمها إلى 25 بالمائة.
في هذه الأثناء، ارتفعت أسعار الطاقة كالسهم، وبلغ سعر النفط ذروةً قاربت 150 دولار للبرميل هذا الصيف. سرعان ما جرى تكبيد المالكين، المستنزفين أصلاً، كلف التدفئة والنفط والنقل والإنتاج. مع أنّ 30 بالمائة من كلفة إنتاج برميل النفط تستند إلى المضاربات في وول ستريت، وارتفعت إلى 60 بالمائة في الصيف بسبب خشية المضاربين. ما إن ضربت الأزمة المالية حتى انخفضت أسعار النفط فجأةً، من 147 دولار في حزيران إلى 61 دولار، وهذا يبرهن على أنّ نسبة 60 بالمائة لعامل المضاربة كان دقيقاً تماماً. كما كشف هذا الانخفاض المفاجئ عدم تحكم الأوبيك بالارتفاع الكبير للأسعار في السنوات الأخيرة، وهو تحكمٌ يقع بصورةٍ شبه مباشرة على كاهل المملكة العربية السعودية. في أيلول، حين حاولت الأوبيك المحافظة على أسعارٍ أعلى بخفض الإنتاج، صوتت المملكة العربية السعودية ضد مثل هذه المبادرة، على حساب دخلها الخاص.
قررت أوروبا حينذاك بأنها لن تفلس بعد ذلك بسبب إفراطات الولايات المتحدة. ربما كانت "أوروبا العجوز" قد سئمت بما يكفي من إملاءات الولايات المتحدة، التي رفضت إجراء تسوياتٍ على القروض التي تعاقدت عليها بلدانها المنهارة بعد الحرب العالمية الثانية. في الثالث عشر من تشرين الأول، أيدت أمم أوروبا، التي كانت في الماضي منقسمة، من جانبٍ واحد خطة إنقاذ تبلغ قيمتها 2.3 تريليون دولار، وهو ما يمثّل ثلاثة أضعاف الخطة الأمريكية لمواجهة كارثةٍ تسببت بها الولايات المتحدة وحدها.
في منتصف تشرين الأول، محت مؤشرات داو وناسداك وإس أند بي 500 كل أرباحها المتراكمة في العقد المنصرم. أدت الحيلة الهرمية للمال السهل انطلاقاً من لاشيء إلى فرط وفرة الائتمان ومبالغة في أسعار المنازل وتقييم غير معقول للأسهم، نتج عن أنّ المستثمرين لم يكونوا يسحبون أموالهم في وقتٍ واحد. لكنّ كل شيءٍ انهار بسرعةٍ مذهلة، دون حلٍ في الأفق. قال الرئيس بوش إنّه يجب على الناس ألا يقلقوا إطلاقاً لأنّ "الولايات المتحدة هي الوجهة الأكثر جاذبيةً لمستثمري العالم أجمع".
أولئك الذين سيعانون أكثر من غيرهم هم الرجال والنساء الذين بنوا البلاد بعد الحرب العالمية الثانية وبلغوا سن التقاعد بعد أن وفّروا تعويضاتهم التقاعدية. لقد بنوا طيلة سنوات الحرب، صنعوا الأسلحة للنزاعات العالمية. أثناء الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي العدو الأكبر، الذي واصل مجمّعه العسكري الصناعي نموه. لا تستفيد الولايات المتحدة إلا حين تكون هنالك حرب.
لن تسمح روسيا بقيام حربٍ باردةٍ جديدة مع تضاعف عدد الصواريخ البالستية. من جانبه، رأى الشرق الأوسط حليفه التاريخي يتحول إلى أسوأ كوابيسه، عسكرياً واقتصادياً. لن تواصل هذه الأمم دعم الدولار بوصفه العملة العالمية. لم تعد الولايات المتحدة تتحكم بالاقتصاد العالمي وهي مدينة لبقية بلدان العالم. لن تطلب بعد الآن من أكبر مزوديها بالنفط في الشرق الأوسط أن تفتح محافظها المصرفية لتكون شفافة وتبرهن على غياب الفساد أو الصلات الإرهابية دون أن تكون هنالك عواقب: لقد ارتكبت الولايات المتحدة للتو أكبر فسادٍ إجرامي في التاريخ.
كان ذلك أفضل احتيال في المدينة: أن يكون أجرك جيداً لتبيع بكمياتٍ كبيرة مع المجازفة وتفشل وتترك الحكومات تحل المشكلة على حساب دافعي الضرائب الذين لم يروا فلساً واحداً من الثروة العامة.
ما من حلٍ سهلٍ للأزمة، ومفاعيلها تتفاقم كمرضٍ سارٍ.
من سخرية القدر أنّ المصارف الإسلامية كانت الأقل تأثراً بالأزمة.
لقد تمتعت بحمايةٍ كبيرة من الانهيار، لأنها تحظر الاستحواذ على الثروات بالقمار (أو الكحول أو التبغ أو العري أو الأسهم في شركات التسلح) وتمنع شراء وبيع دين، وكذلك الربا. فضلاً عن ذلك، تحرّم قوانين المصارف الإسلامية الاستثمار في شركةٍ تزيد ديونها عن 30 بالمائة.
"لم تنهر المؤسسات المصرفية الإسلامية لسببٍ بسيط، هو أنها تتعامل مع أصولٍ ملموسة وتتحمل المخاطر"، يؤكد محمد رمادي، أستاذ الاقتصاد في جامعة الملك فهد للنفط والموارد المعدنية. "على الرغم من أنّ المصارف الإسلامية جزءٌ من الاقتصاد العالمي، فتأثير تعرضٍ مباشرٍ للاستثمارات في القروض العقارية ذات المجازفة كان شبه معدوم. لقد أثّر نقص السيولة بصورةٍ خاصة في دبي، التي اقترضت مبالغ كبيرة على المستوى العالمي. سيتمثل أكبر أثرٍ سلبي في فقدان الثقة بالبورصات الإقليمية." إنّ الدول العربية ذات الفائض النفطي "تعيد النظر في استثماراتها في الأصول المالية في الخارج" وتسرّع مشاريعها الوطنية.
منذ ثماني سنوات، في أيار 2000، قدّم المصرفي الإسلامي السعودي الدكتور نايف بن فواز الشعلان سلسلة محاضراتٍ في دول الخليج. في تلك الفترة، أظهرت أبحاثه أنّ الاستثمارات العربية في الولايات المتحدة تبلغ 1.5 مليار دولار، وهي في واقع الأمر رهينة، وأوصى بسحبها وإعادة استثمارها في أصولٍ ملموسة للسوق العربية والإسلامية. "لكن ليس في أسهم، إذ يمكن التلاعب بالبورصة عن بعد، كما رأينا في السنوات الأخيرة في الأسواق العربية، حيث تبخرت مليارات الدولارات."
ثمّ أعلن يقينه بأنّ النظام الاقتصادي الأمريكي على حافة الانهيار، بسبب ديونه التراكمية والتزايد المستمر لعجزه وفائدة هذه الديون. "حين تستحق هذه الديون والعجوزات التسديد، سوف يصدرون ببساطة سندات خزينة جديدة، لتغطية السندات القديمة التي آن سدادها، بفوائدها وعجزٍ جديد". لا يمكن توقيف الدورة أو إلغاء الديون لأنّ الولايات المتحدة لن تعود قادرةً على الاستدانة. سينجم عن إصلاح هذه الدورة انهيار نظامها الاقتصادي، في مقابل الانهيار الجزئي للعام 2008، رغم ضخامته.
أكّد حينها الدكتور الشعلان إنّ "المصارف الإسلامية تحمي دائماً ثروة الأفراد وتضع في الآن ذاته حداً للأنانية والبخل. إنها تمتلك أفضل جوانب الرأسمالية، عبر إسقاط ما هو سلبي، وأفضل جوانب الاشتراكية، عبر إسقاط ما هو سلبي فيها أيضاً". كان لابد لكلا النظامين من أن ينهار. فضلاً عن ذلك، لم يعد ينبغي تحميل أوروبا واليابان المسؤولية وجعلهما مدينتين للولايات المتحدة لحمايتهما من السوفييت.
"يكمن الفارق الأساسي بين النظام الاقتصادي الإسلامي والنظام الاقتصادي الرأسمالي في أنّ الثروة في الإسلام ملكٌ لله، والفرد ليس سوى مدبّرٍ لها. إنها وسيلةٌ لا غاية. أما في الرأسمالية، فالأمر معاكس: المال ملك الفرد وهو هدفٌ بحد ذاته. وفي الولايات المتحدة خصوصاً، يجري تبجيل المال كأنه إله".
في المحصلة، نتج انهيار النظام الاقتصادي العالمي عن الوقاحة الضريبية في الولايات المتحدة، المؤسسة على نمطٍ من التنظيمات خاصٍ بها، وآخر لبقية العالم. لقد خدع تمويلها الابتكاري المتزايد شعبها عبر منحه إحساساً كاذباً بالأمن، وأصبحت البلاد تشبه الفشل التام للرأسمالية.
كادت كل ممارسة الديمقراطية بالقوة ضد الأمم العربية الإسلامية أن تضع الولايات المتحدة موضع الإفلاس. انتهت الحرب الباردة ولم يعد لدى الولايات المتحدة لتقدمه: لا صادرات ولا حماية ولا اقتصاد في قطاع الخدمات والقليل من الموارد الطبيعية.
الأسواق التي قاومت أكثر من غيرها السياسات الأمريكية، عبر تقييد الاستثمارات المباشرة في الولايات المتحدة، هي ذاتها التي تتدبر أمرها بصورةٍ أفضل وستنهي السباق في المقدمة.
لكنها لن تفعل قبل أن تدفع ثمناً باهظاً.
تانيا كارينا هسو باحثة سياسية ومحللة متخصصة في العلاقات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. ساهمت في الشهادة المكتوبة حول المملكة العربية السعودية التي جرى تقديمها مؤخراً للجنة القضائية في الكونغرس باسم أصدقاء الجمعيات الخيرية (FOCA) أثناء جلسات الاستماع على هضبة الكابيتول في واشنطن العاصمة. نشر تحليلها وهلل له النقد في أرجاء الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط.
كانت أول من كسر جدار الصمت بصدد التأثير الإسرائيلي على عملية اتخاذ القرار في مجال السياسة الخارجية الأمريكية في ندوة "استراحة نظيفة" التي انعقدت في واشنطن العاصمة تحت قبة الكابيتول في العام 2004. كانت حينذاك مديرة التنمية ومحللة أبحاث أستاذة في معهد الأبحاث حول السياسة في الشرق الأوسط. لا تزال السيدة هسو عضواً دولياً في المعهد.
ولدت في لندن، وانتقلت في العام 2005 إلى الرياض في المملكة العربية السعودية، وهي تؤلف حالياً كتاباً حول السياسة الأمريكية في المملكة العربية السعودية.
29 تشرين الأول 2008
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire