jeudi 6 novembre 2008

إصلاح لأسواق المال أو لكل النظام الاقتصادي العالمي؟


د. بشير موسى نافع
06/11/2008


في طبعتيه الإنكليزية والألمانية على الأقل، يشهد توزيع كتاب ماركس الأشهر 'رأس المال' ربيعاً لم يشهده منذ عقود طوال. حتى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي جاء إلى قصر الإليزيه وهو يعد بجر فرنسا جراً إلى النهج الاقتصادي الليبرالي الجديد، صور وهو يقلب صفحات رأس المال.
طلاب الجامعات الغربية، رجال الأعمال، وكبار موظفي وزارات المال والاقتصاد، يتهافتون على نسخ إنجيل الماركسية وما يتوفر من شروحه.
'التايمز' اللندنية لم تتردد في الإعراب عن تخوفها من عودة ماركس؛ والإيكونومست، المنبر الأبرز لليبراليين الجدد، تنذر قراءها بأن حرية السوق تتعرض للهجوم. جدل الانهيار الرأسمالي يتردد في ندوات أكثر وسائل الإعلام الغربية جدية ورصانة، بينما ترتفع أصوات الإشادة بسيطرة الدولة الصينية على قطاع واسع من نظامها البنكي، ويلفت الانتباه إلى اشتراكية هوغو شافيز في فينزويلا، وكأن العالم قد دار دورة كاملة منذ انهيار الكتلة الشيوعية في نهاية الثمانينات.
ثمة خلل هيكلي في النظام الاقتصادي العالمي السائد، خلل أطاح بمدخرات الملايين من البشر، أودى بمؤسسات مالية هائلة إلى هاوية الأفلاس، وأوصل أخرى إلى الحافة. في الدول الغربية الرئيسية على جانبي الأطلسي، كما في اليابان، قامت الحكومات مجبرة باقتراض عدة آلاف من مليارات الدولارات لتمنع السوق المالية العالمية من الانهيار الشامل.
وإلى جانب التراجع المذهل في قيمة العقارات وتراجع قيمة المدخرات أو تبخرها، فإن الاقتراض الحكومي الفلكي هو عبء إضافي يلقى على كاهل دافعي الضرائب. ولا تقتصر الأزمة على الدول الغربية الرئيسية. الدول العربية النفطية، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسوق الغربية، ستخرج هي الأخرى خاسرة من هذه الأزمة. ولأن موازين القوى هي التي تحكم النظام العالمي، فإن الدول النفطية ستجد نفسها مجبرة على المساهمة في إنقاذ الأسواق الغربية، ليس فقط بالتقدم لشراء الحصص في المؤسسات المتعثرة، ولكن أيضاً بالمساهمة في صناديق الإنقاذ المزمع تأسيسها على نطاق عالمي. وحتى الصين وروسيا لن تخرجا بلا خسائر، بالرغم من أن المشكلة غربية المنشأ والأسباب.
وباتساع نطاق الأزمة من السوق المالية إلى الاقتصاد الحقيقي (قطاعات الانتاج والخدمات)، سيخسر الملايين من البشر وظائفهم، وتتصاعد معدلات البطالة. دول مثل أمريكا وبريطانيا وإيرلندا أعلنت بالفعل دخولها مرحلة التوقف عن النمو، ولا يستبعد أن تشهد انكماشاً ملموساً في حجم اقتصادها. ولكن الاقتصاد العالمي يزداد ترابطاً منذ الصعود الإمبريالي في القرن التاسع عشر، وقد وصل بالفعل إلى مستوى من الترابط غير مسبوق في التاريخ الإنساني. ولأن السوق الغربية الأورو أمريكية هي المستهلك الأكبر في العالم، فإن تراجع معدلات النمو الاقتصادي الغربي سيترك أثراً مباشراً على الدول المصدرة للبضائع المصنعة، مثل الصين والهند وتركيا، والمصدرة لموارد الطاقة، مثل دول الأوبك وروسيا. وبانكماش الاقتصاد العالمي ككل، ستنخفض المساعدات التي تمنح للدول الفقيرة، سيما الأفريقية جنوب الصحراء، والتي يعيش عشرات الملايين من أبنائها على حافة الجوع، ويواجهون الموجة وراء الأخرى من الأوبئة. بل حتى في دول نامية رئيسية، مثل الهند، ستترك الأزمة الاقتصادية أثراً فادحاً على حياة ومستقبل الأطفال الهنود، الذين يعاني 47 بالمائة منهم من سوء التغذية.
بيد أن العالم لا يشهد ثورة عمالية، ولا هو مقبل على حركة إحياء اشتراكي. مشروع البناء الاشتراكي الذي يقوده شافيز في فينزويلا لن يكون مثالاً يحتذى، بالرغم من المكاسب الملموسة التي يحققها للفقراء، ومن مساعي عدد آخر من دول أمريكا اللاتينية لاستلهام بعض جوانبه. وإن استمرت أسعار النفط في التراجع، فربما ستواجه فينزويلا سنوات صعبة قادمة، سيكون مقياسها ليس تبلور نموذج اشتراكي بل مجرد الخروج من فترة انخفاض أسعار النفط بأقل خسائر وردود فعل اجتماعية ممكنة. تحذيرات الأبواق الرأسمالية الكبرى من عودة ماركس لا تعبر عن مخاوف حقيقية من انهيار الرأسمالية، بل من إخفاق الدوغما الليبرالية الجديدة، التي أخذت في الهيمنة على السياسات الاقتصادية في أغلب دول العالم منذ ربع قرن: الإيمان المطلق بقوى السوق، بحكمة السوق وقدرته التلقائية على صناعة الرخاء. ولكن ذلك لا يعني تجاهل عبقرية التحليل الماركسي للرأسمالية. قراءة ماركس لتناقضات النظام الرأسمالي، للقوى الفاعلة في هذا النظام، للعلاقة العضوية بين الطبقات المالكة لرأس المال والسلطة، لأزمات هذا النظام الدورية، تبقى القراءة الأصوب للنظام المسيطر على العالم منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، والذي اتسع نطاق سيطرته خلال العقدين الماضيين. وقد تجلى الخطأ الفادح الذي وقعت فيه أغلب الحكومات الغربية، وعدد ملحوظ من المؤرخين وعلماء الاقتصاد، في الاعتقاد بأن النظام الرأسمالي نجح أخيراً في الافلات من تأزمه الدوري. ساهم في تبلور هذا الاعتقاد حالة النمو الاقتصادي النسبي طوال زهاء العقدين في الأسواق الغربية، وأن الأزمات التي صادفتها هذه الأسواق كانت قصيرة وخفيفة الوطأة. ما عانته دول مثل الأرجنتين وجنوب شرق آسيا من أزمات طاحنة لم يوضع في الحساب، باعتبارها أزمات طالت دولاً خارج نطاق المركز الرأسمالي. كما ساهم في تبلور هذا الاعتقاد صعود التيار الليبرالي الجديد، الذي ولد أصلاً في مطلع الخمسينات على يد بعض من الاقتصاديين والأكاديميين ليس لمواجهة الشيوعية وحسب، بل ولعلاج النظام الرأسمالي من عيوبه وقصوره.
فسر البعض إفلات الرأسمالية من أزمتها الدورية بالثورة الصناعية الإلكترونية ودورتها التطورية السريعة، التي تحافظ على استمرار معدلات الطلب العالية على المنتجات الجديدة. وأعاد البعض الظاهرة إلى الارتباط المتزايد في الأسواق العالمية، وارتفاع معدلات التجارة الدولية إلى مستويات غير مسبوقة، مدفوعة بدخول مئات الملايين من المستهلكين الجدد إلى السوق. أما البعض الآخر فعزا هذا التحول الدراماتيكي في النظام الرأسمالي إلى تراكم التجربة والمعرفة الإنسانية بقوانين السوق وسلوكه، ونجاح العقل السياسي والاقتصادي في توقع الأزمات وبلورة الإجراءات والسياسات الكفيلة بتجنبها أو التخفيف من وقعها. ولكن المهم أن قطاعات واسعة من السياسيين والمختصين، في الدول الغربية على وجه الخصوص، تواطأت على نشر مقولة تحرر النظام الرأسمالي من أزماته الدورية الحتمية؛ وهو ما استبطن، على نحو ما، الهزيمة النهائية للتحليل الماركسي للرأسمالية.
اليوم يستفيق العالم من غفلته فادحة التكاليف، ويدرك أن النظام الرأسمالي والأزمة الدورية توأمان سياميان، لتتخلص من أحدهما لا بد أن تتخلص من الآخر. وهذا هو سر العودة الحكومية السريعة لجون ماينارد كينز، والانحناء الخفي للتحليل الماركسي. كينز، الاقتصادي والموظف الحكومي البريطاني، لم يكن بالطبع ماركسياً، ولكنه آمن، كماركس، بأن لا مخرج للنظام الرأسمالي من دورات الرفاه والتأزم. وفي أعقاب أزمة نهاية العشرينات الطاحنة، أكد كينز على دور الدولة في الاقتصاد وعلى أن الاقتراض، ومن ثم الانفاق الحكومي، هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة. ولم يكن غريباً أن يصبح رئيس الوزراء البريطاني، غوردون براون، الكينزي الخفي منذ سنوات، أول من يستوحي الوصفة الكينزية لمواجهة الانهيار المالي الكبير، وأن يصرح وزير خزانته أليستر دارلينغ بأن 'معظم ما كتبه كينز لا يزال صحيحاً'. ولكن براون، وقادة العالم الغربي الذين اتبعوا خطاه، يدركون جميعاً أن عالم اليوم يختلف من جهة تداخله وتعاظم قواه الاقتصادية عن عالم الثلاثينات. ولذا، فإن العودة للكينزية اليوم لا تتعلق باقتصاد الدولة القومية المفردة، بل بتحديات أكبر وأشمل تتعلق بالسوق العالمية ككل. تمثل الأزمة الحالية بالضرورة هزيمة الليبرالية الجديدة وسيطرتها الأصولية على السياسات الاقتصادية العالمية، وتشير إلى بروز رأسمالية كينزية جديدة، كينزية تناسب السوق العالمية في مطلع القرن الحادي والعشرين، وليس الدولة الرأسمالية لما قبل الحرب الثانية.
التحليل الماركسي أخطأ، بالطبع، في تنبئه بمستقبل الرأسمالية النهائي، ولكن هذا الخطأ لم يعد له من أثر مباشر على العالم المعاصر؛ فلا النظام الشيوعي استطاع الصمود طويلاً، ولا العالم على أعتاب ثورة اشتراكية جديدة. الخطأ الأبرز، والذي لم يزل يعني الكثير لطبيعة العلاقات العالمية، يتعلق بالقراءة الماركسية لولادة النظام الرأسمالي وحاضنته الصناعية. ففي حين أكد التحليل الماركسي على العلاقة الاستغلالية بين رأس المال وقوى العمل في توليد الثروة وفائض القيمة، فقد أغفل التراكم الهائل الذي نجم عن العلاقة الاستغلالية بين القوى الأوروبية الغربية، من جهة، والأسواق الزراعية والتجارية في آسيا والكاريبي والأمريكيتين، من جهة أخرى؛ وهو الأمر الذي لفت الانتباه له عدد من الباحثين والمؤرخين (من ماركسيين جدد وغيرهم) من أبناء العالم الثالث خلال الستينات والسبعينات. فائض الثروة الأساسي، الذي ولد من حقبة الاستعمار الماركينتيلي منذ القرن السادس عشر، هو الذي وضع الركائز الحيوية لإطلاق الثورة الصناعية، وأعطى النظام الرأسمالي ملامحه الحديثة. وبانطلاق الثورة الصناعية واندلاع التنافس على المواد الخام والأسواق، أصبحت علاقات الاستغلال أكثر ضراوة. وبالرغم من أن النصف الثاني للقرن العشرين شهد نهاية حقبة الاستعمار المباشر، ورحيل القوات الأوروبية الغربية عن المستعمرات في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإن العلاقة غير السوية بين المركز الرأسمالي وباقي العالم استمرت في صور مختلفة. قلة من الدول والشعوب أستطاعت التحرر بالفعل من هذه العلاقة.
إن كان ثمة حاجة ضرورية لإصلاح النظام الرأسمالي، وإصلاحه على مستوى عالمي، وهو الأمر الذي لم يعد يختلف عليه أحد، فإن من الضروري أن يشمل الإصلاح أيضاً ميراث علاقات الاستغلال التي تربط المركز الرأسمالي مع الأطراف. الإجماع على وضع حد للرأسمالية المقامرة، وتحويل النقود إلى سلعة، لابد أن يصاحبه إعلاء قيمة العمل والانتاج على خدمات السمسرة المالية ومغامرات الإقراض البنكي والمضاربة على أسعار الأسهم.

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
عن القدس العربي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire