jeudi 6 novembre 2008

تداعيات اقتصادية واجتماعية متوقعة للأزمة المالية العالمية على الاقتصاد التونسي



تجتاح عالم المال والأعمال منذ شهر سبتمبر الماضي أزمة مالية حادة اندلعت بالاعلان عن انهيار بعض المؤسسات المصرفية بالولايات المتحدة الأمريكية وذلك على خلفية أزمة الرهون العقارية لتنتقل للفضاء الأوروبي فالآسيوي وصولا للمنطقة العربية تجسدها الاهتزازات العنيفة في مؤشرات أسواق المال والبورصات، ما حدا بقادة الدول المهيمنة على النظام الدولي للمسارعة بالاعتراف بالأزمة أولا والشروع الفوري في التباحث حول الاجراءات "الكفيلة" بانقاذ النظام المالي من الانهيار فتم ولايزال ضخ مليارات الدولارات قصد استرجاع ثقة المتعاملين في المنظومة المالية، كما ذهبت بعض الحكومات حد تأميم الودائع والمؤسسات المصرفية في بادرة نسفت ما يناهز العقدين من العزف الايديولوجي المنفرد على مقام محورية آليات السوق وضرورة تحديد إقامة الدولة في أضيق مجال اقتصادي ممكن، لا بل صورها بعض غلاة النيوليبرالية على الطريقة الريغانية والتاتشيرية على أنها عائق في وجه تطورالمبادرة الخاصة وآليات اقتصاد السوق.

وفي بلادنا ذهب الخطاب الرسمي لنفي كل امكانية للتأثر بالأزمة وشدد على سلامة أوضاعنا انطلاقا من مجهرية حجم التعامل المالي والمصرفي التونسي مع الأسواق المالية العالمية التي اندلعت فيها الأزمة ونحن نفهم التخوف الحكومي من احتمال التأثر الاعلامي بالأزمة ولكننا لا نتفهم المزاعم والمغالطات القائمة على عدم التأثر بالأزمة وتداعياتها المحتملة. وقد تبدو التطمينات الحكومية ظرفيا وجيهة ومبددة للعديد من المخاوف التي بدأت تعبر عن نفسها هنا وهناك إلا أن المسؤولية الوطنية تقتضي الإعداد والاستعداد والتحسب لبلورة معالجة جادة وعميقة تتجاوز النظرة المؤقتة لتفتح على ضرورة مجابهة التداعيات المتوقعة ودرء كل ما من شأنه التأثير السلبي على الأنشطة الاقتصادية الوطنية. إن اندلاع الأزمة في المستوى المالي أي ما يهم المصارف بشتى أصنافها وأسواق الأسهم والسندات وسرعة انتشار وتوسع دائرة الانهيارات لا تعني بالضرورة بقاء الأزمة حبيسة المستوى المالي من تركيبة المنظومة الرأسمالية العالمية وذلك باعتبار درجة التشابك والترابط بين المكونات المالية والنقدية والتجارية والصناعية والفلاحية التي هندستها كونية رأس المال وخاصة قوى الاقتصاد المعولم خلال ربع القرن الأخير عبر خطوات رفع الحواجز الجمركية أمام التدفق الحر لرؤوس الأموال والبضائع ودرجة تركز رأس المال من خلال هيمنة الشركات المتعدية الجنسيات والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وفضاءات التبادل الحر والشراكة ولا أدل على ذلك من أن حجم التبادل التجاري بين بلادنا والاتحاد الأوروبي قد ناهزت 80 بالمائة بما يعني أن أي اهتزاز اقتصادي داخل الفضاء الأوروبي سيجد له صدى تجاري فاقتصادي ـ اجتماعي ببلادنا.

وللتذكير فإن الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 أو ما يسمى بالكساد الأعظم قد اندلعت في المستوى المالي حينما انهارت سوق الأسهم والسندات في الولايات المتحدة الأمريكية واجتاحت لاحقا كل مستويات النظام الرأسمالي الصناعي والتجاري والفلاحي وعمّت كافة أنحاء المعمورة ما عدا الاتحاد السوفياتي وقد بدأت موجات التأثير على بلادنا منذ مطلع الثلاثينات وكانت لها تداعيات اقتصادية واجتماعية بل وسياسية أيضا من خلال تشديد النظام الاستعماري القبضة على دوائر الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي قصد تعويض ما تكبده من خسائر وفي المقابل أعطى احتداد التناقضات الاقتصادية والاجتماعية دفعا قويا للحركة السياسية والاجتماعية التونسية فانشق الدستوريون الجدد عن القدامى في مؤتمر قصر هلال سنة 1934 واستعاد النقابيون تجربة جامعة عموم العملة التونسية مع بلقاسم القناوي وانبرت الشبيبة المثقفة في إطار الجامع الأعظم ترفع شعار اصلاح التعليم الزيتوني لتتوج جهود مختلف روافد الحركة الوطنية التونسية بأيام 8 و9 أفريل 1938 الدامية والتي تمحور نضالها على الحق في التمثيل النيابي المستقل في إطار البرلمان التونسي. وإذا كانت التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لسنة 1929 قد مست بلادنا خلال حقبة الثلاثينات من القرن الماضي فذلك لتخلف وسائل النقل والاتصال وغياب الطرق السيارة لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات بالقياس للمرحلة الراهنة التي جعلت من العالم قرية كونية، كما يعجب المرء من قصر الذاكرة الحكومية التي طالما تعللت بارتفاع أسعار المحروقات (تبين أن ميزان الطاقة التونسي حقق فائضا وأن نسبة كبيرة من النمو الاقتصادي تعلقت بقطاع المحروقات) وارتفاع أسعار الحبوب في الأسواق العالمية لتبرير الزيادات في الأسعار والاحجام عن الترفيع في الأجور ورفض الاستجابة للمطالب المهنية للشغالين.

وفي تقديرنا فإن الأزمة الحالية هي أزمة السياسة الاقتصادية النيوليبرالية على النطاق العالمي التي دشنتها (أواخر السبعينات ومطالع الثمانينات من القرن الماضي) الريغانية والتاتشيرية والتي انبنت أساسا على فتح المجال لرأس المال للاستثمار في كل المجالات وخاصة المجال الاجتماعي وهو ما برر "ضرورة" انسحاب الدولة وتحللها من التزاماتها الاقتصادية والاجتماعية كمخرج للأزمة التي كان يعيشها النظام الرأسمالي العالمي في سياق عجزه عن تحقيق عملية التراكم الرأسمالي على الصعيد الكوني، ولم يدم بقاء الأزمة في المستوى المالي طويلا فهاهي كبريات شركات صناعة السيارات (جنرال موتورز/رينو/بيجو ـ سيتروان) في العالم تعلن عن تعديل مساراتها الاستثمارية وتستعد لإيقاف بعض خطوط إنتاجها والاستغناء عن جانب من عمالها.

أربع مجالات يتوقع أن تنعكس عليها الأزمة في إطارالاقتصاد التونسي خلال المرحلة القادمة، ففي ضوء مجهرية المؤسسة الاقتصادية التونسية وتأكد محدودية قدرتها التنافسية وفي ظل المراهنة على استراتيجية الطلب الخارجي التي بنى عليها الحكم سياسته الاقتصادية منذ تبني برنامج الاصلاح الهيكلي جويلية 1986 (التصديرباعتبار ارتفاع القدرة الشرائية في الفضاء الاقتصادي الأوروبي والتخصيص لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية) سيتراجع الطلب على الصادرات التونسية نظرا للركود الاقتصادي الذي بدأ يعرفه الشريك الأوروبي سواء تعلق الأمر بالصادرات الاستهلاكية (النسيج) أو الإنتاجية (الصناعة الالكتروميكانيكية) فضلا عن الارتفاع المحتمل في التكلفة المالية للواردات التونسية الانتاجية خاصة مما سيتولد عنه تباطىء في النمو الاقتصادي محليا مع ما يمكن أن ينجر عنه من اضطراب مالي واقتصادي بالمعايير الميكرواقتصادية للمؤسسات تصديرا وتوريدا.

أما ما يتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر فإن حالة الانكماش المالي والاقتصادي التي تعم الأسواق العالمية عموما والأسواق الأوروبية التي نرتبط بها خاصة سوف تحد من تدفق الاستثمارات الأجنبية فضلا عن احتمال تعثر ما يسمى بالمشاريع العقارية الكبرى المتأتية من الريوع النفطية الخليجية بالنظر للاهتزازات المالية والاقتصادية التي تعرفها منطقة الخليج العربي في سياق ارتباطها بالأسواق المالية العالمية وفي ضوء الانهيارات التي سجلتها أسواق النفط بتراجع المضاربات الضخمة التي رفعت في الأسعار خلال الفترة الماضية بصفة جنونية.

ولابدّ من الإشارة ـ في معرض رصد التداعيات ـ للأهمية المتزايدة للقطاع السياحي ضمن الأنشطة الاقتصادية التونسية سواء تعلق الأمر بحجم ارتباطه بالمؤسسات المصرفية المحلية أو استقطاب العملة الصعبة أو مكانته في التشغيل وأهمية الأنشطة الناجمة عنه وللتذكير فإن هشاشة هذا القطاع وشدة تأثره بالمناخ العالمي كما أكدته أزمة حرب الخليج الأولى والثانية وتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر تنبىء بمخاطر محتملة باعتباره قطاعا لتصدير الخدمات فضلا عن ارتباط نسبة هامة من مستهلكي المنتوج السياحي الوطني بالاقتراض من البنوك.

رابع مجالات انعكاس الأزمة العالمية على الاقتصاد التونسي يجسمها التراجع المحتمل في تحويلات العمال المهاجرين بالخارج حيث من المتوقع في سياق حالة الركود الاقتصادي وتراجع القدرة الشرائية في الفضاء الاقتصادي الأوروبي أن تنخفض التحويلات المالية للعمال التونسيين المقيمين بالخارج والتي تمثل موردا من موارد العملة الصعبة للمالية العمومية باعتبار أهمية نسبة المهاجرين التونسيين في منطقة اليورو كما تشكل أحد المصادر المهمة في مداخيل آلاف العائلات التونسية.

كل هذه التداعيات المحتملة ستعرقل مسيرة النمو الاقتصادي ببلادنا خلال المرحلة القادمة وستفاقم عجزه على تعبئة الطاقة الادخارية المنهكة بما سيزيد من انحباس الاستثمار ويرفع تبعا لذلك من معدل البطالة كما ستضيّق الهامش المالي للموازنة باعتبار التراجع المحتمل في الاستخلاص الضريبي بما سيرفع من العجز في الميزانية الذي تحرص الحكومة على بقائه في حدود معايير ماستريخت (ما دون 3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام) وهو ما سيحصر المساعي الحكومية في دوائر ثلاث لا رابع لها وهي الزيادة في الأسعار والحد من الإنفاق التعويض والترفيع في الجباية والاقتراض من الأسواق المالية إن لم تتفاقم أوضاع الجهات الدولية المقرضة.

ومن البديهي أن تنعكس التداعيات المالية والاقتصادية المتوقعة على المجال الاجتماعي الذي يشكو أصلا من مصاعب هيكلية يجسدها احتداد التنافر بين المنظومة التربوية/التكوينية والمنظومة التشغيلية وتراجع قدرة الموازنة في مضمار إسداء خدمات عمومية (تعليم/ صحة/ ثقافة/ نقل وسكن) في مستوى الطموحات الوطنية وتفاقم أزمة نظام أنظمة الضمان الاجتماعي واستفحال التباينات الاجتماعية والمجالية، وهو ما يجعل أي حديث حول عدم التأثر بالأزمة من قبيل سياسة الهروب إلى الأمام.فهل باستطاعة الحكومة الاستمرار في حجب الحقيقة عن التونسيين والبقاء بعيدا عن دائرة المساءلة السياسية؟

محمد الهادي حمدة

عن البديل

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire