د. عادل سمارة
تشخص ابصار بلايين الناس خاصة في الشهرين الأخيرين إلى شبكات الأخبار متابعة تطورات الأزمة المالية العالمية التي انتجتها القلة المتمولة وذاقتها الأكثرية الشعبية على صعيد عالمي. وقد تكون نبرة حديث الرئيس الأميركي وملامحه مؤشر يغني للحظات عن التحليل لما آل إليه الحال.
بالنسبة للولايات المتحدة، يعتبر الاقتصاد في حالة ركود إذا مر بربعين متتاليين من الركود. وطبقاً لأقوال 52 اقتصادي أميركي استطلعت وول ستريت جورنال Wall Street Journal أقوالهم فهم يؤكدون أن الاقتصاد الأميركي مر حتى الآن بثلاثة ارباع سنة متتالية من الركود. وهذا لم يحصل منذ نصف قرن. وقد تزامن هذا مع اعلان مسؤولين في الحكومة الأميركية يوم 16 تشرين اول 2008 بأن العجز الحكومي الاتحادي في الميزانية بلغ للعام الحالي 2007-2008 حداً قد فاق التوقعات حيث بلغ 455 مليار دولار، وبلغت نسبة العجز في الميزانية الى اجمالي الناتج المحلي 3,2 % بينما كان العجز في العام المالي 2006-2007 161,5 مليار دولار ، اي قرابة 1,2% الى الناتج المحلي الإجمالي. أما الرقم القياسي السابق للعجز في الميزانية الأميركية فكان 413 مليار دولار عام 2004 والذي كان الأعلى حتى حينه. كما وصل اجمالي النفقات الاتحادية الى 2.98 تريليون دولار بينما بلغت العائدات 2.5 تريليون دولار. كما ارتفعت النفقات الى 9,1 % مقارنة بالعام السابق وهي اعلى نسبة ارتفاع منذ العام 1990.
وفي بريطانيا، التي تُعتبر الشريك الأوروبي لأميركا سواء في البنية المالية أو في النظرية الاقتصادية في عدم التضبيط والخصخصة والنيولبرالية، فقد انتقل الى سوق البطالة 164 الف عامل في الأشهر الثلاثة الأخيرة، لتقترب نسبة البطالة من 6%، واكدت الغرفة التجارية البريطانية ان الاقتصاد دخل مرحلة الركود مما يضع الاقتصاد امام تهديد مزدوج يتمثل في ارتفاع البطالة وتباطؤ النمو. كما أكدت مصادر المانية ويابانية ان البلدين يعانيان نفس الأعراض. ويتوقع المراقبون أن تتواصل الأزمة في العام المقبل وأن تكون بريطانيا أكثر المتضررين بعد الولايات المتحدة. ولعل أبلغ وصف للمأزق ما قاله يعقوب فرانكل:
In the left side, nothing right, in the right side nothing left.
لكن خطورة الأزمة المالية والضجيج المصاحب لها غطت على ازمة اكثر خطورة وهي ازمة الفقر والغلاء في عالم يعاني من أزمة في جانب العرض supply-side crisis ناهيك عن ترابط الأزمتين. عالم يزداد فيه الفقراء فقراً بينما طاقته الإنتاجية تتوسع بوتائر عالية.عالم يندحر فيه البعد الاجتماعي الإنساني أمام ضربات البعد التكنولوجي الذي جرى تثويره بما لا يمكن إيقافه. مزيدا من الإنتاج ومزيدا من العجز عن الاستهلاك. إذا لم يكن هذا هو الركود، فما هو الركود إذن؟
هناك مليار إنسان تهددهم المجاعة، وهناك تريليونات من الدولارات تتبخر من بين ايدي سبعة مليارات إنسان لتنتهي في جيوب عدد يتضائل من بني البشر. وفيما قاد جشع مدراء المصارف الكبرى بتحريك أموالها الكسولة، وهي هائلة المقادير، ليقترضها الناس الذين عجزوا عن الدفع فعجز الكثير من تلك البنوك فاقدة 4 تريليون دولار، تقوم الحكومات الآن بإسعاف المصارف المأزومة لإغراء الناس بالشراء مرة ثانية، ليعودوا إلى الحلقة المفرغة مرة أخرى. وكأن النظام الراسمالي يعيد اسطورة سيزيف.
في ظل الأزمة المالية نفسها ترتفع اسعار المواد الأساسية، اي أغذية الأكثرية الشعبية في العالم الزيوت والأرز الذي ارتفع سعره الى 300 % في غواتيمالا وارتفع سعر الطحين في كمبوديا والفلبين بنسبة 200% 300% كذلك، وهذه مجرد أمثلة على ارتفاع اسعار الوقود والقمح بشكل خاص عالمياً حيث أخذت تتنافس عليهما (الناس والحيوانات والسيارات)!
لكن بلدان العالم في هذا المستوى تنقسم الى :
- بلدان متضررة لكن لديها ما تبيعه.
- بلدان متضررة لكن لديها قوة شرائية.
- بلدان متضررة لكن لا تملك ما تبيعه ولا تستطيع الشراء، دول محيط النظام الراسمالي.
عند هذه الدول تقع المشكلة الرئيسية وذلك لأن الأسعار تتصاعد، ولا تملك هذه الدول ما تغطي به الحاجات الأساسية لشعوبها، كما أن الدول الغنية الغارقة في الأزمة المالية ليس بوسعها اليوم تقديم تبرعات (أعمال خير وإحسان) للدول الفقيرة. وتتضح المفارقة حينما نعلم أن لا أحداً من البنوك يُقرض الآخر، وإن حصل فليوم واحد بعدما كان يتم هذا على اسس شهرية، ولا يعلم البنكيون اين يضعوا فلوسهم، وهم في قلق رهيب لأنهم لا تولد فلوساً حيث أن دور المصارف هو بيع عملات وشراء عملات. وحين نعلم أن الدول الغنية تستجدي الصين وبلدان النفط بأن تحول لها مساعدات مالية لتحريك اسواقها، وهذا يعني أن أرصدة أغنياء الدول الفقيرة (الفردية والحكومية التي أُرسلت على مدار عقود إلى البنوك الأميركية وإلى حد ما الأوروبية) تعاني إشكاليتين:
الأولى: أن هذه الأرصدة فقدت الكثير من قيمتها بهبوط أسهم الشركات الغربية.
والثانية : أنه لا يمكن لأغنيائها استرجاع أموالهم في هذه الفترة لأن الغرب نفسه بحاجة لهذه الأموال، مما يوضح لنا معالم سياسة قرصنة مغطاة بالتجارة الحرة والديمقراطية.
هناك وجه آخر للمفارقة، فرغم تأكيد الفاو ان محصول الحبوب للعام الحالي سيكون جيداً بحيث يزداد بنسبة 4.9% إلا أن الأسعار لا تبدي ميلا للمرونة مما يؤكد ان مزيدا من الناس سوف ينضمون إلى قطاع الفقر والمجاعة ليصل عدد الجياع إلى مليار إنسان في الدول النامية وحدها كما تؤكد منظمة اوكسفام البريطانية وذلك بعد أن زاد عدد الفقراء ب 119 مليون شخص مؤخرا بعد ارتفاع اسعار الأغذية. هذا إلى جانب جرس الإنذار الذي دق عام 2005 محذراً أن على سطح هذه البسيطة ستة مليار إنسان يريدون ضمانات غذائية.
أما المأساة المثيرة للضحك فتجسدها الحالة الإثيوبية الصومالية، حيث تهدد المجاعة 17 مليون شخص في القرن الإفريقي من بينهم 6.4 مليون شخص من إثيوبيا ونصف سكان الصومال وهما بلدان في حالة حرب فيما بينهما بعد أن أوكلت الولايات المتحدة لإثيوبيا احتلال الصومال!
هل الحل في ثورة خضراء ثانية؟
ليست الثورة الخضراء الأولى إلا جزءاً من النظام الرأسمالي الذي أوصل العالم إلى الأزمة الحالية. فهي لم تحل أزمة الغذاء العالمي للفقراء الذين تزايدوا، كما أنها راكمت لدى الدول الغنية فوائض غذائية كثيراً ما القيت في البحر كلما انتهى عمرها الافتراضي وهو قصير بالطبع، أو تم التبرع بأجزاء منها لمن لا يقوون على شرائها ولكن بعد انتهاء عمرها الافتراضي.
تتجلى المشكلة الغذائية في العالم في ان احتياطي الغذاء العالمي وصل أدنى درجاته منذ ثلاثين عاماً، ولكن ما تزال هناك إمكانية لزيادة مساحة الأرض القابلة للزراعة والاستصلاح، أنما لم يتم التوجه إليها حقاً، بل تم "الاعتداء" الحضري على الأرياف، لا سيما في مخزن الفلاحين العالمي (الصين والهند) بإفقار الأرياف وامتصاص ملايين الفلاحين على مستويين:
*الأول: التمدد المديني والصناعي وتمدد المزارع الواسعة إلى أراضيهم بما يطردهم منها.
* والثاني: سحب أعداد كبيرة منهم للاستغلال في العمل الصناعي أو للتراكم العشوائي في مدن الصفيح.
وترافقاً مع هذا كله يزداد الطلب على الغذاء والأعلاف ويزداد الطلب على النباتات التي تُنتج الوقود الحيوي. كما أن تاثير تغيرات المناخ هو عامل تعقيد آخر. وهناك قضية أخرى هي الارتفاع الحاد في أسعار المواد الخام الزراعية الأساسية وتوزيعها بين الدول النامية الصاعدة.
يجادل بعض الاقتصاديين اليوم بأن المطلوب هو التركيز على البحث والتطوير باعتبارها الوسيلة الأفضل لضمان التزود بالغذاء. بمعنى آخر، فإن ما يحتاجه العالم هو ثورة خضراء أخرى.
لكن الوصول الى ثورة خضراء يعني التركيز على الزراعة الحديثة التي تتطلب المخصبات، والري، وحماية المحاصيل والمخترعات التكنولوجية. فمن هو القادر على هذا؟ وما مصير الأكثرية البشرية في العالم (الفلاحين) على ضوء ثورة خضراء هي امتداد للثورة الأولى وعلى ضوء الأزمة المالية العالمية الحالية؟
ودون تفاصيل عدة، فإن بلدان الفلاحين (أي محيط النظام العالمي) لا يسعها خلق ثورتها الخضراء بنفسها، سواء للتخلف التقني او للفقر المالي، بل فتح ابوابها للاستثمار الغربي مرة أخرى، أو مواصلة هذا الانفتاح ليحصل الاستغلال، ومزيدا من طرد الفلاحين من الأرض، ونهب الثروات وتعميق التبعية، وهذا يضع الأكثرية الشعبية في دوامة بطالة في مكانهم هذه المرة، بمعنى أن المدينة ليست جاهزة لاستقبال الهجرة المحلية إليها.
إن ثورة خضراء على نفس الأسس التي قامت عليها الثورة الأولى أي:
· تواصل أنقسام العالم إلى مركز ومحيط
· احتكار المركز للتكنولوجيا
· احتكار المركز لراس المال
· تقديم المحيط عمالة رخيصة
لن يكون هذا سوى إعادة إنتاج نفس النظام الذي أوصل العالم إلى كارثة تمشي على ساقين، اي ليست عرجاء (غلاء وأزمة مالية).
لا تساهم الثورة الخضراء في حل المشكلة العالمية بل تزيدها تعقيدا فهي تزيد غنى البلدان الغنية، اي تعوض لها بعض ما فقدته في أزماتها المالية باضطرار المحيط لشراء ما يتم انتاجه فيه من أغذية، ويحرم البلدان الفقيرة من استخدام التكنولوجيا التي جرت "حمايتها" بحق الملكية الفكرية. وبذا يبقى العالم منقسماً إلى متقدم ومتخلف مما يُبقي الأبواب مفتوحة لعودة الأزمات الاقتصادية وخاصة الرئيسي منها وهما: ارتفاع اسعار الأغذية، وتراكم السيولة المالية التي تقود الى تكون الفقاعة وانفجارها.
لا تلوح في الأفق العالمي اليوم مداخل لحلول جذرية على صعيد مركز النظام العالمي. فالأزمة الحالية على شدتها، لم ترغم الأنظمة الحاكمة هناك على تقديم تنازلات جدية بعد. فالأزمة وحدها، بما هي "تعذيب" للفقراء ومتوسطي الحال، هي أمر، وغياب الحركات السياسية التي تحرك هؤلاء وتمثلهم هي أمر آخر. فما لم تخلق هذه الأعداد الهائلة من الناس ممثليها، فإن أحداً لن يستمع لأوجاعها. وعليه، قد تسلك الأنظمة الحاكمة طريقا وسطاً بمعنى تدخل أكثر في الاقتصاد ولكن إلى حين.
وهنا تكمن عملية معينة من الصراع على صعيد عالمي بين من يعملون للحفاظ على النظام القائم بأقل مرونات ممكنة وبين من يريدون توسيع هذه المرونات ليحلوا محل الطبقات الحاكمة. هنا سوف يستخدم كل طرف كافة إمكاناته وذخائره لتثبيت موقفه ومنها القوة والثقافة وحتى التلاعب.
إنما يبقى الأمرالأساسي في نهاية الأمر كيف تحل كل أمة مشكلتها إلى أن تتفق الأمم على حل لها جميعاً؟ لقد اشرنا في غير موضع إلى نموذج التعامل الحذر من الصين مع اميركا حفاظاً على اقتصادها، ولا شك أن امماً كثيرة تفعل هذا.
هذا هو التحدي على الصعيد العربي، فلا بد من ثورة أخرى في الصحراء كي لا نبقى رهينة للثورة الخضراء.
(***)
www.alkader.net
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire